رسالته الانسان

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:عبد الأمير قبلان

كلمة المفتي الجعفري الممتاز نائب رئيس المجلس الااسلامي الشيعي الاعلى الشيخ عبد الامير قبلان في الجلسة الثالثة من مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار

نجتمع معكم اليوم لنُحيي فيك العبقرية والشجاعة والتحدي، نحييك لأنك كنت قد جئت لتنفض غبار السنين وتمسح غبار السنين. نحييك لأنك أول انسان في لبنان، او قد تكون من الاوائل في لبنان الذين رفضوا التقوقع والطائفية، أول عمل عملته عنما جئت إلى دكان ذلك المسيحي في صور لتأكل في محله عندما كنا نُحجم عن ذلك، جلست في دكانه متحدياً كل التقاليد البالية، وكل الصكوك المفروضة. نحييك عندما دخلت إلى الكنيسة وإلى الدير، نحييك عندما دخلت المسجد، نحييك عندما دخلت سوريا لتقرب بين لبنان وسوريا وبين الشعبين عندما كانت الحدود والحواجز؛ نحييك والمرارة تعتصر داخلنا, عندما دخلت إلى ليبيا، لم تذهب إلى ليبيا كما ذهب الآخرون، بل ذهبت لتقول لهم نحن منكم نحن من أمة محمد (ص) لا فوارق بيننا. نحيي شقيقتك على هذه المبادرة، فهي تمثلك مع حبيبك السيد الحميد الذي جاءنا من أمريكا ليسمعك من جديد، ليقرأك من جديد، وليتعلم في مدرستك، نحن بحاجة إلى مجيئك دائماً إلى لبنان لتكون مع أهلك في مدرسة أبيك، مع إخوان أبيك وأصدقاء أبيك، ومع الذين حفظوا العهد والوعد لأبيك عليك أن تأتي لنكون معاً.

نعم أيها الحبيب، يا حضرة الأستاذ طلال، أيها الإخوة في محكمة مركز الإمام الصدر، سمعنا بالأمس من السادة المتكلمين ما أثلج القلب، عشنا معهم في دور رسالة الأنبياء عندما تكلم ممثل البابا وممثل البطريرك وممثل الدروز ورئيس المجلس الشيعي، عندما تكلم الجميع وجدتهم ينتمون إلى بيت واحد وأمة واحدة، وجدتهم مع عيسى ومحمد فكان التمثيل للمشايخ الثلاثة المفتي والإمام وشيخ العقل وكان التمثيل للمسيحيين بالبابا وبالبطريرك، وهذا التمثيل أرجعني إلى الوراء، إلى البعيد، إلى كلمة سواء، سواء هي الاعتدال والتسوية أو السوي، كلمة سواء في الخلق والخلق كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لأحد على أحد إن اكرمكم عند الله اتقاكم. متساوون، من التراب ولدوا وإلى التراب يعودون هؤلاء هم خلق الله.

الإمام علي يقول: قفوا للموت واجمعوا للفناء وابنوا للخراب بعث لهم الأنبياء ومشاعل نور يتقدمون البشرية لهدايتهم وإرشادهم وإرجاعهم إلى الفطرة التي فطرهم الله عليها ومن الخالق ينطلقون وعلى ضوء تعاليمه يسيرون ومن هديه يلتجئون ومن معنى الحق ينهلون. وعلى الله يعتمدون، وبطاعته ملتزمون، ومن شجرة إبراهيم يتفرعون، ولأجل ما خلقهم الله يعملون، كلمة سواء خط الأنبياء ونهج الاولياء وسيرة العلماء سلكها الإمام الصدر لأنه عالم ولو أنه خبر الناس وفهم ما يحملون وما عندهم وبنى عليها مواقفه وتوجهاته. عرفناه رجل المواقف الجريئة والحوار البناء والدعوة إلى المحبة والتعاون على البر.

جاءت الصدف بعد تغيب الإمام الصدر وكلمة صدق أقصدها لأن هناك أناساً نواياهم سيئة، جاءت به الصدف ليكون رجل المرحلة والتوجه الصادق لبناء وطن صحيح بريء من عاهات الطائفية أساسه الكفاءة ودعامته الكفاية ورسالته الإنسان أينما كان وإلى أي فئة انتمى. تتذكره انساناً رجلاً افتدى الرجال كان أمة برجل وأنا أتكلم الحق عنه وليس فقط لأني أحبه فصحيح أنا أحبه اكثر من كل الناس من أخته وأبيه وأمه، وأحبه لأني عرفته وخبرته وعاشرته وسايرته وتعبت معه وضحيت ووقفت معه فقد كان الرجل عملاقاً بكل معنى الكلمة، رجل لا ككل الرجال همته تطاولت الثُريا شامخاً كالحق.

إذا تكلم في الكنيسة يحسبه المسيحي لابساً عباءة عيسى بن مريم، وإذا صاح في المسجد يحسبه المسلم متجلياً بعمامة رسول الله التي هي تاج من تيجان العرب. الحوار جميل وهو المطلوب في زماننا. لماذا لا نتحاور مع أنفسنا، لماذا الشيعي يكره الشيعي والسني يكره السني والدرزي كذلك والمسيحي؟ أي حوار نريد؟ نريد حواراً مع النفس ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، اسألكم بالله هل بيوتنا مثقفة، هل احزابنا مثقفة، هل عائلاتنا مثقفة، هل نتواضع ونتنازل لبعضنا؟ لماذا لا نبتدئ بأنفسنا كمسلمين ونلغي المذاهب ونتبع محمداً وصحابته وائمته؟ اذا لم نوحد هذا التوجه فيكف نتوحد؟ اذا لم نتوحد في بيوتنا كيف تتوحد لنا مقاصد ومآرب؟ لماذا لا نتنازل عن انانيتنا ونحمي بعضنا بعضاً لماذا نأكل لحم بعضنا؟ الحوار مطلوب فلنبتدئ من البيت ومن المدرسة.

لماذا لا توحد الجامعة والكتاب المدرسي واللغة؟ كيف هو هذا الحوار يا سادة يا كرام ومن اين نبتدئ ولماذا لا نكون صادقين، لماذا لا يحب الشيعي السني وهما يختلفان على عمر وابي بكر وعلي، هم اتفقوا في السابق فلماذا لا نتفق نحن؟ لماذا لم يتنازلوا كما تنازل علي لأن مصلحة الأمة متقدمة على مصلحة علي وجماعته. الحوار يبتدئ مني أنا الأناني، أنا الشخص، أنا المحب لنفسي، ولا أحب الخير لغيري. حواري يبتدئ في الحارة، في المدرسة، في البلدة، في العشيرة وفي الوطن.

أيها الاخوة، ان شعب لبنان كله همه، ووحدة بنيه شعاره، وحبه وولاؤه للوطن ولأبنائه. لم نعرف منه مللاً ولا تقاعساً ينصح ويعلم ويرشد ويطلق الصرخات ويطرح الشعارات، كان مثلاً يتحرك في كل اتجاه نكون معه في صور فإذا بنا نراه في طرابلس، نكون معه في طرابلس فإذا به في جرد الهرمل، نكون معه في جرد الهرمل فإذا به في بيروت، نكون تارة في المسجد نبكي في ليالي القدر في صور فإذا به في الصباح في الكنيسة يخطب حول عيسى وابراهيم. فلماذا يختلف الاولاد وأبوهم واحد ودينهم واحد وربهم واحد. يطرح الشعارات فهو يدرك الاخطار المحدقة ويقرأ المستقبل بوضوح ويعي ان المسؤولية الوطنية كبيرة وتستدعي جمع الكلمة، وتوحيد الطاقات، وتنمية الكفاءات، ليس لأنها موجبها الديني فحسب بل لأنها على علاقة مباشرة بالكرامة والحياة.

الأديان جاءتنا لخدمة الإنسان فلماذا تختلف الأديان اليوم على الانسان، على الخصخصة والحصحصة، على حب الذات والجماعة؟ لماذا لا نعطي دوراً للطاقات والكفاءات، لماذا لا نعطي دوراً لأولاد الفقراء الذين يزرعون الارض تفتيشاً عن عمل أو مأوى من أجل اللقمة؟ أي حوار تريدون، حوار الأغنياء وحوار الاغبياء وحوار السلطة وحوار من يسكن في قصره؟ أين تعاليم محمد الذي يقول خذ العفو وأمُرْ بالعرف وأَعرض عن الجاهلين ان الدين عند الله الاسلام. وأين تعاليم عيسى الذي يقول من ضربك على خدك الايمن فَأَدِرْ له الأيسر.

نعم أيها الاخوة والاخوات نحن بحاجة إلى ثورة داخلية في الصميم. نتعلم، نتثقف، نعود إلى التراث، إلى حياة عيسى ومحمد، حياة التقشف والزهد والمساواة بين الناس، فالإمام الصدر كان يرفض ان تبقى الوحدة بين اللبنانيين شعاراً مرفوعاً وكلاماً مقروءاً وراح يعبر عن رفضه هذا بحركة لم تهدأ وسعي لم يتوقف طارقاً كل الأبواب، شارحاً محاوراً، سائلاً متسائلاً منبهاً محذراً، فهو المدرك تماماً بأن الوطن المعافى ليس اتفاقية مكتوبة تربط بين مناطقه المتعددة، بل هو مشاركة حقيقية في الآلام والآمال, وحدود الوطن لا تصان بالضمانات الدولية وإنما من خلال وحدة أبنائه الثابتة التي لا تمتنها المنافع ولا تزعزعها الاضرار ومجتمع تنمو فيه العطاءات وتتعاظم فيه الكفاءات ويسود فيه الفساد والفوضى ويجتنب الاحساس بالمسؤولية، يعتمد على العلم والتنظيم، ويقوم على اساس التحسس بآلام الفقراء والمظلومين. الفقراء كثر ايها الاخوة أنا أعرف المعاناة مع الناس لأني أعيش الناس من دعم الفقراء. أنتم الثورة الإسلامية في إيران دعمتم الفقراء هنا، أنتم في الفاتيكان دعمتم الفقراء هنا. لم يدعم الفقراء إلا ربهم ومن يعيش آلامهم ومصائبهم ومشاكلهم، نعم ويذوب فيه الفساد والرياء ويكره الكسل والفوضى ويجتذب الجدية والإحساس بالمسؤولية يعتمد على العلم والتنظيم ويقوم على اساس التحسس بآلام الفقراء والمظلومين وعلى التفاني في خدمتهم.

عيسى كان يعيش من نبات الأرض، يلتحف السماء ويفترش الغبراء ويستضيء بنور القمر، ومحمد صلى الله عليه وآله كان مع عائلته علي وفاطمة والحسن والحسين صاموا ثلاثة ايام على صاع من طحين الشعير هو مرٌ جداً فقد كانوا يوزعون كل ليلة حصتهم من الأرغفة على الفقراء، هكذا كان الأنبياء.

إن الوطن في مفهوم الإمام الصدر هو الذي يعيش في ضمائر أبنائه من التاريخ والجغرافيا فلا مواطنية صحيحة دون الترفع عن العائليات والإقليميات والطائفيات والحزبيات، فالوطن ليس مزرعة ولا ملكاً لفئة دون اخرى، فهو ملك لكل ابنائه، والسمؤولية الوطنية أمانة في أعناق الجميع وتأديتها كاملة من دون وسيط، فهذا خط أحمر وكل من يتجاوزه لا بد من أن يدفع الثمن عاجلاً أم آجلاً. إن ما نعانيه اليوم هو تماماً ما كان ينبه إليه الإمام الصدر ويدعو دائماً إلى مواجهته بالوحدة والتعاون وكتم الغيظ والترفع عن الحساسية وبناء مجتمع على أساس الثوابت الوطنية الإنسانية والاخلاقية، لا بحسب القياسات الطائفية والقبلية والعنصرية التي زعزعت الانتماء وألّبت الولاء وحطمت الآمال وعرضت مستقبل لبنان إلى المخاطر وأدخلت شعوبه في مآسٍ وآلام تجاوزت كل الحلول. لقد سعى الإمام الصدر مع الخيرين وفتح قلبه إلى جميع اللبنانيين داعياً إياهم إلى الحوار الموضوعي رافضاً كل أنواع الظلم ماداً يده للتعاون من أجل لبنان وليس من أجل الشيعة. كان بعضهم يفهم الإمام الصدر بشكل خاطئ فيعتبرونه للشيعة ولكن صحيح انه كان معنا وهو إبننا ولكنه كان يتحرك من أجل كل لبنان وكل شعبه، حتى أنه كان يريد أن يمد فروعه إلى خارج لبنان، فكان همه الوحيد ان يتحرك من أجل الفقراء في الهند وأفغانستان وباكستان، في إيران وأندونيسيا والعالم العربي، ولكن التفكير السلطوي يمنع هذا التحرك. رجل دين عاقل منفتح يساوي بين جميع الناس والطوائف هو مرفوض في عالمنا العربي المتخلف. كان رافضاً كل أنواع الظلم والقهر ماداً يده للتعاون من اجل لبنان وليس من اجل الشيعة وليس من اجل منطقة دون اخرى، وعندما كان يتحدث عن الجنوب فهو كان يعلم ان العلة تكمن في الكيان الصهيوني واهدافه العدوانية ومخططاته التوسعية ولا خيار لنا إلا المقاومة، مقاومة هذا العدوان الغاصب والمعتدي بشتى الوسائل والامكانيات، كان يريد لبنان وطناً عزيزاً قادراً، اراده وطن الإنسان لا مكان فيه للمحتلين ولا للمحتكرين الذين يسرقون أموال الناس، أراده وطناً لجميع أبنائه منيعاً محصناً يقف إلى جانب أشقائه العرب في قضاياهم لا سيما قضية فلسطين التي حملها لبنان في قلبه وعقله.

source