حَمَلَة الرسالة

الرئيسية آخر الأخبار تفاصيل الخبر
الكاتب:موسى الصدر

في درب النبي محمد (ص) يسير بنا الإمام الصدر لنلتمس معه ذكرى الميلاد النبويّ الطّاهر، ومن وحي هذه المناسبة الكريمة يستمدُّ أصالة التجربة الإيمانية لمتابعة الطريق الرساليّ المتدفق الذي يعيد إلى الإنسان إنسانيته، نصّ كلمة الإمام الصدر في مولد خاتم الرّسل:

* محاضرة للإمام موسى الصدر بمناسبة مولد وهجرة الرسول، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد، وعلى أنبياء الله المرسلين، وسلام الله على آل بيته وصحبه الطاهرين.
في هذا اليوم المبارك وفي هذه الذكرى علينا أن نرسم صورةً عن المناسبة في عقولنا وفي قلوبنا، لكي نعيش أجواء الذكرى فنتحدث ونتحرك، اخترنا زمانًا طاهرًا واجتمعنا في مكانٍ طاهر، وقد سعى لجمعنا نفر من الشبان المؤمنين الذين آمنوا بربهم فزادهم الله هدى، واجتمعنا في بلدٍ طاهر وفي منطقة طاهرة، ومن خلال هذه الظروف الزمانية والمكانية نحاول أن نكوِّن مناخًا نستوحي منه ونلتمس فيه طريق محمد ومعنى ذكرى ميلاده الطاهر.
فلنستعرضْ بصورة موجَزة حقيقة الذكرى، يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول يُصادف حسب المشهور في التاريخ، مناسبتين عظيمتين: مناسبة مولد الرسول الأكرم، ومناسبة إتمام هجرته.
وُلِد الرسول (عليه الصلاة والسلام) في هذا اليوم وهاجر فوصل إلى المدينة في هذا اليوم، والمولد اقترن بعام الفيل، وعام الفيل سنةٌ اعتُبِرت بدء التاريخ في مكة وحوالي مكة. وكان لحادث عام الفيل تلازمٌ وتناسبٌ عميق مع مولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم(، وربطٌ بين الحدثين وقد ذكر ذلك القرآن الكريم في سورة الفيل والسورة التي تليها سورة لإيلاف.
إن مكة ما استُعمِرت قبل هذا اليوم، فبقيَ أهلها أقوياء وأشداء ومستقيمين، يتحدثون ويتكلمون الحق على الرغم من ضلالهم، وعلى الرغم من قسوتهم، وعلى الرغم من أنهم آذوا نبيّ الرحمة كما لم يُؤذَ نبيٌ من قبل، ولكن الله اختارهم حمَلةً لرسالة الإسلام لسبب أساسي ولوضع حقيقي في نفوسهم، إن مكة ما استُعمِرت، ما خلَّف الاستعمار عليها زبانيته وأزلامه لكي يُضِلوا الناس ولكي يعوِّدوا أهلها على النفاق وعلى الفساد وعلى الخضوع أمام الجبابرة.
الاستعمار سيئاته تكتمل وتبلغ غاية الخطورة عندما يستعمر القلوب، ويستعمر النفوس، ويستعمر الأفكار؛ ومكة قد نجاها الله من هذه المحنة، إما لأنها لم تكن مطمعًا للاستعمار المادي القديم الذي كان يفكر في سرقة الأموال ونهب الثروة فقط، وإما لأن احترام بيت الله -احترام الكعبة المكرمة- كان شايعًا في نفوس العرب ومن حولهم لأسباب تاريخية كثيرة يُلخصها القرآن الكريم بقوله: ﴿إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا﴾ [آل عمران، 96]. مهما كان السبب إن مكة ما استُعمِرت، وأراد حاكم اليمن أبرهة -الذي كان حاكمًا من قبل ملك الحبشة- أن يستعمر مكة، وأن يهدم الكعبة المكرمة، وأن يُضلّ الناس في مكة، وأن يجعل منهم عبيدًا أرقّاء منافقين أذلّاء... ولكن البيت كان له ربّ يحميه.
وقد أنقذ الله تعالى مكة وأهل مكة حتى يحافظ على عزّ مكة وعزّ أهل مكة، لكي يبدوا مستعدين لاستلام رسالة الله، وتحمُّل أمانة الله، وحمل المشعل في العالم المليء بالظلمات.
فقهاؤنا يقولون إن سورتي الفيل ولإيلاف سورة واحدة، لا يجوز الاكتفاء بإحداهما في الصلاة، وإذا لاحظتم تركيب السورتين وحرف الجر الذي تبدأ السورة الثانية به تجدون التناسب بين السورتين فلنقرأ السورتين معًا:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرًا أبابيل﴾ [الفيل، 1-3]، فئات فئات، مجموعات مجموعات، ﴿ترميهم بحجارةٍ من سجيل * فجعلهم كعصفٍ مأكول﴾ [الفيل، 4-5].
لماذا كلّ هذه الحكاية، وكلّ هذه الحادثة؟ ﴿لإيلاف قريشٍ * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف * فليعبدوا رب هذا البيت * الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف﴾ [قريش].
الغاية من هذه الحادثة حتى يحافظ الله على هذا البلد، على أمنه وعلى خبزه، وسيلتان لبقاء العزّ في نفوس الناس، حتى لا يحتاج أهل مكة للاستجداء وللاحتماء، حافظ الله على كرامة مكة وحفظ لهم الكعبة المكرمة حتى يؤمِّن لهم رحلة الشتاء والصيف، الوسيلة التي كانوا يلجأون إليها ويتغذون من ورائها ويؤمِّنون حياتهم منها.
فإذًا، حادثة الفيل لأجل المحافظة على أهل مكة، على قوتهم، وعزتهم، وصلابتهم، وأمانتهم، وهذا كان تمهيدًا لمجيء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الذي وُلد في نفس السنة حتى يحمل أهل مكة أمانة الرسول. عذَّبوه وآذوه، ولكن كانوا: ﴿خير أمةٍ أُخرجت للناس﴾ [آل عمران، 110].
من هنا، نقف لحظة لكي نفكر بالأمة التي تصلح أن تحمل الرسالة، وقد حملت هذه الأمة رسالة الله وأخرجتها للناس وأسست أرقى حضارة إنسانية في التاريخ، لا بعلمها، ولا بثقافتها، ولا بقصورها وسياراتها، ولا بملابسها الأنيقة أو الخليعة، لا بهذا ولا بذاك، ولا بأموالها، حملت هذه الأمة رسالة الله بإيمانها وصلابتها وقوتها وأمانتها.
وهكذا تمكنت الأمة الأميّة أن تُلقَّب باسم آباء العلوم وتمكنت الأمة البدوية أن تؤسس أفضل الحضارات في التاريخ، وتمكنت الأمة التي اتُهمت بأنها لا تفهم معنى الإنسانية أن تؤسس أكبر مجتمع إنساني، وأكثر القلوب الإنسانية رحمة مع الأصدقاء ومع الأعداء بفضل أمانتها وسلامة يدها وطهارة نفسها وحمْل أمانة الله.
نحن، أيها الإخوة حينما نقف في هذه المنطقة الطاهرة، المنطقة المحرومة والمنطقة غير المحظوظة، التي لا نجد فيها ما نجد في المناطق المحظوظة من أموال وقصور ومن نماذج للحضارة الزائفة الكاذبة نشعر بأمل أكبر، ونفضّل أن نبقى أُمناء وقاهرين، حتى ولو بقينا من دون الوصول إلى درجات الخانعين المايعين الذين يعتزون بفقد ذاتهم ولو كَسِب العالم كلّه، وقال السيد المسيح: إذا ربح الإنسان العالم وخسر نفسه، فماذا له عند ذلك؟
إذا تعلّمنا، العلم نور من الله، وإذا تحضّرنا، فالحضارة نعمة من الله، وإذا تملّكنا، فالأموال: ﴿زينة الحياة الدنيا﴾ [الكهف، 28] ولكن، على شرط أن نكون نحن أصحاب هذه الأموال ولا نكون قد خسرنا أنفسنا وذبنا. صلابتنا في عقيدتنا، أصالتنا في وضعنا، طهارتنا في نفوسنا، صدق كلمتنا ونوايانا أفضل بكثير من الخنوع والميوعة أمام الفساد وأمام الحضارة الكاذبة المزيفة.
أيّها الإخوة،
لا تزال المنطقة هذه تصلح أن تكون أمينة على حمل رسالة الله ورسالة الإسلام أكثر من المناطق الأخرى، فلنحافظْ على سلامة نفوسنا، وعلى قوة أفكارنا وعقولنا، وعلى طهارة أيدينا وألسنتنا، ولنحملْ رسالة هذا اليوم لعالمنا المضطرب المهتاج ولنسعَ في سبيل الإصلاح وتقديم الأمانة للمرة الثانية. ماذا يُضيرنا أن نقدم وأن نقوم بهذا الدور للمرة الثانية؟ طالما أنتم أطهار، فأنتم أولى الناس بحمل الأمانة، لا المثقفون الزائفون الذين خسروا أنفسهم وإن كانوا قد وجدوا الثقافة والحضارة في حياتهم.
أهل مكة كانوا أميين، ومحمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان أميًّا، ولكنه كان أمينًا، أهل مكة كانوا أميين ولكن ما كانوا يخونون الأمانة، ما كانوا ينكثون العهد، ما كانوا يتخلون عن حماية الضيف، ما كانوا يطمعون في أموال الضيف، ما كانوا يتخلون عن حماية الحلفاء، كانوا أشداء ملتزمين في كلّ شيء. كانت تأتي الأشهر الحُرم فيجد الرجل خصمه وقاتل أبيه، [ولكن] احترامًا للعهد كان هذا الرجل يسكت؛ الذي كان يقتل الناس لأتفه الأسباب كان يجد نفسه حرًّا ما لم يَعِد، فإذا وَعد انتهت الحرية وأصبح ملتزمًا بوعده وبتنفيذ ميثاقه.
هذا الجو هو الجو الرسالي جوُّكم أنتم. بإمكان الإنسان الطاهر ولو كان بدائيًا أن يحمل الأمانة، وأن يحمل الرسالة، وأن يُعلِّم المثقفين وأن يُعلِّم المتحضرين، وأن يُصحِّح أخطاء من مَلَك العالم كلّه وخسر نفسه، بإمكانك أنت إذا كنت سليمًا في نفسك وفي جوهرك، طاهرًا في لسانك وفي يدك وفي عينك، أمينًا على وعدك، مكرّمًا على قولك والتزامك، بإمكانك أنت أن تنقذ أكثر الناس درجةً مالًا ومنالًا وجاهًا وعلمًا.
الإنسانية تزداد بالعلم وبالجاه، ولكن شرط أن يكون التقدم الإنساني مقترنًا بالتقدم الحضاري وموازيًا للتقدم الثقافي، وإلا فقد نَحَسَ الإنسان نفسه كلّما اجتذب المجد من الخارج حتى يبلغ درجة لا يملك هو شيئًا فيملأ وجوده من الآخرين، ويصبح عبدًا للآخرين، لا أصالة ولا أمانة.
فالميلاد اقترانه بعام الفيل، عامٌ حاول أبرهة أن يقلع علاقات الناس برمزهم، بكعبتهم، وأن يذلّ الناس، وأن يوجِّه قلوب الناس واتجاه الناس إلى الكعبة المزيفة التي بناها في بلده. كان يحاول أن ينزع من أهل مكة أصالتهم وعزهم ويستعمرهم، فقضى الله عليه وبقيَ أهل مكة أطهارًا أقوياء، وبقيَ أهل مكة على جهلهم وأميَّتهم أصلح الناس لحمل الأمانة فحملوها، وولادة الرسول في هذا العام بالذات خير دليل على هذا التقارب.
واليوم هذا، يوم هجرة الرسول من مكة المكرمة إلى المدينة، إلى يثرب، وهذا مبدأ تاريخ الإسلام. فقد كان للإسلام أيام عديدة، ولكن المسلمون ما ارتضوا أن يجعلوا يوم مولد الرسول، ويوم مبعث الرسول، ويوم وفاة الرسول، ويوم فتح مكة، والأيام التي مرَّت على المسلمين ما ارتضوها أن تكون مبدأ تاريخهم بل اختاروا مبدأ التاريخ يوم الهجرة فحسب، لأن هذا اليوم بداية ميلاد الإسلام الشامل. الإسلام المكيّ كان فترة التحضير، فالرسول الأكرم في مكة المكرمة كان يحضّر قادة، وقد حضّر نفرًا قليلًا أقلّ من مئة شخص، ثم هاجر إلى المدينة وانطلق الإسلام ووُلد الإسلام الكامل: إسلام الفرد وإسلام المجتمع، إسلام الشريعة وإسلام العقيدة وإسلام الدولة، إسلام العلاقات الخاصة وإسلام العلاقات العامة، إسلام الأفراد وإسلام الجماعات.
المدينة شاهدت ولادة الإسلام الكامل، ولذلك الهجرة وُضعت مبدأَ تاريخ الإسلام. وهل هناك ترابط بين الإسلام الكامل وبين الهجرة؟
نعم، هناك ترابط. الهجرة أساس كلّ خير، وأساس كلّ تقدم، وأساس كلّ نجاح. طالما أن الإنسان متمسّك بكلّ وجوده غير متنازلٍ عن جانبٍ من جوانبه فهو يعيش في الجاهلية الأولى: لا يتقدم، ولا ينمو حتى إذا هاجر، حينما يهاجر يصبح في تقدم مستمر.
أيّ هجرة نريد؟
الهجرة المكانية هذا نوع من الهجرة؛ نحن نفهم الهجرة أوسع من هذا. الذي ينتقل من بيته ومن بلده إلى أماكن بعيدة... هاجر، والذي ينتقل من راحته إلى العذاب إلى التعب إلى السعي إلى الكدح فقد هاجر، والذي يترك ماله المتمسك به لكي يكسب شيئًا أكثر فقد هاجر، والذي يترك أنانيته وأعصابه الملتهبة وغضبه الفائر يهجر ضغائنه... هذه النزعات فقد هاجر. الهجرة هي الابتعاد والهجر للأنا ولكلّ ما حول الأنا، هذا معنى الهجرة.
فإذًا، كلّ من يتصدق فهو مهاجر، وكلّ من يدرس فيتعلّم ويسهر الليل ويتعب النهار فقد هاجر، وكلّ من يزرع ولا ينام الليل ويشقى في سبيل خدمة الأرض والنبت والإنسان فقد هاجر، وكلّ من يضحي بأنانياته ويتنازل عن غضبه وشهواته حتى يكوِّن مجتمعًا أفضل فهو مهاجر. ونحن نرى أن الإنسان في سبيل تكوين الخلية الأولى من المجتمع -البيت الزوجي-، إذا أراد أحدنا أن يتزوج فيشكّل مجتمعًا صغيرًا عليه أن يتنازل عن أنانياته، عليه أن يتنازل عن كسله ولامبالاته، عليه أن يتحمّل مسؤولياته وإلا من دون هَجْر هذه الأمور لا يمكنه أن يكوِّن أسرة. الأسرة تتكون من هذه الهجرة.
والفلاح إذا ما هاجر وما خدم، والتاجر إذا ما غامر وما وضع وما تنازل عن أمواله أو ما هاجر، لا يمكن أن ينجح وأن يتقدم.
وهكذا، الوصول إلى الكمال لا يمكن إلّا بالهجرة والتنازل، إلّا بالتضحية بالأنانيات وبما يملكه الإنسان؛ ولا عزّ للمجتمع ولا حياة للمجتمع إذا ما ضحّى أبناء المجتمع وأفراده وما تنازلوا عن تمسّكهم بأنفسهم وبأرواحهم، وإلا فأيُّ كرامةٍ للمجتمع الذي يتمسك جميع أبنائه بحياتهم وأرواحهم... كلّهم يخافون من الموت وكلّهم متمسّكون بالحياة، وكلّهم يريدون أن يحفظوا أنفسهم وأرواحهم، فهل يبقى المجتمع عزيزًا؟
إذا أنا خائف من الموت ومتمسك بالحياة، وأرضى بكلّ شيء في سبيل أن أبقى حيًا، وأنت أيضًا تحبّ الحياة ومتمسك بالحياة، ولا تقبل أن تتنازل عن الحياة بأيّ ثمن، كأننا حراس حياتنا والشخص الآخر والشخص الرابع...
كلّ واحد منا يتمسك بحياته. من يُدافع عن المجتمع؟ من يموت في سبيل الآخرين؟ من يُحافظ على عزّ المجتمع؟ لا عزّ ولا كرامة إذا لم تكن هناك هجرة، الهجرة عن الروح وعن النفس، بذل الروح وبذل النفس.
لا يمكن أن يبقى المجتمع عزيزًا إذا لم يكن بين المجتمع أو كلّ المجتمع مهاجرين عن أنفسهم وأرواحهم، واضعين أرواحهم في أكفهم، يستعملونها كما يشاؤون، هم مالكو أرواحهم لا خدم وحرس لأرواحهم.
نحن أصبحنا نخاف من الموت، نحن أصبحنا نخاف أن نترك مالنا، نخاف أن نترك بيتنا، نخاف أن نترك ونهجر أنانيتنا، فأصبحنا عبيدًا لأرواحنا وأنانياتنا وأموالنا وبيوتنا وراحتنا، ونتيجة ذلك الموت على حد تعبير أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، الإنسان الحي هو الذي يتحرك، الحركة ليست بالمكان، الحركة عن الأنانيات، الحركة عن الوضع الموجود، السعي لإقامة مجتمعٍ أفضل.
فإذًا، هناك ترابط بين الهجرة وبين مولد الإسلام، والآن إذا أردنا أن يولد الإسلام من جديد في مجتمعنا، إذا أردنا أن نشاهد ولادة دين الله، عزّ الله، قيم الله، كرامة الإنسان التي أرادها الله إذا أردنا أن نشاهدها علينا أن نهاجر، علينا أن نستعد للموت، والحمد لله هذا المعنى موفور في هذه المنطقة. لا أعرف أحدًا يخاف من الموت إلا القليل، ولكن علينا أيضًا أن نشعر بأننا تحررنا عن كلّ شيء، ليس عن الموت فقط، تحررنا عن الغضب والأنانية أيضًا، نغضب ولكن نحافظ على ذاتنا، غضبنا لأجل عزنا ولأجل رضا الله. الحسين (عليه السلام) في كلمة خالدة له يقول: "الموت أولى من ركوب العار"، هذا مصداقه أنتم. ولكن يضيف إلى ذلك كلمة فيقول: "والعار أولى من دخول النار".
نحن نعتقد أن في بعض التصرفات كرامة ولو لم يكن فيها رضا الله، هذا غلط، هذا شرك بالله. أنا كرامتي منبثقة من كرامة الله، أنا وجودي شعلة من الفيض الأزلي ومن النور الأبدي: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ [البقرة، 156]، أنا ليس لي كرامة دون كرامة الله، فكرامة الإنسان في رضا الله، فإذا أنت تفكر أن تُغضب ربك وترضي نفسك فأنت مشرك بالله، لا تعبد الله: ﴿أفرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ [الجاثية، 23]، فقد: ﴿أضله الله على علم﴾ [الجاثية، 23].
نحن علينا أن نشعر بهذا المبدأ، التنازل في سبيل رضا الله، العفو عن أخينا وعن جارنا وعن ابن بلدنا في سبيل كسب رضا الله: ﴿أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ [الفتح، 29]، هذه الصفة التي كانت صفة آبائنا الأولين، وبهذه الصفة كانوا هم المهاجرين مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أيها الإخوة الأعزاء،
أمام هذا المناخ، مناخ مولد الرسول وهجرة الرسول علينا أن نستعد، وأن نستلهم من هذا المناخ ما يساعدنا وما ينفعنا في سبيل تحركٍ نحو الحياة الفضلى من دون أن نكون متمسكين بأوضاعنا. وأوضاعنا هذه لا تدعو إلى الاعتزاز: حرية بلا محتوى وبمفهوم مزيف، حضارةٌ فارغةٌ من مضامينها، طقوسٌ تافهةٌ دون معنى. ونتيجة الوضع هذا الذي نشاهد لا نجد في سباق الشعوب وفي ميدان العالم هذا اليوم أي مكان لنا، هل نحن نساهم في الحضارة؟ هل نحن نساهم في الثقافة؟ هل نحن نغيّر توازن القوى في العالم؟ هل انحيازنا لفئة أو اختيارنا لفئة يغير القوى العالمية؟ كلا، الذي يغير توازن القوى أرضنا، بترولنا، مصانعنا، جغرافيتنا لا إنساننا، إنساننا لا حساب له في التاريخ.
لا يفكر أحد من قادة العالم، ومِن الذين يفكرون بالتحرك العالمي، لا يفكر أحدهم فينا كبشر، يفكرون في أرضنا، يفكرون في شواطئنا، يفكرون في مناجمنا وذخائرنا، يفكرون في أراضينا الخصبة، يفكرون في مياهنا ولكن هل يفكرون فينا؟ ماذا نشكِّل نحن؟ أعداد مهملة من البشر، لماذا؟ مع أن الإنسان هو أساس التاريخ، هو محرك التاريخ.
الجزيرة في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ماذا كان لديها؟ هل كان لديها ثروة، وسيد الخلق محمد كان يشدّ الحجارة على بطنه من الجوع؟ هل كان لديهم ثقافة، وما كان يتمكن من أن يكتب اسمه؟ الحساب كلّ الحساب كان للبشر لا الأرض، ولا للزراعة، ولا للمناجم، ولا لكونهم طرقًا للوصول إلى الشام أو لغير الشام في الجزيرة وقتها. فالحساب كلّ الحساب كان على الإنسان في أول هذه الرسالة، أما اليوم فلا حساب للإنسان في هذه الرسالة، وهذا يعني أن العرب إذا نقص عنهم الإسلام، الإسلام بمعنى دين الله لا شيء، صفر، وهكذا كان.
يقول السيد المسيح (عليه السلام) حينما يتحدث مع كبار اليهود الذين جاؤوا يعاتبونه ويسألونه: لماذا أَخرجت التجار والصاغة من الهيكل؟ وقد قال: إن بيت أبي مكان للعبادة، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص. سألوه: من أنت بأي صفة تتصرف هذا التصرف؟ وله حوار في -آخر حواره- يقول: هل سمعتم أن الحجارة التي يهملها البناؤون قد تصبح حجر الزاوية في البناء. قالوا: نعم. قال: إن ملكوت الله سوف يؤخذ منكم، ويسلم إلى أمة لا تحسبون لها أي حساب يعني العرب. العرب حملوا هذه الرسالة ببشرهم، بإنسانهم لا ببترولهم، لا بمناجمهم، لا بملابسهم، لا بثرواتهم الزراعية: ﴿كنتم خير أمة أُخرِجت للناس﴾ [آل عمران، 110].
كيف يمكن أن نعود إلى ذاتيتنا، إلى إنسانيتنا، إلى أصالتنا، هذا هو المطلوب ودون ذلك لا شيء. أي صورة لإنساننا اليوم، إذا أنا لا أحترم نفسي، من الذي يحترمني؟ احترامي لنفسي، احترامي لكياني، احترامي لشهادتي، احترامي لتوقيعي، احترامي لوقتي، احترامي لطاقتي، احترامي لمالي، فهل نحن نحترم أو نتحدث كما نشاء؟ كرماء في الكلام، كرماء في التوقيع، كرماء في الشهادة، كرماء في التحرك، نبذل كلّ ما نملك، ولكن في أيّ سبيل ولأيّ شأن؟
الإنسان الذي يحترم نفسه لا يكذب، الإنسان الذي يحترم نفسه لا يشهد شهادة الزور، الإنسان الذي يحترم نفسه لا يصرف ماله وطاقته وجهده وإمكانياته في سبيل ما ليس بأفضل منه.
أيها الإخوة الأعزاء،
إنساننا بحاجة إلى الولادة، محمدنا يجب أن يولد من جديد في قلوبنا حتى نصبح كما كنّا: ﴿خير أمةٍ أُخرجت للناس﴾ [آل عمران، 110]، وهذا فيكم أنتم أبناء هذه المنطقة أوفر وأسهل، لأنكم لا تزالون محتفظين بالكثير من الكرامات الإنسانية والصفات الأساسية الضرورية لتكوين الإنسان، فعليكم أن تحافظوا عليها وتنموها وتشعرون بأن الإنسان هو حامل الرسالة، هو القيمة الأساسية في التاريخ لا الأموال والأنفس، شخصيتنا بأنفسنا لا بملابسنا، تقدمنا بأخلاقنا بأفكارنا لا ببيوتنا وسياراتنا وأزيائنا. الذين يعتقدون أن هذه الأزياء والمظاهر هي كلّ شيء هم الذين يريدون أن يفرغونا من وجودنا ومن ذاتيتنا.
أيها الإخوة الأعزاء،
في هذه المناسبة الكريمة وفي هذه الأجواء الطاهرة، نتذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ونسلك بالتفكير خطواته ونتأكد من نجاح تجربته الأولى، ثم نعتقد أن لا طريق لنا إلا متابعة هذا الطريق المتجدد الدائم، المتدفق الدائم، الذي يعيد إلى الإنسان إنسانيته. أما رفض كلّ شيء وترك القيم هذا ذوبان الإنسانية في ذاتها وفناؤها في نفسها، وهذا معناه أنه خسر نفسه وخسر كلّ شيء.
ولذلك، حينما نعيش هذه الذكريات نرجع ونفكر ونعزم، نحن علينا أن نحافظ على أصالتنا لأننا بلا أصالة، أعداد مهملة كما قلنا. أنتم تعرفون، عفوًا من هذا المثل، راعي الماعز يعرف أن قفزة ماعز واحدة من النهر وعبورها من مكان معين يعني قفز جميع القطيع مهما كان السبب. يؤسفنا أن نقول إن فقدنا لأصالتنا أننا أصبحنا كالماعز. شخص يجلس في باريس فيصمم زيًّا وبعد لحظات الزيّ يكتسح آفاقنا وأنفسنا، فلا يبقى أحد إلا ويريد أن يلتحق بهذا الزيّ قبل الآخرين حتى لا يخسر معركة الحضارة؛ تكلُّمنا، مقاييسنا، الأصالة هي كلّ شيء.
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): سيأتي زمان على أمتي لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. قالوا: وهل يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، وأكثر من ذلك، سيأتي زمان على أمتي يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. قالوا: وهل يكون؟ قال: نعم، وأكثر من ذلك سيأتي زمان على أمتي [...].

source
عدد مرات التشغيل : 2