المسيحيّة في لبنان بين الدين والدنيا

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:مشير عون
كلمة الاب مشير عون في الجلسة الرابعة من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار

توطئة: مبررّات البحث
مُنطلقُ هذا البحث واقعٌ إسلاميّ سياسيّ، تعضده رؤية دينيةٌ مُغْرِقةٌ في صون بداهتها، يستحثّ المسيحيّين على استجلاء فكرهم في مسألة ارتباط دينهم بدنياهم. ففي الفكر الإسلاميّ الراهن، وأبرزُ تجلّياته باتت اليومَ ضرورةَ العودة إلى الأصول (1) ، أن الدولة الإسلاميّة، وهي في مساحتها المثاليّة على امتداد المسكونة، تُنشئ لسكانها المؤمنين ما يُرنون اليه من وحدة نظامٍ شامل يرعى لهم عباداتهم الدينيّة ومعاملاتهم البشريّة. فالعقيدة والشريعة مقترنتان، في ظلّ هذه الدولة، اقتراناً لا انفصامَ فيه ولا محيدَ عنه. وتوخياً للشمول وعدم الإقصاء، يعتبر الفكرُ الاسلاميّ الأصوليّ أنه يجوز لغير المسلمين السكنى في الدول الإسلاميّة، ولو اختلفت طرق عباداتهم، ولكن شرط أن ينهجوا في معاملاتِهم نظامَ الشريعة الاسلاميّة في مبادئها العامّة وخطوطها الرئيسة.

ووراء ذلك قراءتان إسلاميّتان متكاملتان لواقع الجنس البشريّ ولواقع الأمّة المسيحيّة. فالجنس البشريّ لا يكتملُ ويبلغ ذروةَ كيانه إلاّ إذا سار على نهج الشريعة الإسلاميّة، وهي أقصى ما يمكن أن يتوق إليه مجتمعٌ بشريّ من نظام جامع شامل. وطالما أنّ الأمّة المسيحيّة تُخِلي عمداً حقلَ التشريع الأخلاقيّ والاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصادّ وتتجاور هي وأيّ نظام دنيويّ بحت، فحريٌِّ بها أن تتبنّى تلك الشريعة وهي الأقرب إليها روحاً ومنطوقاً. وغني عن القول أنّ هذا البحث ليس في مقام مناقشة القراءة الأولى، وهي مناقشةٌ تعوزها اطلالةٌ علميّة موضوعيّة شاملة على مضمون هذه الشريعة ونِسَب تطبيقها في الجمهوريّات الاسلاميّة. وبذلك يقتصر إذن ميدانُ البحث على معضلةِ ارتباط الدين بالدنيا في الفكر المسيحيّ، وهو الارتباط الذي يُنكره من المسلمين من يبهرهم خلوُّ المجتمع المسيحيّ من أيّة رؤية سياسيّة مستلّة من تضاعيف الرسالة الانجيليّة، ممّا يحدو بهم إلى اقتراح النهج السياسيّ الاسلاميّ بديلاً من الشريعة المسيحيّة التي يتنكّب الانجيل عن مؤالفتها.

يروم هذا البحث إذن أن يحاور كلّ فكر إسلاميّ، سواءٌ أكان أصولياً مقيداً أم أصولياً محرراً، ما فتئ ينظر إلى المسيحيّة وكأنها ديانة الروح فقط، تُعرض قصداً عن المادة والجسد فلا تُعنَى بأمور الدنيا ولا تكترث لنهج السياسة الذي يسود المدينة البشرية، حتى لكأنّ إغراقَها في روحيّتها وتطلّبَها لما وراء التاريخ يعوقانها عن الانخراط في معترك الوجود السياسيّ، ترتضي أن تقول فيه قولَ الفصل والحقّ بالرغم من مخاطر المساومات ومغبّات أنصاف الحلول.

وعلاوةً على خطورة هذا الطرح الاسلاميّ، فإن ملحاحية إنشاء مثل هذا البحث تقتضيها أيضاً ضروراتٌ فكريّة وقرائنُ اجتماعيّة واعتبارات سياسيّة مقترنة بواقع لبنان. والتعددية الدينيّة اللبنانيّة الفريدة تستحّثنا أولاً على اختبار نمط من المشاركة السياسيّة ينهل من معين الفكرَين المسيحيّ السياسيّ والاسلاميّ السياسيّ ما من شأنه أن يعزّز الممارسة السياسيّة اليومية القويمة المعتدلة المنصفة. وهذا ممّا لا يتأتّى لنا في لبنان ما لم نُفصح نحن اللبنانييّن المسيحييّن عن هويّة فكرنا السياسيّ الناضح، كما نهواه، بشذا الإنجيل الطيّب. وهذه التعدّدية عينها فحرصنا ثانياً على التيقّظ الفكريّ لأنّها ما انفكّت تطبع لبنان بطابع تقليديّ خاص قلّما نجد له مثيلاً في المجتمعات الأوروبية التي اخترقتها تيّاراتُ العلمنة المنبثقة من الثورة الفرنسيّة وثورة الأنوار. ولبنان، من طبيعة تكوينه الثقافيّ، قائم في منزلة وسط بين التراث والحداثة، بين التقليد والتجديد، بين المنصرم والمُقبِل، يَعسر عليه، إنْ لم يتضافر فكراه المسيحيّ والإسلاميّ، أن يصون صوابيّة خيار التوسّط هذا، وهو ممّا يوائم جوهر بنيته أيّما مواءمة. ويضاف أخيرا إلى هذين العاملين سببٌ ثالثَ منشَؤه في ما بات يتلبّس باللبنانييّن المسيحيّين من عَوز إلى فكر مسيحيّ لاهوتّي خليق بتصويب ممارسة أهل السياسة الذين يرومون الاستنارة، في خياراتهم الوطنيّة، برؤية لاهوتّية مسيحيّة منغرسة في تربة واقعهم اللبنانيّ.

في تصميم البحث آثرتُ بناءَ الرؤية السياسية المسيحيّة على دعائم ثلاث، ألا وهي دِعامة الوحي الكتابيّ ودعامة الخلاصة اللاهوتيّة الرسميّة ودعامة الرؤية الفكريّة الذاتية المستشرفة. واستناداً إلى هذا البناء النظري التأسيسيّ، عمدتُ إلى خلاصة جامعة تُظهرُ سمةَ الالتزام السياسيّ المسيحيّ بعد أن استبان لها اقترانُ جوهر القناعة السياسيّة اللبنانيّة المسيحيّة بجوهر الإنسان وحقوقه.

1- مقاربة أولى كتابيّة
"ردّوا إذن ما لقيصر وما لله لله"
(الإنجيل بحسب القدّيس مرقس 17،12)

درجت بعض التأويلات المسيحيّة والاسلاميّة على تفسير هذه الآية تفسيراً سياسياً محضاً، والاستناد اليها استناداً مطلقاً لاستخراج ما قد تستنبطه من عناصر الفصل الحاسم بين مُلك قيصر ومُلك الله. فظنّ البعض، ولا سيّما من المسلمين، أنّ المسيح شاء بجوابه هذا أن يثبت القطيعة النهائيّة بين ملكوت الله السماويّ الروحيّ ومملكة قيصر الارضيّة المادّية، حتى لقد شاع القول انّ مملكة قيصر لا يسوسها إلا القيصريّون من أهل الأرض والمادّة والتاريخ، يسوسونها بحسب شرائع الأرض ونواميس المادّة وسُنَنْ التاريخ، وانّ ملكوت الله لا يُقبِل اليه، انتماءً ومشاركةً في الحكم، سوى الإلهيّين من قاطني السماء ومعانقي الروح وروّاد الأبدّية، ينهجون نهجَ السماء في معاملاتهم ومسلكهم وتصرّفاتهم. والحال انّ قرائن هذا الجواب المقتضب في الانجيل تتيح لنا الوقوف على دقائق المعاني الروحيّة ولَطائف المغازي اللاهوتيّة التي تنطوي عليها رؤية المسيح. فبإزاء الفريسيين الذين يرهبون سطوةَ السلطة الرومانيّة، كان ينبغي للمسيح ألاّ يوعز اليهم بالخضوع والخنوع أمام نظام التعسّف والقهر، وحيال الغيورين من اليهود المتعطّشين إلى ثورة الدم، ما ارتأى المسيح أن يبّرر لهم بسلطته الروحيّة ما كانوا مزمعين عليه من انتفاضة العنف والسلاح، ومقابل الهيرودسيّين المتواطئين مع ممثّلي السلطة المحليّين، قضى المسيح بجدوى مثل هذا الموقف الذي وقفه من قيصر حين ألمح إلى احتمال عدم تأييد السلطة السياسيّة تأييداً مطلقاً في كلّ ما تستنسبه من قرارات.

ليس المقصود اذن إنشاءَ هوّة الطلاق بين مُلك الله في الدين ومملكة قيصر في السياسة. فكلا الحقلَين متشابكان أشدّ التشابك، متداخلان أعظمَ التداخل، متنافذان أوفر التنافذ. والمسيح يدرك أنّ رسالته لا تقوم على عزل مُلك الله عن مملكة قيصر، وهو أمرٌ يستحيل استحالةً على كلّ قاطنٍ للأرض مؤمنٍ بالسماء. لذلك نراه، حين يطلب تفحص النقد، لا يُقيم وزناً عظيماً لمسألة الجزية، بل يحذر من مغبّة التشبّث بسلطة المال (2) مخافةَ إعراض الناس عن عبادة الله، مصدر كلّ سلطان. فالصراع الذي تدلّل عليه الآية الإنجيليّة ليس صراعاً بين قيصرِ السياسة وإله الدين، بل هو صراع في النطاق الواحد بين قيصرٍ وقيصرٍ في السياسة، وصراعٌ في الحقل عينه بين إله{ وإلهٍ في الدين. قيصرُ الجشع والطمع والاستئثار بالسلطة يباين قيصر الاعتدال والقناعة والتجرّد. وإله الدين الذي يواطئ سلطانَ المادة المنحرف يناهض إلهَ الدين الذي يشجب وينّدد ويجري حكمَ العدل والإنصاف بين البشر.

ثمّة موازاةٌ بين صورةِ المنقوشة على الدينار المعدّ للضريبة ولسائر صنوف الاستعمال الاخرى، وصورة الله المنقوشة في أعماق الإنسان المعدّ لملكوت المحبة. وخلافاً لترقّبات اليهود الساعين إلى تسقّط المسيح في كلامه، انبرى السيّد يجيبهم، لا عن سؤالٍ عبارتُه هل يجوز دفع الجزية لقيصر أم لا؟ بل عن سؤال أرفعَ شأناً وأعظم خطورة، وهو السؤال الذي يَعنيهم في صلب كيانهم حين يسائلون ذواتِهم عن كيفية الامانة لصورة الله المطبوعة فيهم. لم يخطر ببال السيّد المسيح أن يجعل من سلطة الله سلطةَ موازاةٍ بحتة لسلطة قيصر، مُحِّدراً إياها إلى درك توازناتِ المنطق الثنائيّة. ذلك أنّقيصر لا يجوز له أن يطالب إلاّ بما يعود إليه أصلاً، عنيتُ به دينار المال المعدّ لهذا الغرض. وليس ما يبّر على الإطلاق إقدامَه على المطالبة بأداء الضريبة عن صورةٍ لله نُقِشَت في الإنسان مَنشَؤها وموئِلها ومآلها تتجاوز الإنسانَ فرداً وجماعةً.

ولا ريب أنّ ملكوت الله المهّيأ منذ الأزل والمستهَلّ بمجيء المسيح والمكتمِل في مطاوي الزمن والمتوّج في ختام الدهر، كان هو محورَ هموم السيّد عندما أُلهِمَ التمييز بين حقّ قيصر في استرجاع مالهِ من مواطني مملكته وحقّ الله في استعادة صورته من أبناء ملكوته. فلكثرة ما ألحّ المسيحُ على ضرورة الاستعداد لملكوت الخلاص، أخذ المؤمنون يشعرون بالإحراج في التوفيق بين أمانتَين متوازيَتين، أمانة الضريبة القيصريّة وأمانة الصورة الإلهيّة. فباتوا يسائلون أنفسَهم: هل ينتقص أداءُ واجبِ الجزية لقيصر من أداء واجب المحبة لله؟ وتجاوزاً لكل مفاضلة عقيمة بين الواجبَين، عمد السيّد إلى فصل ربوبيّة الله وسيادة الملكوت عن سلطان قيصر واستحقاق ضريبته. فليست الضريبة هي التي تمتهن كرامةَ الصورة الإلهية المطبوعة في الإنسان، بل الإعراض عن مقتضيات الملكوت والقعودُ عن مستلزمات الإنجيل. وهنا تبدو المفاضلة بين حقلَي الأمانة مظلّلةً بعتمة الإبهام الذي يُرخيه حجابُ الخلط المستكره بين الواجبَين.

أفلا ينبغي للمؤمن، بمعزل عن الجزية، أن يؤدي لله عربون الأمانة للصورة المرتسمة فيه، وذلك في مصطرَع الالتزام الإنجيليّ الذي ارتضاه رايةً لحياته ومعنىً لوجوده؟ لقد أضحى دفعُ الجزية، في منظور الملكوت، من الأعمال الطبيعيّة العادية التي تقترن بواقع العالم الصائر إلى الزوال. فالأولى أداؤها حين تثبت شرعيّتُها، وما برهانُ صورةِ قيصر سوى دليلٍ من أدلّة شرعيّتها وداعٍ من دواعي البحث عن شرعيّة كلّ ضريبة، والأجدرُ عدم التباطؤ في مباحثات لا طائل فيها والنهوضُ لنشر الملكوت. قيصر ومملكته وسياسته من شؤون هذا الواقع المنقضي بانقضاء الزمن المعدّ له. أما ملكوتُ الله فهو بذار القيَم وموقل السموّ وعنصر الثبات الذي لُقّح به هذا الزمن ترقّباً لاكتمال صهره في أتون الأُلوهة. فليس المقصود إذن إقصاءُ قيصر عن الله، بل التمييز بين قرار قيصر وقرار الله (3) وإثبات أولوّية القرار لله بإخراج قرار قيصر من دائرة معياره الذاتّي.

وفحوى الكلام أنْ ليس في هذه الآية ما يبّرر قطعاً ضرورة إقصاء الدين، بما يتبلور فيه من قيَم الملكوت، عن السياسة تتجلّى فكراً وتنظيماً لاجتماع القوم في المدينة أو الدولة أو الامّة. والمسيح يُظهر في كلامه هذا أنّ سيّد الخليقة واحدٌ أحد لا يشاركه في ربوبّيته إلاّ من انتدبه هو وفوّضه ووكل إليه سياسةَ شؤون الخلائق. فالكنيسة تنظر إلى الدولة نظرتها إلى وكيلٍ لله يُعنى بإدارة شؤون هذا الزمن في خدمة قضيّة الله (4) . ولئن ميّز المسيح بين قيصر والله، فلأن لكل منهما أسلوباً في استنهاض طاقات الإنسان لخدمة المجتمع ورقيّ الإنسانيّة. ضريبةُ قيصر هي العلامة الحسّية على مقتضيات انتشاب الإنسان في تراب الأرض. وما إقرار المسيح بها في غير اختلاط بضريبة الأمانة الروحيّة إلا للتدليل على واقعيّة الإنجيل في اعتبار حياة البشر الأرضيّة اعتباراً يتجاوز مأزق الإقصاء والرذل والتحقير.

قيصر والله مقترنان على مبدأ صون خير الإنسان، ومقترنان في غير تناقض على سُبُل صلاحيات الشهادة لهذا المبدأ. وقد يكون من مدلولات هذه الآية أيضاً أن المسيح يصرّ على إبقاء هويّة الله في غير امتزاج بهوية الدولة، وهوية الدولة في غير امتزاج بهويّة الله. فلا الدولة يجوز لها او يَسعُها أن تنوب مناب الله، مهوى للإنسان وغايةً لوجوده وتجسيماً كلياً لتشوّقات البشرية العلويّ، ولا الله يمكنه أن ينغلّ انغلالاً كاملاً في جسم الدولة فيصبح فيها الأداةَ عوضَ الروح، والخادمَ عوضَ المخدوم، والمضمونَ عوضَ الضامن، فيفقد تعاليَه وينأسر في حدوده الانجاز والتاريخ.

وقصارى القول أنّ كلام التمييز والجمع بين قيصر والله ليس كلاماً سياسياً محضا، بل إنما هو كلام جوهريّ في معنى ترقّب ملء الملكوت ومعنى العبور في هذا العالم عبوراً تستدعيه سمةُ هذا العالم الزائل والمتحّول إلى صورة تجلّيه الأخير (5) . فما من إيديولوجيا فكريّة يسعها أن تُصلِح هذا العالم بالانخراط فيه انخراطاً كاملاً أو بالعزوف عنه عزوفاً كاملاً ما لم تستلهم، في إعراضها عن كلا الحلّين، جدليّة الملكوت المُقبل والعالم المتحوّل وارتباط الواحد بالآخر. فإذا كان مُلك قيصر هو طريقَ التاريخ، فمملكة الله هي خاتمة التاريخ. مُلك قيصر هو موضعٌ من مواضع أمانتنا للانجيل ومحكّ اختبارٍ لمطواعيّة ترابيّتنا. فلا يجوز من ثمّ التخلّي عنه بحجّة الأمانة المطلقة لروح الأنجيل وروح المسيحيّة.

"إنّ مملكتي ليست من هذا العالم"
(الإنجيل بحسب القدّيس يوحنا 36،18)
ثمة تفسيٌر آخر يُضفي على التفسير الأّل طابعاً من الإلزامّة الرامية إلى إبرام الحكم القاطع على تناقض الدين والدنيا في المسيحيّة، وتعارض الإنجيل والسياسة، وتباين مملكة الأرض وملكوت السماء. وبحسب عبارة هذه الآية الانجيليّة القريبة من الآية الأولى، تنجلي للبعض حدودُ المسيحيّة في انخراطها واضطلاعها بعالم البشر غيرِ المؤهّل لتقبّل رسالة الخلاص، وكأنّ بين العالم والملكوت صراعاً يُلغي في الانجيل أهليّته وصلاحيّته في اختراق غشاء العالم والنفاذ إلى جوهره العصيّ يُلقَّح ببذار المُثل العليا. وممّا يُفضي إليه هذا التفسير أنّ المسيحيّة صالحةٌ للملكوت الآتي وحسب، وأنّ العالم، على نحو ما هو قائمٌ اليوم، لا يقدر ان يستوعب قيَم الانجيل بسببٍ من إغراقها في تطلّب الروحيّات وإعراضها عن الزمنيّات. ومرّة أخرى ينبري بعضُ المسلمين يقترحون على المسيحيّين ملء الفراغ التشريعيّ المحصور بهيئة هذا العالم وتبنّي الشريعة الاسلاميّة المؤهَّلة للاعتناء بروحيّات الملكوت وزمنيّات العالم على حدّ السواء.

والحقيقة أنّ العالم الذي يتحدّث عنه الأنجيل في صورة عامّة لا يطابق مطابقةً كاملة العالم الذي يرى البعضُ أن المسيحية لا تقوى على تعهده والاعتناء به. فامتداداً للتصوّر الاغريقي للعالم (6)  تنطوي عبارة العالم على ثلاثة مفاهيم متداخلة. فالعالم، بحسب المفهوم الأوّل، نظامٌ متكاملٌ أبدعه الله وفاقاً لقصده وتدبيره (7)، وبه استهل إنجاز مخططه الخلاصي. والعالم، بحسب المفهوم الثاني، هو المسكونة قاطبةً، أي الأرض التي سكنها بنو البشر وحلّ في وسطهم السّيُد المسيح، ابن البشر، وافتداهم بتقدمة حياته، ولو أنّ هذا العالم لم يدرك بأجمعه معنى هذا الافتداء (8) . والعالم، بحسب المفهوم الثالث، يعني العالم الذي اصطفاه الله مسرحاً لعمل الفداء والخلاص، وهو عالم المسؤوليّة البشرية وعالم الصراع الشرعيّ والمرتقب بين قيَم الحقّ والصلاح والخير والجمال وانحرافات الضلال والفساد والشرّ والقبح. وبذلك يتّضح أنّ العالم لا يحمل في حدّ ذاته الا ما يُلقيه فيه البشرُ من انعطافٍ على قيم الملكوت او انسياق وراء ما يخالف هذه القيَم.

واستجلاءً لهذه الرؤية، يعكف الرسولان بولس ويوحنّا ومدرستهما اللاهوتيّة على رسم صورةٍ للعالم تتوسّطها سيادةُ الله الخالق وحريّة الإنسان المسؤولة. فالعالم، وهو في أوسع مدلول له يشمل الأرض والسماء وما تحت الأرض وما فوق السماء، يُنبئ بسلطان الله وسيادته (9). وتعميقاً لهذه الرؤية، يرى بولس أن الله صنع العالم وزقة إلى الإنسان لكي يستعمله ويستثمره ويصوّر فيه صورةَ الله وذلك بالرغم من ميل الخطيئة الناشب في البشر. أمّا هذا العالم، فليس فيه شيء نجس (10)، وقد شاءه الله موضع مصالحة مع البشر وموضعَ إثمار لكلمة الإنجيل (11) . بيد أنّ هذا العالم، ترقّباً لحكم الله الأخير ويوم الدين، يحيا حال تمخض عسير، يتنازعه روحان، روح الشرّ، وهو الذي يسميه بولس روح العالم  (12) غير المنبثق من الله، وروح الخير الصادر عن الله بعينه. وهذا التنازع يتبناه يوحنا أيضاً (13) إذ يتحدّث عن روح العالم وروح الله، فيقابل بين نور الله وظلمة العالم. غير أن هذا العالم، على ظلمته، يظلّ، بحسب يوحنا، معداً للخلاص، وليس من قوّة تستطيع ان تعطّل عملَ الله في هذا العالم ومحبّة الله الخلاصيّة للبشر.

تمشّياً مع هذا التفسير، ينبغي لنا أن نكتنه كلام المسيح في مملكته التي ليست من هذا العالم. فحذر المسيح من المملكة قد يبرّره ما تنطوي عليه العبارة في اصلها العبراني من مضامين التسلّط والغلبة (14) . وفي هذا السياق عينه، يحاول يوحنّا أن ينّزه المسيح عن مَطمَح النضال السياسي، فيصرّ على معارضة ملكوت الله ومملكة العالم (15). بيد أنّ هذا التعارض لا يُخرج ملكوتَ الله من العالم، إنّه ملكوتٌ منغرسٌ في قاع الوجود البشريّ، ولكنّه غير مستلّ من صلب هذا العالم (16). ملكوت المسيح ليس من هذا العالم لأنه لا ينشأ ولا ينتظم ولا يستقرّ بقوّة هذا العالم، على نحو ما تصنع مملكات هذا الدهر (17). انّها المملكة التي تنشأ على قاعدة كلمة الله الملقاة الينا نتعهّدها بحرَّيتنا وبمسؤوليَّتنا.

ولئن أصرّ السّيد على أنّ مملكته ليس من هذا العالم، فلأنّ هذا العالم، عالم الظلمة والخطيئة والشر، يكره المسيح (18)، وكلّ معتنق لمبادئ المسيح العلوّية  (19) ولمُثُله السامية. فإذا كان العالم شريراً، فليس هو كذلك بذاته، بل بسببٍ من تسلّط الشرّ عليه (20). فلذلك بغضُ العالم، أو بعبارة أصحّ، الإعراضُ عمّا في العالم من انحراف عن فكر المسيح، إنما هو شرطٌ من شروط إنجاح الرسالة المسيحيَّة (21) . ومن الخطأ الجسيم أن نعتبر هذا البغض انعزالاً عن العالم أو انغلاقاً لذات الجماعة المسيحية وتقوقعاً لها. فشهادة المسيح والمسيحيين ضرورّية في قلب العالم حتى يؤمن العالم بأبوة الله. فأمانةً للسّيد المسيح، ينبغي للمسيحيّ ألا يحبَّ في العالم ما ليس هو من روح الله، أي ما لا ينتمي انتماءً صريحاً إلى فكر المسيح وقصد الله الخلاصيّ. لذلك قيل عن العالم أنّه حين ينعتق من زلّته ويختبر خلاصَ الفداء بالمسيح، تقبّلاً وشكراناً واقتداءً، ينقلب عالم نورٍ وبهاء، ملكوتاً للحقّ والخلاص.

وبذلك يستبين لنا أن ليس من تناقض أو تنابذ بين مملكة الله والعالم في مستوى الموقع الجغرافي (22) أو المنبسط التاريخيّ أو المدى الزمنيّ, بل إنما في مستوى الاعتناق والانتماء والمبايعة. فالخليقة كلها ملك الله, السماء عرشٌ له والأرض موطئٌ لقدَميه كما يقول الكتاب. وما العالم, وهو تبلورُ الحياة وجريانُها في شرايين الخليقة, سوى مسرح التاريخ يُبصر فيه الانسانُ مدى أمانته لروح اللّه المبثوث في مطاوي الكون. وليس من موقع آخر لاختبار هذه الأمانة. لذلك يتعيّن على كلّ مسيحيّ أن ينشئ كلام اللاهوت في العالم (23), يه يُعبّر عمّا يختبره من فريد الالتزام حين يعمد الى بسط قيَم الانجيل في مدى المسكونة كلها وتصوير العالم على مثال الله المحبّ البشر.

2- مقاربة ثانية لاهوتيّة: المجمع الفاتيكاني الثاني
جماعةُ الكنيسة وجماعةُ البشر, منفصلتان مرتبطتان

لا ريب أنّ من ميزات المجمع الفاتيكاني الثاني أنّه جمع عناصر الفكر الكاثوليكيّ وضمّ شتيتَ خلاصاته اللاهوتيّة معتصراً إياها ومستخرجاً منها نواةَ التعبير الايماني المسيحيّ المقبل. وفي شأن علاقة الدين بالدنيا ومسألة الالتزام السياسيّ المسيحيّ. أنشأ آباءُ المجمع في وثيقة لاهوتيّة شديدة الأهمية (Gaudium et Spes), سُمِّيَت بالعربيَّة الكنيسة في عالم اليوم  (24), خلاصةً جامعةً ضمنّوها تصوّرهم لموقع الكنيسة في العالم ولطبيعة دورها وصلاحيّة مكانتها. ولقد شاء المجمع من هذه الوثيقة ألّا يحكم أو يدين العالم المعاصر (25), بل ودَّ أن يفوز برؤية موضوعية شاملة لأوضاع زمننا الحاضر. ولذلك لم يسعَ آباءُ المجمع الى تقسيم العالم وشقّه شقّين متصارعَين, بل اجتهدوا قدر المستطاع أن يعدُوا الأضداد ويتجاوزوا الصراعات. ولم ينشدوا البتّة المحافظة على الوضع القائم وتبرير سياسةٍ درجت الكنيسة على اعتناقها, بل راحوا يستطلعون آفاقاً جديدة يُبرزون فيها أبعاد علاقة التكامل والتكافل التي ينبغي أن تقوم بين الكنيسة والعالم, أي بين دين الانجيل ودنيا الاجتماع والسياسة والاقتصاد, ويقينُهم في ذلك أنّ البذار الروحي الذي تحتضنه الكنيسة يوليها مقامَ التعالي على منقلبات التاريخ مُسنداً إليها, عوض الاستحصال على امتيازات الشرف والرفعة, خدمةَ البشر أجمعين, على اختلاف مواقعهم وتباين مشاربهم وتنوّع ثقافاتهم.

وقبل استعراض آراء المجمع في مسألة ارتباط الدين بالدنيا في المسيحيّة, يجدر بنا الوقوف على عناصر الرؤية اللاهوتيّة التي توحي بهذه الآراء وتعضد تماسكها وتراصّها في وحدةِ توجّه واتفاق مسير لكنيسة اليوم. فالخلق والتجسّد والفداء هي, في مقتضب العبارة, حركةُ انعطافِ الله على العالم واعتلان لربوبيّة الخالق الواحد في جوهره والثالوث في فيض محبته. وبذلك يتجلّى تدبيرُ التجسّد تدبيراً لشركة اللّه مع الخليقة, إذ سرّ الله كامن في سرّ الانسان وسرّ الانسان كامن في سرّ الله. فما من قطيعة لاهوتية تبرّر فصلَ المدينة السماويّة عن المدينة الأرضيّة, وما من انفتاح على اللّه يحصر النعمة والمحبّة في نفس المؤمن الفرد ويقصيهما عن نطاق المسؤوليّةِ هذه, تنجلي الكنيسةُ سرّاً لحضور روح الله وفعله وعلامةً لعمل النعمة في العالم وأداةً لافتداء البشر وخلاصهم.

وبناءً على هذه الرؤية اللاهوتيّة, أجمع هؤلاء الآباء الكاثوليك في نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني على اعتبار الانسان "محور بحثنا كلّه, الانسان فرداً وكلاً, بجسده وروحه, بقلبه وضميره, بعقله وإرادته" (الكنيسة في عالم اليوم, 3). فأقصوا بذلك خطرَ الانفصام والتنازع (26) الذي يتهدّد فكراً في المسيحية يستنكف من ايلاج الجسد والمادّة والتاريخ وشؤون الزمن الحاضر في تدبير الخلاص الالهيّ. لذلك يحذّر المجمع من أنّ "هذه القطيعة بين الايمان الذي ينتحله الكثيرون ومسار حياتهم اليومية, تُعدّ من أخطر أضاليل هذا العصر... فلا يتوهمنّ أحدٌ أنّ هنالك تبايناً بين النشاطات المهنيّة والاجتماعيّة من جهة, والحياة الدينيّة من جهة أخرى" (الكنيسة في عالم اليوم, 43).

بيد أن الانسان لا يسعنا الدنوّ منه والوقوف على سرّه إلا بواسطة اعتلان سرّ الانسان الكامل في شخص السيّد المسيح. والكنيسة التي استودعها المسيح سرّ الله وسرّ الانسان, هي المؤتمنة على هذه الوديعة تُبصر فيها حقيقةُ الزمنيّات والأرضيات والبشريّات لأنها "تثبت أن وراء التغييرات كلّها أموراً كثيرة لا تتغيّر, أموراً أساسها وقوامها في المسيح الذي هو هو في الأمس واليوم والى الأبد. ولهذا وعلى ضوء المسيح, صورة الله غير المنظور, والمولود قبل كل خلق, يروم المجمع أن يخاطب الجميع لايضاح سرّ الانسان وللمساعدة على إيجاد الحلول للمشاكل الكبرى في عصرنا الحاضر" (الكنيسة في عالم اليوم, 10). فالإنسان وكرامته وحريّته ومسؤوليته وتضامنه مع إخوته البشر, هذا كلّه ينشئ بين الكنيسة والعالم همزةَ الوصل وسبب العلاقة التي تربطهما: "كلّ ما قلناه عن كرامة الشخص الإنسانيّ, وشركة البشر, وعن المعنى العميق للنشاط الانساني, كل ذلك هو أساس العلاقة القائمة بين الكنيسة والعالم". (الكنيسة في عالم اليوم, 40). واذا كانت جماعة تلاميذ المسيح الذين يؤلّفون الكنيسة هم في "تماسك حقيقيّ ووثيق" (الكنيسة في عالم اليوم, 1) مع الجنس البشريّ, فلأن الكنيسة سرُّها ملكوتُ الله ووجودُها ثمرةُ حبّ اللّه وأساسُها في الزمن السيّدُ المسيح الذي بسط سرّ الملكوت على عيون الناس في كلامه وأعماله وحضوره كلّه. وبسببٍ من انغراسها في العالم, تتجلّى الكنيسة في آن واحد جماعةً منظورة وشركةً روحية, تسير مع البشرية كلّها وتنال قسطها من مصير العالم. وهي لذلك بمثابة خميرة وروحٍ للمجتمع البشريّ الذي ينبغي أن يتحوّل بفعل شهادتها هي إلى أسرة لله (الكنيسة في عالم اليوم, 40).

فالكنيسة, في جوهرها, موضعُ التقاء الله بالبشر, فهي بشريّة وإلهية في الوقت عينه, ترمي الى بلوغ ملء قامة المسيح في هذا الدهر الحاضر وفي امتداد الدهر الآتي. فلذلك تبدو رسالتُها وكأنّها مخالفة لغاية المجتمع البشريّ الأرضية, اذ إنّ "الرسالة الخاصّة التي ألقاها المسيح الى كنيسته ليست من النوع السياسيّ أو الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ, فالهدف الذي حُدّد لها إنّما هو هدفٌ دينيّ" (الكنيسة في عالم اليوم, 42). غير أن آباء المجمع يسارعون الى توضيح رؤيتهم وتكملتها, فيوضحون أن "الفداء الذي قام به المسيح, والذي من ذات طبيعته يستهدف خلاص الناس, يشمل أيضاً تجديد النظام الزمني برمّته. فرسالة الكنيسة, من ثمّ, ليست مقصورة على أن تحمل رسالة المسيح ونعمته الى الناس وحسب, بل غرضها أيضاً أن تتغلغل في صلب النظام الزمني وتسوقه, بروح الانجيل, الى كماله (...) ذلك بأنّ هذَين النظامَين [الروحيّ والزمنيّ] مترابطان في وحدة القصد الالهيّ" (رسالة العلمانييّن, 5). ويعبّر المجمع أيضاً عن وحدة القصد الاهليّ بقوله انّ "الكنيسة تثبت أن الاعتراف بالله لا يباين كرامة الانسان في شيء, إذ إنّ هذه الكرامة تجد في الله ما يؤسّسها وما يتمّمها. فإن الله الذي خلق الانسان أقامه في المجتع عاقلاً وحراً... والكنيسة الى ذلك تعلّم أنّ ترجّي الحياة الأخرى لا يذهب بشيء من أهميّة المهامّ الأرضية, بل بالحريّ يوفّر دواعٍ جديدة للقيام بها" (الكنيسة في عالم اليوم, 21) (27). ويُستخلص من هذا كله أن الكنيسة, التي هي شعب الله الذي وعى هويّته السنيّة, والعالم الذي هو شعب الله الذي لمّا يعِ هذه الهوية, يتماسكان, سواءٌ ارتضيا أم لم يرتضياه, في وحدة قصد ومصير قوامها خير الانسان وخلاصه الشامل.

بيد أن هذا التماسك ينبغي ألا ينقلب تمازجاً وتماهياً, لأنّ "الكنيسة في جوهر رسالتها وطبيعتها, غيرُ مرتبطة بأيّ صيغة خاصّة من صيَغ الثقافة البشريّة, ولا بأيّ نظام من أنظمة السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع, وهي بشموليّتها هذه تستطيع أن تكون أوثَق رابط بين شتّى الجماعات البشريّة, وبين شتّى الأمم" (الكنيسة في عالم اليوم, 42). ووفاقاً لهذا الاعتبار, تنفصل الجماعة السياسية والكنيسة الواحدة عن الأخرى ويلتقيان كلاهما في خدمة الانسان ومجتمع البشر ( الكنيسة في عالم اليوم, 76)  (28) .

الكنيسة وشريعتُها في المجتمع
بعد أن أبان المجمع طبيعةَ العلاقات القائمة بين الكنيسة والعالم, انبرى الآباء اللاهوتيّون يعيّنون نطاق إسهام الكنيسة في معترك سياسة المدينة. فأكّدوا أوّلاً, وفي هذا التأكيد قدرٌ كبير من الجِدّة والخطورة, أنّ الزمنيات مستقلّة استقلالاً كاملاً في بنيتها ونظامها وسيرها, "وإذ أردنا باستقلال الأمور الأرضيّة أنّ الأشياء المخلوقة والمجتمعات نفسها تتمتّع بنواميس وقيَم خاصة, على الإنسان أن يعرفها شيئاً فشيئاً وأن يستخدمها وينظّمها, فذاك الاستقلال هو ما يقتضيه الحقّ والشرع في غير اجتزاء... فبواقع عمل الخلق نفسه تنتظم الأشياء كلّها في شتّى مقوّماتها وحقيقتها وصلاحيّتها ونواميسها الخاصّة ونظامها, وعلى الانسان أن يحترم ذلك كلّه وأن يقف على الطرائق الخاصّة لكلّ علم من العلوم... لأنّ لحقائق الدنيا ولحقائق الإيمان مصدراً واحداً هو الله (...) ولكن إذا أريد باستقلال الأشياء الزمنيّة أنّ الأشياء المخلوقة غير متعلّقة بالله وأنّ باستطاعة الانسان أن يتصرّف بها من غير الرجوع الى الخالق. فذلك من الخطأ الذي لا يخفى عن أيّ انسان يعرف الله. فإنّ المخلوقات تتلاشى إذا انفصلت عن الخالق" (الكنيسة في عالم اليوم, 36). يُستدلّ من هذا النص أنّ المسيحية تقرّ باستقلال الشؤون الزمنيّة البحتة وبأنّها هي, بسببٍ من طبيعة رسالتها, غير مؤهّلة للاضطلاع بميادين العلم وحقول الاقتصاد ومضامير الاجتماع والسياسة, فينبغي إذن التمييز النظريّ في فكر المسيحيّة بين مسلك الإنسان المواطن الذي يستمدّ حكمه العمليّ والعلميّ على شؤون زمنه من معين طبيعة الامور التي يتعاطاها, ومسلك الإنسان المؤمن الذي يستمدّ حكمه الأدبي أو الأخلاقيّ والدينيّ أو المعياريّ على شؤون الزمن عينها من معين ضميره المستضيء بنور الانجيل. لذلك يوصي المجمع أن يعيش "المؤمنون متّحدين بأبناء عصرهم اتّحاداً وثيقاً جداً, وليحاولوا أن يتفهّموا تفهّماً كاملاً طرائق تفكيرهم وشعورهم التي تنطق في ثقافتهم. وليجمعوا ما بين معطيات العلوم... وأخلاق العقيدة المسيحيّة وتعاليمها (...). وهكذا يستطيعون أن يقدروا كلّ شيء ويفسّروه بحسِّ مسيحيّ حقيقيّ" (الكنيسة في عالم اليوم, 62) (29).

هذا الاستقلال الزمنيّ الذاتيّ الذي تطلبه نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني هو التعبير الأسمى عن رؤية المسيحيّة لهويّتها ومكانتها ودورها في صميم المجتمع البشريّ. فالمسيحيّة روحُ العالم وملهمةُ التاريخ. لا تنوي على الاطلاق أن تنوب منابهما, بل جلّ مبتغاها أن تلقي فيهما بذار الانجيل, إذ "ما من شريعة بشريّة تستطيع أن تجعل الكرامة الشخصيّة والحريّة في مأمن من الضياع كما يفعله إنجيل المسيح الذي أودع الكنيسة. فهذا الإنجيل يبشّر بحريّة أبناء الله ويعلنها... ويحترم احتراماً مقدساً كرامة الضمير وحريّة اختياره... هذا كلّه يتّفق والشريعة الأساسية في النظام المسيحيّ (...). من غير المعقول في هذا النظام الإلهي أن يُطمَس استقلال الخليقة الذاتيّ العادل, ولا سيّما استقلال الإنسان الذاتيّ (...) وهكذا فالكنيسة, بمقتضى الانجيل الذي أودعته, تعلن حقوق الإنسان وتعترف لهذا العصر بديناميّة تقدرها قدراً عظيماً وترى فيها ما يمدّ تلك الحقوق ويوسّع نطاقها في كلّ مكان. ولكن لا بدّ لهذا التحرّك من تشرّب روح الإنجيل والاحتراز من كل نوع من أنواع الاستقلال الذاتيّ الزائف. فإنّنا معرّضون لتجربة الحكمة بأنّ حقوقنا الشخصيّة لا تكون مصونة صيانة كاملة إلاّ إذا تفلّتنا من كلّ شريعة إلهيّة. ولكن هذا المسلك لا ينقذ كرامة الشخص الانسانيّ, بل يعمل بالحريّ على الذهاب بها" (الكنيسة في عالم اليوم, 41). يُستبان من ذلك أن بين الانجيل وروحيّة حقوق الإنسان قرابة عضويّة لا يجوز أن تعطّلها أحوال السياسة التي واكبت في الغرب إعلان هذه الحقوق. والمجمع, فيما يتبنّى حقوق الإنسان في غير اجتزاء ( الكنيسة في عالم اليوم, الفقراء 26 و29 و41). يستدرك فيحذّر من خطر الانحراف عن مصدر هذه الحقوق وشرعيّتها الالهية. ذلك بأن المسيحية تعتبر أنّ كلّ ما يصون كرامة الإنسان البشريّة هو مستقىً من كلمة الوحي الإلهيّ. فلا تعارض إذن بين حقوق الإنسان وحقوق الله. طالما أن الله والانسان التقى كيانهما في شخص السيّد المسيح.

فصوناً لهذه الحقوق الالهيّة والانسانيّة, "يسهم المسيحيّون بطلاقة واندفاع في بناء النظام الدوليّ بناءً يحترم الحريّات الشرعيّة احتراماً حقيقياً, ويجري في روح الأخوّة الصادقة والشاملة" (الكنيسة في عالم اليوم, 88). وإذا ما نشأ تعارض أو تناقض بين منطق النظام الدوليّ وروح الانجيل, التزمت الكنيسة أن تعلن رأيها جهاراً, إذ "من حقها أبداً وفي كلّ مكان... أن تصدر حكماً أدبياً حتّى في الأمور التي تتعلّق بالنظام السياسيّ عندما تقتضي ذلك حقوق الإنسان الأساسيّة أو خلاص النفوس" (الكنيسة في عالم اليوم, 76). وإصدار الحكم هذا يُلزم الكنيسة والمسيحيّين, فيما يكرزون "ببشارة المسيح كرازةً يستغرق فيها نورُ الإنجيل جميعَ نشاطات المؤمنين الأرضيّة" (الكنيسة في عالم اليوم, 43)، أن يستنيروا بوحي الانجيل وبمعطيات الخبرة الانسانية لكي يعالجوا معالجة أمينة ما أعضل من قضايا العصر الراهنة (الكنيسة في عالم اليوم, 46). وهؤلاء المسيحيّون, في صنيعهم هذا, لا يبغون مطلقاً انتباذ الضالين والخاطئين والمنحرفين عن جادّة الانجيل, ولو أنّ تنازعهم بين الحقّ والمحبّة يجرّ عليهم صراعاً مريراً لا يني شديد الوطأة (30). ففي الرؤية المسيحية للإنسان والكون يتجلّى معيار الحقّ في الضمير البشريّ (31) الذي هو من زرعٍ الهيّ, يحوي في ثناياه جوهر المُثُل الإنسانيّة التي جاء السيّد المسيح يتوّجها ويكلّلها ويبلغها ملء قوامها. ومما يجدر الإصرار عليه في هذا السياق, أنّ المجمع, فيما يعي وعياً متنامياً تعاظم شأن التعدّدية الدينية والفكريّة والإيديولوجية والسياسيّة في مجتمعات العصر الحاضر, أخذ يقرّ بحريّة الإنسان المطلقة في البحث عن هويّة قناعاته, وذلك بالرغم من إلحاحه الشديد على ضرورة الفصل بين الضلال المشروع الذي لا يزال يحتفظ بكرامة الشخص والضلال غير المشروع المرفوض أبداً (الكنيسة في عالم اليوم, 28). ولذلك يوصي آباء المجمع أنّ "الكنيسة, إذ تعترف بهذه الحريّة الصوابيّة [بين طريق العقل وطريق الإيمان], تثبت أنّ للثقافة الإنسانيّة, ولا سيّما العلوم, استقلالاً ذاتياً مشروعاً. هذه الأمور تقتضي أيضاً أن يتمكّن الإنسان, في غير ما هو مقرّر من نظام الأخلاق والخير العام, من البحث الحرّ عن الحقيقة وإبداء الرأي ونشره" (الكنيسة في عالم اليوم, 59). للإنسان إذن في نظر المسيحيّة ملء الحرية في البحث عن سبيل للحقّ يعتنقه ويسلك فيه. وليس لسلطة أو قانون أو شريعة بشرية أن تنتهك هذه الحريّة أو تنتقص منها أو تقيّدها بشروط غريبة عن جوهرها كحريّة, ما خلا شرط إفناء الحريّة عينها إنْ هي تجاسرت أن تعدم ذاتها وتعدم الإنسان الذي يحملها في كيانه.

وفي ختام هذه التوجيهات المجمعيّة, تظلّ مسألة الشريعة المسيحيّة, في مفهومها الرحب الذي ينتصر له آباء المجمع اللاهوتيّون, مسألةً شديدة الدقّة مقترنةً بانعقاد وتناصر ثلاث من الدوائر المعنويّة الفائقة الأهميّة, عنيتُ بها دائرة الضمير الإنساني الفرديّ المنعتق من كل قيد خارج عنه, ودائرة الانجيل المستمرِّ تدفّق وحيه على تراخي الزمن, ودائرة الواقع الموضوعي المُعضِل الذي يعوزه إفتاءُ المفتي وشرعُ الشارع. فتعليم الكنيسة, على نحو ما يَنهج لنا ذلك آباءُ المجمع, يحتاج على الدوام الى "التطبّع بطابع الشعوب والذهنيّات المختلفة" (الكنيسة في عالم اليوم, 91), وذلك لأنّ "الكنيسة المؤتمنة على كنز الكلمة الإلهية الذي هو مصدر نظامها الدينيّ والأدبيّ, هذه الكنيسة لا تملك دائماً الجواب المباشر عن كلّ سؤال من هذه الأسئلة, وهي مع ذلك ترغب في أن تجمع ما بين نور الوحي واختبارات الجميع لإنارة الطريق التي راحت الإنسانيّة تندفع فيها" (الكنيسة في عالم اليوم, 33). فالتقلّب المستمرّ الذي ينتاب المجمتع البشريّ يضطرّ الكنيسةَ الى مراجعة مضمونِ تعاليمها وإعادة صياغتها بحسب ما يوائم ذهنيّة العصر وحاجات الإنسان الراهنة  (32) . وإذا ما وجب على المجمع أن يُسدي رأياً مفصّلاً في مسألة الشريعة المسيحيّة الصالحة لهذا العصر, اكتفى بتحريض المسيحييّن من رجال الكنيسة ورجال العالم على التكاتف والتعاضد في استخراج الدرس اللاهوتيّ والروحيّ والمعنويّ القمين بتأييد الخيار الأنسب. واستناداً الى ذلك, لينتظر العلمانيّون من الكهنة نوراً وقوّة روحية, ولا يحسبوا مع ذلك أنّ لرعاتهم في كلّ حين من المُكنة ما يجعلهم, عند كل أمر طارئ, ولو خطيراً, قادرين على تقديم الحلّ العمليّ والسريع, ولا يحسبوا أن هذه هي مهمّة أولئك الرعاة, بل عليهم, وقد استناروا بالحكمة المسيحيّة وأحسنوا الإصغاء الى تعليم السلطة الكنسية, أن يتحمّلوا هم أنفسهم ما يقع عليهم من أعباء المسؤولية" (الكنيسة في عالم اليوم, 43). فلا ريب أنّ هذه الأقوال المجمعيّة تشير إشارةً صريحة قاطعة الى طبيعة الشريعة الانجيليّة التي يطيب للمسيحيّة أن تستلهمها في إدارة شؤون المدينة الأرضيّة, والتي يصرّ المسيحيّون العائشون في مجتمع التعدّد الراهن, على مقابلتها ومعارضتها بضروب الشرائع الأخرى, ولا سيّما الشريعة الإسلاميّة المغرقة في الذود عن مطلقيتها وشموليّتها وصلاحيّتها.

3- مقاربة ثالثة فكريّة: وحدة الإيمان المسيحيّ وتعدّديّة الخيار السياسيّ
لقد استبان لنا في فكر الكنيسة أنّ ما من فصل كيانيّ جوهريّ بين الدين والدنيا, بل ثمّة فصلٌ يُدعى في الغرب فصلاً قانونياً في الأنظمة والشرائع والمؤسّسات والصلاحيات. وعلاوة على ذلك, اتّضح لنا أنّ للمسيحية شريعة إنجيليّة, يُبرز فرادتها تكامليّةُ مصدرها الإلهيّ ومسؤوليّتها البشريّة, وتناغمُ إلزاميّتها مع حريّة الإنسان, وتناسبُ اقتضاب فحواها مع إبداعيّة أهل المدينة. وأمّا هذا التوسّع الأخير, فهو يروم استطلاع أبعاد الارتباط القائم بين الدين والدنيا والتوغّل, على قدر المستطاع, في معضلة الوساطة التي تستتليها ضرورة الانتقال من مضمون الايمان الواحد الى خيارات السياسة المتعدّدة.

للدين, مفهوماً, جمٌّ من المعاني يقتطف البحث منها, تيسيراً لمنهجيّته, معنى الايمان, وديعة يكشفها الله للبشر وموقفاً يقفه الإنسان بإزائها. واقتصار البحث على الدين في بُعده الإيمانيّ المحض لا يرمي خلسة الى تسهيل التبصّر في أنماط الوشائج المتشابكة بين نطاقَي الدين والدنيا, هرباً من مجابهة المعضلة ورهبةً من جسارة الحلّ الممكن اقتراحه. لا بل إنّ هذا الاقتصار مرماه الوحيد الأمانة لما أضحت فيه المسيحيّة من إيثار لجوهر الدين وإعراض عن ظواهر تجلّياته المتغيّرة. وهذا ممّا يبرّر أن تكون خلفيّةُ التحليل الذي يسوقه هذا البحث ناشبة في وعي المسيحيّة لذاتها ولهويّتها ولمقامها في مقتبل القرن الحادي والعشرين.

وللدنيا أيضاً امتدادات رحبة من المضامين لا تني تمعن في الاتّساع حتى لتشمل واقع البشر بأجمعه. ولئن اقتصر البحث, في مطاويه, على الحقل السياسيّ, فلأنّ هذا الحقل يختزن أوفر مدلول لإدارة اجتماع البشر في نطاق الدولة. وهكذا يتجلّى لنا الدين إيماناً والدنيا سياسةً, وينشأ من هذا الحصر المتعمَّد ترابطٌ بديهيٌّ واجبٌ بين قناعات الإيمان وأفعاله من ناحية, وقناعات السياسة وأفعالها من ناحية أخرى. وإنّ لفي هذا الارتباط استشرافاً يُطلّ بنا على آفاق الرؤية السياسيّة المسيحيّة.

وأمّا السياسة, في مقتضب العبارات, فتحديدها, بحسب مستلهَمات الفكر الفلسفيّ, رعايةُ التعدّد البشريّ, وبحسب مستوحيات الفكر السياسيّ, موضعُ تصارع الحريات والمصالح, وبحسب مقولات الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ, إدارة الخير العامّ (33). وفي جميع هذه الأوضاع, تظلّ السياسة معنيّة بالبشر وباجتماع أقوامهم وتضارب أهوائهم, وتظلّ علوم الفلسفة واللاهوت تُعنَى بالإنسان ومقارباته التجريديّة. وهذا كلّه يفضي الى ضرب من الاختلاف ينشأ من تباين العامّ والخاص, والجامع والمفصَّل, والثابت والمتحوّل, والفكرة والإنجاز, والمبدأ والتطبيق. ويضاف الى هذه المضايق المنهجيّة, صعوباتُ كلّ حقل على حِدة, ففي الإيمان توتّر بين الفحوى والتعبير, وفي السياسة تنازع بين الغاية والوسيلة. ولذلك لا يخلو تعانُق الايمان والسياسة في صنعة رعاية البشر من تصادم هذه العناصر المتقابلة.

في المسيحيّة يقترن الدين بالدنيا, أي الايمان بالسياسة اقتراناً وثيقاً, يصون استقلاليّة كلّ حقل وخصوصيّته وسماته المميّزة. فالسياسة, بحسب فكر الكنيسة, سبيلٌ من سُبُل الإلزام تحدو الإنسان الى وقوف ذاته لخدمة الآخرين (34). وثمّة من يتشدّد في هذا المنحى, من بين اللاهوتيّين المسيحيّين الطليعيّين, فيضيف أنّ "قيام الدين كحقل منفصل لهو البرهان القاطع على حال الانحطاط في الإنسان" (35). وإذا ما تساءل الإنسان عن تاريخ هذا الاقتران, وجد أن ما من فكر لاهوتيّ نشأ وترعرع وتطوّر من دون مؤازرة السياسة له, سواءٌ أظهَرَت هذه المؤازرة في نمط تنظيم المجتمع الذي رعى نشأة هذا الفكر, أم في تواطؤ حاجات الحكم القائم مع مقولات الفكر اللاهوتيّ. ولذلك تغدو ملحّةً ضرورةُ إجراء تأويل لاهوتيّ للسياسة, وإجراء تأويل سياسيّ للاهوت, وفي كلا التأويلَين قد وافر من النقد والاعتراض والتقويم والتجديد. وليس من نافل القول في هذا السياق أنّ الانعتاق النسبيّ للشأن السياسيّ من السطوة الدينيّة, ولا سيّما في نطاق المجمتع الغربيّ الصناعيّ المعاصر, لم يواكبه موازاةً له وفي النسبة عينها انعتاقٌ للشأن الدينيّ من التأثير السياسيّ (36). ولكن, تجاوزاً لهذه القراءة النقديّة التطهيريّة, ينبغي استخراجُ وجوه القُربى والتشارك والتواصل بين الايمان والسياسة.

ففي نطاق التأسيس اللاهوتيّ المحض, لا يجوز لنا أن نعتقد أنّه يمكننا العثور على الشأن الروحيّ في حلّته النقيّة المجرّدة عن كل تعاطٍ مادّيّ. فسرّ التجسّد في المسيحية يقرن قرناً وثيقاً إلتزام الايمان بإلتزام السياسة. فالإيمان المسيحيّ إيمانٌ بالله كمالاً للإنسان. وبالإنسان ظهوراً للّه ولمحبّته. والإيمان الذي لا ينقلب فعلَ تغيير في فؤاد الإنسان وصميم المجتمع, هو إيمان مبتور عقيم أملس لا نتوءَ حياةٍ فيه لتفوّر التاريخ.

هذا كلّه غدا من الحقائق المطوية والبديهيّات المسلّمة في وعي المسيحيّة الراهن. بيد أنّ المعضلة تبرز فتشتدّ حين يعمد المسيحيّون الى استخراج نهج سياسيّ لهم من صلب الإيمان بكلمة الإنجيل. أوَ يُستلّ من الإنجيل خطابٌ في السياسة صائب أبداً, صالحٌ أبداً, واحدٌ أبداً, ملزمٌ أبداً, على نحو ما يُستقَى من القرآن شرعٌ سياسيٌّ ثابتٌ في منطوقه العام منذ الأزل الى الأبد؟ لا شك أنّ الإجابة عن هذا الاستفسار الجوهريّ ترسم خطّ الفصل والتماس بين المسيحية والإسلام, ولا سيّما في مسألة الدين والدنيا.

للفكر المسيحيّ, منذ أقدم الأجيال, قاعدة ذهبيّة أوجزها المجمعُ الفاتيكانيّ الثاني بقوله إنّ "وديعة الإيمان نفسها أو حقائقه شيءٌ, وطريقة التعبير عنها شيءٌ آخر, على أن يُصان المعنى والفحوى" (الكنيسة في عالم اليوم, 62). ومدلول هذا القول أنّ استخراج المسيحية مرتبط بالواسطة التأويليّة التي ينتهجها الفكر المسيحيّ في معالجته قضايا الأخلاق والسياسة والاجتماع والاقتصاد، وما الى ذلك ممّا ينبغي له أن يُدْلي فيه بدلوه. فكما أنه يعسر على الإنسان أن يستغرق سرّ الله بتعبير لاهوتيّ واحد هو من ذات طبيعته خاضع لأوضاع الثقافة والذهنيّة السائدتين، كذلك أيضاً يعسر عليه أن يستنطق الانجيل رأساً عن طاقات الالتزام الإنسانيّ المحتشدة في تضاعيفه من دون التبسّط في وسائط التأويل والتفسير والتكييف. فبسببٍ من اختلاف الأوضاع وتعارض القرائن وتباين الأحوال في مجتمع ومجتمع, حتّى في المجتمع الواحد بين حالة وحالة, يعسر على الكنيسة أن تستمدّ من الإنجيل أحكاماً وتشريعاتٍ تعدو صلاحيّتُها الوضعَ الخاصّ (37) .

وتوجز المسيحيّة في صدد هذا الموضوع قناعتها القصوى, فتعتبر أنّ ما من شريعة بشريّة يمكنها في الوقت عينه أن تستوعب غنى الصلاح المنغلّ في ثنايا الإنجيل وأن توائم جميع الأوضاع الخاصّة الناشئة في تاريخ البشر أفراداً وجماعات وعلى مدى الأجيال كلها. وما حديث الشهرستانيّ الشهير عن تجاوز الواقع للنصّ (38) سوى التدليل البيّن على تعاظم شأن الواسطة التأويلية (39) في كلّ تشريع إنجيليّ. فإذا كان الخيار الأخلاقيّ الذي يؤيّده بعض اللاهوتيّين المسيحيّين (40) هو الخيار الذي ينشأ من دعوة خاصّة فرديّة يتحسّسها المؤمن المسيحيّ في اعتناقه روح الإنجيل. فإنّ الشريعة المسيحيّة تغدو في منتهى المطاف شريعةَ كلّ مؤمن يُقدِم بروح مسؤوليّته الخاصّة على تبنّي القرار الضميريّ الذي يقتضيه الوضع المعضل (41) . لذلك يضيق, وفاقاً لهذه النظرة, حيّزُ مبادئ التشريع الأخلاقيّ حتّى يمسي مقتصراً على قاعدة كرامة الشخص البشريّ في اعتبار جميع أبعاده الجسديّة والنفسيّة والروحيّة والمعنويّة. وهذا ما يفسّر قول أحد كبار اللاهوتيّين الكاثوليك المعاصرين: "ليس هناك إذن سوى قاعدة أخلاق واحدة وحيدة, ألا وهو الواقع التاريخيّ الذي يمثّله الشخصُ البشريّ في كمال كيانه الذي لا يُنتهَك, حتّى أقصى ما يتضمّنه ذلك في شأن الجسد والمجتمع" (42). ومعنى ذلك أنّ تعدّدية الخيارات الأخلاقية وكذلك السياسيّة, تنشأ أوّلاً من تعدّدية التعبير اللاهوتيّ عن الايمان الواحد, وتنشأ ثانياً من تعدّدية التأويلات التي تتوسّط فحوى البشارة الإنجيليّة وواقع البشر, وتنشأ ثالثاً, على نحو ما يشير اليه هذا النصّ, من سعة المضمون البشريّ الذي ينطوي عليه هذا الكيان التاريخيّ الذي هو الانسان.
وخلاصة القول إنّ الإنجيل لا يسعه أن يُعتق من مطاوي طاقاته نمطاً واحداً من الالتزم الأخلاقي أو السياسيّ. فإذا كان العلماء اليوم يصرّون على أنّ التحليل الموضوعي لواقعة من الوقائع البشريّة لا يُفضي ضرورةً الى اقتصار إمكانات الحلول العلميّة والعمليّة وحصرها بصيغة واحدة, فالأولى بالفكر المسيحيّ, وهو الذي يُعنى حصراً باستجلاء دلالات الالتزام الانجيليّ في واقع البشر, أن ينفتح في تشريعه على أشدّ تلازم ممكن بين أفضل النُظُم الأخلاقيّة وأسلم المناهج السياسيّة. فليس في الإنجيل ما يحمل الكنيسة على الانتصار لهذه أو تلك من السياسات العالميّة الممكنة, ولو أنّ المسيح قد أُثِر عنه عزمُه على إثارة الفِتَن السياسيّة وتحريض الأمّة على الثورة (43) , ولو أنّ الرسل ما استطاعوا إلاّ أن يجهروا بقناعاتهم في مصطرع الواقع (44). ولا عجب إذن أن يبرّر الإنجيل نشوء تيّاريَن متعارضَين في إرشاد سياسة المجتمع. وقد يكونان على سبيل المثال تيّار الاحتجاج الأقصى المنبثق من إعلان أولويّة الضمير المستنير بكلمة الله والدفاع عن أسبقيّة الطاعة للّه والذود عن المساواة المطلقة بين البشر وإيثار ممارسة السلطة في صورة الخدمة المجرّدة المنزّهة, وتيّار المحافظة على الوضع القائم والابتعاد عن مساومات العالم والخضوع للسطان مهما كان ظالماً والتبلّغ بغذاء الروح الذي يسبغه اللَّه على متّقيه. وهذان التياران لهما بلا شك, في الإنجيل صداهما وتبريرهما وأسسهما.

بيد أنّ هذه التعددية السياسيّة الممكن انبثاقها من الإنجيل, لئن تُعين المسيحيّة على احترام تنوّع الشعوب والمجتمعات المنتمية اليها, لا تلبث أن تُفضي بالمسيحيّة عينها الى مأزق عسير. فالتعدّد الصادر عن المضمون عنه يستتبع ثلاثة ضروب من التبرير. فإمّا أنّ الممارسات السياسية المسيحيّة المتعدّدة ليست متناقضة في ما بينها إلاّ بالظاهر, ووحدة مصدر إلهامها تصون وحدتها الخفيّة, وإمّا أن اختلاف هذه الممارسات لا ينضوي تحت أيّ وحدة ممكنة, ممّا يعطّل الإحالة الى وحدة المصدر الإنجيليّ الملهم, وإمّا أنّ الإيمان والسياسة جوهران متباينان منفصلان لا رابط بينهما على وجه الإطلاق, وهذا مما تُقصيه إقصاءً كاملاً مسلّمات هذا البحث.

لا مخرج لهذا المأزق إذا اعتبرنا أنّ خيار السياسة المسيحيّة هو الإنسان المستضيء كيانه بضياء كلمة اللّه المتجلّي] في شخص السيّد المسيح. آنئذ تنقلب التباينات إغناءً, والاختلافات تنوّعاً, والانقسامات إبداعاً وتحرّراً في استلهام مضامين الإنجيل الخلاصيّة. وجوهر هذا الإنسان الذي يؤلّف العنصر المشترك في جميع خيارات السياسات المسيحيّة الممكنة في مجتمع العصر, هو الجوهر عينه الذي تومئ اليه, في شيء من الحياد والخفر, شرعة حقوق الإنسان العالميّة, وهو عينه الذي تحدّث عنه البابا يوحنّا بولس الثاني في خطابه الذي ألقاه بباريس حين استحثّ الجميع على توطيد قيمة الإنسان في حدّ ذاتها, لا في ارتباطها باعتبارات ثانويّة غريبة عن كيان الإنسان (45). فكلّ سياسة لا تُعنَى بإنماء هذا الإنسان في كامل أبعاده هي سياسة غريبة عن مضمون الإنجيل (46). وفي توسّع جريء, يؤكّد أحد اللاهوتيّين الكبار أنّ الإنسان يمسي هو بذاته مقياس كلّ شيء حين يتجلى الإله إنساناً (47). ومعنى ذلك أنّ اتّحاد اللّه والإنسان هو مقياس كلّ سياسة مسيحيّة تروم أن تستلهم كلمة الإنجيل في إنارة خيارات المجتمع الناشئة فيه.

والمسيحيّة, إذ تقيم للإنسان هذا الوزن العظيم, تعتقد أنّ الحريّة التي تنادي بها مبادئ الديموقراطيّة الصحيحة هي من أقرب المفاهيم روحاً الى تعاليم الإنجيل. لذلك تتبنّى الكنيسة اليوم النظام الديموقراطي (48), في حلّته النظريّة المنزّهة, وتسعى, إذا اقتضى الأمر, الى تصويب بعضٍ من شططٍ في ممارسته. ولا تروم الكنيسة مطلقاً التحيّز للخيارات الكثيرة التي يتضمنّها مثل هذا النظام المنعتق في جوهره من أسر الصيَغ الضيّقة وقيود الخيارات المفروضة. فالكنيسة "تحترم الاستقلاليّة الشرعيّة للنظام الديموقراطي, وليس لها صفة للتعبير عن إيثارها لأيّ من الأشكال القانونيّة أو الدستوريّة. ومساهمتها في هذا المضمار لا تعدو ما لديها من تصوّر لكرامة الإنسان, على نحو ما يبرز ذلك في ملء كماله في سرّ الكلمة المتجسّد" (49). وممّا لا ريب فيه أنّ توافق المسيحيّة والديموقراطيَّة ليس توافقاً عابراً تقتضيه أحوال العصر الراهنة, بل هو توافقٌ جوهريّ تبرّره القرابةُ العضوية الوثيقة المبنيّة على طاقة النقد المشتركة التي يختزنها كلٌّ من الفكر الإنجيليّ والفكر الديموقراطيّ. فإذا كانت الديموقراطيّة تلائم المسيحيّة وتعبّر عنها تاريخياً تعبيرَ الشريعة السياسيّة الممكنة عن مثال الإنجيل, فلأنّ الديموقراطيةّ هي النظام الوحيد الذي يتيح لمعتنقيه أن ينتقدوه كنظام في مبدَئِه ومضمونه وممارسته. وطالما أنّ المسيحيّة هي أشبهُ بطاقة نقدٍ  (50) واعتراضٍ وتقويمٍ وسعي دؤوب الى تجاوز كلّ إنجاز تاريخيّ, مهما سَمَت فعاليّته, فالديموقراطيّة تُضحي هي النهج السياسيّ العامّ الذي يكفل للإنجيل, على الأقل, أن يعتلن أمام الملأ كلّه في أمانة مطلقة لجوهر مضامينه.

خاتمة: الشريعة المسيحيّة بين ديموقراطيّة حقوق الإنسان وواجب الإخلاء الذاتيّ
لقد أفضى هذا البحث الى استجلاء ثلاثٍ من الحقائق الثابتة في الفكر المسيحي والى استخلاص عناصر التأييد لها. الحقيقة الأولى مفادها أنّ المسيحيّة تروم خلاص الانسان كلّه ولا تنتبذ منه شيئاً, مهما تضاءلت قيمته. فالإنجيل ليس معداً لمملكة روحيّة مقبلة إلينا في منتهى الدهر, لا ارتباط لها بواقع البشر الراهن. بل إنّ كلمة اللَّه المنغرسة فيه, اذا اعتلنت شخصاً حياً في التاريخ, أمست نواة الإصلاح في عالم البشر المتجدّد بروح الله. والحقيقة الثانية فحواها أنّ المسيحيّة شديدة التطلّب في بحثها عن أفضل الشرائع البشريّة في إدارة شؤون المدينة الأرضيّة. وليس صادقاً القول إنّها تأبى التعبير التاريخيّ عن ذاتها, ولو ظلّ هذا التعبير عنها ناقصاً, في نطاق منهجٍ سياسيّ بيِّن وشريعةٍ أخلاقيّة صريحة. والحقيقة الثالثة مؤدّاها أنّ شرعة حقوق الإنسان ونهج الديموقراطيّة هما من أحسن الأطر القانونية التنظيميّة الممكنة في اليوم الحاضر لإدارة المجتمع البشريّ. غير أنّ للشريعة المسيحيّة ميزات خاصة تسم اعتناقها لمبدأ الديموقراطيّة وحقوق الانسان. وهذا ممّا يضفي عليها طابعاً إنجيلياً فريداً يجعل منها شريعةً متكاملة تجمع في أحكامها بين متطلّبات الإقرار بكرامة الإنسان ومقتضيات الاغتناء بمجد الله, ومبلغ اليقين الإنجيليّ الأقصى أنّ هذه الكرامة وهذا المجد إنْ هما إلاّ وجهان متعانقان لوحدة الحبّ والوجود.

فالمسيحيّة أوّلاً تعتقد أنّ نظام الديموقراطيّة وحقوق الإنسان صالحان للشريعة المسيحيّة على قدر ما يُتيحان للإنسان اعتناق قيَم الإنجيل التي قد تخالف منطق صون الذات الإنسانيّة والذود عن كرامتها المنظورة والعمل على تعزيز مكانتها الاجتماعيّة. فلا شكّ أنّ الفكر المسيحيّ يدرك مدى الحريّة التي يتّسع لاستيعابها مثلُ هذا النظام, ولا سيّما حريّة الاعتناق الدينيّ المطلقة. ولكنّ الكنيسة لا يجوز لها أن تتبلّغ بهذا القدر من الأمانة لمُثل الإنجيل. وينبغي لها من ثمّ أن تستحثّ المؤمنين على إكمال شريعتهم المسيحيّة بما يتجاوز أحكام هذا النظام المأسور بحدود حياديّته العالميّة. فمصالحة العدوّ (51) ومحبته (52) وقبول الصفعتين (53) وعمل الخير مع المبغضين وعدم الحكم وإدانة الآخرين (54) والمسامحة سبعين مرة سبع مرات (55) والكفر بالنفس وإخلاء الذات لأجل الملكوت (56) ومنطق التطويبات (57) القائم على مسؤوليّة الإنسان, لا على المطالبة بحقوقه, ذلك كله يتخطّى عبارات النظام القانونيّة التي لا ترمي الى اعتناق هذه المُثُل, بل بالحريّ الى صون كيان الإنسان والدفاع عن كرامته. وفي هذا السياق تَعِي الكنيسةُ أنّ مثل هذا النظام غيرُ مخوّل بتّ هذه القضايا. وتُسرّ أيّما سرور بأنّه يُتيح لها في الوقت عينه أن تشاطره رؤيته الأساسيّة للإنسان وأن تتجاوز هي في روحيتها مستوى هذه الرؤية بما لا يُسيء الى الانسان في مختلف أبعاده.

والمسيحيّة ثانياً تعتقد في شريعتها أنّ نظام الديموقراطيّة وحقوق الإنسان يعجز وحده عن الإيمان بالإنسان الآخر كائناً قابلاً أبداً للارتداد والتوبة واعتناق مبادئ الصلاح, على غرار إيمان السيّد المسيح بالإنسان. وتعتقد المسيحيّة أيضاً أنّ هذا النظام يُعوِزه مسحةٌ من روح الإنجيل حتّى يرضَى بأن لا يُلجئ الإنسان حتّى عندما يخطئ, فحريٌّ بالشريعة المسيحيّة ألّا تنهج نهج الأنظمة التي تفرض على الآخرين ما تظنّه إسعاداً لهم. وهي لذلك لا يجوز لها ادّعاء امتلاك المستقبل, مستقبلِ أتباعها ومستقبل الآخرين, أو محاولة السيطرة عليه, بل جلّ اعتنائها أن تلتزم قضيةَ الإنسان التزامَ الرصانة, في غير إكراه أو تعسّف أو تشبّث أعمىً بأحكامها, مدركةً أنّ اختتام مسيرة العالم وتتويج نضاله أمرٌ يتجاوز كلَّ نظام بشريّ, تعوزه طاقةٌ من العلاء خليفة وحدها بإعتاق قوى المحبّة والرحمة والإبداع الخُلقي من مكامن الإنسان الدفينة. وبناء على هذا, تمتنع الشريعة المسيحيّة عن اللجوء الى العنف (58), نظيرَ السيّد المسيح ملهِمها, إلاّ في الحالات القصوى التي تُمتهَن فيها كرامةُ الشخص البشريّ.

والمسيحيّة ثالثاً تصرّ في شريعتها أن يتبنّى كلٌّ التزامٍ سياسيّ مسيحيّ معيّن ضمّةً من المقاييس بها يروز مدى مواءمة الخيار المتَّخذ لمقتضيات الإنجيل ومعطيات الوضع القائم وحاجات الإنسان المعنيّ وجوديّاً بهذه القضيّة. فليس من خيار سياسيّ يمكنه أن يستلهم روح الشريعة المسيحيّة ما لم يبنِ حكمه على تناغم هذه العناصر الأساسية. وهيهات أن يكفي المسيحيّ اكتناهُ حكمةِ هذه العناصر لكي يكون خيارُه على حدّ ما يرنو اليه من التصاق بعقيدة المسيح واقتداء بمسلكه. إنّ الحكم اليقين على صوابيّة المسلك السياسيّ الفرديّ والجماعيّ لا يقوم إلاّ على حجة الانتماء الى منطق الملكوت المقبل إلينا في مجرى الزمن الحاضر. ولذلك لا يمكن أن تُدرَك كلماتُ الشريعة المسيحيّة, إنْ هي كُتِبَت, إدراكاً فرديّاً خاصاً ينزع عنها قيمة التضامن البشريّ الجماعيّ, أو ادراكاً روحياً محضاً يسلخها عن مُنقلبات الزمن ومعارك التاريخ, أو إدراكاً نظرياً مجرّداً يعقّم فيها الحياة والفعّالية والقدرة على التغيير, أو إدراكاً أخروياً نشورياً إسخاتولوجياً يزجّ بها في مملكة الإمكان والاحتمال والترجيح.

تلك هي بضعةٌ من التصويبات التي تزفّها الشريعة المسيحيّة الى كلّ نظام سياسيّ مبنيّ على قاعدة حقوق الإنسان والديموقراطيّة. غير أنّ هذه التصويبات لا تنتقص البتّة من قيمة هذا النظام في حدّ ذاته. وقد تكون نافلة في أوطان العالم الثالث, كالوطن اللبنانيّ, لأنّها ترفد مجتمعه بمُثُل إنجيليّة من صلب طبيعتها أن تتجاوز مستوى الأمانة الأولى لأبسط مبادئ العيش الحر الكريم. فإذا كان الوطن اللبناني لم يبلغ بعد, ومناط رجاء الكنيسة اللبنانية ألاّ يتباطأ في هذا العبور, مرحلة النضج الديموقراطيّ, فعبثٌ الإلحاح في هذا اليوم الحاضر على ضرورة تذوّق كماليّات هذه المُثُل الإلهيّة.

وبذلك كلّه تنجلي مواضع الحوار السياسيّ بين المسيحيّة والإسلام. فأمانة لرؤية الإنجيل السياسيّة, لا يسع المسيحيّة اللبنانيّة أن ترضى بإخلاء المساحة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة والتشريعيّة لما يزفّه اليها الاسلام من شريعة مستقاة من القرآن وموسومة في تطبيقها بثبات الوحي النبويّ وأزليّة معانيه. وكذلك لا ترضى المسيحيّة اللبنانيّة, في واقعها الحاضر, بديلاً عن النظام الديموقراطيّ الحرّ الذي يرعى حقوق الانسان, على نحو ما تشير اليه الشرعة العالميّة لحقوق الانسان. بيد أنّها, بسببٍ من طبيعة المجتمع اللبناني المتنوّع دينيّاً, تؤثر التعاون مع الإسلام اللبناني في سبيل لبننة هذه الشرعة والنظام الديموقراطيّ المنبثق منها, وذلك بحسب ما يوائم مقتضيات التسامي المنطوية عليها الديانتان المسيحيّة والإسلاميّة في مختلف جماعاتهما البشريّة واصطباغاتهما الفكريّة.
____________________________
(1) تصرّ السلفيّة الاسلامية الاصلاحية بشدّة على اعتبار الاسلام نظاماً شاملاً متكاملاً في ذاته، لا يقرّ بالفصل بين الايمان والدين والسياسة، فترى فيه سبيلاً وحيداً نهائياً للحياة في جميع نواحيها، قابلاً للتطبيق في كل زمان ومكان. وهذا ممّا يبّرر هوية الاصولية الاسلامية "دعوة سلفيّة"، وطريقة سنيّة، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسيّة، وجماعة رياضيّة، ورابطة علميّة وثقافيّ، وشركة اقتصاديّة، وفكرة اجتماعيّة".

(2) راجع: J.Valette, l'évangile de Mare, Paroie puissance, message de vie, Tome II, Les Bergers et les Mages, Paris 1986. pp. 104- 105.
(3) راجع:H.Anderson. The new century Bible commentary. The Gospel of Mark. Eerdmans. London. 1987. PP. 275-276.
(4) سلطة البشر على الأرض هي، في عرف المسيحية، سلطة استخراجية تفسيرية تنفيذية، وليست على الاطلاق سلطة انشائية تشريعية أصلية تستلُّ الأحكام من ذات معينها دون الاستنارة بوحي الله. لذلك يقول الرسول بولس: "لا سلطان الا من الله"، والسلطان "خادم الله لك الخير" (رسالة القديس بولس إلى الرومانيين 1،13 – 4).

(5) راجع: G.Bomkamm, Qui est Jésus de Nazareth? Seuil, Paris, 1973, PP. 142
(6) ثمة معنيان متوازيان للعالم استقاهما الكتاب المقدّس من الفكر اليوناني القديم، في المعنى الأول، العالم تنظيم وتنسيق وترتيب، وفي المعنى الثاني، العالم تزين وتجمل وتحسن. راجع:
G.Kittel, Theological Dictionary of the New Testament, vol. III, Eerdmans, Michigan, 1993. P.867.
(7) ارتباط العالم بالله توضحه عبارات شتى في العهد الجديد: "إنّ الاله الذي صنع العالم وجميع ما فيه" (أعمال الرسل 24،17، راجع الانجيل بحسب القدّيس لوقا (50،11) وبحسب القديس متى (21،24) ورسالة القدّيس بولس إلى الرومانيّين (1،20).

(8) الانجيل بحسب القديس لوقا (5،4) وبحسب القديس يوحنا (16،28; 19،3) ورسالة القدّيس بولس الأولى إلى الكورنثيّين (10،5).

(9) راجع: G.Bromiley, The International Standard Bible Encyclopedia. Q-Z, Eerdmans, Miehigan, 1988, p1112
(10) "إني عالم ومتيقن في الرب يسوع، أنه ما من شيء نجس في ذاته، بيد أنّه من يحسب شيئاً نجسا فله يكون نجسا" (رسالة القدّيس بولس إلى الرومانيّين 14،14).

(11) "لأن الله هو الذي صالح، في المسيح، العالم مع نفسه، ولم يحسب عليهم زلاّتهم، وأودعنا كلمة المصالحة" (رسالة القديس بولس الثانية إلى الكورنثيّين 19،5)، راجع رسالة القديس بولس إلى الرومانيّين (15،11) ورسالته الأولى إلى تيوثاوس (15،1).

(12) رسالة القديس بولس الأولى إلى الكورنثيين (12،2).

(13) يرى بولتمان أنّ التعارض بين روح العالم وروح الله مرده، في كتابات يوحنّا، إلى التأثير الغنوصيّ الذي كان شائعاً في ذلك العصر.

(14) راجع: C.Tresmontant, Evangile de Jean. Traduction et notes, O.EIL, Paris, 1984, p.474.
(15) راجع: R. Brown, The Gospel according to John XIII-XXI, The Anchor Bible, 29 A. New York, 1970, p.878.
(16) المرجع نفسه، ص 852 و 869.

(17) راجع: A. Marchadour, L'évangile de Jean, Centurion, 1992, p.227.
(18) "العالم لا يقدر أن يُبغضكم، أما أنا فيبغضني، لاني أشهد عليه بأن اعماله شريرة" (الانجيل بحسب القديس يوحنا، 7،7)

(19) راجع: G.Stemberger, la symbolique du bien et du mal selon saint Jean, Paris. 1970. P. 105.
(20) راجع: X.Léon-Dufour, Lecture de l'évangile selon Jean, III, Seuil, Paris, 1993, P. 298.
(21) A. Jambert, Approches de l'évangile de Jean, Seuil, Paris, 1976, pp. 129-131.
(22) المجيء الى العالم عبارةٌ تشير في التصوّر الساميّ العبرانيّ الى الاعتلان بين الناس والظهور أمام الملأ.
راجع
1979, P.107.Mollat, Etudes johanniques, Seuil, Paris, D.
(23) من أجرأ وأعمق ما كُتب في لاهوت العالم في الكنيسة الكاثوليكية, أذكرُ:
J.B. Metz, Zur Theologie (pour une théologie du monde, Paris, 1971) Welt, Mainz, 1968.
(24) المجمع الفاتيكاني الثاني. دساتير, قرارات, بيانات, تعريب الآباء جورج الفاخوري ويوسف درّه الحدّاد وحنّا الفاخوري ويوسف الكلاّس. إشراف الأب حنّا الفاخوري. معهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت, منشورات المكتبة البولسيّة. جونية, لبنان. 1992، ص 679.

(25) راجع G. Barauna, L'Eglise dans le monde de ce temps, I et II. DDB. Paris, 1968
(26) "الإنسان واحد بجسده وروحه (...) عليه أن يعامل جسده بالإحسان والإكرام لأنّه خليقة اللّه ومعدّ للقيامة في اليوم الأخير...انّه يتفرّق بكيانه الداخلي على عالم الأشياء. الى هذا الكيان الداخلي العميق يرجع عندما ينكفئ على ذاته حيث ينتظره اللّه فاحص القلوب وحيث يقرّ هو بنفسه مصيره تحت نظر الله". (الكنيسة في عالم اليوم, 14)

(27) وفي صدد هذا الأمر يضيف المجمع أن "الرسالة المسيحية لا تعوق البشر عن بناء العالم. ولا تحملهم على التغافل عمّا هو خير لأبناء جنسهم. بل تجعل لهم من ذلك. واجباً حتمياً لا محيد عنه" (الكنيسة في عالم اليوم, 34) لذلك "على المسيحيين السائرين الى المدينة السماويّة أن يطلبوا ما هو فوق ويتذوّقوه. وهذا لا ينقص بل يزيد ما عليهم من أهميّة الواجب الذي يقضي بأن يعملوا مع جميع الناس على بناء عالم أكثر إنسانيّة"(الكنيسة في عالم اليوم, 57).

(28) "والكنيسة في مهمتها وصلاحيتها, لا تندمج في الجماعة السياسية بحال من الاحوال. ولا ترتبط بأي نظام سياسي. وهي علامة ترفُّع الشخص الإنساني وحرزه" (الكنيسة في عالم اليوم/76).

(29) "إنه لمن المهّم جداً, ولا سيّما في المجتمعات التعدّدية, أن يُنظر نظرة قويمة الى العلاقة بين الجماعة السياسية والكنيسة, وبين الأعمال التي يقوم بها المؤمنون, أفراداً وجماعات, باسمهم كمواطنين يقودهم وضميرهم المسيحيّ, والأعمال التي يقومون بها اسم الكنيسة وبالتعاون مع رعاتهم" (الكنيسة في عالم اليوم, 76).

(30) "يجب أن يمتدّ الاحترام والمحبّة الى أولئك الذين يخالفوننا تفكيراً وعملاً في أمور الاجتماع والسياسة أو الدين. وبمقدار ما نعمل بإنسانيّة ومحبّة على تفهّم نظريّاتهم تفهّماً أعمق يصبح الحوار معهم أشدّ سهولة. وغنيٌّ عن القول أنّه لا يجوز البتة أن تجعلنا هذه المحبّة وهذه الملاينة غير عابئين بالحقّ أو الخير. والمحبّة نفسها هي التي حملت رسل المسيح الى تبشير جميع البشر بالحقيقة الخلاصيّة.ولكن يجب التمييز ما بين الضلال المرفوض أبداً. والضلال الذي لا يزال يحتفظ بكرامة الشخص وإن لم نسلم من وصمة التصوّرات الخاطئة أو الناقصة في موضوع الدين" (الكنيسة في عالم اليوم, 28)

(31) "يكتشف الإنسان في ذات ضميره ناموساً لم يصدر عنه. ولكنّه ملزم بطاعته, وصوته يدعو أبداً ذلك الإنسان الى حبّ الخير وعمله. والى تجنب الشرّ... إنه ناموسٌ حفره الله في قلب الإنسان, وكرامته في أن يخضع له, وبموجبه سوف يُدان" (الكنيسة في عالم اليوم,16)

(32) يشدّد المجمع ويصر على أن عرض التعليم الكنسي في مطاوي أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني إنما هو بمثابة عرض عام لتعليم الكنيسة في هذا العصر يّتّسم بطابع عام لا معدل عنه: "لا شكّ في أنّ هذا العرض الذي يواجه تنوعاً لا حدّ له في الأوضاع والحضارات العالميّة. لا يخرج عن كونه في معظم أقسامه وعن سابق تصميم, ذا طابع عام... يحتاج أبداً الى متابعة وتوسيع لأنّه كثيراً ما يعالج أموراً خاضعة لتقلّب مستمر" (الكنيسة في عالم اليوم, 91)

(33) راجع رسالة البابا بولس السادس الصادرة في 14 أيار 1971:
Paul VI, Octogesima adveniens, in Documentation Catholique, 6 juin 1971, n24.
(34) راجع: Paul VI, Octogesima adveniens, op. eit., n46
(35) راجع: P. Tillich, Theology of culture, New York, 1964, p. 42
(36) راجع: A. Durand, Pour une Eglise partisane, Cerf, 1974, p. 31
(37) يعبّر بولس السادس عن ذلك بقوله
"Face à des situations aussi variées, il nous est difficile de prononcer une parole unique, comme de proposer une solution qui ait valeur universelle. Telle n'est pas notre ambition ni même notre mission. Il revient aux communautés chrétiennes d'analyser avec objectivité la situation propre de leur pays, de l'éclairer par les paroles inaltérables de l'Evangile et par l'Enseignement de l'Eglise" (Paul VI, Octogesima adveniens, op. cit. n4).
(38) "إنّ النصوص متناهية, وإنّ الوقائع غير متناهية, وإنّ المتناهي لا يحكم غير المتناهي".

(39) يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الشأن: "على شعب الله كلّه, ولا سيّما الرعاة واللاهوتيّين, أن يتقصّوا, بمعونة الروح القدس, شتّى مقولات هذا العصر, وأن يتفحّصوها ويفسّروها ويدلوا برأيهم فيها على ضوء الكلمة الإلهيّة (الكنيسة في عالم اليوم, 44). راجع أيضاً:
E. Schillecheeckx, "Portée théologique des déclarations du magistère en matière sociale et politique", in Concilium, 36, 1968, pp. 27 – 44
(40) يتحدث اللاهوتيّ كارل راهنز عن القرار الأخلاقيّ الوجوديّ الذي ينبثق من دعوة فرديّة خاصّة لاعتناق روح الإنجيل. راجع:
K. Rahner, Problèmes moraux et sciences humaines, dans Ecrits théologiques XII, DDB, Paris, 1970
(41) ذاك ما يرمي اليه الباب بولس السادس إذ يقول:
"Dans la diversité des situations, des fonctions, des organisations, chacun doit situer sq responabilité et discomer en conscience les actions auxquelles il est appelé à participer" (Paul, VI Octogesima adveniens, op. cit, n49)
(42) أمّا النص الفرنسيّ فيعبّر عن ذلك على النحو التالي:
"il n'y a donc qu'une seule et unique norme de moralité, la réalité historique qui constitue la personne humaine dans son intégrité inviolable, jusqu'aux dernières implications corporelles et sociales" (E. Schillcheeckx, "Portée théologique des déclarations… art. eit. P. 34)
(43) "ونهضوا كلّهم ومضوا به الى بيلاطس, وطفقوا يشكونه قائلين: لقد وجدنا هذا الرجل يثير أمّتنا ويمنع من أداء الجزية لقيصر, ويدّعي أنّه المسيح الملك". الإنجيل بحسب القدّيس لوقا 1.32 – 2(

(44) "أمّا نحن, فإنّا لا نقدر أن لا نتكلّم بما عاينّا وسمعنا" )أعمال الرسل 4, 20)

(45) أتى كلام البابا بالفرنسية على النحو التالي:
"Il faut affirmer l'homme pour lui-même et non pour quelque autre motif ou raison, uniquement pour lui-même" (Jean – Paul II en France. Mai – Juin 1980, cerf, Paris, 1980, P. 102.
(46) "كلّ إنماء لا يشمل الأبعاد الثقافيّة والمتسامية والدينيّة للإنسان وللمجتمع. تكون مساهمته في التحرّر الصحيح زهيدة بمقدار تنكّره لهذه القيم وامتناعه عن أن يوجّه اليها أهدافه الخاصّة. فالكائن البشريّ لا يبلغ تمام حريّته إلّا إذا حقّق ذاته في كمال حقوقه وواجباته". (يوحنا بولس الثاني, الاهتمام بالشأن الاجتماعيّ, عدد 46).

(47) يقول كارل بارت, اللاهوتيّ البروتستانيّ الشهير:
"Dieu s'étant fait homme, l'homme est désormais la mesure de toutes choses". (K. Barth, Christengemeide and Bügergemeinde, 1946, p. 36)
(48) الكنيسة تقدّر النظام الديموقراطيّ نهجاً يكفل للمواطنين المشاركة في الخيارات السياسية... والقدرة على انتخاب ساستهم ومراقبتهم أو استبدالهم بطريقة سلميّة إذا استُنسب الأمر. "راجع النص في رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني المدعوّة "السنةالمئة":
Jean-Paul II, Centesmus annus, in Documentation catholique, 2 juin 1991, t. LXXXVIII. n11, n46.
(49) يوحنا بولس الثاني, السنة المئة, عدد 47.

(50) يرى بعض المفكّرين اللاهوتيّين المعاصرين أنّ رسالة الكنيسة هي رسالةُ نقد ورسالة التزام سياسيّ مبنيّ على وعد الله الذي أبلغه الى البشر السيّد المسيح. راجع هذا التوسّع في المقال التالي:
E. Schillcheeckx, "Les théories critiques et l'engagement politique de la communauté chrétienne", in Concilium, 1973, 84 pp. 49 - 62
(51) "بادر الى الاتّفاق وخصمك ما دمت معه في الطريق")الإنجيل بحسب القدّيس متّى, 25.5(

(52) "أحبوا أعداءكم, أحسنوا الى من يبغضكم" )الانجيل بحسب القدّيس لوقا 27.6(

(53) "لا تقاوموا الشرّ, بل من لطمك على خدّك الأيمن, فقدّم له الآخر أيضاً" ) الإنجيل بحسب القدّيس متّى 39.5(

(54) "لا تُدينوا لكي لا تُدانوا" ) الإنجيل بحسب القدّيس متّى 7 , 10 (

(55) الإنجيل بحسب القدّيس متّى 22.18

(56) "من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه وليحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها, أمّا من يُهلك نفسه من أجلي ومن أجل الانجيل فإنّه يخلّصها" ) الإنجيل بحسب القدّيس مرقس، 34,80(

(57) الإنجيل بحسب القديس متى 1.5, 12

(58) ثمة أوضاع من الظلم تبرّر استعمال العنف, على نحو ما صرّح به البابا بولس السادس في رسالته ترقّي الشعوب (رقم 31), حين أشار الى حالة الطغيان الثابت والمستمرّ الذي يسيء إساءة بالغة الى حقوق الشخص الأساسيّة ويضرّ ضرراً فادحاً بخير البلد العام.
source