الحوار كضرورة إسلامية

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:سعود المولى

كلمة الدكتور سعود المولى في الجلسة الرابعة من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار

تعاظمت في السنوات الأخيرة دعوات الحوار الإسلامي – المسيحي ومبادراته بحيث شكلت حصيلة غنية بلا شك، سواء على صعيد موضوعاتها وعناوينها، أو على صعيد أطرافها وميادينها. غير أنها عانت ولا تزال من نقص في المنهجية والتصويب، ومن غياب المراكمة المعرفية والجهد التوثيقي والتبويب. كما افتقدت الإطار النظري الضابط الذي يسمح وحده ببلورة خبرات الحوار وتطويره، وبتجديد أسئلته وإشكالياته وإغنائها, واستخلاص دروسه وصولاً إلى صوغ برنامج نضالي مشترك لمواجهة تحديات عالم اليوم. وهذه الدعوة إلى صوغ برنامج نضالي مشترك وردت للمرة الأولى في رسالة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى مؤتمر الحوار المنعقد في طرابلس الغرب في ليبيا (شباط 1976) وهي تستند إلى أن الإسلام والمسيحية ينطويان على قيم أخلاقية وإنسانية تصلح لبناء حياة الإنسان وسعادته، وأن المطلوب من الحوار هو توليد قيمة جديدة نابعة من إيمان المسلمين والمسيحيين واكتشاف المساحات المشتركة التي توحد بين الدينين في قضايا الإنسان والمجتمع. "إن الإنطلاق من المساحات المشتركة بين الإسلام والمسيحية، أو من الأصول الكبرى للإيمان الإبراهيمي ومتفرعاتها المهمة، يسمح بقيام مواجهة حقيقية مع الوضعية الإنسانية السائدة عبر إثارتها أسئلة وتحديات تتناول مسار الحضارة الحديثة وحياة الأمم والشعوب، إضافة إلى تناولها الإشكال الوجودي الذي يهدّد الإنسان في كيانه وذاته".

إن مشروع الإمام الشيخ دعا إلى أن يكون الدين في نطاق الأصول الإيمانية المشتركة منطلقاً للحوار لا موضوعاً له، وذلك "لاستنباط صيغ جديدة في الإدارة والتنظيم السياسي والمجتمعي ووسائل جديدة في الثقافة والاقتصاد والإنتاج تجعل الإنسان يحتفظ برقيّه المادي ويستعيد في الآن نفسه ذاته وإنسانيته".

إن مرور أكثر من ربع قرن على هذا المشروع الجريء لم يفقده راهنيته، بل لعل الأيام والأحداث جاءت لتؤكد الحاجة إليه. فالحوار الإسلامي – المسيحي أصبح اليوم أكثر من ضرورة، ليس فقط للبنان والعرب، وإنما ايضاً وأساساً للإسلام وللمسيحية كما للعالم أجمع. فإذا أريد اليوم قيام مواجهة حقيقية مع الوضعية الإنسانية السائدة، ومع إفرازات النظام العالمي الجديد، سواء على صعيد الثقافة والقيم أو على صعيد السياسة والاقتصاد، وجب بالضرورة تلاقي المؤمنين من مسلمين ومسيحيين في جبهة إيمانية مشتركة تطرح مشروعاً حضارياً إنسانياً تاريخياً "يتوجه به الدينان معاً إلى العالم في عملية فتح روحي أخلاقي إيماني للحضارة وبعث خلاّق للإنسان".
إن هذا الأفق الواضح يسمح بأن يكون الحوار ولودا خلاّقاً، لا ميتاً او محبوساً في كهوف المؤسسات وألاعيب الدول والمنظمات.

وبهذا المعنى، فإن الحوار ليس فقط ضرورة بل هو مغامرة، مغامرة تستحق أن نتكرس لها بكليتنا.

حوار الحياة
ولقد تزايد الاهتمام بالحوار خلال السنوات الماضية، كما تعمّق الاقتناع به وبدوره في بناء تفاهم خلاّق ووفاق ثابت، وفي التأسيس لتسوية قابلة للحياة والتطور، أو لميثاق تعاقدي ينظم العيش المشترك ويبني دولة واحدة لمجتمع سياسي واحد في ظل مجتمع أهلي متنوع، وعلى قاعدة الكرامة والعدالة والمساواة للجميع وبين الجميع. كما تزايد من جهة أخرى الوعي بأن الدين شيء والطائفية والمذهبية شيء آخر، وأن التعصب المذموم جهل مقيم في حين أن التعايش السليم أساسه معرفة وحرية. وأن المعرفة والتضامن طريق احترام الآخر واحترام حقه في الاختلاف. لقد أصبح قبول التنوع الديني والمذهبي والثقافي، باعتباره مصدر غنى وثروة لا يجوز التفريط بهما ونوافذ حضارية على الخارج ومختبر إغناء للتجربة الإنسانية (الإمام السيد موسى الصدر) وقاعدة لبناء المجتمع السياسي الديموقراطي والدولة المدنية (الإمام الشيخ شمس الدين) هو الطريق الصحيح والوحيد لصوغ مشروع عربي حضاري للقرن المقبل.

ولعل التجربة اللبنانية في هذا المجال هي خير أمثولة تقدم. ولقد آن الآوان لاكتشاف سبل الحوار العربي الإسلامي – المسيحي وتحديد عناوينه وموضوعاته ورسم خطواته وآفاقه. فقد ولّى زمان التعايش القائم على المحبة والتضامن والشراكة في المصير. وولّى زمان البساطة وحوار الحياة وتقاليد القرية، ودخلنا زمان التفكك والانهيارات الكبرى. إن التحديات والأخطار الناجمة عن النظام العالمي الجديد وتداعيات حربي الخليج الأولى والثانية، والحروب المقيمة بين ظهرانينا، والتحديات والأخطار الناجمة عن مشروع السلم الأميركي – الإسرائيلي، وما رافق ويرافق ذلك من توترات وشحن للنزاعات، ومن عنف وانفجارات (اليمن، مصر، الجزائر، البوسنة والهرسك، أفغانستان، الخ)، إن ذلك كله طرح ويطرح اسئلة وإشكاليات، وأثار ويثير قضايا وصراعات يتوجب اليوم امتلاك الجرأة على اقتحامها والشجاعة في الحوار حولها من أجل إعادة تأسيس مشروع حضاري وتشكيل خطاب سياسي وتعبوي توحيدي، على المستوى المحلي كما على المستوى العربي والإسلامي. وهذا الأمر يتطلب ربط الحوار وعناوينه وموضوعاته بأفق نظري وبنظام فقهي – منهجي يستند إلى العقيدة والتراث ويتحرك في الفكر والممارسة، فلا يعود مجرد ثرثرة مثقفين أو إعلان نيات أو ألاعيب سياسيين. إن ما نريده هو حوار الحياة، من أجل الحياة.


العنف والحوار
في ندوة عُقدت في واشنطن (في تاريخ 26 أيار 1994) بدعوة من "مجلس سياسة الشرق الأوسط" حول "انبعاث الإسلام" (أو الصحوة الإسلامية) تحدّث جون أسبوزيتو مدير مركز التفاهم الإسلامي – المسيحي في جامعة جورجتاون، بعد كلمة لمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط روبرت بيليترو ورداً عليه، ومما قاله: "إن المشاركة السياسية والتعددية هي مفتاح إيجاد زعماء مسؤولين وديموقراطيين. إن باكستان وماليزيا وهما بلدان مسلمان سمحا منذ أمد بعيد للجماعات السياسية الإسلامية بالعمل ونجحا في إدماجها بالنظام. وبعكس ذلك فإن الحكومات التي تصف كل الجماعات المعارضة بأنها متطرفة ولهذا هي غير قانونية إنما تدفع بالمعتدلين إلى إتخاذ مواقف راديكالية. إن القمع يولّد الراديكالية. من الممكن ان تكون بعض جماعات المعارضة الإسلامية في الشرق الأوسط معادية للديموقراطية, ولكننا نحتاج أيضاً للتساؤل عما إذا كانت الحكومات الحالية هي ديموقراطية" وفي الكلمة نفسها رد أسبوزيتو على كلام آخر للصحافي جون بايبس حول الأصولية الإسلامية, فقال "إنه ينبغي الحذر من الوقوع في شرك "الأصولية العلمانية" التي تفترض أن أنماط الحكم الغربي هي النظام الوحيد المقبول". وأضاف إن "العنف ليس ظاهرة إسلامية, والإرهاب ليس إسلامياً, وليس شرق أوسطياً"...

ولفت كلام أسبوزيتو اهتمام الأميركيين فنشرت صحف عدة مقابلات معه, وكتب هو في بعض الدوريات الإسلامية (مجلة "قراءات سياسية" الصادرة في فلوريدا). والغريب أن بعض الكتّاب العرب والمسلمين كتب عن العنف الأصولي باعتباره ظاهرة إسلامية, ووصفه بالعنف الموجه ضد المجتمع في حين أن مسيحياً أميركياً من دعاة الحوار والتفاهم قال إن العنف ظاهرة اجتماعية ليست مقصورة على الإسلاميين. لا بل هي كانت في ما مضى شعار افتخار للماركسيين "العنف قابلة للتاريخ".

إن الاغتيال السياسي واحتجاز الرهائن وخطف الطائرات ونسفها والتفجير والتعرض لرموز الدولة والمجتمع الاستهلاكي, كلها حصلت على أيدي الثوريين من مختلف الإيديولوجيات والمذاهب. فالعنف الهامشي أو التطرف شكّل على الدوام مصدر توتر في المجتمعات المأزومة. لكنه كان أيضاً وعلى الدوام مظهراً من مظاهر أزمة هذه المجتمعات. هذا العنف هو إذاً عنف إجتماعي وليس عنفاً ضد المجتمع. إنه الوجه الآخر لعنف الدولة والمستبدين. فلنتذكر على سبيل المثال لا الحصر "الغيفارية" في أميركا اللاتينية وتيار العنف المسلح داخل الحركات التقدمية واليسارية والشيوعية ("التوباماروس" في الستينات و"الدرب المضيء" في الثمانينات) لا بل حتى داخل الكنيسة المسيحية (ظاهرة "الآباء الحمر" في السلفادور, والأب كاميليو توريش كمثال ولاهوت التحرر كإطار)... ولنتذكر كاثوليك إيرلندا الشمالية وجيشهم السري. وجماعات الباسك في أسبانيا والكورسيكيين في فرنسا. فهل نقول إن الكاثوليكية أو القومية أو اليسار والشيوعية عنف وتطرف مطلق؟ أم نضع هذا العنف في إطاره الصحيح ونبحث عن جذوره وأسبابه؟

إن العنف في بلادنا مرتبط بسنوات القهر والعذاب منذ وعد بلفور والغزوة الصهيونية, وحتى آخر مجزرة ارتكبها الصهاينة في جرود بعلبك أو في غزة.

ويواكب عنف الاستعمار والصهيونية عنف الاستبداد الداخلي. فالدولة الحديثة في العالم العربي دولة عنف وحشي بامتياز, ولا يضاهيها في ذلك أي طرف آخر. والدولة الحديثة في العالم العربي دولة تفسيخ للمجتمع وتدمير لقواه وتهميش لفاعلياته. فمن الطبيعي والحال هذه أن يكون العنف المضاد أو رد الفعل المتطرف نسخة مطابقة لعنف الدولة, أي عنفاً أمنياً مخابراتياً هامشياً يتوسل الإرهاب والإغتيال. ويحتمي بالعصبية والجيرة والطائفة والجماعة (ومثال مصر والجزائر ليس ببعيد).
إن كلامنا هنا عن العنف هدفه كشف خطورة التعامل الانتقائي الاختزالي الذي يجد مادة إعلامية ضخمة في ما يشهده عالم اليوم من مواجهات تتخذ طابع الانقسامات أو الاستقطابات الثنائية الحادة (إسلام – مسيحية, أصولية – ليبرالية, متدّين – علماني, أصالة – حداثة, دولة – مجتمع...). فمن الخطورة بمكان اعتبار ما يجري في مصر والجزائر لوحة مثالية لما هي عليه الأصولية الإسلامية. واعتبار كلام الإسلاميين عن الحوار حالة شاذة أو استثناء يثبت القاعدة. فالحقيقة هي عكس ذلك تماماً. إذ إنه ما من حركة سياسية معاصرة طرحت موضوع الحوار وعناوين المواطنة, والديموقراطية والحرية والعيش المشترك والدولة المدنية بالجرأة والواقعية اللتين اتسم بهما طرح الحركة الإسلامية العربية, فكراً وممارسة.

الحركة الإسلامية والحوار
إن الحوار الإسلامي – المسيحي ضرورة ومغامرة, وعلينا تجديد شركة الحياة والمصير, تجديد العيش المشترك والصيغة اللبنانية الفريدة, وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة, والمصالحة مع الذات والمهادنة بين قوى المجتمع، وبينها وبين الدول والأنظمة, وفي ما بين الدول والأنظمة, وعلينا تجديد الحياة السياسية والثقافة السياسية في اتجاه حداثة أكثر وديموقراطية أكثر, وبناء دولة مدنية, دولة لا دين لها, دولة القانون والمؤسسات, وتأمين حقوق المواطنة والمشاركة للجميع, العدالة والكرامة والمساواة للجميع وبين الجميع...".

هذه بعض أبرز عناوين الأطروحة السياسية التي دأب الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين على تقديمها بوضوح وجرأة طوال السنوات الماضية, الأمر الذي أثار ويثير إعجاب الجميع, من مسلمين ومسيحيين, علمانيين ومؤمنين, وبحيث استحق لقب "إمام أهل العدل والسلم والحوار الدائم".

وتندرج أطروحة الإمام السياسية ضمن نظام نظري – منهجي يستند الى العقيدة والتراث (فقهاً وتشريعات) ويتحرك في الفكر والممارسة (موضوعات برنامجية في خطاب سياسي وتعبوي وطني توحيدي جامع).

إن عمل الإمام على تأصيل هذه الموضوعات والعناوين في الفقه (كتبه "نظام الحكم والإدارة في الإسلام" – "الاجتماع السياسي الاسلامي" – "مسائل حرجة في فقه المرأة" – "مسألة العنف والجهاد" وتجذيرها في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر والممارسة الحركية الإسلامية المعاصرة (رئاسته للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى- خطبه حول لبنان المعنى والدور – الأمة والدولة والمجتمع – الحركة الإسلامية وإشكالياتها). تمَ ويتمَ تحت عنوان ناظم رئيس هو تجديد الفقه وتجديد أصوله ومبانيه وتجديد علم الكلام الإسلامي, لتجديد الفكر السياسي الإسلامي. ومن أجل صوغ مشروع إسلامي عربي معاصر ونهضة حضارية شاملة مرتكزها الحركة الإسلامية العربية.

إن هذا يعني أن علينا البحث عن سياقات ومفردات الفكر السياسي والممارسة السياسية للحركة الإسلامية العربية بغية إبراز طروحاتها المتقدمة وتجاربها الفذة, بما يساهم في تأصيل الذاكرة وترسيخ الوعي السياسي والثقافة السياسية لجيل الحركيين الإسلاميين العاملين في إطار النضال التحرري ومشروع الاستقلال الحضاري والتنمية الشاملة. فالحركة الإسلامية العربية ليست تلك الشخصيات الشعاراتية المهرجة, والخطابات الجوفاء والحذلقات والفذلكات الاستهلاكية الإعلامية, والنجومية اللامعة التي تكتسب بالتلاعب بالعناوين والشعارات بحسب المرحلة ووفقاً للطلب الإعلامي الغربي (الخطف والإرهاب والذمية والجزية والعنف واستحلال الدم والعرض والمال, وولاية الفقيه والحكومة الإسلامية, في مرحلة, ثم الحوار والسلام والتعايش في مرحلة أخرى).

كما أن الحوار ليس "موضة عصرية" أو رافعة إعلامية ومزايدة تصل إلى حد إسقاط كل الحدود (بعنوان الحوار حول كل شيء) مما يعني الانطلاق من لا شيء والوصول حتماً الى لا شيء. لأن هدف حوار كهذا هو اللاشيء بالضبط, إن لم يكن فقط المزيد من اللمعان والنجومية على صفحات الجرائد وشاشات التلفزة.

ينبغي إذا أُريدَ الحصول على نتائج فعلية جدية وخدمة قضية الحوار وقضية السلم الأهلي والمستقبل الحضاري, التعامل مع الحوار من خلال أطروحة شاملة برنامجية, لها ماضٍ وحاضر ومستقبل, وليس من خلال مهرجانات إعلامية ونجومية زائفة... ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض﴾ (قرآن كريم).

ينبغي التعامل مع الحوار وموضوعاته وعناوينه من خلال مجمل الفقه السياسي الإسلامي المعاصر وبالاستناد اليه, وليس من خلال الفصل التعسفي لسياقات ومفردات هذا الفقه السياسي. وليس من خلال تقديم فكرة الحوار كأنها مجرد نتوء "لامع" و"استنارة حاذقة" لنجم متفذلك, وسط كمّ جاهل وظلام مطبق. فالحقيقة هي عكس ذلك تماماً. إن الحوار أصل لا استثناء, والحوار التزام لا حرتقة إعلامية, والحركة الإسلامية العربية المعاصرة هي أم الحوار ومرتكزه. وهي صاحبة المشروع.

ضمن هذا الاطار ووفق هذا المعيار نكتشف ميزة فكر الإمام موسى الصدر باعتباره التعبير الأرقى عن مستوى تطور الفكر السياسي الإسلامي الحركي المعاصر.

الحوار كأصل ومبدأ في الإسلام
1- الحوار أصل ومبدأ
ليس الحوار ملحقاً أو هامشاً نضيفه الى مفردات وصياغات علم الكلام أو الفقه أو السياسة... وبداهة فإنه ليس تكتيكاً براغماتياً أو حيلة تقتضيها ظروف تراجع قسري, كما أن مصطلح الاستراتيجية لا يغطي تماماً مقاصد الحوار وغاياته ناهيك بقصوره عن الإحاطة بأصله ومبتدئه.

الحوار بالنسبة إلينا هو في صلب العقيدة, وهو في أساس الحياة الإسلامية والمسيحية والإنسانية الفطرية عموماً: ﴿وكان الإنسان أكثر شيء جدلا﴾، ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها﴾ (القرآن) "في البدء كانت الكلمة..." (العهد الجديد)... (وخلق الله الانسان على صورته) (العهد القديم).

الحوار تعبير عن قيمة عظيمة بل القيمة الكبرى في التكوين الأساسي للإنسان والبشرية.. الفطرة .. فالدين هو الفطرة، : ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴾ (القرآن) ... فطرة الله هذه، دين الإنسانية هذا، تكرر ذكره في الكتب السماوية فحمل تعابير: المحبة والتوبة والندامة والنور والكلمة والبشارة والقلم والقلب واللسان والمغفرة والتسامح والشفقة والرأفة وملح الأرض والمصالحة والفرح والعناية والغفران والبرّ والتقوى والحكمة والرشد والكرامة والهداية واللطف والحسنة والصدقة وسواء السبيل والصراط المستقيم والعمل الصالح والعبادة والقيام... وكلها هي الحوار...

فالدين هو الحوار: ﴿لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ﴾. والحوار هو الدين: ﴿ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ وقد وردت مادة حوار في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: ﴿فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ﴾ [الكهف: 34] ﴿قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا﴾ [الكهف: 37]. ﴿قد سمع اللَّه قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله, والله يسمع تحاوركما, إن الله سميع بصير﴾ [المجادلة: 1].

ولكن معنى الحوار والمحاورة والتحاور ورد في عشرات المواضع خصوصاً في صيغ المجادلة بالتي هي أحسن.

- ولعل الحوار الأول هو ذلك الذي دار بين اللَّه (عز وجل) وملائكته في شأن خلق آدم... فجاءت المحاورة بصيغة قال... وقالوا... ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة, قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء﴾ ... (إلى آخر الآية 33 من سورة "البقرة").

- ثم كان الحوار الثاني بين الله (سبحانه وتعالى) وإبليس... وتنقل لنا آيات القرآن الكريم صوراً عدة لهذا الحوار الذي شكل مادة خصبة للتأملات الفكرية والتفسيرات الفقيهة.

- ثم كان الحوار بين الله ورسله وأنبيائه ( آدم ونوح ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد) والحوار بين هؤلاء الرسل والأنبياء وبين قومهم وأهلهم... وهي كلها حوارات غنية تغطي مساحة كبيرة من متون الكتاب وشكلت مادة تاريخية وأخلاقية وحكمية وسياسية واجتماعية لا تنضب. ويمكن الإجمال والقول إن هذه الحوارات التي ينقلها لنا القرآن الكريم تحمل في مضامينها وأبعادها المعاني الآتية:
1- إن الاختلاف سنة إلهية: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات﴾.

2- وهو رحمة للناس: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن اللَّه ذو فضل على العالمين﴾ (آية), "اختلاف أمتي رحمة" (حديث).

3- وهو ركن المعرفة: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا, إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم﴾.

4- إن الفطرة هي قبول الآخر والحوار معه... ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً... أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾.

5- إن الحكم الأخير هو لله تعالى إليه المصير في حين أن الحقيقة نسبية وهي ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وليست في يده.... ﴿إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾, ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾, ﴿وإن جادلوك فقل اللَّه أعلم بما تعملون, اللَّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون﴾, ﴿لا حجة بيننا وبينكم اللَّه يجمع بيننا وإليه المصير﴾.

6- إن شرط الحوار هو الإسلام لرب العالمين, أي الوقوف على أرض واحدة: ﴿وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾, ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾.

7- ومن مستلزمات الحوار الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر: ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن باللَّه واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾, ﴿والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾. الحوار إذاً هو جوهر ولب الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية وهو طريق الرشد والرشاد في الدنيا والآخرة... ذلك بأن اللَّه رب العالمين غني عن الناس, ولو شاء لما خلقهم أصلاً, ولو شاء لجعلهم أمة واحدة... ولكن حكمة اللَّه في الخلق وفي اختلاف الناس نعمة ورحمة ولطف إلهي وسنة لا تبديل لها...

إنها سنة التدافع, أي الحوار الدائم, بالتي هي أحسن, بالكلمة الطيبة "أصلها ثابت وفرعها في السماء", بالحسنة والموعظة والحكمة, بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بجهاد النفس وهو الجهاد الأكبر... ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم﴾. ﴿ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن اللَّه ذو فضل على العالمين﴾. هذا الحوار, السنّة الالهية الكونية, ملح الأرض, هو حوار الحياة, حوار التدافع والمدافعة, المجادلة والحكمة, المشاركة والعيش, إنه حوار النضال المشترك من أجل الإنسان وقضاياه, من أجل الحرية والعدل والاستقلال والأمن والسلام والكرامة والخير للجميع... ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾...

والحوار مع الآخر شرط لبناء الذات... نظراً الى ما تنطوي عليه الذات البشرية من أنانية وفردية... فبناء الإنسان الحر والشخصية القرآنية, يمران عبر الحوار مع الآخر... ﴿كلا إن الإنسان ليطغى...﴾ ﴿ألا تطغوا في الميزان...﴾.

والحكم الأخير والحقيقة المطلقة هي اللَّه سبحانه وتعالى هو الحجة وهو النبأ العظيم, وهو الهادي وهو الذي يخبر الجميع يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم ﴿لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه, فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم, وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعلمون, اللَّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون... ﴾. فلا جدل بيزنطياً, ولا حوار لاهوت وعلم كلام وعقائد... ولا خوف من عدل اللَّه وحكمه... فكل من آمن وعمل صالحاً ﴿فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.

هذا هو المقصد الرئيسي والغاية الجوهرية للحوار... ولا نقول هذا الكلام للتقليل من أهمية حوار اللاهوت وعلم الكلام... فالتاريخ شهد وما زال محاورات ومجادلات لا تحصى ولا تعد, وشهد انتقال هذا أو ذاك من دين الى آخر...فلم يكسب الإسلام ولم تكسب المسيحية, ولم تحسم الحقيقة ولم يظهر المخلص... إن منطق الرسالات السماوية, ودليل الفطرة الإنسانية وسنّة الحياة والعصر, ترشدنا جميعاً الى اعتبار الأولوية, والأهمية المطلقة لحوار الحياة, وشهادة التاريخ والحاضر والمستقبل, أي لصوغ مشروع حضاري إنسانيّ مشترك لخير البشرية جمعاء ولمجد الله على الأرض... لنكون قوّامين بالقسط ولنكون شهداء على الناس ولتكون منا أمة وسط تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر...

2
- الحوار ودروس التاريخ
خلال الحقبات والأجيال التقى الإسلام والمسيحية وتفاعلا في مواجهة مشكلات الحياة وتحديات الأزمنة. لقد اتخذ ذلك اللقاء أشكالاً عدة: من المنازلة والحرب الى النقاش والمجادلة, الى التعايش والحوار بين الديانتين في مجتمع واحد والتفاعل المستمر بينهما على صعيد الثقافة والحياة اليومية ... ولم تكن المسيحية غريبة عن الإسلام – فهما ينتميان أولاً إلى ذلك الأصل الإبراهيمي الواحد، وهما ينتميان ثانياً إلى تلك المنطقة الواحدة حاضنة الرسالات السماوية والحضارات الإنسانية الكبرى في التاريخ. وهما يحملان ثالثاً ذلك المشترك، الإنساني  القيمي الواحد بحثاً عن الحق وإحقاقاً له وإقامة للعدل والمساواة...

ولقد عاشت الجماعات المسيحية إلى جانب المسلمين أحقاباً طويلة، في اليمن والبحرين وشمال الجزيرة العربية ومكة والطائف، كما في بلاد الشام ووادي النيل وما بين النهرين ... عاش المسلمون والمسيحيون الأشكال الثلاثة المذكورة للحوار واللقاء تحمّلوا آثارها ونتائجها ... في مكة والمدينة قام حوار سلمي بين أهل نجران الذين اضطهدوا أيام الملك اليهودي ذي نواس والدين الجديد ... وفي المدينة كانت الصحيفة أو كتاب الرسول صيغة تعاقدية تنظيمية للحوار مع اليهود ... وفي مصر والحبشة وبلاد فارس، كما في سوريا والعراق والهضبة الإيبرية (الأندلس)، رأى المسيحيون في الدين الجديد بعثاً روحياً خلافاً لحقيقة دينهم وجوهر إيمانهم، فرحبوا به كحركة تحرير من طاغوت الأمبراطوريات المتهاوية أخلاقياً وسياسياً ...

وخلال الحروب المعروفة بالحروب الصليبية وقف القسم الأكبر من المسيحيين في الشرق الإسلامي إلى جانب إخوانهم وحاربوا الفرنجة الغزاة ... وعلى مرّ العصور ترسّخت قيم وممارسات، وصيغت أنظمة وقوانين ودساتير، حكمت العلاقة – الحوار بين الطرفين، بدءاً من صحيفة المدينة وانتهاء بنظام الملل العثماني .. وإلى جانب ذلك دارت حروب وصراعات، استخدم فيها الدين واستخدم فيها الاختلاف العقدي كمبرر للحرب والاضطهاد ... وسادت نظرات ورؤى اختزالية ضيقة الأفق عصبية الأصل والمرجع سمحت في فترات الانحطاط الاجتماعي والتدهور السياسي، لسوء التفاهم والتباعد بالسيادة على حساب الحوار والتفاعل والتلاقي ...لا بل يمكن القول من دون مبالغة أن أحد أسباب الانحطاط والتدهور يكمن في بروز العقليات السلطوية والعصبيات الإستفرادية وسيادة هذه العقليات .. وفي العصر الحديث كان للظروف السياسية التي واكبت حروب الشرق والغرب أن تجعل المسلمين ينظرون إلى المسيحيين (أو بعضهم) كامتداد للغرب في قلب الشرق ينبغي الحذر منه وتقييد حركته (كأي مواطن أجنبي في بلد في حال حرب)، وأن تجعل المسيحيين يرون في المسلمين سلطة ظالمة مستبدة ويتوقون إلى الاستقلال والاندماج بالغرب "المتقدم والحضاري" ... هذا التبسيط للمسألة قد لا يكون كافياً ولكنه ضروري لفهم حالة الجمود الفكري التي أصابت الحوار بين الديانتين منذ أواخر مرحلة الدولة العباسية حتى اليوم، ولفهم التجاهل والتنابذ والسلبية والصراعات التي استمرت حاملة أساطير معركة بواتتيه (732م) ودفائن حروب الفرنجة وأحلام الأندلس الضائع وأحقاد محاكم التفتيش والحقبة الاستعمارية الحديثة، وأبرز علاماتها تلك الصراعات المتفجرة هذه الأيام هنا وهناك. ولا يمكن تفسير الجمود والتباعد بغير الأسباب
 السياسية أي بسيطرة السياسة (الملك العضوض) على الدين ....

3
- النقد الذاتي وضرورة تصحيح المسار
ونبدأ فنقول إن المسؤولية تقع على عاتق الكنيسة أولاً, وعلى عاتق المسلمين والحركة الإسلامية ثانياً. فالمطلوب من الكنيسة أولاً فصل نفسها عن سياسة الغرب العدوانية البربرية ... فهذا الغرب ليس مسيحياً أصلاً. والمطلوب من الكنيسة، الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية، إعادة مراجعة تاريخ الشرق العربي الإسلامي وتحديد مكامن الخطأ في علاقتها بالمسلمين وبهذا الشرق عموماً. فليس كل ما قامت به الكنيسة معصوماً ... وينبغي الاقتداء بوثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني (توجيهات من أجل الحوار) لإعادة قراءة تاريخ حروب الفرنجة وتاريخ محاكم التفتيش وتاريخ روسيا القيص
رية والشيوعية، وتاريخ الحروب الاستعمارية على العالم الاسلامي.
وعلى رغم تسليمنا بأن التاريخ حمل صفحات مشرقة ومجيدة من العلاقات الإسلامية – المسيحية حتى في ظل أسوأ مراحل الجمود والتعصب والحروب. فإن ذلك لا يعفي الكنيسة من المسؤولية، مسؤولية المواجهة الجريئة مع الذات والتاريخ. فكما كانت لدى الكنيسة شجاعة تبرئة اليهود من "دم المسيح" وشجاعة إعادة الاعتبار لليهود في عالم اليوم، نطالبها بأن تكون لديها على الأقل شجاعة الاعتراف بأن حروب الفرنجة لم تكن حملات صليبية وبأن حروب الاستعمار والتجزئة والاحتلال والقهر والإذلال لم تكن حركات تبشير وتمدين، وبأن الحصيلة العامة لم تكن في مصلحة المسيحية كدين ولا في مصلحة المسيحيين كاجتماع وتاريخ ومستقبل في العالم الإسلامي.

وفي المقابل ينبغي أن يتحلى المسلمون وحركاتهم السياسية القائدة بشجاعة النقد الذاتي وجرأة المواجهة مع التيار. وينبغي ألا يسكت المسلمون عما ارتكب وما يرتكب، وعن الصفحات السود في تاريخهم. وهذا هو معنى الآية الكريمة: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾ ... ومعنى "المودة في القربى" ومعنى السلام (وهو من أسماء الله تعالى) ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ...﴾ ﴿يُهدي به الله من اتبع رضوانه سُبل السلام ...﴾ ﴿سلام هي حتى مطلع الفجر...﴾.

لقد كان هناك تاريخ مليء بالحروب التوسعية التي قامت طلباً للجاه والنفوذ والقوة والسلطان والمجد السلطوي وسميت فتوحات وغزوات ... ولم يعد مقبولاً ولا جائزاً اليوم الدفاع عن "بطولات" لم تقم أصلاً باسم الدين أو للدفاع عنه أو إحقاقاً لحق أو أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ... ناهيك برفض الإكراه في الدين أو الاجبار في المعروف ...

ولم يعد مقبولاً أو جائزاً اليوم السكوت عن أي أذى يتعرض له مسيحي أو غير مسلم من أي دين أو مذهب أو جنسية كان، وفي أي مكان وعلى أيدي مسلمين (من آذى ذمياً فقد آذاني ...) ولم يعد مقبولاً ولا جائزاً اليوم السكوت على ثقافة الفتنة والجهل "والفتنة أشد من القتل ... والجهل عدو الدين" وثقافة الاحتراب والتفكير وثقافة التفسيخ والتمزيق ... إن عدم مواجهة الإسلاميين لهذه المسائل بشجاعة وبموقف صريح وحازم وصمة عار لن ينساها التاريخ، وخروج على معاني الإسلام وقيم الحق والعدل وخدمة لحملات تشويه صورة الإسلام والمسلمين في عالم اليوم. بعد ذلك يحق لنا محاسبة الكنيسة ورجال الدين في حال الإصرار على المشاركة في الفهم الخاطئ للإسلام وفي تعميم الصورة المشوهة حول "الخطر الإسلامي الزاحف والمهدد للأمن والاسقرار".
ولكن ذلك لا يعفينا من سؤال بعض تيارات الكنيسة وبعض الأقطاب والقيادات الذين هم في مواقع المعرفة والدراية والخبرة عن السر في الدفاع عن "البانكاسيلا"  العلمانية المشؤومة التي سببت الويل والدمار للمسلمين والمسيحيين في أندونيسيا، أو "الوطنية التانزانية" التي قامت على المذابح في حق المسلمين في زنجبار، واعتبار هذه التجارب العلمانية الخرقاء منارات اقتداء في العالم غير المسيحي؟؟ في حين ترى الكنيسة في العلمانية عدواً لها في بلاد الغرب (راجع كلمة الأب مايكل فيتزجيرالد الأمين العام للمجلس البابوي للحوار أمام المؤتمر الأول لبطاركة الشرق الكاثوليك في بكفيا – 19 – 24 آب 1991 – نشرتها مجلة "الغدير" – المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى – بيروت – العدد 17 – 18 ص 26 – 40). ويحق لنا أن نسأل أقطاب المجالس الحوارية لدى الكنائس عن السر في تقديمها الإسلام باعتباره "الجهاد" وجعل الجهاد مرادفاً للحرب والقوة والعنف في مقابل تصوير المسيحية على أنها السلام والمحبة فيُقام تعارض تأسيسي تكويني بين الدينين؟

ولماذ التركيز على التبشير وعلى حوار اللاهوت؟ ولماذا التركيز على نيجيريا وماليزيا والفيليبين وأندونيسيا في مؤتمرات الحوار وجعل عناوين هذا الحوار لاهوتية في حين أن حركات التبشير الرعناء تثير في هذه البلدان أبشع ألوان العداوات والحروب والتوترات؟ نقول هذا الكلام لأننا من خبرتنا ومراقبتنا لمؤتمرات ولقاءات الحوار المنظمة على أيدي مجلس الكنائس العالمي خصوصاً وبعض التيارات مثل "الرؤية العالمية" و"التسلح الخلقي" نلمح دائماً المسعى الواضح إلى تحويل هذه المؤتمرات واللقاءات حواراً لاهوتياً عقدياً ودعاية للتبشير. وكل ذلك لم ولن ينتج سوى العدواة واللامبالاة في أحسن الاحوال ...

فمن الوهم الظن أن الإسلام يسعى إلى أسلمة النصارى ... ومن الوهم الاعتقاد ان الكنيسة تستطيع تنصير المسلمين. فلا ندري بعد ذلك لماذا الإصرار على التبشير بوجوهه السلبية ومظاهره البغيضة خصوصاً في أفريقيا وجنوب آسيا وشرقها.

إن دروس التاريخ وسنن الحياة والوضع الراهن ومصلحة الإسلام والمسيحية معاً، ومصلحة الإنسان والحضارة، تقتضي التحلي بالجرأة وبعد النظر للتخلي عن عقلية التبشير في الشكل الذي تمارس فيه وذلك للالتفات إلى ضرورة صوغ مشروع مشترك لمواجهة الفقر والجوع والحرب والتخلف والأمراض والأمية والجفاف والتصحّر والانحلال والتدهور في عالم اليوم بدل استغلال هذه المنافذ للدخول في بعض المناطق والأصقاع تحت ستار المعونات الغذائية أو الطبية أو المدارس ومن ثم تحويل الأمر إلى كارثة لا تحتمل أين منها مجازر رواندا والكونغو.

إن تلاقي الإسلام والمسيحية هو السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية وإنقاذ الإنسان في عالم اليوم. وذلك من خلال الحوار والتعاون البناء لاستنباط أشكال وصيغ جديدة في الإدارة والتنظيم السياسي والمجتمعي ووسائل جديدة في الثقافة والاقتصاد والإنتاج تجعل الإنسان يحتفظ برقيّه المادي ويستعيد في الآن نفسه ذاته وإنسانيته الضائعة.

إن المطلوب مشروع مشترك يتوجه به الدينان معاً نحو العالم في عملية فتح روحي أخلاقي إيماني للحضارة الحديثة وإنسانها الممزق ومجتمعاتها المنهكة المشرذمة.

وبدل أن يكون الدين موضوعاً للحوار، يكون الدين في نطاق الأصول الإيمانية الكبرى المشتركة منطلقاً للحوار نحو فتح روحي للحضارة وبعث جديد للإنسان ... (وردت هذه المعاني في مشروع الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين المقدم إلى مؤتمر الحوار المنعقد في ليبيا في شباط 1976)...

3
- شروط الحوار وموضوعاته
إن الحوار الإسلامي – المسيحي يندرج ضمن إطار أوسع هو حوار الحضارات في عالم اليوم ... كما أنه يحمل في طياته حوار ضفتي المتوسط وحوار العرب وأوروبا. ولذا حق القول إن التعامل مع عنوان الحوار ينبغي أن يكون على مستوى عال من المسؤولية، والدقة والحذر.

وينبغي، عند مباشرة الحوار التمسك بشرطين لازمين: المعرفة والتضامن. ذلك أن الجهل عدو الحوار وعدو السلام. فكيف بالتجهيل أو التجاهل؟ واحترام الآخر لا يكون إلا على أساس معرفته حق المعرفة. فالمعرفة طريق المشاركة في صنع المستقبل. والمشاركة تعني التضامن في السراء والضراء، وعلى قاعدة الحق والعدل.

إن بناء الحوار على أساس المعرفة والتضامن يسمح بالتمييز بين الغث والسمين، وارتياد الآفاق الواسعة واقتراح عناوين وموضوعات بأفق تجديدي غير تقليدي وبروح براغماتية نابعة من الخبرة والممارسة أو العيش المشترك.

أ- هناك أولاً تحفظ إسلامي على حوار اللاهوت وعلم الكلام. إن هذا الحوار مرغوب ومطلوب، لكن مجاله هو العلماء والمحافل العلمية وليس الصحف والمجلات والمنتديات العامة. والحاجة الماسة اليوم إلى حوار الحياة والعيش المشترك، حوار قضايا المجتمع والإنسان لاستنطاق قيم الأديان واستنباط صيغ مجتمعية ومواجهة ظروف وتعقيدات عالم اليوم.

ب- في مواجهة النظام العالمي الجديد القائم على القوة المادية المتسلطة والعمياء، وفي مواجهة الفقر والجوع والتخلف والانهيارات الكبرى المادية والمعنوية في الدول والأمم، وفي الشعوب والأجناس والأعراق، لا بد من قيام حلف جديد، كتلة تاريخية صاعدة، جبهة إيمانية مشتركة، تضم المؤمنين، على قواعد وأصول التوحيد الإبراهيمي وفي سعي مشترك لبناء عالم أفضل تسوده قيم الحق والعدل والكرامة.

ج- لا بد من التعرف المتبادل على قضايا الإيمان والفكر الديني لدى الطرفين، أو أطراف حوار الأديان. من هنا فإن تدريس تاريخ الأديان المقارن وتاريخ الفلسفات والأفكار الدينية وتاريخ الجماعات المختلفة، هو المدخل لبناء نظرة جديدة موحدة أو مشتركة. إن التاريخ الموحد ليس تاريخ الأديان والمذاهب، وليس تاريخ القبائل والجماعات، إنه تاريخ النظر المشترك للوطن والدولة، إنه تاريخ الحاضر والمستقبل.

د – المطلوب هو التعرف النقدي على المساهمات المسيحية في الحضارة العربية الإسلامية، وإعطاء معنى جديد للعروبة يخرجها من إطار الهوية السياسية ويطرحها باعتبارها واقعاً حضارياً مشتركاً يمثل تاريخ المسلمين والمسيحيين في هذه المنطقة ولغتهم وثقافتهم وطريقة عيشهم ونمط تفكيرهم. ولبنان هو المكان المميز لإعادة النظر في مفهوم العروبة وإعادة إنتاج مفهوم ومضمون جديدين لها.

هـ - المشاركة في صوغ مشروع حضاري عربي جديد وطريق عربية نحو الحداثة والمعاصرة مرتكزة على القيم الروحية والأصالة الذاتية للمجتمعات العربية. فمن الوهم الاعتقاد بحداثة منقولة عن النموذج الغربي، ومكررة له. ونموذج الحداثة الغربية لم يعد أصلاً مثالاً وقدوة حتى في نظر الغربي الذي يعيد النظر فيه.

ونحن مهيأون في لبنان أكثر من غيرنا للإفادة من التجربة الغربية ونتائجها ومن الممانعة الإسلامية ونتائجها، وصوغ نموذج تطور وحداثة نابع من الهوية العربية الشرقية الإسلامية – المسيحية، يكون أكثر روحانية وأكثر انفتاحاً على التراثات الاخرى وأكثر تفاعلاً من المصير البشري.

و- علاقة الدين والمجتمع، الدولة والمجتمع، الدولة والدين، مواضيع انشغل وينشغل بها أكثرية المسلمين والمسيحيين اليوم، ويسودها الكثير من الخلط والإبهام وعدم الدقة. إن دعوة الشيخ شمس الدين إلى دولة مدنية في لبنان وفي المجتمعات المتنوعة ينطلق من ضرورة التوازن بين الدولة والمجتمع والدولة والدين. إن العلاقة بين الدين والدولة تكمن في إحلال الانسجام والتناغم بين الوسائل التي تستخدمها الدولة لتأمين إدارة النشاطات المشتركة في المجتمع وضبطها، والغايات التي يعينها لها الدين. فالدين ليس عقيدة مجردة ومستقلة عن كل شيء، بل هو الطريقة التي من خلالها يتوصل مجتمع ما إلى وعي نفسه ووعي صلاته بالطبيعة والعالم والكون. وبهذا المعنى فإن إحلال التناغم والانسجام في الصلات بين الدولة والدين يعني تنظيم الصلات بينهما. إن الدولة لا يمكنها أن تكون علمانية أو دينية بل هي جهاز إدارة له وسائله التي ينتقيها بسبب فاعليتها ومردوديتها فيما تظل غايتها مرتبطة في جوهرها بالقيم التي يؤمن بها المجتمع.
ز- مسائل الأقلية والأكثرية، المواطنة والذمية، الحكم والإدارة، وهي قضايا تثيرها الصحوة الإسلامية الراهنة والتوترات المرافقة لها. والمطلوب جهد إسلامي لتوضيح ونشر الموقف الشرعي من هذه الأمور، مثلما أن المطلوب جهد مسيحي مماثل للإطلاع والتعرف على الرأي والموقف الإسلاميين من مصادرهما (الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، طارق البشري، محمد سليم العوا، محمد عمارة، عادل حسين، الشيخ محمد الغزالي، يوسف القرضاوي، فهمي هويدي، فتحي عثمان، الشيخ راشد الغنوشي، حسن الترابي، منير شفيق، بشير نافع، توفيق الشاوي، أحمد بن بللا، عادل عبد المهدي، محمد بحر العلوم، الخ ... كأسماء على سبيل المثال لا الحصر).

إن بلورة الوعي المسيحي العربي بأنه شريك في الحوار وليس ملحقاً بالكنائس العالمية، وبأن المسيحية العربية هي ضحية الغرب كما هي ضحية النظام العالمي وإفرازاته المحلية، وبلورة الوعي الإسلامي العربي بأصالة الحوار ومبدئية العيش المشترك – إن هذا هو الطريق للنهضة الحضارية الشاملة للديموقراطية والعدالة والتنمية والسلام.

نحو جبهة إيمانية مشتركة
إن الدين في بلادنا هو المدخل الأول لبناء مجتمعاتنا ثقافياً ونفسياً ومسلكياً واجتماعياً. إنه الثابت الرئيسي الحاسم لأنه يتناول موقف الإنسان من خالقه وخلقه وجماعته والجماعات المحيطة به والظروف الطبيعية المادية التي يتعامل معها وهو يخاطب الإنسان في كل أبعاده: الإنسان في الطبيعة، الإنسان كفرد، الإنسان وسط جماعته، الإنسان "خليفة الله على الأرض" "الوارث للأرض" "المخلوق على صورة الله" "الذي سجدت له الملائكة"، الإنسان الذي علمه الله الأسماء كلها، "علمه بالقلم ما لم يعلم".

لذلك قيل "من عرف نفسه عرف ربه" ... إن الدين والتشريع الديني في بلادنا يعكسان مواقع شمولية لربط الخاص بالعام، والمحدود بالكلي، والزمن الذاتي الآتي بالزمن الشامل الجماعي، والجيل الواحد بالأجيال المتواصلة، والإنسان الفرد بالجماعة، والجماعة بالجماعات. وإن ارتباط الشرع الديني بالغيب والتجريد لا يجعله غير واقعي كما يقول أصحاب النظرة الوضعية بل العكس ستبدو نزعة الدين هي الأكثر علمية وعقلانية وواقعية إذا رأينا الأمور من مواقع شمولية وعامة وإنسانية، فالنزعة الوضعية تنطلق من زمن فردي آني مباشر، بينما تنطلق نزعة الدين من زمن جماعي طويل ممتد. وتنطلق النزعة الوضعية من العفوية والغريزة بينما تنطلق نزعة الدين من العقل والحكمة. فالنزعة الوضعية تنطلق من "حيوانية" الإنسان ساعية إلى تنظيم انسانيته، بينما تنطلق النزعة الدينية من إنسانية الإنسان ساعية إلى تنظيم "حيوانيته" وهكذا يعمل الدين بإنطلاقه من الشمولية والتوحيد، ومن الإنسان كإنسان لاحتضان المؤقت والفعل الآني والغريزة أو الفطرة الفردية والجماعية، ولا يعتبر شرعيتها إلا عند قدرته على تنظيمها واحتوائها وتصريفها لمصلحة الإنسان ضمن زمن شمولي وتجربة عامة. الدين يرى الفطرة أو الواقع الإنساني في عموم تجاربه. ولهذا جاء في الحديث الشريف "أعلم أن القلم قد جرى بما هو كائن". ولهذا فالدين نفسه هو حاجة فطرية، بل هو الفطرة الإنسانية التي فطر الله البشر عليها لمساعدتهم على مواجهة شؤون دنياهم بأفضل ما يمكن بدءاً من المحافظة على الجنس، إلى تواصل الأجيال، إلى تنظيم شؤون العيش المباشرة، إلى العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، وعلاقته بالطبيعة وبما راء الكون والخليقة.

لذلك فإن الخلاف ليس بين نزعة دينية مثالية ونزعة وضعية واقعية، إذ إن الوضعي سيصنع في النهاية شريعته، دينه، آلهته، التي تدافع عن مصالح خاصة وآنية وجزئية، وتخضع المصالح الكلية للمصالح الآنية والجزئية، بينما ستصل الشريعة إلى منطلقها الله، وغايتها الله الذي لا شريك له، الواحد الأحد، الذي يتجسد في كل شيء وفي لا شيء، الذي هو في كل مكان وفي لا مكان، وفي كل زمان، وفي لا زمان ستصل الشريعة هذه إلى جعل الإنسان في الدنيا منطلقاً يستطيع إن هو عرف نفسه، أو عرف الله فيعرف نفسه، أن يتحرر من أصنامه المادية والوهمية فيرى مصالحه بشتى مستوياتها الآنية والمقبلة، والخاصة والعامة، بأفضل ما يتلاءم مع صفته كإنسان.
إن هذا يعني أنه من الضروري امتلاك نموذج حضاري مسبق قائم على عموم التجربة ومجمل الفهم للإنسان ونوازعه، كما تسعى إلى ذلك الفلسفات ونماذج الحضارات والشرائع كل بمستواها.

لذلك عندما يقول روجيه غارودي "إن المجتمع الرأسمالي هو أول مجتمع في التاريخ لا يقوم على أساس أي مشروع حضاري" فإنه لا يقول الحقيقة فحسب، بل يتكلم على قمة خط التطور العالمي القائم على النزعة الوضعية.

إن الإنطلاق من النظرة الدينية ومن الأصول الكبرى للتوحيد الإبراهيمي، لصوغ مشروع حضاري جديد هو الذي يسمح للحوار بأن يكون ولوداً خلاقاً، فيستنطق الخبرات والتجارب ويضع التفكير الديني في سياق مجتمعي تعددي، ويعيد اكتشاف القيم والمبادئ الروحية والأخلاقية والإنسانية المشتركة داخل خبرة وتراث الجميع، ومن أجل الجميع. إن المشروع الحضاري الجديد يرى الفطرة فيحترمها في مكانها. ويرى العقل فيحترمه في مكانه، ويرى بقية الضرورات والحقائق فيضعها في مكانها أو يسعى لأن يضعها في مكانها. إن الدين وقيمه ومبادئه، يصبح منطلقاً للحوار لا موضوعاً له. ويصبح هو الموقف الحضاري الأعظم ليس لأنه يحقق انجازات مادية أعظم فقط، بل لأنه يحقق أصلاً وأساساً إنجازات إنسانية أعظم، ضمنها تصبح المادة إنسانية والمثال إنسانياً، وليس العكس، أي تصيير الإنسان مادياً او مثالياً.

إن هذا وهذا وحده، ينبغي أن يكون هدفاً وموضوعاً للحوار. وهذا ليس فقط ضرورة، إنه مغامرة وككل مغامرة، فإنه يحتاج إلى مغامرين. كان الإمام السيد موسى الصدر في الطليعة منهم.

source