السواء: عدل وإنصاف

calendar icon 13 تشرين الثاني 1996 الكاتب:محمد رشيد قباني

مثله العلامة الشيخ طه الصابونجي

كلمة مفتي الجمهورية اللبنانية سماحة الشيخ محمد رشيد قباني في اقتتاح مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار  مثله العلامة الشيخ طه الصابونجي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ايها السادة
يشرفني ان انوب عن صاحب السماحة القائمقام مفتي الجمهورية اللبنانية الدكتور الشيخ محمد رشيد قباني، وان انقل اليكم تحياته، وان اشاركه في الدعاء إلى الله تعالى ليكتب التوفيق لهذه الندوة المباركة.

ايها السادة
نتطلع اليوم برهبة وقلق وإلى بزوغ شمس القرن الحادي والعشرين بعد ان انطوى القرن العشرون على آمال عظام، واهوال جسام، وضعت البشرية امام مسؤولية مصيرية في اعادة قراءة كل ما حفل به من قضايا واحداث. قراءة تورث الوعي والحكمة، وتمهد لاستقبال المستجدات وفق اختيارات رشيدة، تقود الخطى إلى عالم بهي، تتصاعد منه الغايات إلى اعلى مكارمها، وتتسامى فيه المناهج إلى اقْوَم مراقيها وتستعلي فيه الانسانية إلى لآلئ أمجادها، وينتصر فيه الخير وتشرق الارض بنور ربها.

لقد مضت اعوام هذا القرن، وخلفت وراءها انجازات باهرة، كانت كفيلة بمسح الشقاء وإلغاء الصراع، وتوفير اقصى حدود الهناء، وتثبيت امنع معالم التقدم. ولكن التشوهات التي عصفت بالاديدولوجيات، والانحرافات التي عبثت بالثقافات والممارسات التي أزْرَت بالقيم، والحروب التي دمرت العمران وفجرت شالالات الدم، والنظم التي قامت على الاستعمار والاستغلال، والظلم الذي فجر واستكبر، ان كل ذلك قد ضرب حضارات العصر بأسوأ ما منيت به حضارات سادت ثم بادت، ولم يبقَ منها غير الاعتبار لأولي النهى من اصحاب الضمائر والبصائر.

كان ذلك بطوفان لم يجد امامه سداً يحجزه، او يخفف من شدته لأن الدين كان مغيباً، ولأن ارادة الاخيار كانت مأسورة. بل كانت مطاردة الدين من اهم اسلحة الفلسفات المادية، ومصادرة الحريات والارادات في اول ابجديات المتربصين بفضائل الانسانية، الساعين إلى نقص تراثها، ورفض مكتسباتها.

ولقد بلغت موجات الالحاد والتحلل اقصى مداها، وحصد العالم من خلال اسوأ عاقبة، ورقص الشيطان طرباً، لأنه حقق في هذا العصر ما لم يستطع تحقيقه منذ فجر الخليقة باستخدام الانسان نفسه ضد هدايته وكرامته وسعادته، بحجم يفوق مكر الشيطان ويفوق قدرته على الاغراء والاستخذاء.

واذا كان الباطل قد استشرى وتعمق فإن الحق يظل هو الاقوى والأبقى، وان فطرة الانسان تظل هي الأطهر والانقى، وان عناية الله تظل هي الأعم والأعلى. ومن ذلك ان القرن العشرين هذا لم يكد يبلغ نهايته حتى شهد انبثاق انوار الهداية الايمانية من كل اركان العالم كما شهد سقوط الفردية المخادعة بين الاديان سبب الخلاف والتخلف فارتفعت الاصوات من كل المواقع الدينية تنادي الشاردين للعودة إلى الحقيقة الجامعة وتنادي كل المتدينين للاجتماع حول القضية الواحدة، وتنطلق الدعوة إلى الحوار الجاد لتحقيق هدفين كبيرين.

الأول: التقارب بين الاديان الكتابية بالذات وبين اتباعها، في مضمون القضايا المشتركة وميادين التعاون المثمر.

والثاني: تحصين الجبهة الايمانية من اخطار العدو المشترك المتمثل في الالحاد والانحلال والظلم، وهو عدو لم يعلن افلاسه إلى اليوم وهو يعيد دراسة اوضاعه، لينفذ من جديد مستغلاً أي خلل في مفهوم الدين، واي خلل في صفوف المتدينين.

ومن هنا تنهض التحديات الكبيرة في وجه العائدين إلى حمى الدين وإلى ظلاله الندية، لكي يكونوا عند مستوى القضية الدينية ادراكاً وسلوكاً وشمولية، ولكي يكونوا ضمن الوحدة الجامعة، حتى ينعدم النزاع الذي يدفع للصراع، وحتى تفوت الفرصة على الحاقدين الذي يؤثرون العداوات ويشعلون نيران الحروب ويركنون إلى اثارة العصبيات.

وما السبيل إلى لقاء اهل الاديان لقاءً يتجاوز مظاهر الاحتفالات وفصاحة البيانات وتبادل المجاملات؟

ان السبيل المستقيم هو الحوار الموضوعي، المقرون بموقف علمي، وهو الذي تعبر عنه الكلمة السواء، والسواء هو العدل والانصاف، وهو الخلاصة المحكمة التي وردت مفصلة في آية من كتاب الله: : ﴿لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط﴾.

فالحوار ليس ترفاً فكرياً وليس دراسة تراثية، وليس اكتشافاً لمواقع تسهل تهميش الآخرين. انه وسيلة من وسائل التبيين والموازنة لبلوغ درجة العدل في خدمة الحقيقة، وفي قناعة الاختيار وفي احترام الآخر وفي تنسيق المواقف من اجل رفعة الانسان، ورفع كابوس الاكراه المعنوي والحسي عنه وفي رفع القهر والظلم عن انسانيته وكل ما يخدم وجوده.

هذا الحوار لا يتوسل القوة والتسلط، بل يعتمد ارقى مناهج التبادل الفكري، ثم يعتمد افضل وسائل التعاون الايجابي لتحقيق مدلولات الايمان في جانبها الانساني. والاسلام رائد في موضوع الحوار الذي يشكل قمة من قمم الوعي الديني القائم على الادراك والحرية والاختيار. فالحوار قائم على الملأ الاعلى بين الله جل جلاله وملائكته الاطهار، بل لقد قام حوار حارّ بين الله وبين ابليس، واعطاه حرية المناقشة والرفض، وقام حوار بين الله ورسله، ويقوم حوار بين الله وعباده الاخيار والاشرار يوم الدين. والقرآن حفل بكل انواع الحوار وبكل اساليبه، مع المعاندين والكافرين، والمفترين ومع المؤمنين الصادقين، والمتبتلين الاطهار.

وهو اعلن الدعوة للتحاور بين كل الناس: : ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعرفوا﴾ والتعارف يقتضي الاعتراف بالآخر والتعرف إلى قضاياه واهتماماته والخلوص منها إلى التعاون في نطاق العدل وهو ميزان التوازن الذي يكفل الاستقرار والرحمة.

ثم حض اهل الكتاب لدعوة حميمة إلى الحوار، وامر ان يكون الحوار معهم بأرقى وارق الاساليب: : ﴿ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن، الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي انزل الينا وما انزل اليكم، والهنا والهكم واحد، ونحن له مسلمون﴾.

والدعوة قائمة ومستمرة، : ﴿قل يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾ هذه الدعوة مفتوحة إلى لقاء ايماني بالله وحده، في مجال الاعتقاد ثم إلى اسقاط المتألهين الذين يتسلطون على الناس، ويغطون على عقولهم ويغتالون حرياتهم وباسم الدين تارة، وباسم النظام تارة أخرى، وباسم العنصريات والقوميات، او باسم الوصاية الدولية، او تمدين الشعوب، هؤلاء الذين يجورون على الحق، ويحتكرون نعم الله ويحرمون الافراد والشعوب من التمتع بالحياة.

فالحوار في جانبه الالهي هو موضوع ينتهي إلى الاختيار: : ﴿لا إكراه في الدين﴾ البقرة 255، ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾ الكهف 29، ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ يونس 99. اما الحوار في جانبه الانساني فهو حوار ينتهي إلى اجبار، لأن موقف المؤمنين من كل ملة لا يكون موقفاً اختيارياً او محايداً تجاه قضايا الانسان في تحريره، وفي رفع الظلم عنه، وفي توفير كل حاجاته، ومن هنا اخرج اليهود انفسهم من دائرة الحوار، لأن عقيدتهم خاصة بهم ولأن ضمائرهم مشحونة بكره الانسان، ولأن عدوانهم متأصلة ضد المسيحية والاسلام. وقد اشار الاسلام إلى ذلك من قبل في قوله تعالى: : ﴿لتجدنّ اشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا، ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى﴾.

فالحوار القائم والذي سيستمر بين المسلمين والمسيحيين لا بد أن يقوم في جانبيه، الجانب الايماني وما يتعلق به من معتقدات تفضي إلى التفاهم والتقارب والتحاب، والجانب الانساني الذي يخرج من نطاق الوصايا والمواعظ إلى اتخاذ مواقف ايجابية، لنصرة قضايا الانسان وحماية حريته والدفاع عن حقوقه، والوقوف في وجه القوى الظالمة والدول المتجبرة، ومقاومة جنون التسلح الذي يهدد البشرية بالفناء، ويغري الاقوياء بالتحكم بالشعوب الضعيفة والفقيرة، ويدفع العنصريين الطائفيين للعدوان على المسلمين الابرياء.

فليس الحوار موضوعاً نظرياً فحسب، بل هو صيغة عملية لترجمة التعاليم الدينية إلى مواقف تجهر بالحق، وتنصر العدل وتستدعي الانسان إلى رحاب الله بتعميم نعمه عليه، وتصرف عن رجال الدين شبهة خدمة الاستعمار ومشايعة الظالمين، والصمت تجاه ما يجري من عسف وما تتردى اليه الاخلاق من إسفاف ومجانة.

ايها السادة
وإذا كان الحوار قضية دينية ملزمة، وضرورة عالمية معاصرة، فإنه في لبنان ركيزة الوطن وأسس الاستقرار وجلاء كل الاوهام والازمات، فلبنان وطن الاديان، وشعبه مجموعات مؤمنة تقيض حماسة وغيرة على معتقداتها، وهذه المجموعات الدينية عميقة الجذور تتبادل اصفى علائق الود والتعاون، كلما ارتفعت عنها الاطماع والدسائس الاجنبية التي تحاول ان تجد موضع قدم في الشرق، وتمارس نفوذها بين دولة، او كلما خفتت اصوات الطامعين بالمناصب الذين لا يجدون وسيلة، الا العزف على اوتار التعصب الطائفي.

وقد اضيف إلى ذلك عامل خطير هو عامل الكيد الاسرائيلي الذي يطمع في تفتيت لبنان والمنطقة العربية عن طريق الاقتتال الطائفي، والتكاره الديني، ولا يقضي على ذلك إلا الحوار المعمق والتعاون الصادق، فليس في لبنان مشكلة دينية، فمشكلته الاساس هي مشكلة طائفية مفتعلة، تستخدم الدين لتحقيق مآرب شخصية، واقتناص المناصب والثروات واستغلال المسلمين والمسيحيين على حد سواء، والإساءة إلى حقائق الدينين العالميين، والافساح لأجهزة الاعلام المعادية بإحداث فجوات في العلاقات الاسلامية والمسيحية، حتى يخرج امين عام الحلف الاطلسي ليعلن عن احتمال معركة بين الحلف والاسلام، استناداً إلى ما يحدث في بعض المناطق ومنها لبنان.

بينما يعلن اللبنانيون عن تمسكهم بوحدتهم الوطنية، وعن اعتزازهم بحوارهم الديني الذي يزيل كل لبس، ويعصم الشعب من الخلاف والتشتت.

وتحضرنا هنا كلمة دولة رئيس مجلس الوزراء الشيخ رفيق الحريري في ملتقى حواري حيث يقول: تنوعنا الديني موطن قوة لا موطن ضعف، وبيئة ازدهار وتوحد لا مبعث تأزم وانقسام. الدينان اللذان تدين بهما كثرتنا الساحقة، دعوتان عالميتان صدرتا عن هذه المنطقة وتوطنتا فيها، الانكماش ضد طبيعتهما وضد منطقهما. وينبوعهما واحد هو الميراث الابراهيمي الذي تشدنا اليه أواصر الدين والعيش والقومية والثقافة والجغرافيا.

ايها السادة
نحن هنا في لبنان مسلمون ومسيحيون في حوار مستقر نحو العدل السواء في الاعتقاد، والعدل السواء في الانسانية، ونحن في العالم مسيحيون ومسلمون جبهة واحدة في وجه الالحاد والفساد وفي الطريق إلى حوار حضاري عالمي لتأسيس حضارة الايمان حضارة الحق وكرامة الانسان.

ايها السادة بوركت ندوتكم.

source