التأسيس الطائفي في لبنان

calendar icon 13 تشرين الثاني 1996 الكاتب:علي الخليل

كلمة رئيس الجلسة الدكتور علي الخليل في الجلسة الأولى من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار


"كانت الاديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد".

"دعوة إلى الله وخدمة للإنسان وهما وجهان لحقيقة واحدة".|

"ثم اختلفت عندما اتجهت إلى خدمة نفسها ايضاً، ثم تعاظم اهتمامها حتى كادت ان تنسي الغاية، فتعاظم الخلاف واشتد، وازدادت محنة الإنسان وآلامه. فالطائفية حولت بأنانيتها السماء إلى الأرض، وافرغت محتوى الدين والمذهب، وقضت على سموها ورفقها وتسامحها، هذه الطائفية التي تاجرت بالقيم الروحية، فأخذت منها اثماناً متفاوتة".

عبارات جاءت على لسان سماحة الإمام السيد موسى الصدر شخصت الداء أيّما تشخيص، فكأننا به قد وضع يده على الجرح الذي عانى منه الشعب اللبناني ابلغ المعاناة مذ حطت الدولة العثمانية رحالها في هذه الأرض الطيبة، كيف لا، وكنا نجد ولاتها وعمالها المنتدبين من قبل الباب العالي لا يتركون بابا للتفرقة إلا ولجوه، ولا وتراً طائفياً أو مذهبياً بغيضاً إلا ولعبوا عليه، حتى وصلوا إلى اليوم الذي انقلب فيه السحر على الساحر، فوجدنا الدول الأوروبية الكبرى، في ذلك الحين، قد شاركت الرجل المريض السيطرة على بلادنا، فنصَّب كل منها نفسه حامياً لطائفة من الطوائف، او من مذهب من المذاهب، دون ان يكون لهذه الحماية أي مبرر منطقي تفرضه صلة التاريخ أو الدين أو اللغة او العرق أو الجنس، اللهم إلا مصالح تلك الدول التي اتخذت من بلادنا موقعاً متقدماً لها في مواجهة اعدائها، ممعنة في التفرقة بين المواطنين متبعة القاعدة البديهة المعروفة: فرَّق تسد.

وهكذا اضطرت الدول العثمانية إلى اقرار نظام القائمقاميتين في العام 1840 الذي فصل، دون ان ينجح، بين معتنقي دينين سماويين جاعلاً من لبنان جزأين يفصل بينهما خط وهمي تمثل في ذلك الحين بطريق بيروت – دمشق.

ثم نجدها مضطرة مرة اخرى إلى اقرار نظام الحماية الاجنبية لجبل لبنان عام 1861، تحت ضغط من الدول الاوروبية التي ادعت حماية الطوائف اللبنانية، نافذة من تلك الحماية المشبوهة لتأمين ما لها من مصالح ومآرب.
ومرة ثالثة عدّل هذا النظام وفقاً لمصالح الدول الأجنبية بموجب البروتوكول العام 1864، الذي جعل من لبنان متصرفية على رأسها متصرف مسيحي من رعايا الامبراطورية العثمانية، يعاونه مجلس إدارة تتمثل فيه الطوائف اللبنانية الكبرى الست.

والجدير ذكره، ان الميثاق الوطني الذي توافق اللبنانيون عليه عام 1943 في مطلع عهد الاستقلال كان المحاولة الجدية الاولى لبداية التخلص من الطائفية السياسية البغيضة، إلا ان الصيغة التي انبثقت عنه كرست نظاماً طائفياً انتج العديد من السلبيات التي تجلت في حوادث عام 1958 والحرب الاهلية الاخيرة التي استمرت سبعة عشر عاماً.

من هنا استطيع القول وبالفم الملآن، ان اتفاقية الوفاق الوطني التي قيض لنا وضعها في الطائف عام 1989، تعتبر الركيزة الاساسية والركن المتين على طريق التخلص من آثار الطائفية البغيضة التي لم تكن يوماً في نفوس الشعب اللبناني، الذي برهن عن تمسكه بوحدته وتكاتفه، عندما كانت تغرب عنه إلى حين تدخلات القوى الاجنبية ذات المصالح المعروفة.

لذلك اكدت وثيقة الوفاق الوطني، كما نصت المادة الخامسة والتسعون من الدستور الصادر في 21/9/1990، على ان الغاء الطائفية السياسية هدف وطني اساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، على مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالاضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

ويتم في المرحلة الانتقالية ما يلي:
أ- إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي باعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة، والقضاء، والمؤسسات العسكرية والامنية، والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفي ما يعادل الفئة الاولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص اية وظيفة لأية طائفة.
ب- إلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية.

ان تعدد الاديان والمذاهب في المجتمع الواحد كالمجتمع اللبناني، يمكن اعتباره مصدر ثروة فكرية تتغذى بالحوار وتنمو بالانفتاح وتنتعش بالتلاقي، فما كان الحوار يوماً إلا بين رأيين متمايزين، وما كان تقدم الحضارات إلا نتيجة لتفاعل هذا الحوار.

فالحوار بين العائلات اللبنانية ضرورة وطنية، فهو السبيل الافضل لكسر طوق الانغلاق على الذات وللتعرف على الطرف الآخر، مستفيداً مما لديه من قيم روحية سامية ومن تعاليم سماوية سمحة، فهو كان قائماً في احلك الظروف ولا يزال مستمراً بعهدة كوكبة خيرة مشكورة من رجالات الوطن من مختلف الاديان والمذاهب تعمل على تواصله واستمراره، مهيئة له افضل المناخات، وقد اصابت في هذا المضمار من النجاحات الشيء الكثير.

ومن على هذا المنبر نطلب لهذا الحوار ان يبقى، ونعمل ما بوسعنا جميعاً لاستمراره وديمومته للوصول إلى الغاية المتوخاة، ألا وهي التخلص من الطائفية السياسية الموروثة، وآثارها السيئة التي لم يكن لنا يد في ايجادها، آملين ان يكون لنا يد في إلغائها.

فوطن كلبنان فيه من الوطنيين المخلصين، المؤمنين والمنفتحين، اصحاب العقول الراجحة والنوايا الحسنة، امثال السادة المنتدين وامثالكم ايها السيدات والسادة، لا بد سيصل.

source