حول تفسير القرآن الكريم

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

"مجلة الزهراء" القاهرية، عن جمعية الدراسات الإسلامية - السنة الأولى - العدد الأول - ذو القعدة 1391 هـ. 1971 م

بسم الله الرحمن الرحيم

إن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه وبمعانيه وبترتيب سوره وآياته. وهذا المبدأ هو سبب خلود الإسلام دون سائر الأديان، وهو الجواب عن مشكلة التطور، وهي مشكلة شائعة ومستعصية، تعتمد على استحالة توجيه نصوص معينة، لمجتمعات متطورة، وعلاقات متغيرة وظروف حياتية تتباين في الفترات المختلفة التاريخية. فالأوضاع الاجتماعية، والعلاقات المختلفة القائمة في هذا العصر، تختلف تمام الاختلاف عن الأوضاع والعلاقات التي كانت في عهد ظهور الإسلام. فكيف يمكن لقوانين ونصوص واحدة أن تنظم هذه الأمور في الحالتين معًا؟

وقد حاول بعض علماء المسلمين ومفكريهم أن يجيبوا على هذا السؤال بطرق عديدة، ولكني أجد في نتائج هذا المبدأ الذي قدمت به البحث جوابًا كافيًا عنه.
إن المفهوم من الكلام أي كلام وإدراك المقصود منه له شرطان:

الشرط الأول: الالتزام بدلالة اللفظ من حقيقة ومجاز على أنواعه بالدلالات الإلزامية، والاشارات، والتنبيهات، وغير ذلك من أبعاد الدلالة.

الشرط الثاني: وبعد ذلك كله، علينا أن نأخذ مستوى وعي المتكلم وثقافته بعين الإعتبار ولا يمكن حمل الكلام مفهومًا يفوق معرفة المتكلم، ودرجة انتباهه.

ولذلك نجد أن كلامًا واحدًا صادرًا عن الطفل، أو الإنسان العادي يختلف فهمه عن نفس الكلام حينما يصدر عن إنسان واعٍ، أو عالم كبير أو مسؤول يقظ.

ولذلك أيضًا نجد الاهتمام والدراسة من المعنيين دائمًا بدقائق كلمات المسؤولين، وجميع قيودها، وما ورد من تقديم أو تأخير، أو تعريف أو غيره، ونرى التفاسير والأبحاث حول نصوص الإتفاقيات ومداليلها، وفي فهم القوانين، والمراسيم وأبعادها، نرى كل هذا شاهد صدق على أن مستوى معرفة صاحب الكلام وانتباهه، إطار لفهم كلامه وشرط أساسي لإدراك مقصوده ومرامه.

أما الرمزية في التعبير، واستعمال الكلمات كإشارات لمعانٍ أخرى، فلا يمكن الإعتماد عليها إلا مع اتفاق مسبق، بين المتكلم والمخاطب كما تستعمل في المخاطبات السرية المتعارفة.

وبناء على هذا الأساس، فإن صدور القرآن الكريم بألفاظه الموجودة لدينا يجعله ذا طابع مميز، يختلف به عن جميع الكتب والكلمات، ويختلف فهم معانيه، وتفسير كلماته عن بقية الكلمات والنصوص، حتى عن الكتب المقدسة الأخرى. ذلك لأن علم الله لا حد له، ولا يعزب عن علمه ﴿مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر﴾ [يونس، 61]، ولا يشغله شيء عن شيء، وهو ﴿الذي خلق فسوى  والذي قدر فهدى﴾ [الأعلى، 2-3]، وأعطى لكل شيء قدرًا وصفة وميزة وخاصية معينة.

وهذا يعني أن فهم القرآن الكريم وتفسيره، إذا رُوعي فيه الشرط الأول فهو ليس محتكرًا على المفسرين الأوائل رضوان الله عليهم، بل يحق لنا أن نفهم القرآن بتعمق أكثر، وبخبرة متجددة، مع الاستعانة بمعلوماتنا، وتجاربنا المتزايدة في مختلف الحقول، وذلك عندما التزمنا بالمصطلحات القرآنية وبردّ المتشابهات إلى المحكمات، وعدم تحميل الكلمات معانٍ لا ترتبط بها. وإن التأمل في القرآن الكريم، والتعمق فيه، وتجديد دراسته، يجعل أمام الإنسان المسلم معانٍ جديدة وصحيحة، تختلف عن التفاسير السابقة والمستخرجة منه ولا مانع في الأخذ بها والعمل عليها ولا تناقض بينها وبين المعاني السابقة للمفسرين الأوائل بعد أن كان المتكلم هو الله، وبعد أن أمكن فهم المعاني جميعها من القرآن.

وهذه ميزة خاصة بالقرآن الكريم كلام الله، لأن الكلام إذا صدر عن أي متكلم فإنه لا يمكن أن يفهم منه معانٍ تتجاوز حدود ثقافة عصر المتكلم والمعلومات المتوافرة لديه، وهذا هو الحد بين كلام الخالق والمخلوق، اللهم إلا المخلوق الذي لا ينطق عن الهوى، بل يتحدث عن وحي يوحى إليه.

قال تعالى: ﴿وما تنفقوا من خير يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [البقرة، 272]. يقول أكثر المفسرين أن جزاء الإنفاق يوفى إلى المنفق يوم القيامة، حيث يجد الإنسان جزاء عمله، دون ظلم، أو حرمان أو سهو في الحساب، وهذا معنى صحيح قرآني ينسجم مع آيات قرآنية أخرى. ويمكن تفسيرها بصورة أخرى على ضوء علومنا وتجاربنا الاجتماعية، وهي:

إن الإنفاق إنعاش للعائلات الفقيرة والفئات التي لا تملك وسائل كافية للحياة الكريمة. وهو بالتالي يؤدي إلى تأمين هذه الحياة لها، وتوفير الصحة، والتغذية والتعليم، والتربية لأولادها، وهذا يعني مشاركة عناصر جديدة في بناء المجتمع، ورفع مستواه، والمستفيد من المجتمع ومستواه الرفيع، هو المُنْفِقْ والمُنْفَق عليه دون تفاوت. وحتى المُنْفِقْ مستفيد من المجتمع الأرقى حسب حياته ونشاطاته الواسعة، أكثر من المنفَق عليه، وفي الحياة الدنيا قبل الآخرة، وبمادته قبل معناه.

أما العكس، أي ترك الإنفاق فمعناه إهمال مجموعات من المواطنين يتخبطون في فقرهم، ومرضهم وجهلهم، ولا يشاركون في بناء مجتمعهم، وهذا يؤدي إلى حرمان المجتمع من طاقاتهم، وعدم بلوغه المستوى المطلوب. ثم أن هذا الوضع يجعلهم معرضين للأمراض التي لا تقف عند أولاد الفقراء، بل تتجاوزهم إلى جميع المواطنين، والأمراض الأخلاقية والمسلكية الناتجة عن الفقر أيضًا تشمل الجميع.

وبعد ذلك، فإن العقد النفسية التي تتكون في مثل هذا الوضع، والمشاعر السلبية التي تنبت في هذه المجتمعات غير العادلة، تعرضها للهزات والانفجارات التي لا ترحم ولا تعدل، وتهدر من ثروات المجتمع بصورة لا واعية الكثير الكثير.

والآن نتلو الآية الكريمة مرة أخرى: ﴿وما تنفقوا من خير يوفَ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ [البقرة، 272] فنجد معنى آخر لعبارة ﴿يوفَّ إليكم﴾، ولعبارة: ﴿وأنتم لا تظلمون﴾؛ والمعنى الجديد ليس خارجًا عن المدلول الإستعمالي للكلام، وهو ينسجم مع مواضيع أخرى من كتاب الله ومن جملتها الآية الكريمة: ﴿وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ [البقرة، 195] حيث إن الجملة الثانية نتيجة حتمية للجملة الأولى، وتأكيد على أن في عدم الإنفاق تعرض للهلاك الجماعي، لما يترتب عليه من المشكلات الأخلاقية والاجتماعية.

وعندما اعتبرنا مفهومًا شاملًا للإنفاق، فإنه يشمل الإنفاق بالنفس أيضًا كما يؤكد ذلك ورود الآية الكريمة في سياق آيات الجهاد، فيصبح المعنى مبدأً عامًا إسلاميًا، هو أن المطلوب من الإنسان أن يقدم من ماله، وفكره، وطاقته ونفسه في سبيل الله. ومن سبل الله خدمة خلقه الذين هم كلهم عيال الله، ويكون الإنسان بذلك قدَّم بصورة مشرفة إلى الله سبحانه وتعالى الذي هو خير من يُعطى له.

أما إذا امتنع عن هذا البذل وهذا الشرف، فقد تعرض للهلاك فيؤخذ ماله، أو طاقته، أو فكره أو نفسه بصورة أخرى، وهي صورة انفجار المجتمع أو سيطرة الأعداء أو غير ذلك. فتلازم الإنفاق وعدم الهلاك هنا، مثل تلازم الإنفاق وعدم الظلم هناك.

مثال آخر:
قال تعالى: ﴿والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون﴾ [الذاريات، 47] فلنقف عند جملة: ﴿وإنا لموسعون﴾، ونتذكر ما يقوله الأدب العربي من دلالتها على الإستمرار والتجدد، بالإضافة إلى التأكيد القاطع، ثم نلاحظ ما وصل العلم إليه من امتداد العالم وتوسعه وتجدد كرات سماوية باستمرار، وتجمد الأبخرة السديمية إلى كرات جديدة.

نقف عند هذا المعنى الجديد ونتأمل لكي نرى انطباق لفظ الآية الكريمة تمامًا عليه، دون أن نتردد في إمكانية قصد المتكلم لهذا المعنى بعد أن صدر الكلام عن الله الذي كانت ﴿السماوات مطويات بيمينه﴾ [الزمر، 67].

ولنستمر في قراءة هذه الآيات المعجزات: ﴿والأرض فرشناها فنعم الماهدون﴾ [الذاريات، 48] وجمال الصورة يكتمل مع إدراك حركة الأرض التي تجعلها قريبة وشبيهة بالمهد، أو بالمهاد، كما ورد في آية أخرى.

ثم تأتي الآية الثالثة: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ [الذاريات، 49]، وشمول الأزواج لكل شيء حتى الجمادات والنباتات والطاقات وحتى الذرات... هذه الحقيقة الكونية التي عرفها الإنسان مؤخرًا هي شمول الأزواج لكل شيء، أنسب للآية الكونية من المعنى الذي كان يفهمه الإنسان المطلع على الأزواج في الحيوانات وبعض النباتات فقط.

وعلينا أن نضيف بمناسبة ورود عبارة ﴿لعلم تذكرون﴾ [الذاريات، 49]، التي هي بمنزلة العلة والغاية من هذا العرض، والتي تتضح أكثر بقراءة الآية التي تليها ﴿ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين﴾ [الذاريات، 50] علينا أن نضيف لهذه المناسبة أن القرآن الكريم يستعرض هذه الآيات الكونية وغيرها لغايات تربوية، لا أغراض علمية. فالقرآن كتاب هداية ودين وتربية، وليس كتابًا للفيزياء أو الكيمياء أو علوم الطبيعة.

والمقصود من هذه الآيات وأمثالها الكثيرة، فهي دعوة الإنسان إلى التدبر، والتأمل في الكون وظواهره وغرائبه لغايات تربوية، ولمزيد من المعرفة بالله وآثارها في الحياة.

وهي من جانب آخر، وضع مسلك صحيح أمام الإنسان الذي يتصدى للعلم، واكتشاف الحقائق الكونية. وذلك المسلك الذي يجعل كل حقيقة في موضعها، ويعتمد على أن هذه المستكشفات كلمات في كتاب الله الواحد، كتاب الكون، فيزداد بذلك معرفة بالله، وخشية منه وتواضعًا، ولا يتحول الإنسان إلى طاغية مغرور.

الخلود والتطور:
على أساس هذا المبدأ نصل إلى أن حقائق القرآن، وتعالميه وعلومه بحار لا تنضب، ونتأكد من أن في القرآن توجهات غير متناهية، تزود الإنسان المسلم إذا أراد في تنظيم حياته من الخلود ونصل إلى حل واضح وشامل لمشكلة التطور التي أثرناها في بدء الحديث، فلنفكر في معنى التطور، ونتساءل ما هو التطور؟
إن التطور ليس دخول عنصر جديد في حياة الإنسان، ولا غياب عنصر عن مسرح الحياة البشرية، ولكن التطور هو التفاعل المستمر بين الإنسان والكون. إن الإنسان منذ أن خُلِق وقف أمام الموجودات الكونية يتأمل فيها ويفكر، فيستكشف موجودًا أو طاقة، ثم يسيطر على ما استكشفه ويستثمره، فيغير بذلك حياته ومحيطه، وهذه خطوة في طريق التطور الطويل تتلوها خطوات.

قرأ الإنسان سطرًا من كتاب الكون، فعرف النار، فاستثمرها، فجعل من ليله نهارًا، ومن برده دفئًا، من نيّه مطبوخًا، ومن سلاحه وسيلة أمضى، ثم استمر إلى أن وصل إلى معرفة النفط، والذرة، والجاذبية وغير ذلك فاستثمرها كلها فتغير وتطور، وغيَّر وطوَّر.

هذا هو فهرس كتاب التطور، وتحديد دقيق للحقيقة الأزلية الأبدية التي يحياها الإنسان، تفاعل بين الإنسان والكون ليس إلا، فلا وجود جديدًا ولا انعدام موجود قديم.

وإذا وضعنا إلى جانب هذين العاملين البطلين في مسرح الحياة أي: الإنسان والكون، إذا وضعنا إلى جوارهما عاملًا آخر: وهو القرآن، وتذكرنا ما ورد في هذا البحث نصل إلى الجواب عن المشكلة، وتبرز بوضوح الصورة الكاملة التي أرادها الله أن ترسم على الأرض:

إنسان مخلوق حوله الموجودات الكونية، بينه وبينها علاقات وارتباطات، يريد أن يعرف الخط الصحيح في حياته وفي ممارسة علاقاته مع الكون ومع بني نوعه، فيجد أمامه الدين، كتاب الله يوجهه فيتفاعل، ويتطور، فيجد نفسه أمام علاقات جديدة، ثم يرجع إلى كتاب الله ويهتدي فيه بتعاليم إلهية وهكذا.

والعوامل الثلاثة تستمر مقترنة ومقارنة، والقرآن الكريم ينظم العلاقات المتطورة، بين العاملين الآخرين بصورة متطورة، وإلى الخلود.

هذه الخطة الإلهية المرسومة للإنسان تفصح عنها سورة الرحمن التي تجعل في الترتيب، تعليم القرآن قبل خلق الإنسان في قولها ﴿الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان﴾ [الرحمن، 1-3] وذلك لكي يجد الإنسان منذ أول موقف حياته أمام الكون هاديًا وموجهًا وسبيلًا.

ولكن الأمة التي عاشت فترة قليلة مع القرآن ثم جمدته واستعملته بصورة شكلية وفي طقوس سطحية فقط، ثم تطورت مع الكون وخضعت بالتالي للتطور الذي يحصل من تفاعل الآخرين مع الكون بمعزل عن القرآن، هذه الأمة ماذا تطلب؟ وما عساها تستفيد من القرآن الذي عزلته عن مركز القيادة والتوجيه؟

أما الآن فإذا حاولنا أن نخضع نهائيًا للتطور الاجتماعي العالمي، وإذا استسلمنا دون أن نطور حياتنا ومفاهيمنا عن ديننا، ومقاييسنا الإسلامية، حسب الأوضاع الحياتية التي حصلت ونكون بمعزل عن توجيه القرآن الكريم، إذا حاولنا ذلك واستسلمنا، فقد خنا أمانتنا، وذبنا وفقدنا كل شيء.

ليس المطلوب رفض التطور، والإستفادة من المكاسب الإنسانية القائمة، ولكن المطلوب أن لا نفقد ذاتيتنا وأصالتنا، وأن نجعل الإنتاجات البشرية الحديثة في إطارنا الأصيل، وأن نزنها بمقاييسنا فنرفض، ونختار ونبني من جديد أمة أصيلة، بما لكلمة الأصيل من أبعاد فكرية، وتاريخية وعلمية.

إن القرآن صانع التطور، وقد جربته البشرية قرونًا عديدة، إنه مطوِّر. أما التطور المفروض من الخارج، ومن قبل الأوضاع التي صنعت من الآخرين فهذا استسلام مرفوض، وليس كمالًا، بل إنه فناء وأي فناء.

source