الناس -3-

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر، (د.ت).
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿قل أعوذ برب الناس* ملك الناس* إله الناس* من شر الوسواس الخناس* الذي يوسوس في صدور الناس* من الجنَّة والناس﴾ [الناس]

صدق الله العظيم
كنا نتحدث عن خطر هذا النوع من الشر الذي يختفي بعد الظهور ﴿الوسواس الخناس* الذي يوسوس في صدور الناس﴾، وكنا نقول أن هذا الخطر أخطر من الشر البارز ومن الشر الخفي.
في الواقع، أن أمثلة هذا الشر كثيرة. فالنفاق عند الإنسان، والمنافقون داخل صفوف مجتمعنا، أنواع ﴿من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس﴾. كل من يخلق ترددًا، أو شكوكًا، أو جبنًا، أو ضعفًا في طريق الحق، بأساليب ملتوية، يجب أن يحارب. ومحاربته، بأن نلجأ إلى ربنا، وملكنا، وإلهنا؛ لا رب لنا غيره، ولا إله لنا سواه، ولا ملك لنا إلا إياه. إذًا، نحن نلجأ إلى الله، واللجوء بالمعنيين اللذين تحدثنا عنهما، تكرارًا في هاتين السورتين المباركتين.
نلجأ إلى الله، بمعنى نستمد العون والقوة لتطمئن قلوبنا بذكره. ونلجأ إليه، أي نتقرب منه، فنعمل بمقتضى تربية الله، وحكم الله، وعبادة الله، نطهر أنفسنا ونطهر صفوفنا. نستعرض صفاتنا لكي نجد ما هي الصفة، التي يدخل من خلالها الوسواس الخناس؟ ما هي نقطة الضعف في نفوسنا التي تجعل منا مترددين، خائفين، "مسرسبين"، جبناء في وقت العزيمة؟ ونستعرض صفوفنا كأمة، كوطن، كمجتمع، كمؤسسة لكي نطهرها من المنافقين. نقاط الضعف، الوسواس الخناس الذي يوسوس فيخلق فتنة في نفوس الحاضرين، ونفوس العازمين، ونفوس المقبلين على عمل معين.
ويتابع القرآن الكريم، في تعميم هذا النوع من الشر، فيقول: ﴿من الجِنَّة والناس﴾. هؤلاء الموسوسون الخنَّاسون، قسم منهم بارز، وقسم منهم ليس بارزًا، فهم من الناس ومن الجن.
الجن، بمعنى العنصر الخفي؛ إذًا، هناك شرور تأتي بشكل الخفاء بعد الظهور، والظهور بعد الخفاء، من الإنسان. يجب أن نعرفها، يجب أن نعرفها ونتجنبها.
وهناك شر، يأتي من قوى خفية، من موجودات خفية، من عناصر خفية لا نعرفها، يجب أن نتصدى لها، أي أن نحصن أنفسنا أمام تأثيراتها.
ومعنى الجن في القرآن الكريم، معنى عميق، وعظيم. فإذا راجعنا القرآن الكريم، في أماكن مختلفة، نجد أن كلمة الجن وردت في مجموعة من السور. والقرآن يؤكد أن الجن نوع من الخلق، مستور عن حواسنا. إنه موجود، نوعه نوع آخر غير الإنسان. فالإنسان خُلق من التراب، من المواد الغذائية التي تتكون كلها من التراب.
أما الجان خلقناه من قبل، من نار السموم. وأيضًا، نجد أن الجن، أن معاشر الجن يعيشون ويموتون، ويُبعثون كالإنسان. في سورة الأحقاف نقرأ: ﴿أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس﴾ [الأحقاف، 18]، فيهم ذكور وإناث، يتكاثرون بالتوالد والتناسل.
سورة الجن تؤكد: ﴿وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن﴾ [الجن، 6]. وأن الجن لهم شعور وإرادة، يقدرون على حركات سريعة وأعمال شاقة، كما تقول ذلك قصة "سليمان"، وتسخير الجن، وبناء الجن لـ"سليمان" القصر، وقضية ملكة سبأ وأنه ﴿قال عفريت من الجن أنا آتيك به﴾ [النمل، 39] بالصورة التي نعرفها. وأن الجن مكلف كالإنسان، مؤمن وكافر، صالح وطالح، يجب عليه العبادة وأمثال ذلك من الصفات التي هي صفات الإنسان.
إذًا، ما هي حقيقة الجن؟ بإمكاننا أن نقول موجودات خفية ما اكتشفناها، ولكنها موجودة. ونحن نعرف أن إدراكنا الحسي، بعيوننا، بأسماعنا، بحواسنا محدودة بدرجة معينة من الذبذبات. الأصوات التي تتجاوز، أو تقل ذبذباتها عن الدرجة المتعارفة، لا يمكن أن ندركها، ولا اللون، ولا سائر الأشياء. إذًا، ليس بإمكاننا أن ننفي معنى الجن، والقرآن الكريم يؤكد ذلك.
وبإمكاننا أن نقول أنها موجودات خفية، أو البشر غير أنيس، يعني البشر الوحشي، أو البشر الذي هو خافٍ عن الإنسان الموجود في البلاد كما يريد بعض المفسرين أن يقول. فللجن أبحاث ومعانٍ تفصيلية لدى المفسرين، لا بد من تخصيص حلقة له. أما المَلَك، فمن الواضح أن القرآن، يقصد بالمَلَك والملائكة "مدبرو قوى الخير في العالم".
وفي نهاية الكلام عن السورتين المباركتين، علينا أن نقول العوذ بالله فقط، ليس بأحد غير الله. والعوذ بالله، معناه اطمئنان القلب، وسعي الجسد للنجاة. وورود هاتين السورتين في نهاية القرآن الكريم، بعد إكمال القرآن، يعطي معنى أوسع. فمعنى ذلك، بعد أن اكتمل الحق، واتضحت الصورة، وتكونت الشخصية القرآنية، فليس لك أيها الإنسان المؤمن، إلا أن تكون صامدًا، أمام الشرور الخفية والظاهرة، والشرور التي تختفي بعد ظهورها. صمودك باللجوء إلى الله، بالتقرب من الله، بالإتصاف بصفات الله. وهكذا، تتمكن من التغلب على الأخطار وعدم السقوط بعد أن نجوت.
نعوذ بالله سبحانه وتعالى من كل الشرور، ونسأله النجاة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source
عدد مرات التشغيل : 2