تأملات في المولد والهجرة بين الماضي والحاضر

calendar icon 26 نيسان 1972 الكاتب:موسى الصدر

مولد وهجرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) محطتان لمراجعة النفس في ضوء السلوك النبوي، وتقدير الأعمال وفقًا لهذا الميزان. النص الآتي، كلمة ألقاها الإمام الصدر أثناء تقبله التهاني من الرئيس سليمان فرنجية في مقرّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بهاتين المناسبتين.

* كلمة بمناسبة تقبل التهاني من الرئيس سليمان فرنجية بمناسبتي مولد وهجرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، بتاريخ 26 نيسان 1972 في مقرّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
فخامة الرئيس المعظم أقول باسم إخواني جميعًا أهلًا وأنت أولى بقولها لأنك في لبنان. أهلٌ في كلّ بيت. وأقول وتقول معي قلوب الجميع "سهلًا" وأنت سهّلت المشكلات وذلّلت الصعوبات وقد أراد الله تعالى أن يجعل عهدك خيرًا وسهلًا آمنتَ به وأسلمت له. فقل أنت لنفسك ولنا جميعًا "أهلًا وسهلًا".
فخامة الرئيس،
أيّها السادة الأحباء،
في غمرة الأحداث اللبنانية والمحن العربية، وفي زحمة تيارات العالم العاصفة، نحتفل بعيد مولد النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيوم هجرته المباركة.
إن الأحداث والحوادث عندما تشتدّ وتتأزم تجتذب أفكارنا وحواسنا، فتنسينا أنفسنا ونعيش ما يحيط بنا وما حولنا، تلك الظروف التي ليست من صنعنا بل من صناعة الآخرين أو الماضين.
وهذه الحالة هي أخطر ما تمرُّ على الإنسان من حالات، حيث يفقد المبادرة مقهورًا لما حوله ولمن حوله، وهذا هو الموت الحقيقي في مصطلح عليّ (عليه السلام).
إن الاحتفال بمثل هذه المناسبات وقفة متأملة وعودة إلى التفكير بالنفس، مع ما لها من تراث وقيم ومن إمكانات، إنه إعادة التقييم للذات والمقارنة بين ما تكون وبين ما يجب أن تكون، وهذه هي نقطة البداية الصحيحة والتقدم الصحيح. إنها المحاسبة التي أمرنا بها قبل أن يحاسبنا التاريخ وقبل أن يحاسبنا الديان في يوم الدين.
والاحتفال بميلاد النبي وهجرته، احتفال بيوم ولادة تاريخنا المجيد تأخذنا فيه أجنحة التأمل وتضعنا أمام أعتاب الدهر، عابرة فصول القرون وأبواب الإعصار، حيث ننظر من أعالي الزمان إلى صفحات من حياة أمتنا زاخرات بالعطاء الدافق، وبخلق الحضارات الإنسانية والثقافات الحيّة المتطورة إلى أيام كانت مصائر الأمم تتقرر في ندواتنا، وحرياتهم تنطلق عن منابرنا دون إغراء أو إكراه.
وننظر بعد ذلك إلى عهود نستعيد فيها الحضارة والصناعة والفكر وحتى القيم والمقاييس، فيصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، عهود تقرر مصائرنا في ندوات الآخرين ونلتمس الحريات والتحرر من مطامع الدول الكبرى أو منابر الأمم المتحدة.
ننظر إلى هذه وتلك وإلى العنصر المشترك بين الصفحات المتتالية، فيعود إيماننا بأنفسنا وبالله ﴿الذي خلق فسوَّى﴾ [الأعلى، 2] وقدَّر فهدى، فجعلنا ﴿خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران، 110]، لخدمتهم، للوقوف مع المعذبين في الأرض، ولتحريرهم من الجهل والأحقاد وليتنكروا لأهواء النفس، طواغيت الأرض.
وبعد هذه الرحلة نقف لإعادة تقييم أوضاعنا كلّها انطلاقًا من معرفة الذات نفكّر في الأحداث والأوضاع اللبنانية التي ندخل من خلالها إلى المصير العربي المشترك، فنقدّم له من إمكاناتنا أفضل المساهمات ونشترك في سباق الشعوب لبناء الإنسانية بأصالة قوية بتأثير منتظر.
فخامة الرئيس المعظم،
تمرّ علينا الانتخابات النيابية لفترة هي من أدق فترات تاريخنا وأقساها، ونعيش أيضًا مشكلة الطلاب ونتجرع مرارة محنة الاعتداءات الإسرائيلية التي تدمر حياة إخواننا وتجرح شعورنا الوطني، ثم ننظر إلى تدهور الأخلاق ومآسي الهجرة اللبنانية والقضية الاجتماعية كلّها.
وقد جعلتنا أجواء ميلاد النبي وهجرته في منطق طاهر وجديد، يمكننا نحن أن نرفع تقييمنا لهذه الأحداث لفخامتك وليكنْ في عرضه هدية القلوب بيوم فرحتها وتلاقيها:
إن السلوك الانتخابي المميز الذي مارسته بمعاونة رفاقك الأكرمين يدعونا لمطالبتك فور نهاية المعركة باحتواء الجميع، وبمسح الجروح وتعميم الأخوة بين الإخوة التي فرقتهم المنافسات الانتخابية، فألبستهم شيعًا ذاق بعضهم بأس بعض.
نقول هذا مؤكدين أن الذي ينال آلافًا من الأصوات يمثِّل بلا شك قطاعًا كبيرًا من المواطنين، يجب احترامه، وحفظ حقّه، وعليه أن يحسُّ إحساسًا كاملًا بمسؤولية التمثيل، ولا يخطر بباله ولو للحظة واحدة أن مجال التعبير عن هذه المسؤوليات هو البرلمان وحده، بل عليه أن يقوم بوظيفته ويمارس حقّه وحقّ من يمثله في كلّ حقل من حقول المجتمع والوطن.
إن الطلاب، يا فخامة الرئيس، هم أبناؤنا وأيّ أب لا يواجه في كلّ يوم دلال ابنه حين يطالبه بأكثر من طاقته بل بأكثر من حقّه.
وأيّ أب لا يدرك خطر اليأس عندما يدبُّ في نفس ابنه، ولا يعتبره مرضًا ناتجًا عن عوامل سابقة لا بدّ من معالجتها بحنان وجدية.
إنهم، يا فخامة الرئيس، يأملون، ولذلك يطلبون، وكثيرًا ما يطلبون مصالح عامة. فالحوادث المؤلمة والمواقف الغريبة دون ريب حصيلة أخطاء سابقة متراكمة، تستدعي التحمل والدراسة والعلاج.
إن القاعدة التربوية في المدرسة هي الإيمان بالقيم المطلقة الذي لا يحصل إلّا من الإيمان بالله، وعند ذلك فقط يعيش الطالب مرتبطًا بمجتمعه مكملًا رسالة والديه، وتصبح الحركة الطلابية حركة بناءة مجددة مطورة. وإن بناء هذه القاعدة يحتاج إلى التربية الدينية وإلى الثقافة المؤمنة التي تصحح لديه الرؤية والحكم وإدراك مختلف الثقافات. وبدون تأسيس هذه القاعدة يصبح مفهوم الحياة عند الشاب محدودًا لا يربطه بالمجتمع الإنساني إلّا بمقدار قيمته المادية المحدودة. وعند ذلك تتخذ الحركة طابعًا هدامًا تحاول أن تبدأ من الصفر هذا إذا أرادت البناء.
فخامة الرئيس،
إن ما قرأناه في الأيام الأخيرة أكد لنا جدية التسلح وتحضير الجيش الباسل لخوض معركة الشرف، وهذا هو المأمول عندما يرعى الفارس كرامة قومه.
فلو حُرِّكت الطاقات المعنوية اللبنانية كلّها في عمل منسق، لملأت الدنيا اقتناعًا وعطفًا، وجعلت في لبنان قلعة مقدسة لا تمس.
والأخلاق درعنا الداخلي المتين وشرط عطائنا الوحيد، وها نحن أمام مجلس نواب جديد يتمكن من سنّ تشريع دقيق ومنفتح يكمل نشاطات حماة الأخلاق في تدابير شاملة ترعاها أنت.
أما الهجرة التي لا يمكن تجاهلها يوم الهجرة المحمدية تهيب بنا لكي نقدم إليك الدراسات المتواضعة التي وضعناها خلال تجارب مريرة عاشها إخوان لنا، حملوا قلوبهم على أكفهم ليطمئن قلب لبنان، وخاطروا بكلّ غالٍ لهم ورخيص ليسلم الإنسان فيه.
فخامة الرئيس،
لعلك تعذرني عندما أطلتُ الكلام وخرجتُ عن الكلمة التقليدية، فلستُ من المؤمنين بالتقليد. تعذرني لأنك تحب أن تسمع دائمًا صوت الضمير. وإنني أرجو الله وأستلهم صاحب الذكرى لكي أكون معبِّرًا صادقًا عنه.
أتمنى عليك أن تبقى صوت الضمير المؤمن هذا مدويًا مرتفعًا بعيدًا عن المقارنات المادية، والمطالبات بحقوق الطوائف ومشاكلها.
إن تنزيه المؤسسات المذهبية عن هذه النغمات التي طالما تكررت واستمرَّت، ليس طبعًا عندما تبادر أنت إلى صيانة حقوق المحرومين، وتدارك ما فاتهم من مكاسب المواطنية.
عشتَ يا فخامة الرئيس وعاش لبنان بلد المؤمنين.

source