الاعتراف بالآخر

calendar icon 13 تشرين الثاني 1996 الكاتب:جورج خضر

كلمة سيادة  المطران جورج خضر في الجلسة الثانية من مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار

الاعتراف بالآخر هو الاعتراف بحقه في الاختلاف وبأن يقول هذا الاختلاف بكل حرية أي ان تعترف بحقه في الدعوة إلى ما يؤمن بواجبك في الانضمام إليه ان اقتنعت بحقيقة دعوته بما في ذلك حق الشاك في أن يشك ومن سميته المارق ان يبقى على مروقه والكافر ان يكفر وان كفّرته ألا تقتله وألا تضيق عليه عيشه وألا تكرهه على دينك أو على مذهبك. ذلك ان لكل انسان سر علاقته بالوجود وسر عيشه مع الله او مع الضلالة فإذا رأى ان الضلالة لا تؤذيه فعليك ان تدعوه إلى الإقلاع عنها وان لم يقبل فأنت، مؤمناً، ترجو له التوبة لأنك ان حاولت قهره فليس في هذا توبة وان لم تصبر عليه تكون قد ثرت على صبر الله الذي يقبله في التمرد ويطيل عمره فيه ليرتدع. وان انت بسطت يدك اليه لتقتله تكون قد اختلست حق الله في ان يمد له بعمره.

ولم يفرضْك الرب أمر إرغام أحد على الحقيقة ولو شاء هو لفعل: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾. ولن تسبر غور حرية الله في أن يقيم عباده على التعدد. ذلك أن ثمة أموراً كثيرة لم يكشفها لنا ولن نعرفها إلا في اليوم الأخير. وما يريده الرب ان تخلص أنت بالمعرفة وان تنادي بها ولكنه لم يؤتك ان تفهم لماذا كان الناس على غير ما أنت عليه، ولماذا هم في "سر الإثم"، إعلموا به أم لم يعلموا. وما كشف الله ان تعرف تبعتهم في هذا الإثم لأنه هو الديان، ويفرض هذا ان تعايش الضالين وتعالجهم بالرأفة وهي فيك وجه من وجوه الرحمة التي تنزل عليه وعلى الطائعين والعصاة معاً. فالله إله من كان في الحق ومن كان في الباطل، ووده لهم واحد لكونهم أبناءه معاً علموا بذلك أم لا يعلموا.

ولك أن تعاشرهم ويعاشروك، فما أغلقت قلوبهم دون الله إغلاقاً كلياً، وهو وحده "فاحص القلوب والكلي بعدل" فقد يكون المختلفون عنك أشد ضراوة في الحفاظ على القيم أو بعض من قيم، وقد يكونون أوفياء لأزواجهم وقد لا تكون أنت المؤمن كذلك، ومحبين لأوطانهم وقد لا تكون، وعلى دماثة خلق وطيب معشر ومناصرين للحق وقد لا تكون انت كذلك بالمقدار عينه. فليس ثابتاً أن من ظن نفسه مؤمناً وقام بشعائر دينه هو في الحقيقة كذلك، وليس واضحاً أن من اعتبر نفسه من أمة الله هو كذلك، وليس من المؤكد أن من اعتزل أهل الايمان ممارسة يكون بالضرورة معتزلاً لله أو للقيم الأخلاقية التي دعا الله اليها. التفريق بين أهل الحق وأهل الباطل شأن يتفرد فيه مولاك في اليوم الأخير، ونحن في هذه الأرض حقل زرع فيه الزؤان والحنطة ينبتان معاً حتى يحصدنا الرحمن عند القيامة ليجمع الحنطة في غلاته. قبل ذلك ليس عندك أنت قدرة على حصاد الزؤان لئلا تبيد الحنطة معه.

ثم من أقامك قاضياً على الناس، ومن قال ان الحقيقة انسكبت عليك كاملة لتعطيك بصيرة التمييز الكامل بين الحق والباطل. ولو عرفت الحق في عقلك وسطع عليك بكل جلاء فمن قال انه لم يمازج فيك شهوة الغضب على الذين هم في الباطل، فتحسب انك تقطع رؤوس الناس بسيف الحق والواقع انك تقطف هذه الرؤوس بالغضب الذي فيك. قد تكون الأدمغة صافية ولكن ليس من قلب كامل الصفاء. هناك دائماً بعض من تشنج في الغيرة على الحق او تشنج كبير. أنا لا أعرف انتصاراً للحق ليس فيه مقدار من غضب على المعاندين. وقد تبيد إنساناً بتهييج الرعاع عليه محتمياً بدين الله، وحقيقة الأمر انك سقطت من الغيرة إلى العداوة وتظن ان الدين انتصر. الحقيقة ان هياج قلبك قد انتصر وتكون قد قمت بمجزرة فعلية او مجزرة ادبية.

بانفعالات التاريخ الديني التي مورست على الجماعات الخارجة، أو الأفراد الناكرين، نكون قد جعلنا الله الجزار الكبير. لماذا كان القتل باسم الله في ما سمي الديانات السماوية وما كان في غيرها إلا قليلاً؟ لماذا كان التوحيد مكان إبادة للشعوب والأحرار الذين كانوا على توحيد آخر أو على الشرك أو على الجحود؟ لأن أهل التوحيد احتسبوا انهم وكلاء الله لإحقاق حقه وتنفيذ كلمته وإقحام الناس فيها اعتقاداً منهم أن الرب يتجلى في إجماع على قول واحد. لقد اعتبروا ان وحدانية اللاهوت يجب ان ترتسم وحدانية ناسوت.

الاعتراف بالآخر يأتي من ارتضائنا هذه الدنيا مشوشة الفكر، وان فيها باطلاً كثيراً وفساداً كثيراً، وان هذا ما تسامح الله به بسبب من محبته للإنسان في ظلام خطيئته. وهذا يأتي من ايماننا بأن الناس لن يجمعوا على الحقيقة إلا في اليوم الأخير وما من استباق. وقبل ذلك لك الدعوة والموعظة الطيبة وان تجادل بالتي هي أحسن. ولك قبل كل شيء القدوة وأن يستنير بك القوم على قدر استنارتك انت بالذي كان هو نور الناس. ولو أراد الله شيئاً آخر لما خلقنا احراراً، وقد أنعم علينا بالحرية في علمه اننا نحسنها او نسيء اليها. وقد كان بإمكانه ان يطوعنا كما يطوع الحيوان. ولكنه فطرنا على العقل المعرض للظلمة وتالياً للخطيئة. ليس أنه يريد معطوبيتنا، ولكننا وصلنا بالمعصية إلى هذه المعطوبية. انها تشمل الجنس البشري كله. ولن يكون لنا في الأرض كمال. جل ما نشتهيه ان نصبو إلى الكمال. "على المرء أن يسعى" والسعي يعني اننا قادرون على النهوض والسقوط معاً، وان فينا ما ينهض بنا وما يرمينا إلى الحضيض. ونسمو في شيء ونزلّ في شيء. ونستمع إلى كلام الرب في شيء وإلى وسوسات الشيطان في شيء، فنحن دائماً في ترابيتنا واحيانا في حنين إلى الضياء، وفي أكثر الأحايين نحن جبلة من تراب وضياء. ولن نستبق النعيم الذي يزول فيه التراب ونصبح فيه قامات من نور، إقامتنا الرجاء.

لقد فطرنا على صورة الله، وفي فهم القديس غريغوريوس النيصصي اننا فطرنا على الحرية. هذا هو شبهنا بالله والفرق بيننا انه تعالى وتبارك يقيم في حرية معصومة، ولنا نحن حرية قابلة للزلات. نحن بهذه الحرية تواقون إلى الله ونحقق بها ذاتنا من حيث نحن بشر. وخارجاً عنها نحن آلية الحيوان وغريزيته. وبهذا اعتقنا الله من العبودية له، اي أنه منحنا قوة حبه وقوة التمرد عليه وليس من جبر. لقد نشأنا في عالم الحيوان على ما يفترض العلماء، وأخرجنا الله من نطاقه بالحرية ما أخرجنا من الجسدانية، وبقينا على هذه الخلقة الأولى، ولكن منحنا أن نتحرر كثيراً من وطأة الجسدانية هذه، وان نسبغ عليها طاقة العقل وان نهذبها به، وان نجعل الجسد في خدمة المحبة. ولكن ما ميزنا به قدرة الحرية التي نستطيع بها ان نصل اليه. أجل، هي طاقة خطرة لأنها تحمل في طياتها الإساءة اليها. ولكن كان هذا ثمن التخلق بأخلاقه وان نسمو اليه من بشريتنا.

ان تقبل معطوبيتك، بدءاً، لتقوى عليها في أوان الرضاء وأوان الجهد، لمأثرة صعبة المنال لأن معظم الناس يريدون أنفسهم آلات. السكير والمتخدر والمتهتك يركنون إلى هذا المألوف، المتواتر الذي يعفيهم من أن يبدعوا أنفسهم وكأنهم يطلون كل يوم من الفجر. ان يتناولوا أنفسهم من الوجود الحي المبتكر على إمكان الزلل. لَهُو أشرف من إسفاف الاجترار الذي هو الخطيئة. ان يعُدّوا أنفسهم خالقين على مثال الخالق، لَتَعزية لا يضاهيها شعور. فوقها فقط المحبة المبذولة بلا حساب.

هذه تؤدي إلى اقصاء التسلط الذي لا شهوة بعده لأن المال والجنس – الشهوتين الكبيرتين – في خدمته. الاعتراف بالآخر هو، قبل كل شيء، ان الآخر سيد وانك انت تقيم سيادته، أي تعترف باستقلاله عنك. ان انتباهك اليه وخدمته – وهذان هما عنصر المحبة – يدفعانك إلى أن تعطيه، وان لم تفعل فأنت تسود نفسك عليه أي تلغيه. فكيف تجتمع سيادات كثيرة وتتناغم؟ هذا من أصعب الامور، ولكن ذلك شرط الكرامة لكل واحد. والمسألة الأصعب هي: كيف تؤمن أنت بسيادة الله على الخلق، ولا تريد مع ذلك أن تحشر الناس فيها قسراً، لأن الله ليس سيدا بما هو يعتسف، ولكن بما هو مُعْطِ، أي عارض حبه لكي يتقبله البشر ويستجيبوا له وهم في حريتهم, الله سيد ويدعو، لا يستبد. "من أراد أن يتبعني فليزهد بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني". قولة الناصري هذه تكشف لنا أن المخلص ينادي وينتظر الطاعة مثلما ينتظر التمرد. وانت تنجو بحبك أو تهلك بعصيانك. وفي هذا سر لا يُكتنه حتى يدين الرب سرائر الناس في اليوم الاخير. وقد جعل يسوع نفسه يتواضعه خادماً للكل: "تعلمون أن الذين يعدون رؤساء الأمم يسودونها، وأن أكابرها يتسلطون عليها. فليس الأمر فيكم كذلك. بل من أراد أن يكون كبيراً فيكم، فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون الاول فيكم، فليكن لأجمعكم عبداً".

السلطوي هو ذاك الذي لا يعرف وجوداً إلا لنفسه ويسخر الجميع لكبريائها. أما الوديع، صاحب القلب المتواضع، فيعرف نفسه لا شيء، ومن هذه اللاشيئية التي يرى نفسه فيها ينقلب إلى الوجود بنعمة تتنزل عليه من فوق. ويراه الله موجوداً وحسبه. أما المستكبرون فقد قبل فيهم: "حط المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين".

في التلاقي الاجتماعي هذا يعني ان نفتش عن أصحاب المواهب لنبرزهم. هؤلاء ليسوا فقط أصحاب الذكاء والعلم، ولكنهم بالدرجة الأولى المحلون بالفضائل، وقد يكونون من صغار القوم. العالم يكونه أولاً الأميون والبسطاء والفقراء، وهؤلاء لا يعترف بهم أحد. ان ندنو منهم ونعاشرهم لنتجمل ببهائهم ويصبح ذكاؤنا نسبياً جداً، وثقافتنا نسبية، هذا هو المسعى الجلل الذي ما بعده مسعى. والتنوع الحق ليس ان يتبارى أصحاب العقائديات السياسية، وليس فقط ان يتبارى العلماء وأهل الفن، ولكن أن يتبارى أهل الفضائل الفقراء إلى الله ورحمته.

في هذا التلاقي لا تكون المرأة على دونية، لأن مكانتها في أنها ابنة أو حبيبة أو زوجة أو أي كائن انساني كامل، وهو أعلى من أي اعتبار آخر. قد تكون ضعيفة في رؤية المتسلطين وغير نافذة في التاريخ المنظور، أعني التاريخ السياسي. ما همّ. العمق ليس في ملموسية الأزمنة، وليس في الحضارة التي يبنيها العقل. انه في القلب الذي ينشئ الفاعلين وان لم يكونوا ظاهرين في أزمنة الناس. ان نقتنع ان المرأة ليست أداة لذة ولكنها شريكة الفرح، واننا نسمو بها وتمسو بنا، وأن حبنا الواحد هو الذي ينتج الأولاد ليست فقط بيولوجيا ولكن تربويا، انهم يشبون بالعطف في حضرة الله، وان أولادنا ليسوا ملكاً لنا وأنهم لله ولما يعطون، تلك هي الفرحة الكبرى. وان نعي اننا ننشئهم وأنهم ينشئوننا وأن نعاملهم في بساطة الود تلك هي سلطتنا الوالدية لأن السلطة خدمة هي لا استئثار ولا تعظم.

أن نجوع إلى الآخرين ونعطش، هذا ما يحررهم من غطرستهم اذ نوحي اليهم أننا لا نغذي عنجهيتهم، ولكنا نغذي كبرهم وكرامتهم المشروعة. ان نقول اننا فقراء اليهم لنحيا بهم يجعلهم يوقنون انهم يحيون ايضاً بتواضعنا. ان نصغي اليهم وإلى الأصاغر بينهم لنتعلم ونشفيهم هذا ما يجعلهم نافعين.

ماذا يعني ان نعترف بالآخر سياسياً؟ هذا يعني أن الحكم، وأصله المحبة، ليس وقفاً على فئة دون فئة، ولا على أهل ديانة واحدة ولو احتسبت ان ما تقوله هو من الله. انا لا أناقش هنا دين أحد، واحب حماسته التي تجعله يظن أنه يحكم بأمر الله. قد يبدو هذا افضل من قول القائل انه يحكم برأيه فقط. ولكن رأي الحاكم بأمره قد يكون أقرب إلى قلب الله من قول القائل أنه يحكم باسم الله، ولكنه في الواقع يحكم بقوة من شهوة دنيوية ومن تحزب لأهل دينه. لم يخلق ذلك الإنسان الذي لا يتحزب. لذلك أؤثر القولة الديموقراطية القائلة ان البشر يسعون سعياً فقط، ويحاولون الدنو من القيم وقد لا يخلون من القيم. قد يكون الله ساكناً فيهم أكثر من سكناه على ألسنة الزاعمين أنهم يسوسون البشر بأمره. وفي النهاية حكم هؤلاء حكم القوة، والقوة لا تعترف بمن ليس له قوة. انها تنسب نفسها دائماً إلى الله. هذا التمازج بين الله والإنسان، وقد صنعه الإنسان لأخطر حكم سياسي. فكم من جريمة ارتكبت باسم الله. وكم استقرأنا نصوصاً إلهية الإلهام او الدعم لننفذ بها شهوة السلطة. من يجرؤ على مواجهة الحاكم الذي يدعي أنه يتولى أمور العباد باسم الله؟ انه اذن لكافر. الذين كفرناهم كثيراً ما كانوا ابرياء، شهداء الحرية التي الله منبعها.

من هنا مشكلة الأقلية التي لا تستطيع أن تسمع صوتها باسم الله لكونها تحديداً كافره. وقد تكون الأكثر عددياً ولكنها غير مسلحة. هل يحتاج الرب إلى سلاح؟ كيف يكون الله في الإعدام والسجن وحرمان الناس حرياتهم؟ هل يحتاج الله إلى قوة لينفذ كلمته، وهل تصل كلمته بالقسر والقمع والاضطهاد وان يغيب قوم عن مسرح التاريخ؟ من يستطيع ان يدعي انه يصنع وحده التاريخ او ان دينه يصنع وحده التاريخ؟ ان تستغني انت عن الأقلية هو ان تستغني عن جمالها والخير الذي فيها. من قال إن الجالسين على آرائك الحكم باسم الله طاهرون وانهم يستلمون فقط كلماته والنفحات؟ انه لخلط مريع بين الناسوت واللاهوت، كان مصدراً لكل شراسة في العصور الغوابر، وهو عائد في هذا الجيل الذي لم يعرف في بشاعته جيل آخر. نحن نحكم معاً او السلطوية هي الحاكمة ولو غلفت قباحتها باسم الله.

لعل هذه الفلسفة اذا صارت فينا قناعة تؤتينا مجد الله في العلاقات الشخصية والمجتمعية، وفي دنيا السياسة حتى لا يصير أحدنا نسياً منسياً. مهما يكن من أمر فالله ليس عنده مقصيون. الذين أحبَّهم هو يعترف بهم وهم جمال الوجود.

source