تمنيات

calendar icon 13 تشرين الثاني 1996 الكاتب:بابلو بوانتي

كلمة السفير البابوي بابلو بوانتي في افتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار

قبلت بسرور الدعوة للاشتراك في هذا المؤتمر الذي يُنظمه مركز الصدر للدارسات والابحاث في لبنان حول الحوار الإسلامي المسيحي، اني اشكر السيدة رباب الصدر التي قدمت لي امكانية التحدث إليكم ولا تغيب عن ذاكرتي شخصية الإمام موسى الصدر البارزة الذي سررت بمعرفته خلال إقامتي الأولى في لبنان بين عام 1973 و1977.

إن العلاقات الإسلامية المسيحية هي الموضوع الأكثر تداولاً في نهاية القرن العشرين ومع إطلالة الالف الثالث. ان مستقبل البشرية يتوقف إلى حد كبير على العلاقات التي سوف تقيمها الديانتان السماويتان الكبريان. هذه العلاقات تلزم ابرز جوانب الوجود البشري اي ارتباط الانسان بالله وارتباط البشر فيما بينهم وارتباط البشر مع الحياة والتاريخ.

ولهذا السبب فإن العلاقات الاسلامية المسيحية، بالاضافة إلى كونها موضوعاً من مواضيع الفكر اللاهوتي، فهي تتعلق ايضاً بعلم الاجتماع، ومجال البحوث في السياسة والاقتصاد وهي بنوع خاص تبادل ثقافي، وتحليل للحياة والتاريخ انطلاقاً من مفاهيم وإن لم تكن تتطابق دائماً ولكن بإمكانها ان تتلاقى.

اريد اليوم ان اتوقف على هذا العنصر الثقافي وهذا التحليل العميق للحياة والتاريخ الذي هو جدير بأن يحمل المسلمين والمسيحيين إلى اشكال من التعاون على الصعيدين النظري والعملي، اشكال تعاون ذات اهمية لحاضر الشرق الاوسط ومستقبله.

هذا البحث الثقافي المشترك بين المسيحيين والمسلمين، يحتل مكانة مميزة وبالتحديد في لبنان بما له من رسالة اكيدة بأن يكون مختبراً للبحث والتطور الثقافي ومما يعود بالفائدة على لبنان ومنطقة الشرق الاوسط كلها. وقد لا تجد في هذه المنطقة بلداً يحظى بمثل هذه الامكانيات ليكون الضمير المفكر في الشرق الاوسط.

تمر اليوم منطقتكم في الشرق الأوسط في مرحلة يعتبرها الجميع حاسمة، ففي عشرات السنين الاخيرة أُريقَ الكثير من الدماء وذُرِفَ الكثير من الدموع فوق ارضكم، ويحتمل ان يراق ويذرف المزيد منها ايضاً.

بالاضافة إلى ذلك فإن لبنان والبلاد الاخرى في المنطقة قد تحملت الكثير من اشكال الحرمان، ولم يكن بالمستطاع تأمين النمو الطبيعي في حقل السياسة والاقتصاد والثقافة. تلك المعاناة هي تجربة قد تقود إلى التطرف أو إلى مواقف سلبية وإلى جمود.

في مقابل ذلك اعتقد، كما يعتقد ربما العديد بينكم، ان على المسيحيين والمسلمين ان يتجندوا، في وجه هذه الصعوبات للتعاون معاً في البحث عن مستقبل وعن خطة قصيرة وطويلة الامد، يجب تحضيرها لمجابهة تحديات عصرنا الكبيرة، علينا ان نسير معاً نحو فكرة اساسية في حياة العالم، لا بد منها في مفهوم التاريخ والبشرية ألا وهي: الحداثة Modernité.

من الطبيعي، لا يجوز ان نخلط بين الحداثة الحقيقية وبعض الانحرافات المعاصرة مثل العنف، والسطحية والرأسمالية الهمجية والمادية والفلتان الجنسي، انحرافات يرسلها لنا الغرب في الكثير من الاحيان من خلال الافلام والبرامج الاذاعية والتلفزيونية والمجلات والصحف، ليس كل ذلك "حداثة" بل انحطاط.

"الحداثة" هي مجموعة قيم اساسية للشخص البشري الذي خلقه الله ويتوجب على المسلمين والمسيحيين ان يحققوها واقعياً كقاعدة لمجتمعهم.

"الحداثة" هي حرية وحق وديمقراطية وحوار واحترام الافراد وتعاون.
"الحداثة" لا تعني فقط ان "تملك اكثر" بل ان "تكون اكثر" تكون اكثر انسانية واكثر حرية وان تحترم اكثر وتكون اكثر احتراماً لحقوق الآخر. هذا ما يعطي الكرامة للشخص البشري التي لا يستطيع احد، مهما كان غنياً أو فقيراً، ان يهدمها.

هذه القيم هي تراث كل اللبنانيين مسيحيين ومسلمين دون استثناء، هي قيم تبرر وجودكم كأمة ووجودكم في الشرق الأوسط وهي تشمل:
- حرية التعبير والصحافة والدين والثقافة والرأي والحرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
- الحق: الحقوق الفردية لكل انسان دون استثناء، المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، حقوق الطفل، حقوق الشعوب بأن تعيش حياتها وان تعيش بسلام وان تُحترم وان تُصان معتقداتها الدينية وخصائصها الثقافية والاجتماعية. الحق في النمو المتوازن. حقوق الشعوب في الاستقلال، وسلامة اراضيها، والكرامة والحرية.

- الديمقراطية كنهج سياسي ونمط عيش في المجتمع، لا ديمقراطية نظرية وحسب بل ايضاً عملية حيث يستطيع كل المواطنين ان يشتركوا في فرص متكافئة. اعتقد انه قد حان الوقت لحث المسيحيين والمسلمين على التفكير بهذه القيم، مما يسمح لنا ان نضع معاً نموذجاً من المجتمع يتلاءم مع الحاضر ومع لبنان ومع كل الشرق الاوسط في نهاية هذا الألف الثاني.

خطة مستقبلية من شأنها ان تعطي معنى إلى تطلعات العرب العالية – العرب مسيحيين ومسلمين – في وجه التحديات المستجدة التي تتطلب حلولاً رصينة وراهنة.

خطة سلام، لأن السلام قادم يوماً ما، ولكن لخطة سلام في الشرق الأوسط ينبغي ان تضم في جوهرها قيم تضامن يحفظ – رغم الصعوبات – شرعيته، توجهاً واتحاداً.
*******
اترك هذه الافكار إلى تقديركم، لعلها تحمل بعض الافادة في هذا الموضوع الاخّاذ، موضوع الحوار والتعاون وتهيئة مستقبل مشترك بين المسيحيين والمسلمين في لبنان وفي كل هذه المنطقة.
*******

يشرفني بصفتي ممثلاً قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، ان اقرأ رسالة امانة سر الدولة إلى السيدة رباب الصدر شرف الدين رداً على الرسالة التي وجهتها إلى قداسة البابا:
"سيدتي:

في السابع من آب الماضي وجّهتِ رسالة جليلة، بواسطة السفارة البابوية في لبنان، الى قداسة البابا الذي كلفني ان اشكرك جزيل الشكر على بادرتك اللطيفة نحوه.
"ان البابا اذ تسره الدراسات حول المساعي الروحية التي يعيرها مركز الإمام موسى الصدر انتباهه، يتمنى ان يكون البحث عن الله، لدى المؤمنين في الشرق الاوسط ولدى جميع ذوي الارادة الطيبة في المنطقة، مناسبة لحوار أكثر عمقاً يُسهم في بناء مجتمع اكثر إخاء، وان قداسته يلتمس ان يمدك العلي القدير بفضله.
واذ يسعدني أن اكون لسان البابا ... تفضلي، ايتها السيدة بقبول احترامي الديني".
التوقيع ج. ب راي
وكيل امانة سر الدولة

أيها الاصدقاء، شعوراً مني بالصداقة المخلصة التي تربطني ببلدكم، وادراكاً مني لميزة لبنان الخاصة في الحوار الإسلامي المسيحي، اعرب لكم عن اطيب التمنيات والتوفيق لهذا اللقاء، وليكن الله الرحيم معكم.

source