الأخطار التي تهدد المسيحية والإسلام

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:انطوان الجميل

كلمة الاب انطوان الجميل مدير المركز  الكاثوليكي للاعلام  في الجلسة الثالثة من مؤتمر "كلمة سواء" الأول: الإمام الصدر والحوار

مقدمة
مما لا شك فيه أن شخصية الإمام موسى الصدر وتعاليمه وتوجّهاته هي قيمة لبنانية وشرق أوسطية تجسدت في حوار صريح وعميق مع الجميع وبخاصة مع المسيحيين. ولقد سعى في محاضراته ولقاءاته في الأندية والمدارس وفي المحافل الدولية والإقليمية والمحلية إلى تعزيز العيش اللبناني المشترك، المبني على تقاليد عريقة جعلت الثقافتين المسيحية والإسلامية تتفاعلان بشكل مميز، كما جعلت المسيحي اللبناني يختلف عن أي مسيحي آخر في العالم لأنه اختبر حياة التعايش، كما جعلت المسلم اللبناني يختلف عن أي مسلم في العالم لأنه يعيش الخبرة ذاتها. فعسى في هذه الندوة وفي مناسبة احياء ذكرى اختفائه، ان نستعيد هذه القيم ونعمل لتنميتها، كي نجنب مجتمعنا آفات التفكك والاقتتال، ونحمي ديانتينا من الأخطار التي تحدق بهما.

فالأخطار عديدة، منها ما يأتي من الخارج، وبعضها ما يأتي من الداخل. ويتفاقم الخطر اذا تألبت الأسباب. فما علينا لمواجهتها إلاّ ان نبقى لها بالمرصاد، وان نسعى إلى توعية مجتمعنا، ولا سيّما الشباب، كي يتصدّوا لها هم بدورهم ويجابهوها بالفكر والإيمان الأصيل والمواقف والتصرفات الإنسانية السليمة.

الخطر الأول: الصهيونية العالمية
يأتي هذا الخطر من خارج الديانتين، وهو يُهدّد كيانهما ووجودهما ويحاول زعزعة الإيمان بكل الوسائل الممكنة. والصهيونية لا تعني اليهودية التي هي ديانة توحيدية يجمعها والإسلام والمسيحية ايمان ابراهيمي مشترك بالله الواحد الكلي الرحمة والعدل والمحبة.

تحاول الصهيونية تقويض كلّ من المسيحية وخاصة المسيحية المشرقية، والإسلام. وهذه المحاولة تنبثق من مبادئ يدّعي بعضها ان شخصية المسيح غير تاريخية، وهذا ما يتنافى مع أبسط الحقائق التاريخية وتعاليم الإنجيل المقدس والقرآن الكريم. فالتشكيك بتاريخية المسيح انما هو محاولة لا لضرب أسس المسيحية فحسب، بل لضرب اسس الإسلام الذي يعترف بعيسى ومريم والحواريين وبسلسلة الأنبياء منذ العهد القديم. وغني عن البيان، هنا، التذكير، بما جاء في سورة مريم عن السيد المسيح: ﴿قال اني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً. وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباّراً شقياً. والسلام عليّ يوم ولدتُ ويوم أموت ويوم أبعث حياً. ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون﴾ ]سورة مريم 20 – 34[.

وان اختلفت الآراء بين المسيحية والإسلام حول صفات المسيح، فيبقى هناك قاسم مشترك أقلّه وجوده ونبوّته. لذلك تواجه الأديان التوحيدية الثلاثة تحدياً مشتركاً متمثلاً بالإيديولوجيا القومية التوسعية المتنكّرة لقيمة الأديان والحضارات الإنسانية التي ساهمت في نقل البشرية من حالة المادية وقانون الغاب إلى حالة الإيمان والتسامي بالأخلاق الحسنة والشرائع المليئة بمعاني الرحمة واللاعنف.

إن الأساليب التي تستعملها الصهيونية العالمية متعددة ومتنوعة. فهي تعمل بطرق خفيّة، مستغلة كل ظرف ومناسبة لنشر تعاليم مضللة يروّجها جماعات وأفراد مدربون على التضليل، ترعاهم جمعيات أو مؤسسات اجتماعية تُضمر غير ما تُعلن، وتستعين لتحقيق مآربها بأقوى سلاح عصري نعرفه، ألا وهو الإعلام، ولا سيما إعلام الصورة والأفلام على أنواعها.

أ- من هذه الجمعيات أتباع شهود يهوه، وهم الأكثر نشاطاً في العالم، ورغم صدور قرارات رسمية في بلدان عدة، منها لبنان، تمنع نشاطهم، فهم يعملون دون انقطاع. يقرعون ابواب الناس متذرعين بالإنجيل مدعين تبشير الناس، فيشترون ضعفاء الإيمان والنفوس بأموال خسيسة هي أشبه بالثلاثين فلساً التي باع بها يوضاس السيد المسيح.

ليس لشهود يهوه شيء من المسيحية، فهم يمسخون الإنجيل ويقتطعون بعض الآيات من نصّها الأصلي فيحورون معناها ويحشون رؤوس الناس بتعاليم خاطئة عن الله وعن نهاية العالم، زارعين البلبلة في النفوس في محاولة زعزعة المجتمع وتقويض دعائم الوطن ومؤسساته.

ومن المؤسف أن نقرأ من وقت إلى آخر لبعض الكتّاب المسلمين، غير اللبنانيين، بل الغرباء عن الثقافة اللبنانية التي تستمد مقوّماتها من منهلين هامين هما الحضارة المسيحية والحضارة الإسلامية، كتّاب يدعون التحليل العلمي للمسيحية فيستعينون بكتابات شهود يهوه وبأقوالهم، بدل ان يستعينوا بينابيع المسيحية وكتبها المقدسة الأصلية. فيكون هؤلاء الكتّاب كمن يعتقد أنه بتقويضه للمسيحية يكون بمنأى عن تقويض ايمانه الإسلامي. وعلى سبيل المثال نذكر كتاب أحمد زكي "انزعوا قناع بولس عن وجه المسيح" وقد بلغ تجريحه وفي تشويهه للديانة المسيحية ما حمل النيابة العامة إلى مصادرة الكتاب ومنعه من المكتبات، في الآونة الأخيرة.

ب- ومن تلك الجماعات ايضاً "الماسونية" على مختلف تشعباتها ومحافلها … فهي تدعي اعتناق ايمان ابراهيم، كما تدعي ان مؤسسها الأول هو الملك سليمان الحكيم. تهدف تعاليمها السرية والمغلقة، (إلاّ على قلة منهم يرقونها درجة درجة) إلى هدم كل دين.

وتضامناً فيما بيننا وايماناً منّا بأنّا "مسؤولون بعضنا عن بعض أمام الله والتاريخ، يتحتم علينا ان نبحث بشكل مستمر عن صيغة لا للتعايش فحسب بل للتواصل الخلاق المثمر … وإننا على قناعة بأن قيمنا الروحية والدينية الأصلية خليقة بأن تساعدنا على تخطي المشاكل التي قد تطرأ على عيشنا المشترك". (رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك ص 44، بكركي – 1992).

وجاء في الرسالة عينها: "ان المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين. كما ان المسلمين في الشرق جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين".

الخطر الثاني: الأصولية في الدين
الأصولية في معناها الأول عودة إلى الأصل. إنها عودة إلى الجذور والينابيع لحياة دينية تعزّز علاقة الإنسان مع ربه ومع قريبه. تلك هي الأصولية الإيجابية التي نتمنّاها في كل دين ومذهب.

ولكن اذا انحازت هذه الأصولية عن أهدافها فقدت هويتها وتحولت إلى بطش وعنف في التعامل مع الآخرين. وتذرّعت بالشريعة والتقاليد لتفرض نظامها بالقوة وتقتل من الأبرياء من تقتل باسم الله وخاصة اذا كانوا من الضعفاء العزّل القابعين في مناسكهم وصوامعهم يؤدون العبادة والصلاة، كما حصل مؤخراً في الجزائر حيث ذبح سبعة رهبان وقتل عدد كبير من السواح ورجال الأعمال والإعلاميين والأطباء والنساء. وهو ما كان قد حصل مثله في أماكن عديدة في لبنان، خلال الحرب، ومما يتنافى مع ما أوصت به الشرائع السماوية لجهة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، في الآية الكريمة: ، ﴿ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انّا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، واذا سمعوا ما أنزلَ على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين﴾ ]سورة المائدة: 82 – 83[.

العنف باسم الله هو الخطر الأكبر الذي يهدّد بالتشكيك الدائم والعميق بجوهر الرسالات السماوية، ويساهم في تغذية النزعات المادية الإلحادية المتصاعدة في عالم تسوده غريزة المتعة والاستهلاك والسيطرة. وتزداد هذه الأصولية خطراً عندما تدعمها مؤسسات دينية، او دول تمدها بالمال والسلاح، فالأصولية تشكل أكبر خطر على الأديان، غير ان الدعوة والتبشير هما حق لكل دين. ولكن من شروطهما الأدبية ان يحترما الحريات "فلا إكراه في الدين" – وإن ينسجما مع طبيعة الرسالة التي هي إلهية. ويفترض أن تنطبع هذه الرسالة بأخلاق الله والأنبياء وأن تتحلّى بها.

الأصوليات عندنا ليست عدوّة الدين فحسب بل عدوّة العروبة ايضاً. فالعروبة قاسم حضاري قومي مشترك، وجدت قبل المسيحية وقبل الإسلام. انها منهل حضاري استقى منه كل من الديانتين. فلا يجوز احتكارها وعزل ابنائها عنها، سواء من تبناها طوعاً أم من حملها في جسده تراثاً عرقياً يفتخر به منذ القديم. انها اليوم وعاء متنوع غني مشترك. فلا يجوز افساده او تعريضه للمزيد من الأخطار المحدقة به من كل الجهات وخاصة من الصهيونية والطورانية الجديدة والشعوبية.

يطيب لي أن أنوّه في هذه المناسبة بالحدس النبوي الذي رافق تعاليم الإمام الصدر الذي أوضح للكاردينال كازارولي في بداية الأحداث اللبنانية عام 1976 أن على رجال الدين ان لا يدخلوا الحرب في لبنان. لأن ذلك سينعكس سلباً على الطوائف والأقليات المسيحية في الشرق كما سينعكس سلباً على الأقليات الإسلامية في الغرب. ودعا رجال الدين ان يبتعدوا عن الدعوات إلى العنف، وان يلتزموا بالموعظة الحسنة والحوار الذي هو أسلم الأساليب لإحلال السلام. أما آن لنا أن نتعلم من التاريخ ومن مواعظ الحكماء الواعين؟...

الخطر الثالث: المادّية المعاصرة
يحمل لنا الغرب حضارة لم نعرف مثيلاً لها في السابق ... لقد قطع الغرب الوصال بين الدين والدولة – وهذا أمرٌ له حسناته لو "أعطي ما لقيصر وما لله لله" (متى 22/27) لأن حكم القيصر سيطرة وقهر، بينما حكم الله رحمة ومحبة وعدل. ولكن قد حذفت هذه المدنية "الله" من تفكيرها وسلوكيتها وتصرفاتها وجعلت الإنسان ينطلق من نزواته، وشهواته، دون ان يترك للقيم الدينية والإنسانية والأخلاقية والعائلية مكاناً ... فسيطر الجنس والعنف وعامل التجارة على كل ما عداه وتقدمت المنفعة الخاصة على كرامة الإنسان والصورة الإلهية التي فيه واصبح الهمّ الأكبر تسويق المواد الاستهلاكية وبعث حاجات مزيّفة لمزيد من الأرباح المادّية.

وتمادت هذه المدنيّة في الفلتان الخلقي إلى حدّ أنها شرّعت الشر كقتل الجنين، والممارسات الجنسية المنحرفة، المقوضة للأسرة والعلاقات الإنسانية بين الجنسين، خلافاً لتعاليم الأديان والأخلاق الحسنة. "انموا وأكثروا واملأوا الأرض" (تكوين 1/27 – 28).

واستعملت هذه الحضارة وسائل الإعلام الحديثة التي تدخل منازلنا دون استئذان منّا، عبر الأقمار الاصطناعية، ومن خلال الأفلام والمسرح والموسيقى والمجلات وغيرها. عمدت هذه الحضارة إلى ترويج "الموضة" متذرعة بالفن والجمال، فحلّت الإباحية محل الحشمة، وعبثت بكرامة المرأة، وجعلتها سلعة في سوق النخّاسين، وأفسدت فيها روح الأمومة، فعم فساد الأخلاق لا سيما بين المراهقين والشباب...

وليس مستغرباً بأن تطلع هذه الحضارة الحديثة بالبدع التي تحمل تسميات مغرية منها "العصر الجديد" "New Age" والتأمل التجاوزي "Méditation Transcendentale" والبدع التي تتعاطى الشعوذة والسحر والعلوم الخفية الباطنية "Esotérisme" ومنها من يمارس الطقوس الشيطانية.
ويطول بي الحديث عن هذه البدع، لذلك أكتفي بالقول ان القاسم المشترك بينها هو اعتماد الإنسان على قواه الذاتية متخطياً، لا بل محتقراً، كل المعطيات الدينية، ليبلغ إلى تحقيق ذاته. وكيف يمكننا تحقيق ذاتنا دون الله؟

وأخطر ما في الحضارة المادّية ما تنتجه استديوهات هوليوود ونيويورك من الأفلام هي من نسج خيال بعض الصهيونيين. أذكر منها "التجربة الاخيرة" للمخرج مارتن سكورسيزي يصور المسيح عاشقاً "لمريم المجدلية"، وفيلم "يسوع سوبر ستار" الذي يصور المسيح "رجلاً بهلوانياً" إلى فيلم قيد التحضير "حياة يسوع الجنسية" والتي قامت ضد إنتاجه ضجة عالمية، إلى حكاية فيلم "كفن المسيح" الذي، تحت ضغط صهيوني، رفضت بعض صالات لندن عرضه لأنه فيلم جيّد يشخص بطريقة علمية تاريخية انتقال الكفن من القدس إلى ايطاليا.

خاتمة
ان هذه المخاطر الثلاثة الصهيونية والأصولية والحضارة المادّية المعاصرة، بوسائلها واساليبها وسياساتها، تشكّل، في أيامنا، أبرز المخاطر التي تهدّد عالمنا المعاصر، كما تهدّد بنوع خاص وطننا الحبيب لبنان، ملتقى الحضارات والشعوب. فما علينا نحن في لبنان إلاّ ان نستسيغ كل ما هو خير وصالح ومنسجم مع تقاليدنا الخيرة وعقائدنا الدينية الثابتة وفي مقدمها الإيمان والحرية والعدالة والمساوة، ونرفض ما عداه مما يتعارض مع الصيغة اللبنانية، التي هي في جوهرها صيغة صالحة لأن تكون مثالاً يُحتذى به في العالم كلّه. علينا ان نتضافر بالفكر والقول والعمل كي نجابه الأخطار فنحافظ على أدياننا ومجتمعنا ووطننا وعائلاتنا ونبني لأولادنا مستقبلاً يسود فيه الأمان والطمأنينة والعيش الهني بتفاهم ومحبة.

source