كيف نحقق التعايش؟

calendar icon 14 تشرين الثاني 1996 الكاتب:عباس الحلبي

كلمة القاضي عباس الحلبي عضو اللجنة الوطنية الإسلامية – المسيحية للحوار  في الجلسة الخامسة من مؤتمر "كلمة سواء": الإمام الصدر والحوار

بسم الله الرحمن الرحيم
تثير فيّ هذه الوقفة من على هذا المنبر مشاعر شتى تختلط فيها الذكريات الشخصية مع الأدوار الوطنية والقومية والإسلامية التي قام بها الإمام المغيب السيد موسى الصدر.

إذ على صغر سني في تلك المرحلة ربطتني بسماحة الإمام علاقة صداقة شخصية، كان سببها حادثة مؤسفة جرت لزميل عزيز كريم وأودت بحياته. وتعززت هذه العلاقة بلقاءات ومقابلات وزيارات, خصني بها سماحته كما اتسع نطاقها إلى أن شملت مركزاً ثقافياً مهماً وأساسياً في بيروت للجامعيين الدروز هي رابطة العمل الاجتماعي التي كنت أرأسها، فجرى حوار عاقل وهادئ بين نخبة من مثقفي الطائفة وسماحته امتد لساعات طويلة.

أن أعيد استحضار هذه الذكرى في هذه المناسبة، وعلى هذا المنبر، فلأنني أقول أن سماحة الإمام السيد موسى الصدر كان أحد العناوين البارزة في هذا البلد العامل أبداً للحوار، القابل لآراء الآخرين والمصمم على تكريس فكرة التعايش بين اللبنانيين.

وبهذه المناسبة أتوجه بالشكر العميق إلى مؤسسات الإمام الصدر (مركز الصدر للأبحاث والدراسات) على تنظيمها هذه الدعوة المفتوحة للحوار حول موضوع أساسي من المواضيع اللاهبة وهو التعايش، وأخصّ بالشكر حضرة الفاضلة الجليلة المجاهدة السيدة رباب الصدر الحارسة الأمينة للتراث الإنساني الكبير الذي خلفه سماحة الإمام وحاملة الأمانة، وهي صاحبتها، على مضيها في هذا الخط الذي لا بد وأنه منتصر في النهاية.

أيها السادة والسيدات،
لقد أخذت على عاتقي مهمة تفصيل بند من بنود هذا البرنامج المعد على يومين لمقاربة موضوع هام هو موضوع التعايش. ولا بد أن زملاء كراماً يفوقونني قدرة وخبرة في معالجة جوانب كثيرة من هذه المواضيع المطلوب بحثها قد أفاضوا في تفصيلها بكل موضوعية وعلمية وجرأة. لقد اخترت لنفسي باباً ألج من خلاله إلى طرح بعض الأفكار حول موضوع: كيف نحقق التعايش عملياً؟

أيها الإخوة والأخوات،
عندما نتحدث عن التعايش فإنّما ذلك يعني أننا بصدد مجتمعات متنوعة وهذا الموضوع ليس مطروحاً في لبنان فقط، إنه المحور المركزي الأهم في نهاية هذا القرن في العالم أيضاً الذي يشهد في عصر الانترنت يقظة جديدة لمشاعر القومية والمناطقية والعرقية والطائفية (البوسنة – الفليبين – سري لنكا – إيرلندا- قبرص – روسيا – كاراباخ الخ ...)

أما في لبنان فقد اتخذ هذا المفهوم أبعاداً خاطئة عند اقترانه بمعنى وضع المسلمين في مواجهة المسيحيين وبالعكس، واقتصاره على هذا المعنى. ان ذلك برأينا يعتبر تبسيطاً لهذا المفهوم يؤدي به إلى حافة اللامعنى، ليس من قبيل التقليل من أهمية هذا الواقع، إلا أنه من المهم جداً التركيز أن الفوارق أبعد من أن تحصر فقط بين المجموعتين اللتين ذكرتا. فالتنوع داخل كل مجموعة أمر ثابت لا يمكن إنكاره، وليس أدلّ على ذلك من أن حلقات الحرب الأعنف قد جرت بين أبناء الطائفة الواحدة خلال فترة الحرب التي لم تنقضِ نتائجها بعد.

بالأهمية نفسها تبدو الحاجة كبيرة إلى الدعوة إلى التعاطي إيجابياً مع هذه الفوارق ضمن ظروف إقليمية ودولية ربما غير مؤاتية، وهذا ما جعل أحياناً أن التسويات التي شهدها لبنان في أكثر من حقبة تاريخية بدت معدومة الأثر لا بل مستحيلة التطبيق.
إننا نسعى من خلال هذه المداخلة ليس لدراسة هذه الفوارق بل لتحليل الآليات التي تجعل منها سبباً في مجتمع متنوع يؤدي إلى الحروب ودورات العنف.

وبعد انقضاء ست سنوات على تنعم الشعب اللبناني بمرحلة السلم الاهلي الذي أرسته وثيقة الوفاق الوطني. فقد آن للعقل أن يقول كلمته وحان الوقت لوقف شحن النفوس بالغرائز والتخيلات.
إلا أن العقل وحده لا يكفي إن لم يقترن التفكير بمشاكلنا بالصدق والموضوعية والابتعاد عن الاهواء والعواطف، لا سيما عن التشويش الذي سمم نفوس اللبنانيين، وأقول آسفاً أن بعض وسائل الإعلام من خلال بعض البرامج قد اقتصرت على التطرق إلى مواضيع السياسة اليومية التي تثير الانقسام وتضيع الموضوع الاساس عوض التصدي للبحث في المشاكل الأساسية، وذلك بطريقة علمية ومجردة.

وهنا استميحكم عذراً إذا استشهدت بعرض سريع للمراحل التي مرّ بها لبنان منذ القرن السابع عشر إلى اليوم في موضوع التعايش وما أدّى إليه، لأن اللجوء إلى التاريخ يفسّر كثيراً من ظواهر الحاضر.

إن تجربة التعايش برأينا قد مرت في تاريخ لبنان الحديث بثلاث محطات اساسية:
- المحطة الأولى التي بدأت منذ عهد الامير فخر الدين في القرن السابع عشر واستمرت إلى منتصف القرن التاسع عشر وقد تميزت هذه المرحلة بإعطاء التعايش معناه السياسي.

- المحطة الثانية التي امتدت من عهد الأمير بشير الشهابي حتى القائم مقاميتين والمتصرفية، وقد شهدت هذه الحقبة نشوء أول نزاع طائفي شبيه بما شهدناه خلال السنوات الاخيرة، وأفضى إلى إنهاء دور إحدى الطوائف المؤسسة في البلد، لمصلحة طائفة اخرى، ثم لمصلحة الخارج.

- المرحلة الثالثة هي مرحلة إعلان لبنان الكبير التي كرست كيانية لبنان الحالي لكنها حملت في طياتها بذور الفتنة الطائفية المتجددة.

أذكّر بهذه المراحل لأقول في المعنى السياسي أن أي اتفاق يكون على حساب إحدى الطوائف غير مكتوب له الحياة. من هنا سعينا إلى قراءة الاحداث لاستدراك مخاطر الوقوع في الحرب مستقبلاً.

في جزء أول سأتناول الأسس التي يجب الانطلاق منها في أية صيغة ثابتة لأبحث في الجزء الثاني محاولة تشخيص الواقع الراهن لنخلص في جزء ثالث وأخير حول كيفية تحقيق التعايش عملياً.

القسم الأول: الأسس
أستعيد بعض الحقائق والمحطات التي لا يمكن أن يفهم موضوعنا بمعزل عنها وهي برأيي تصنف على مستويين: مستوى المبادئ الاساسية ومستوى المبادئ العملية.
أما المبادئ الأساسية فهي التي يجب ألا تكون ملكاً لأي طائفة او منطقة او اتفاق او عهد، كما أنها يجب ألا تكون محدودة بالزمن، هي المسلمات اللبنانية التي يجب التمسك بها وعدم الخروج عنها لأي سبب من الاسباب.

أولاً: الحقائق الثابتة:
الحقيقة الأولى،
إن لبنان هو بلد التنوع وفيه من الطوائف والملل والمعتقدات ما يعزز هذه الحقيقة. إنني أقول بالتنوع ولا أشاطر الرأي القائل بالتعدد والفارق بين التعبيرين ليس فارقاً لفظياً أو لغوياً فقط، إنه الفارق بين وحدة الانتماء والتأكيد على مبدأ المواطنية الذي يجب ان يدعم ولاء انتماء جميع اللبنانيين إلى وطنهم ودعاة التمايز المبني على جملة أوهام غير مبررة ...

الحقيقة الثانية،
إن لكل من المجموعات التي تشكل الشعب اللبناني خصوصية. وهذه الخصوصية الناجمة عن تجارب تاريخية وثقافية واجتماعية حتمت اكتساب كل من هذه المجموعات شخصية خاصة بها اغتنت بالتفاعل القائم بين بعضها البعض، كما تعززت بالتعاطي الاجتماعي اليومي الذي ولّد أحياناً التباساًَ لجهة الانتماء الطائفي.

الحقيقة الثالثة،
إن تكرار القول إن الانقسام بين المجموعات اللبنانية هو فقط بين المسلمين والمسيحيين يجافي الحقيقة ويتغاضى عن الواقع الراهن، إذ أن الانسجام ليس تاماً حتى داخل كل من هاتين المجموعتين بين المذاهب والجماعات المتكونة منها.

الحقيقة الرابعة،
إن نقاط الالتقاء بين اللبنانيين تتجاوز كثيراً نقاط الخلاف، وإن مراحل الوئام والألفة تفوق، من حيث أهميتها الزمنية ونوعيتها، مراحل التفرقة والانقسام، وليس من باب التعامي عن الحقيقة إذا قلنا إن الاحداث المأسوية التي عصفت بلبنان، ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، لم تكن بسبب التدخلات الخارجية فحسب، بل التعامي يكون إذا حصرنا هذه الأسباب بالمصالح الخارجية فقط. إن للأزمات اللبنانية أسباباً داخلية تعززت وزادت نتيجة إغفال المعالجات الجدية لها، ونتيجة القصور في النضوج الوطني لجهة تشخيص مكامن الداء. وكم أن نتائج مراحل الوئام والالفة أنتجت وطناً منيعاً وقوة اقتصادية وسياسية مؤثرة، وكم أن نتائج مراحل التفرقة والانقسام أدّت بنا إلى أبواب السفارات والتشرد.

الحقيقة الخامسة،
إن اتفاق الطائف الذي كُرّ}س في الدستور اللبناني، يشكل مرحلة على طريق تحقيق الدولة اللبنانية الضامنة لحقوق جميع مواطنيها. إلا أن هذا الاتفاق، مع ما فيه من ايجابيات لم يتصدَّ إلى أسباب المآسي اللبنانية، مكتفياً إلى حد بعيد بمعالجة نتائجها، مما يقتضي السعي مجدداً إلى إعادة فتح باب الحوار بين اللبنانيين لتطوير هذه الصيغة، تمهيداً لإرساء قواعد صلبة تعالج أسباب المحن اللبنانية المتعاقبة، وتضع التصورات والحلول لها.

أيها الأخوة،
إن هذه الحقائق هي برأينا شروط أساسية وضرورية لقيام أي مشروع عملي لبناء الدولة اللبنانية القوية المحصنة من كل مخاطر التفرقة والتقسيم. وإن كل مشاريع الحلول التي لا تستند إلى هذه المبادئ لن يكتب لها النجاح. وانطلاقاً منها وبالقدر نفسه من الأهمية، لالتصاق هذه المبادئ بالكلمات المعبرة عنها، يجب علينا السعي إلى إعادة تحديد معانيها، لنكون جميعاً متفقين على ما تدل عليه وما تعنيه حقاً لجميع اللبنانيين، خاصة إن هذه الكلمات فقدت أحياناً من مضامينها الحقيقية لشدة ما استعملت في سوق الاستهلاك الرخيص المداول وليس آخرها في الحملة الانتخابية التي شهدناها مؤخراً.

ثانياً: على المستوى العملي:
أولاً وقبل كل شيء، الاقرار بحق الاختلاف واعتباره حقاً أساسياً إلى مصاف المعتقدات المقدسة بين اللبنانيين، لا بل أقول: لجعل هذا الحق إيماناً يعتنقه اللبنانيون ويدافعون عنه، لأنه في أساس وجودهم وتنوعهم.

إن هذا الاعتراف يؤدي حتماً إلى تفهم اللبناني لمواطنه ويعلمه احترام الفوارق وبهذين السبيلين يقوم "التعايش" عندها على أساس خيار حر حقيقي في الرغبة بالعيش معاً. إن قبول الآخر وتفهمه يجب أن يقوم على أساس ما هو عليه فعلاً وليس على أساس ما نتمناه له أو قل ما نرغب في أن يكون عليه.

وفي هذا السياق اسمحوا لي ان استعيدكم بالذاكرة إلى أن علة وجود لبنان هي في كونه ملاذاً للأقليات وملجأ لطالبي الحرية. وكم شهدت سماء هذا الوطن وأرضه محاولات لتعطيل هذا المفهوم، إلا ان اللبنانيين تمسكوا بقدر كبير بمبدأ احترام حرية وسلامة الآخر، مما سمح لهم بإيجاد صيغ مكنتهم من العيش بسلام وطمأنينة فترات زمنية طويلة. ومع أن هامش الحرية ضاق واتسع تبعاً للعناصر المحيطة بالكيان اللبناني. إلا أن مبدأها استمر رغم كل التقلبات والعواصف، وستنجو أيضاً في يومنا الحاضر، بما نشهده من محاولات لتعطيلها عبر التوزيعات غير المنطقية لرخص وسائل الاعلام المرئية والمسموعة.

والسؤال الذي يجب طرحه هو: لماذا التعايش؟
إن اللبنانيين، وبخاصة الشباب منهم الذين تلقوا ضربات "وثمار" "التعايش" بمعناه السائد قبل احداث الـ 1975، مدعوون اليوم إلى استمراره، ولماذا الاستمرار والتمسك به إذا كان سيفضي إلى مثل النتائج التي أفضت اليها تجربة سنة 1943؟ وهل أن لبنان يستطيع اليوم تحمل نتائج اختبارات جديدة وأحداث جديدة كمثل التي عشناها على مدى سبعة عشر عاماً؟ وهل أن البلاد مكتوب لها أن تعاني من نفس الأزمات بعد كل مرحلة زمنية قصيرة؟ والجواب طبعاً أننا نرفض هذا المنطق.

إذا كان التعايش بالاكراه وليس خيارا حرا فإنه ليس عيشا مشتركا.

إذا كان التعايش ينظر إليه على (؟) انه خيار تكتيكي مؤقت مفروض بفعل بعض العوامل والظروف فإنه ليس عيشاً مشتركاً.

إذا كان التعايش مقصوداً به تغليب فئة أو هيمنة طائفة على طائفة أو على الوطن فليس هذا عيشاً مشتركاً.

اذا كان التعايش هو في إنتقاء تطبيق بنود اتفاق الطائف، وتعطيل تطبيق احكام اخرى فيه فليس هذا عيشا مشتركا.

إذا كان التعايش هو في اختصار المؤسسات بأشخاص القيمين عليها وإطلاق يدهم في إدارتها فليس هذا العيش المشترك.

إذا كان التعايش هو في احتكار الدولة من قبل بعض المجموعات التي تفتش عن مصالحها الخاصة، وعدم ترك النخبة المؤمنة بوحدة البلد المساهمة في إدارة شؤون البلاد، فلا يؤدي هذا إلى العيش المشترك.

وباستطاعتنا مع الاسف ان نستمر في إطلاق الأمثلة والتوقف عندها إلى ما لا نهاية. حسبنا إعطاء المفهوم الذي نريد أكثر مما نرغب في وضع مضبطة الاتهام.

إن الحد الأدنى المطلوب من التعايش، أيها الاخوة، يجب أن يكون في منع الحرب وجعلها مستحيلة، وليس التعامي عن أسبابها والتكاذب بشأنها، فلا نجد أنفسنا إلا وقد وقعنا في شباكها من جديد. عندها فقط نستطيع أن نطمح إلى خلق الهوية الوطنية المتماسكة، والاستفادة من غنى إمكاناتنا ليصبح ذلك مصدر قوة للبنان من جديد.

القسم الثاني: تشخيص الواقع الراهن
لا بد من التأكيد من أن مرحلة السلم الأهلي التي أرسى قواعدها اتفاق الطائف برعاية دولية وإقليمية كريمة، ودور فاعل مشكور للشقيقة الكبرى سوريا، هي مرحلة مهمة في سياق انتقال لبنان من مرحلة الحرب إلى رحاب السلام الدائم. وما يشغل فكر المخلصين القلق على استمرار هذه المرحلة نتيجة عدم التصدي لأسباب المحنة اللبنانية بالجدية والموضوعية والصدق والصراحة والعقلانية على ما أشرت سابقا. إن الدور السوري المشكور في لبنان هو ضمان لاستمرار السلم الاهلي، وإن على اللبنانيين الاستفادة من هذه الرعاية لإزالة الاسباب التي تهدد وحدتهم وأن يعملوا على بناء دولتهم.

وفي هذا السياق نلاحظ، أننا لا نزال نستعين بوصفات مرحلة ما قبل الحرب لمعالجة نتائجها. وكأن هذه الوصفات قد أتت فائدة حتى نكرر التجربة بالاستعانة بها. وكأن الواقع لم يتغير. ويقيني أن إهمال التمعن بوسائل جعل الحرب مستحيلة، يجعلها دائماً بمتناول اليد عند أول فرصة. لقد نعم لبنان ما قبل 1975 بالبنى التحتية، وكان متقدما عن سواه في خدماته المصرفية والاستشفائية والتعليمية، وكانت فيه المراكز المالية والاقليمية المهمة، وقد استقطب الرساميل والودائع والاستثمارات، ولقب بسويسرا الشرق آنذاك للتذكير. إلا ان كل ذلك لم يمنع من وقوع الازمة، لأن معالجة أسبابها أُهملت أو عولجت خطأ من الطبقة الحاكمة في ذلك التاريخ. ونكرر اليوم القول أن الجهود التي تقوم بها الحكومة لإعادة البناء والإعمار هي جهود مشكورة وضرورية لأنها بذلك تعيد لبنان إلى مصاف الدول التي تؤمن لمواطنيها الخدمات الاساسية، كما أن لا مفر من تحقيقها لأنها ستساعد ولا شك البلد في مواجهة تحديات المرحلة المقبلة وتفتح الطرقات بينهم وتخفف من المعاناة. إلا أن ذلك يجب ألا يصرفها عن الموضوع الأهم، وهو بناء الإنسان اللبناني، وبناء المواطن اللبناني.

وهنا اسمحوا لي في هذا السياق أن أستعرض وإياكم ما بدا لي واضحاً في عدد من الميادين:
1- ازدياد الشعور الطائفي والمذهبي وطغيانه على سائر الانتماءات السياسية والمصلحة الاقتصادية والعلاقات العائلية والاجتماعية.

2- القلق النفسي ومؤدّاه عدم الاطمئنان إلى المستقبل. فأي مستقبل يُهيأ للأجيال الصاعدة القلقة على مصيرها المادي من جهة، وعلى تحقيق طموحها في المشاركة في إدارة البلاد وأخذ الموقع المناسب لها في المجتمع.

3- إن الهجرة ناتجة عن الخوف واليأس من إمكان تغيير الواقع الراهن. وليس صحيحاً أن سبب الهجرة محصور فقط برغبة المهاجر الانطلاق إلى العالم الأرحب لتحصيل الثروة.

4- المهجرون وعدم توفير الإمكانيات المطلوبة والخدمات الأساسية، لتأمين عودة كريمة لهم بعد ستة أعوام من انتهاء المحنة، وهم الجرح النازف الذي يذكرنا دوماً باستمرار الفرز الطائفي المقيت ...

5- الركود الاقتصادي، والأزمة المعيشية، والاستحقاقات الاجتماعية والبطالة، وهذه الأمور كثيراً ما تواجَه بتدابير قد تهدد السلم الاجتماعي.

6- التعديات المستمرة على البيئة وفوضى العمران بما يساهم في شحن الاجواء النفسية بالتوتر.

مكتفياً بسرد هذه الأمثلة حتى لا أطيل الكلام، غير متناس{ أهمية حقول أخرى سبق أن أشرت إليها في سياق هذه المداخلة.

القسم الثالث: كيف نحقق التعايش عملياً؟
لا بد أولاً، وقبل كل شيء العمل على إعادة ثقة اللبناني بلبنانيته وثقته بالدولة، من هنا ندعو إلى عدم تفويت فرصة بناء الدولة الحديثة التي أرسى قواعدها اتفاق الطائف، مما يقتضي بادئ ذي بدء، العمل على استكمال تطبيق هذا الاتفاق حتى يستقيم شأن الحكم. كما يجب السعي إلى توحيد وجدان اللبنانيين، وتوحيد المفاهيم الوطنية بين المجموعات المكونة لهذا الشعب حول حاضره ومستقبله.

ان التعايش، يبقى مجرداً من المعنى إن لم يقترن بإجراءات عملية مستمرة. إنه مسار طويل يجب ان يأخذ حيزاً مهماً من تفكير النخبة التي عليها جمع قواها في حوارات مستمرة، وندوات مفتوحة تؤدي إلى خطط عملية، تواكبها في التطبيق مجموعات مختلطة، ووسائل إعلامية حريصة على تعليم اللبناني قبول الآخر، وحق الآخر بأن يكون مختلفاً، والمصارحة في التعاطي والصدق في المعاملة. إنه على ما يقول الاستاذ كمال الصليبي "الاخذ والعطاء على ضوء الوقائع الاساسية", إنها الكلمة السواء التي نجتمع عليها اليوم.

بهذا التفاعل تتبلور الروح الوطنية، لأن الأمة روح ومبدأ روحي، يؤلفان شيئين ليسا إلا واحداً في النهاية. أحدهما في الماضي, والآخر في الحاضر. أولهما الاشتراك في امتلاك إرث غني من الذكريات، والآخر هو الموافقة على الحاضر والرغبة في العيش معاً. والارادة هي استمرار تقويم الإرث دون انقسام ... إن الانسان لا يرتجل. الأمة كالفرد: ماضٍ بعيد من الجهود، واعتماد برنامج واحد للتحقيق في المستقبل. على ما يقول العلامة إرنست رينان.

أولاً: المطالبة بإنشاء وزارة خاصة للوفاق الوطني. وهذه الحقيبة التي يخصص لها وزير وفريق عمل وميزانية، تتفاعل مع سائر الوزارات التي تؤثر في الرأي العام، كوزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والاعلام وسواها، لتنفيذ خطة الوفاق الوطني وتسويقه بين اللبنانيين وتعزيز المفاهيم المشتركة، وتحقيق البرامج والخطط التي تعلم اللبنانيين مبادئ التفهم والحرية والتسامح، وتنفذ عمليا ما سبق ان كرَّس دستورياً، ان لا شرعية لكل ما يخالف مبدأي الوفاق الوطني والعيش المشترك. وان خلق هذه الوزارة هو لإعطاء الزخم المناسب لهذا الموضوع، والاعتراف بديناميكيته، فيكون دور الوزير قياس التوازن في كل ما يطرح على مجلس الوزراء، وتفعيل المؤسسات الاهلية تحت سقف الوزارة, وإعطاء البعد العملي والشرعي للوفاق الوطني.

ثانياً: بدء البحث، منذ اليوم، بقانون الانتخاب الجديد، حتى يتسنى للجميع المشاركة في النقاش العام حوله، والمباشرة فوراً بإعادة النظر بالتقسيمات الإدارية، حتى لا تتكرر تجارب القوانين المشكوك بدستوريتها، والعمل ضمن خطة جدية، وخلال مدة زمنية غير طويلة على انتخاب النواب على أساس وطني لا طائفي، وتحقيق مجلس الشيوخ الذي تتمثل فيها الطوائف بالتساوي فيما بينها، وإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية.

وإن مجلس النواب، هو الإطار الطبيعي لكل حوار، وهو ضمان الوفاق الوطني بما يمثل اعضاؤه من شرعية التمثيل أعضاؤه من شرعية التمثيل الشعبي، وانعكاس وجهة نظرهم لاتجاهات الرأي العام، وهو الحامي للوطن من الانفعالات الشارعية بما يجري بحثه في أسس التعايش ضمن جدرانه.

ثالثاً: إنشاء فرع في الجامعات اللبنانية لدراسة الفوارق بكل أبعادها، لا سيما الفوارق الدينية، والسعي إلى معرفة الآخر، وتعميق المعرفة، وتلقين أساليب التسامح والتفاعل بغض النظر عن الفروقات اللاهوتية.

رابعاً: تجاوز الحالة الطائفية دون إنكارها عن طريق الاستعانة، بالكفاءات في علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس، لدراسة الشخصية اللبنانية واستخراج العبر من التاريخ ودعم العمل الميداني الكثيف ببعد فكري يؤثر على عامة الناس، ويجعلها تتقبل الأفكار الداعية إلى تعزيز هذا العيش المشترك.

خامساً: الاتفاق على قراءة الأحداث التاريخية على قاعدة الأخذ والعطاء فلا أحد يحتكر الحقيقة.

سادساً: ودون المساس بحرية التعليم، وضع ضوابط للمؤسسات التعليمية على ضوء الحقائق التي سردناها في مطلع هذه المداخلة، حتى لا تنتج أجيالاً متنافرة بسبب برامجها غير المنسجمة.

سابعاً: تحقيق الاصلاح الاداري، وعزل الإدارة عن التأثير السياسي، كي يتأمن للمواطن الخدمة دون الحاجة إلى الوساطة والشفاعة، وبما يحرره من الاستزلام للحصول على هذه الخدمة، وزيادة الاحترام والولاء من المواطنين للإدارة التي هي أداة التفاعل بينهم وبين الدولة.

ثامناً: تعزيز دور اللجنة الوطنية الإسلامية – المسيحية للحوار، وتمكينها بالإمكانات التي تسمح لها بأداء دورها فاعلاً في الاوساط الشعبية والوسائل الاعلامية.

تاسعاً: التأكيد على أهمية إقامة المخيمات الشبابية المختلطة والنوادي الرياضية.

عاشراً: وأخيراً، تدعيم المجتمع الاهلي، وخلق الأطر الثقافية والمدنية التي تساهم في تكريس التعايش المشترك، وتخلق تفاعلاً بين المواطنيين والدولة يشاركون في إدارة شؤون البلاد.

الخاتمة
أيها الأخوة والأخوات
لقد تساءلت وانا اعدّ هذه المداخلة، لماذا مكتوب على اللبنانيين دوماً القلق على مصيرهم؟ بل لماذا قلة إيمانهم بحقيقة وجودهم ضمن كيان نهائي: وهو الكيان الذي صمد ردحاً طويلاً من الزمن وتجاوز الأعاصير والمحن، وثبت على خريطة العالم، بينما امبراطوريات تفوقه كبراً واهميةً زالت من الوجود.

ان أيّ شعب يصبح قوياً عندما يملك فكرة بمقدورها أن تخلق لدى جميع أفراده نفس المشاعر ونفس الافكار، وبالتالي نفس الأفعال، كما يقول أحد علماء الاجتماع. فليكن إيماننا بوطننا قوياً، ولنعمل على صيانة حريتنا، ولنحقق تعايشنا بالثقة بالنفس كما أوحاها لنا سماحة الإمام، وكما جهد إلى تحقيقه، وهو الذي أدرك هذا الواقع وسعى إلى تغييره.

إن لبنان صعب ولكنه ممكن.

source