ضرورات الحوار

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:محمد سعيد البوطي

كلمة الدكتور الشيخ محمد سعيد البوطي في الجلسة الثالثة من مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار

الصلاة والسلام على نبينا محمد، النبي الأمي وعلى آله الطيبين وعلى صحبه أجمعين،

أيها السادة والسيدات، أعتقد أن خير طريقة لإنهاء التغييب الذي مُنِيَ به سماحة الإمام السيد موسى الصدر، بل مني به العالم العربي والإسلامي أجمع، هو السير على منهجه الذي كان يسير عليه ويدعو الناس جميعاً إليه. ولعل خير طريقة للوقوف في وجه السعي إلى تفشيل جهاده، هو سعينا الدائم إلى تحقيق غاياته التي كان يرمي إليها. والذي أعرفه أن منهجه كان يتمثل في الحوار مع الآخرين. والذي أعلمه أن غايته من وراء هذا المنهج، بعد الإيمان بالله عز وجل حقاً، هو تحقيق أقدس ثمرة لهذا الإيمان، ألا وهو وحدة الأمة. وأنا عندما أدعو إلى استحضار منهج الإمام لإنهاء تغييبه لا أقصد من ذلك أن نقلده حباً، وأن نسعى وراء منهجه تعصباً، ولكني أحب أن نقتنع بما اقتنع به الإمام، وان نعلم انه لم يلتزم بذلك المنهج إلا لأن الضرورة اقتضته لذلك، وانا الآن أفتح ملف البيان لهذه الضرورات التي لا أقول تحوجنا بل تضطرنا إلى الحوار.

الضرورة الأولى أن هذا الحوار هو العمل الذي لا بد منه لتنفيذ الواجب الرباني الذي خاطب يه عباده جميعاً، واعتقد ان هذا جامع مشترك ولا أحب أن أقول قاسماً، هو جامع مشترك بين ذوي الأديان السماوية أجمع، فالكل يعلم ان الله سبحانه وتعالى حاور عباده ليحاور بعضهم بعضاً في نطاق التعاون على البر والتقوى والابتعاد عن الإثم والعدوان. لذا فأنا اختلف عمن أوهمنا بالأمس أن الحوار مطلب اجتماعي تدعو إليه ضرورات التعايش. نعم، هو مطلب وفيه فائدة على جلى لمجتمعاتنا، لكن إذا خلا السير إلى تحقيق هذا المطلب من الدافع الديني، فلسوف يكون الطريق إلى ذلك مغلقاً. لا بد أن نستشهد أن مولانا وخالقنا الذي نقف جميعاً تحت مظلة العبودية له، يدعونا إلى الحوار، هذا الدافع ينبغي أن يكون هو المحرك لنبضات قلوبنا لعملية الحوار، فهذه هي النقطة الأولى التي تضعنا أمام ضرورة الحوار.

أما النقطة الثانية، فهي نقطة التعاون الإنساني، لا سيما في ظروفنا المأساوية التي نمر بها, هل منا من لا يشعر بأننا بأمس الحاجة إلى التعاون؟ أليس الإنسان إنساناً إجتماعياً بطبعه، فرداً اجتماعياً بطبعه؟ وهل يكمن معنى كونه إجتماعياً إلا في انه يسعى إلى مد جسور التآلف، ومن ثم التعاون إلى سائر بني جنسه؟

مقتضى التعاون الإنساني أيها الاخوة يتمثل اليوم في حاجات كثيرة، منها طرأت اليوم، والبعض منها قديم. من هذه الحاجات الهامة التي ينبغي ان نتبينها، موجبات رعايةُ الأُخوَّة الإنسانية، لكننا نعلم أن هنالك أُخُوَّة إنسانية يشيع نسيجها بين بني الإنسان. لكن هذه الأُخُوّة الإنسانية الحقيقية هي كالشجرة التي غُرست في حقل، فإن أَعْرَضْتَ عنها وأهملتها تحولت شيئاً فشيئاً إلى حطب يابس للاحتراق، وإن رعيتها بالسقيا والاهتمام، فإن هذه الشجرة تخضر وتورق وتثمر وتتنامى.

الأُخوَّة الإنسانية هكذا، وما هو سقيا هذه الاخوة، أيها الأخوة؟ إن سقيا هذه الأخوَّة تتمثل في الحوار. الحوار هو مفتاح التعاون، والتعاون هو السبيل إلى الحفاظ على هذه الاخوَّة وإلى تناميها. وأنا لا أنطلق، أيها السادة والسيدات في هذا من نظرة إسلامية متقوقعة في الآية القرآنية ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ بل انطلقت إلى هذا من رؤية إيمانية يلتقي عليها جميع من آمن بالله سبحانه وتعالى وبعبودية الإنسان لله عز وجلّ، هذه هي الضرورة الثانية، وهي تتمثل بالقيام بحق المواطنة. وكلمة المواطنة على وزن مفاعلة، وتنم عن الاشتراك والتعاون والتلاقي على مستوى واحد.
المواطنة، أيها السادة والسيدات، عبارة عن حق وواجب، كلنا نتقاسم تحمل أعباء هذا الواجب، وكلنا ننتظر ثمرات هذا الحق، ولا أعتقد أن هنالك تفاوتاً على مستوى هذا الحق الذي أقوله، أو الواجب الذي ألفت النظر إليه. المواطنة إطلاقاً لا يمكن ان تكون مفسَّرة بمعنى خاص بالنسبة لدين معين، ثم ان تفسر بمعنى آخر بالنسبة لدين آخر. المواطنة هي النسيج الواحد الشامل لكل من يعيش فوق أرض واحدة. وقد قضى الله سبحانه وتعالى أن نعيش تحت مظلة هذه المواطنة فوق هذه الأرض التي تجمعنا.

بالأمس القريب كان في الناس من يتصور أن العدو الذي يطمع بديارنا من بعيد، ويسيل لعابه على حقوقنا من هنا وهناك يميز بين مواطن وآخر، فهو يصطفي لنفسه من ينتمي إلى ديانته، فيدلله ويحميه ويرعاه، بينما يلقي بالنظرات الشزراء على أولئك الذين لا ينتمون إلى دينه، ومن ثم ليس بينه وبينهم أي نسب.

هكذا كان يتصور بعض الناس. ولكن الامر قد ظهر جلياً اليوم، مما يدل على خطأ هذه النظرة. أيها السادة والسيدات، نحن جميعاً نعيش فوق هذه الأرض، ونملك حقوقاً مشتركة في ذخر هذه الأرض في باطنها ومن خيرها الذي يتفجر على ظاهرها، العدو عندما يطمع بهذه، يطمع بحقي وحقك، العدو عندما يطمع بخيرات هذه الأرض إنما يجردني ويجردك، لأننا جميعاً نتبوأ هذه الدار، ولأننا جميعاً نتقاسم الخير الذي في زواياها.

كيف تتصور أن يطمع عدوّ في غرفةٍ أو جزء من هذه الدار لا يكون في ذلك ضرر لكل من يمتلكون هذه الدار؟ والملكية مشاع كما تعلمون أيها الاخوة والاخوات، وبوسعي أن احتج لبيان هذه الحقيقة الساطعة البديهية بكثير من الأقوال، لكن يطيب لي أن لا احتج إلاَّ بكلام رائع ذكره الأستاذ فيكتور سحاب في كتاب له عنوانه "من يحمي المسيحيين العرب"، ويعرض للمآسي التي نزلت بالمسيحيين مثل أو أكثر مما نزلت بالمسلمين، ويحلل ذلك لأنه في كثير من الأحيان يُخيل اليه، أن بوسعه أن يجعل من المسيحيين مفاتيح للولوج إلى هذه الأرض، هذه الحقيقة ومعروفة وواضحة.
إذاً حق المواطنة حق لنا جميعاً، والواجب الذي يكمن بين يديّ هذا الحق هو واجب علينا جميعاً، فهذه هي الضرورة الأخرى للحوار. لا بد من الحوار لهذه الضرورة الثانية.

أما الضرورة الثالثة والأخيرة فهي تتمثل في رعاية الجذور الإيمانية المشتركة. كلنا أيها الأخوة ننطلق من جامع واحد هو أننا نؤمن بأننا عبيد بكل معنى الكلمة لله عز وجلّ، وبأن هذا الصانع لهذا الكون مولانا وخالقنا، ذلك لأن الله مولى الذين آمنوا، وأن الكافرين لا مولى لهم. نحن كلنا نؤمن بالله عز وجلّ، إذاً فالله سبحانه وتعالى هو مولانا، وأعزز بهذا الشعور وأعظم بشعور من يعلم ان له مولى يرعاه. هذا الكنز من الشعور لا بد من تغذيته، هذا الكنز من الإدراك لا بد من حمايته. كيف أرعى إيماني الذي في صدري، وكيف ترعى إيمانك الذي في صدرك بلون قدسي من التعاون؟ أرعاك عبداً مؤمناً لله وترعاني عبداً مؤمناً لله سبحانه وتعالى. وليس هنالك من سبيل إلى هذا إلا بالحوار. وأنا أضع هنا بين قوسين جملة وأقول ما أعني بالحوار؟ والله، أيها السيدات والسادة، أنا لا أعني بالحوار ذلك الأسلوب المصلحي الذي أحوم بدافع منه من حولك لأجني منك مصلحة لنفسي، وإنما أعني بالحوار أن تكلمني بإدراكك، بمعارفك، بمشاعرك، أن تكلمني وأن أكلمك بما حباني الله سبحانه وتعالى أيضاً من مزايا على هذا الطريق، ولا يستغني أحد من عباد الله عز وجلّ عن أحد في نطاق هذا التكامل. أيها السادة والسيدات، لو أن أعضاء أسرة في المنزل يتمتعون بنعمة الإيمان بالله عز وجل، ولكن كلاً منهم أعرض عن صاحبه، ولم يحاول كلٌ منهم أن يتفقد الإيمان الكامل بين جوانح صاحبه، أو أن يصير بينه وبينهم عضوية هذه الأسرة، فإن هذه المشاعر الإيمانية تذبل ثم لا تزال تذبل إلى ان تذوي وتذروها الرياح، هذه حقيقة ينبغي أن نعلمها.

أعتقد ان هذه الضرورات كافية لتدفعنا إلى حوار قدسي، إلى حوار ينأى عن الانتصار للذات، وإنما يستخدم لابتغاء السير إلى الحقيقة. هذا عن ضرورات الحوار، فما هو الهدف الذي ينبغي منه، والذي سعى إليه جاهداً الإمام الصدر؟

الهدف الاول هو حماية صلات البر بين فئات الأمة وطوائفها من أن تتقطع، وصلات البر هذه وصية أوصى الله عز وجل بها عباده، أوصانا بها في قرآنه، ولا شك أنه أوصى بها كل اصدقائنا وإخواننا في الكتب السماوية الأخرى ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين﴾ هذه الآية تأمرنا بهذا البر، والبر كما تعلمون حقيقة لا مجال الآن لتحليلها والخوض في معناها الطويل. البر هو عبارة عن ثمرة الحب، إذا كان الحب طريقاً فالبٌّر غاية، ولكن هذا البر الذي بيني وبينك كيف يمكن ان يتنامى؟ لا يمكن ان يتنامى إلا بواسطة الحوار، أحاورك وتحاورني ثم يستمر الحوار، وربما أصطدم معك في فكرة تراها ولا أراها والعكس صحيح، ويذوب أثر ذلك كله في الإخلاص ابتغاءً للحقيقة. هذا الحوار إذا استمر واستمر يوصلنا إلى غاية تتمثل في البر، وإذا تحقق البر استطعنا أن نعيش في حصن حصين يقوم على أسوار مرتفعة لا يمكّن العدو من أن يخترقه إلينا، فالبر المتبادل والذي تشيع شبكته بين الأفراد يحصن المجتمع، ومن ثم لا يستطيع العدو أن ينال منا أي منال.

أنا أعلم حقيقة تاريخية يصدقها الزمن الذي نعيش فيه، وهي أن العدو لا يستطيع أن ينال من هذه الأمة منالاً إلا إذا اصطفى من داخلها من يصطفيه لعدوانه. لا يستطيع العدو أن يجعل من مخالبه الذاتية قوة يتغلب بها علينا إلا إذا استعار لنفسه مخالب منا نحن، وهذا لا يمكن أن يتحقق عندما يشيع البر فيما بيننا، ولن يشيع البر إلا إذا قام الحوار، وإياكم أن تتصوروا أن البر لا بد أن يكون ثمرة الاتفاق، لا مجرد الحوار الذي يشعرك بغيرتي عليك ويشعرني بغيرتك عليَّ، ووحده كفيل بتحقيق هذا البر، هذا هو الهدف الأول.

اما الهدف الثاني، فأسميه أنا تنمية الجامع المشترك بين الطوائف والفئات. هنالك جامع مشترك كبير، لكن ربما كان مغموراً، في بعض الأحيان يحتاج إلى اكتشاف، لا إلى إيجاد. هذا الجامع المشترك يتمثل في الإيمان، لا أقول التقليدي، بل الايمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى، يتمثل في يقين كل منا بأننا عبيد الله سبحانه وتعالى. وهنالك بعد ذلك جوامع مشتركة جزئية يطول الحديث عنها، هذا الجامع المشترك ربما يدركه الذبول لو أننا لم نتلاقَ في مكان كهذا المكان، ولم نتحاور ولم يشك بعضنا جراحاته لبعض. لكن عندما يتم هذا التلاقي الذي يكون صافياً عن الشوائب، وخالياً من الدوافع الخارجية، فإنه السبيل الأوحد لتنمية هذا الجامع المشترك. وأنا عندما أضع هذا الجامع المشترك هدفاً أمامي، أجيز لنفسي، طبعاً، بل أعلم أنه حق كلفني الله عز وجل به، أنا أقول للأخ الذي يختلف معي في الدين الذي أؤمن فأقول له: يا أخي، لقد اقتنعت بحقيقة، فهل لك ان تصغي إليّ لأنبئك عنها، إنني مكلف أن احب لك ما أحبه لنفسي، بهذا الدافع ينبغي أن أعرض له قناعاتي وأبرهن له أنها قناعات صادقة فيما خُيَّل إليّ. وعليك أن تتخذ الموقف ذاته فتقول لي هل لك أن تصغي إلى ما أيقنتُ به وما ثبت لي، بالأدلة التي وصلت إليها، أنه الحق الذي ينبغي ان نقف عنده، ولا شك أنني عندما أشم رائحة الإخلاص في كلامه والحب لي في محادثته، سأصغي إليه، ولسوف يصغي هو الآخر إليّ، وإذا كانت النتيجة من ذلك أن ساحة الخلاف أخذت تضيق، فأحبب بذلك، وكم يطيب لنا أن نسلك سبيلاً، لا أقول ينهي الخلاف، بل يُضَيِّقُ من جوانب الخلاف. ولكن هذا السبيل ينبغي أن تحف به الحكمة وأن تحصنه الرغبة في الغيرة على الآخرين، لا أن يكون سبيل تفتيل عضلات، ولا أن أتباهى بما قد عرفتُهُ وجهلتَهُ، أو أن تتباهى بما قد عرفتَهُ وجهلتُهُ، فكثيراً ما ينطلق بعض من إخوة لنا إلى ترويج لما قد تبصروا به وعرفوه من هذا المنطلق.

أنا أُخَطِّئُ في المنهج، ولكني لا أُخطئ الهدف، إن كنتَ مقتنعاً، ينبغي أن تعرض وجه اقتناعاتك، لكن لا ينبغي ان تنتقصني من خلال ما قد تعرضه من قناعات، ولا أن أنتقصك من خلال ما أعرضه من قناعات. أضعُُ الحقَّ بيني وبينك، ولكن إذا وصلت معك إلى جدار مسدود، هكذا يتراءى إليَّ، اقول كما قلت بالأمس، ﴿إنَّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾. وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا على الحق جميعاً.

الهدف الثالث، وإن كان الهدف الثالث أقدس الأهداف، فهو تغذيه عوامل الوحدة التي هي مصدر القوة، ألم أقل إننا نشترك في المواطنة حقاً وواجبات، إذاً نحن مكلفون بحماية هذا الوطن والنهوض بالواجبات المترتبة علينا تجاهه. هل بوسعنا أن ننهض لحماية هذا الحق الوطني والقيام بواجباته تجاهنا إن لم نكُ متحدين؟

أعتقد أننا جميعاً نعلم الجواب عن هذا السؤال، إن فينا من يتصور أن العدو يتربص بثروتنا من خلال محاربته للوحدة، ويتربص بمبادئنا من خلال محاربته للوحدة، لأنه يعلم إذا آلت هذه الوحدة إلى إنكاس فإن الفئات المتفرقة والمتشرذمة، بل المتضامنة ليس بوسعها أبداً ان تسعى من أجل إعادة قوة، ولا من أجل حماية ثروة، ولا من أجل رعاية حضارة وقيم بشكل من الأشكال.

هذه هي الأهداف الثلاثة التي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الحوار. والذي لا أشك به أن هذه الأهداف الثلاثة هي تفجِّرُ هَمَّ الإمام موسى الصدر وهي التي كانت تجعله يبذل كل ما يملك من جهد ليقفز مرة إلى هنا ومرة إلى هناك، فيلتقي مرة مع المسيحيين في الكنائس ومرة مع المسلمين في المساجد، ومرة يلتقي بين التائهين، بين هؤلاء وأولئك ليحاورهم، وهذا الهدف الذي يجب ان يضعه كل إنسان نصب عينيه فيؤمن بالله ويؤمن بأنه مواطن مع إخوانه فوق الأرض التي أقامه الله عز وجل عليها.

وأخيراً ما هي منطلقات الحوار؟ كيف ننطلق؟ إن رأسمال المحاور أيها السادة والسيدات هو الحب. إذا زال الحب يكون الحوار كلمات فارغة وشعارات براقة وزائفة، والدليل على أني أحب ومن ثم أحاور، شيء واحدٌ هو أن أتحرر من عصبيتي وأضعها تحت قدمي، وأتحرر من ذاتي وألقي الذات وراء ظهري. إن استطعت أن أفعل ذلك، فأنا أتعامل معك بورقة الحب حقيقة. لكن إن رأيْتُني وأنا أحاورك أحاول دائماً أن أُبْقي على ذاتي، والذات كتلة من التصورات والقناعات، أو عندما أنطلق إلى هذه المحاورة من الانتصار لذاتي والانتصار للعصبيات التي ورثتها من آبائي واجدادي، فهذا يعني أني لا أتمتع بحبٍ يدفعني إلى حوار بشكل من الأشكال، ومن ثم فأنا مع الأخوة الذين قالوا اليوم وقالوا بالأمس إن هذه الحركات التي تسمى أصولية، والتي تزعم أنها تقيم بشكل أو بآخر المجتمع الإسلامي، أؤكد معهم إن هذه التحركات لا تنتمي إلى أي سعي إلى إقامة مجتمع إسلامي ابداً، وإني لا أعلم الغيب ولكني أشم رائحته بالحس الذي هو الأنف، أو بالإحساس العام الذي يتمتع به كل منا، بموجب هذا الاحساس، أشعر ان هؤلاء الناس ينتصرون لأنفسهم وينتقمون لذواتهم ويجعلون من الإسلام رداءً يحجبون به دواعي انفسهم وحبهم لذواتهم عن أعين الآخرين، لكني أختلف معهم بشيء واحد، في تسمية هذا العمل بالأصولية. أتمنى لو كانوا أصوليين. هذه التمسية روّجَتْها المجتمعات الغربية، والإمام الاول في ترويج ذلك هو بريطانيا، هناك في سنة من السنوات، وُضعَتْ كلمات في استديوهاتٌ إذاعة BBC، وتلك واحدة من هذه المصطلحات. لماذا لا نعبر عن التطرف بالتطرف الذي هو إسم لغوي، هو إسم حقيقي، الهدف من ذلك أن يروِّجوا في أذهان رجال الشارع التقليديين المسلمين الذين تنقصهم الثقافة الإسلامية أن الإسلام الحقيقي هو الذي يتمثل في مصادره وينابيعه الأساسية.

هكذا، فإن أردتم أن تعرفوا الإسلام في أصوله الأولى وينابيعه الصافية، فانظروا، هذا هو الإسلام، وهذه جريمة تفوق جريمة هؤلاء الأصوليين.

هم يمارسون جريمة في السلوك، أما أولئك فيمارسون جريمة في التزييف، لو كان هؤلاء الناس منضبطين في أصول الإسلام كتاباً وسنّة ومنهجاً. إذاً لابتعدوا عن هذا السبيل، ولاستغفروا الله سبحانه وتعالى عن هذا الشرود عن صراط الله سبحانه وتعالى.

وأنا دائماً في مثل هذه المناسبة أذكر الكلمة الرائعة التي ألْجَمَ بها السيد الرئيس حافظ الأسد "مورفي" عندما جاء قبل سنوات يقول له: "ألا ترون ان الأصوليين يتكاثرون؟" فقال له: "نحن نبحث عن الأصوليين، فهم دعامة مجتمعنا، نحن اختلفنا يوماً مع المسلمين غير الأصوليين، أما الأصوليون، فهم الذين نبحث عنهم لأن أصول الإسلام تتمثل في القرآن والسُنّة وبما اجمع عليه العلماء، والذين ينضبطون سيكونون صالحين لأنفسهم ولأممهم". نعم، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نضعها في اعتبارنا وأن نسقط هذا المصطلح الذي وضعته المجتمعات الغربية.

وأخيراً، المنطلق الثاني الذي أراه هو أن الحوار ينبغي أن يكون منطلقاً في دائرة مجتمعاتنا نحن، أي العربية والإسلامية، حوار المسلم للمسلم، وحوار المسيحي مع المسيحي، وحوار المسيحي والمسلم، فنحن المسلمون قبل كل شيء بحاجة لأن نتحاور، وإذا تحاورنا تتساقط فيما بيننا حواجز الأهواء والعصبيات، ولسوف نتهيأ، عندئذ، لنحاور أصدقاءنا. وعندما يتحاور المسيحي مع المسيحي أيضاً سعياً إلى هذا الهدف فلسوف يتهيأون لكي يحاوروا ويفيدوا مما عندهم، وعندئذ تحين مرحلة الحوار المسيحي الإسلامي. أما أن نقفز الآن ونحن متشرذمون ومتفرقون ومسلوبو الحقوق إلى ان نحاور الغرب، كما طرح أحدهم هذه الفكرة بالأمس، فالمحاورة ينبغي أن يتمثل فيها شرط أساسي هو أن يكون الطرفان نَدِّيْن، أي على مستوى واحد، وعندما نرقى إلى مستوى النّدِّية مع الغرب، وعندما يدرك الغرب معنى الحوار الذي يجب ان يشيع بيننا وبينه، ويسقط أطماعه من بين جوانبه، عندئذ يمكن أن نجلس معه على مائدة الحوار. أما الآن، فمن ذا الذي يتصور أن الغرب ينطلق إلى الحوار من مبدأ إنساني! لو قال الغرب ذلك لكذب. واميركا هي أول من تكذب في هذا الادعاء طالما كانت تصطفي لنفسها أولئك الذين اغتصبوا حقوقنا والذين استمرأوا اوطاننا وأرضنا والذين ينتشون سكراً بدوافع الاستمرار في الغصب والاستمرار في النهب ويعتصرون حقوقنا سكراً يطوف في رؤوسهم، ما دمنا نجد أن أميركا تبارك سعيهم هذا وتغض الطرف عن حقوقنا، فالحوار مطوي بيننا وبينهم، وينبغي أن نتسلح أولاً بالحوار الذي ينبغي أن يشيع فيما بيننا.

أحسبُ أني قد أطلت أيها السادة والسيدات، ولكن أصدقكم أن في القلب آلاماً تنسيني الزمن ودقاته، ومع ذلك، فإن العبرة ليست في الكمَّ وإنما في الكيف.

أسأل الله أن يفجر في أفئدتنا الحب لمولانا وخالقنا، ومن ثم الحب لعباد الله ومن ثم السعي إلى حراسة حقوق الله التي وكًّل حمايتها إلينا، وأشكركم والسلام عليكم.

source