قضية زيد -2-

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسولهُ أمرًا أن يكون لهمُ الخيرةُ من أمرهم ومن يعصِ اللّه ورسوله فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا﴾ [الأحزاب، 36]
صدق الله العظيم
هذه الآية ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسولهُ أمرًا أن يكون لهمُ الخيرةُ من أمرهم ومن يعصِ اللّه ورسوله فقد ضلَّ ضلالًا مبينا﴾ بداية لحقيقة قرآنية معروفة حصلت في أيام الرسول (ص)، ولكنها تشوهت من قبل الجاهلين ومن قبل أعداء الإسلام، فاستُغلت هذه الآية وهذه الواقعة واتهموا رسول الإسلام بما هم أولى بحمله منه.
هذه القصة، هي قصة "زيد بن حارثة"، الذي تبناه الرسول قبل الإسلام، وبين "زينب بنت جحش" زوجته، وهي بنت عمة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. قالوا أن رسول الله (ص) إذا أعجبته امرأة فهي تحرم على زوجها، ويحق للرسول أن يتصرف فيها.
سبحان الله، يتهمون نبي الرحمة الذي عاش عمره المديد منذ أن كان عمره خمسًا وعشرين سنة إلى أن صار عمره ثلاثًا وخمسين سنة، عاش مع "خديجة" (س) التي كانت أكبر منه بخمسة عشرة سنة، عاش معها سعيدًا بعيدًا عن الأهواء. ولم يُرَ "محمد" قبل ذلك في بيوت البغاء والفساد رغم كثرتها وانتشارها في مجتمع مكة.
هذا النبي تزوج لأسباب سياسية من بعض النساء، كبيرات في السن أو صغيرات، ولكل زواج قصة وحكمة، وهو بعيد عن الشهوات كما اتُّهم بها. قالوا أنه رأى ذات يوم "زينب" وهي تغتسل فأُعجب بها، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم رجع "زيد" إلى بيته وأخبرته بذلك، فجاء عند الرسول وطلقها وتزوج منها الرسول. هذه الكذبة التاريخية التي انتشرت في كتب أعداء الاسلام، واستقيت من كتب المسلمين الجاهلين أيضًا لا نحتاج إلى البحث الكثير فيها.
نعيد إلى ذاكرة المتهمين، أن "زينب" كانت بنت عمة الرسول أولًا، وقد تربت لأنها كانت يتيمة، ومحمد كان يتيمًا، تربت مع النبي منذ الطفولة في بيت واحد، أي في بيت "عبد المطلب"، إذًا، كان النبي يعرفها.
ثانيًا، إن "زينب" عندما وردت القصة تلك، وتزوج منها رسول الله كان عمرها سبعة وأربعين سنة، وكان عمر الرسول قرابة الستين. ولم يكن الوصف الذي ذُكر في كتب الأعداء صحيحًا إطلاقًا.
ثالثًا، عندما خطب رسول الله "زينب" لـ"زيد"، وهو ابنه بالتبني، قالت "زينب" وقال أخوها: نحن على استعداد للزواج، لأنهما كانا يفكران أن الخاطب هو "محمد"، ولكن بعد أن وجدا أن الخطبة لـ"زيد" تنكرا لذلك، وأنكرا كيف يمكن لبنت "عبد المطلب" أن تتزوج من ابن العبد الذي تبناه الرسول وأعتقه في أوائل الإسلام، بعدما جاء أبوه لكي يأخذه. أي عندما جاء "حارثة بن شرحبيل" حتى يأخذ "زيدًا" من النبي، والرسول عليه الصلاة والسلام ترك له الخيار. ولكنه أسلم وبقي ابنًا بالتبني عند الرسول. إذًا، هذا الطمع غير وارد إطلاقًا، ولكي نؤكد ذلك نرجع إلى بداية سورة الأحزاب، السورة التي وردت فيها هذه القصة، فنقرأ في بداية السورة هذه الآيات، الآية الثالثة: ﴿ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللآئي تظاهرون منهنّ أُمّهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم﴾ [الأحزاب، 4].
كل القصة تحوم حول هذه الكلمة. كانت العادة في الجاهلية أن يأخذوا شخصًا فيتبنونه، لأنهم كانوا يتنكرون لبنوة البنات، وكانوا يعتبرون البنات لسْنَ أولادًا للإنسان، لا يفتحن بيتًا. إذا لم يكن للإنسان من صبي، فعليه أن يتبنى ابنًا غريبًا. هذه العادة الجاهلية الباطلة، التي تجعل العائلات والأنساب مضطربة وتحتقر من شؤون السيدات في المجتمع، أراد القرآن الكريم أن يحارب هذه الحالة. ولذلك في بداية هذه السورة يقول القرآن الكريم: ﴿وما جعل أدعياءكم أبناءكم﴾ [الأحزاب، 4].
ثم ننتقل إلى القصة، لكي نقرأ هذه الآيات الكريمة، بعد أن نتذكر أن "زيدًا" كان دعيًا للرسول، تبناه في الجاهلية بعد أن أعتقه، وبعد أن أسلم تبناه الرسول بعد الجاهلية، عند ذلك خطب رسول الله لـ"زيد" "زينب" بنت عمته، فرفضت "زينب" عندما عرفت أن الخطبة ليست للرسول، وإنما هي لـ"زيد". يقول القرآن الكريم: ﴿وما كان لمؤمن﴾ أي أخ "زينب"، واسمه "عبد الله بن جحش" ﴿ولا مؤمنة﴾ أي "زينب" ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللّه ورسولهُ أمرًا أن يكون لهمُ الخيرةُ من أمرهم ومن يعصِ اللّه ورسوله فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا﴾.
إذًا، "زينب" وأخوها "عبد الله" خضعا للأمر الإلهي، وتزوجت "زينب" من "زيد"، ثم عاشا حياة مليئة بالنفور والصعوبات. وقد كرر "زيد" حضوره عند الرسول مؤكدًا أنه يريد طلاق زوجته، وكان رسول الله يمنعه عن ذلك إلى أن أصر وطلّق وانتهى الأمر. وبعد ذلك لكي يحارب القرآن هذه العادة، أمر الله رسوله بأن يتزوج من "زينب"، أي أن يتزوج من زوجة ابنه بالتبني، وهذا الشيء غير ممكن بالنسبة للأولاد، حتى يقضي على هذه العادة، أي جعل الله رسوله في داخل المعركة، وفي أتون المعركة حتى يقضي على هذه العادة الكريهة الجاهلية.
وكم لرسول الله من هذه المواقف. فهو عندما كان يرى أن زواج البنت ذل عند العرب في الجاهلية، وعندما تريد بنت الإنسان، أن تتزوج يهرب أبوها وأخوها من القبيلة. رغمًا عن هذه العادة أخذ بيد بنته "فاطمة" وأدخلها في حجرة "علي بن أبي طالب"، أي حجرة الزفاف. عند ذلك حارب هذه العادة، وهو يحارب دائمًا بسلوكه، كما يحارب بقوله الأمور المنكرة الجاهلية.
نرجع إلى الآية: ﴿وإذ تقول للذي أنعم الله عليه﴾ [الأحزاب، 37]، أي "زيد"، أنعم الله عليه بالإسلام ﴿وأنعمت عليه﴾، أنعمت أنت يا "محمد" عليه بأن أطلقته وحررته وجعلته حرًا عتيقًا،  ﴿وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله﴾ [الأحزاب، 37]. النصائح المتكررة التي كان يمارسها الرسول حتى يمنع "زيدًا" من الطلاق، ثم يقول: ﴿فلما قضى زيد منها وطرًا﴾ [الأحزاب، 37]، انتهت قضية زيد ﴿زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولًا﴾ [الأحزاب، 37].
إذًا، هذه القضية ليست كما رُسِمت، بل جاءت في وقت كبر سن الرسول، ومعرفته بها وقربها منه. وبعد طلاق "زيد" لـ"زينب"، أمر الله رسوله بممارسة هذا الزواج، لكي يقضي على عادة الأدعياء. وكان موفقًا في ذلك، إذ انتهت هذه المشكلة في الجاهلية مع هذا العمل. وهكذا لا يبالي الإسلام من أن يجعل رسوله أمام المعركة لكي يعالج المشكلة كما يقول: ﴿وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه﴾ [الأحزاب، 37]. ليس هناك من عتب على عمل يكون فيه خير للناس ونجاة للناس، وتصحيح لآداب الناس. فالنبي حياته مليئة بالتضحيات، كما أن حياته مليئة بالطهارة والعفة، ولا يحتاج إلى شهادة من هنا وهناك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source
عدد مرات التشغيل : 1