الحلقة الاخيرة
المقاومة والتحرير
إعتباراً من اليوم الأول للغزو الإسرائيلي للبنان صيف العام 1982، انطلقت المقاومة في وجه أعتى قوة عسكرية في المنطقة، وسطرت على مدى الاحتلال ملاحم وبطولات، وزرعت شهداءها في التراب العاملي، حتى زهر التحرير، وقطفت الانتصار في ربيع العام 2000. لقد صاغت المقاومة بالدم هزيمة الجيش الذي لا يقهر: المقاومة الوطنية اللبنانية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية بدأت في خلدة، بتصدي شباب «حركة أمل»، لقوات العدو، بالقرب من مدينة الزهراء، وعند مثلث خلدة.
انا شخصياً أطلقت على المقاومة إسم «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، طبعاً هذا لا يعني ان الآخرين لم يكن لهم دور، بل على العكس، حصلت عملية «الويمبي»، وعملية الشهيد نزيه القبرصلي في صيدا، والاستشهاديتين سناء محيدلي ولولا عبود، كما لا يمكن ان ننفي الجهاد الكبير الذي قام به «حزب الله» من خلال «المقاومة الاسلامية». إنما التصدي الأول كان لشباب «حركة أمل» في منطقة خلدة، وكل كلام آخر غير هذه الحقيقة، لا يتلاءم ابدا مع التاريخ، بل إن ابتداع العمليات الاستشهادية بدأ في «حركة أمل».
لقد كتبت المقاومة صفحات مشرقة ومشرّفة، ليس في تاريخ لبنان فحسب، بل في تاريخ كل العرب. ظنّ العدو ان احتلاله الجنوب نزهة، لكن الجنوبيين حوّلوا نزهته الى جحيم، وسجنوه في احتلاله، فكانوا مع إطلالة كل يوم يبتدعون اسلوباً جديداً في مواجهته، بدءا من رفض التطبيع معه، إلى العصيان، إلى الزيت المغلي الى الكمائن المسلحة الى العبوات الناسفة الى قصف المواقع، وصولا الى أسمى الجهاد بالعمليات الاستشهادية، التي زرعت الرعب في الجيش المدجج بأحدث العتاد الحربي والاسلحة الاميركية، ودفعت قادة العدو الى الصراخ والمطالبة بالخروج من الوحل اللبناني. وبتقديم عروضات للانسحاب من لبنان.
أذكر في هذا المجال، أن مقاومة «حركة أمل» كانت في أوجها في العام 1985، وفي تلك الفترة كانت المساعي الدولية ناشطة في سبيل تهدئة الوضع في الجنوب، وللتاريخ أقول إن كثيراً من المندوبين الدوليين حضروا الى لبنان، وتباحثوا معنا في مسائل تتعلق بتهدئة الوضع، ولم تكن قضيتنا تعنيهم، باستثناء شخص واحد هو مساعد الامين العام للامم المتحدة ماراك غولدنغ، الذي عبّر عن تعاطف مع قضيتنا، وسعى جاهداً في سبيل جلاء اسرائيل عن الجنوب، لقد كانت نوايا هذا الرجل مخلصة.
وقف المقاومة والانسحاب الاسرائيلي
كلما كان يحضر غولدنغ الى لبنان كان يزورني في منزلي في بربور، وقبل إحدى هذه الزيارات تلقيت اتصالاً من مساعديه ابلغوني فيه بأن غولدنغ يريد ان يلتقي بي على عجل، لبحث مسألة مهمة تتعلق بالجنوب.
كنت في لقاء سابق بيني وبينه، قد طلبت الى غولدنغ ان يمارس الضغط على اسرائيل لاخلاء موقع الاحتلال الاسرائيلي الذي كان مشرفاً على بلدات ياطر وحداثا وحاريص، فقد كان هذا الموقع يشلّ باعتداءاته اليومية، الحياة في هذه القرى، فقدّرت أنه آت لكي ينقل إلى بأن الاسرائيليين سيخلون الموقع المذكور.
في ذلك اليوم استدعيت داوود داوود ومحمود فقيه وحضرا معي اللقاء بغولدنغ، الذي كان قد تمّ في اليوم التالي للاتصال
بعدما تبادلنا المجاملات، توجهت الى غولدنغ وقلت له: ماذا استجد معك في ما خصّ الموقع الإسرائيلي فوق ياطر؟
فقال: أنا أحمل إليك أمراً أكبر من هذا الموقع بكثير، أحمل إليك انسحاباً إسرائىلياً كاملاً من كل الاراضي اللبنانية بعد تسعة أشهر من الآن، ولكن في مقابل وقف المقاومة.
قلت: إسرائيل تعرض أنها ستنسحب بعد تسعة اشهر اذاما اوقفت «حركة امل» مقاومتها؟!
قال: نعم، فقد تبلغت هذا الطرح من الاسرائيليين.
سكتُّ، وأخذت انظر الى الارض، ثم التفتُّ اليه وقلت: وهل هي حبلى؟!
استغرب قولي وقال مستوضحاً: حبلى؟!
فقلت: هل هي حبلى ويلزمها تسعة اشهر لكي تولد. أرجو أن تسمعني جيداً. ان الامر في منتهى البساطة، فلتنسحب اسرائيل فوراً، وأما المقاومة فتتوقف تلقائياً كونها نتيجة لهذا الاحتلال. أما ان تقول لي أوقف المقاومة الآن وانتظر تسعة اشهر للانسحاب، فهذا هراء.
قال: أعتقد أن الاسرائيليين جادون!
قلت: ونحن أيضاً جادون، فلا يمكن ان تتوقف المقاومة لحظة واحدة، طالما ان الأرض محتلة. وأريد أن أقول إن المقاومة هي كالتظاهرة، هي عمل شعبي. تستطيع ان تطلق التظاهرة، ولكن لا يمكنك ابداً ان توقفها قبل ان تحقق هدفها. فالتظاهرة تبقى مستمرة الى نهاية طريقها، ونهاية الطريق هنا، هي عندما تنسحب إسرائيل من كامل أرضنا.
فقال: إن هذا العرض مغرٍ جداً، ولا أعتقد أن يتكرر مثله، كما أنني أعتقد أن هذا الأمر هو من مصلحة سوريا، ومصلحتها أن توافق على هذا العرض، لأننا في هذه الحالة نستطيع ان ننصرف بعد ذلك، إلى تركيز جهودنا على موضوع سوريا والجولان.
فقلت: أقول بكل ثقة، ان لي الشرف العظيم في أن أنسق خطواتي وسياستي، دائماً مع سوريا، ولكن في هذا الموضوع، الذي يتعلق بين وطني وبين خائن، فلا أعتقد أن سوريا تطلب مني أن أكون خائناً، وأنا على يقين أنها لن تطلب ذلك.
انتهى اللقاء بيني وبين مارك غولدنغ عند هذا الحد، وخرج من عندي من دون ان يوفق في إقناعي، وانتقل من منزلي في بربور الى دمشق، والتقى نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، وأثار معه الطرح الإسرائىلي، وعرض له ما دار بيني وبينه.
الأسد دعم رفضي
بعد ذلك، طلب الأخ «أبو جمال» اللقاء بي، فتوجهت الى دمشق، والتقيته في مكتبه، وسألني عما حصل بيني وين غولدنغ، فأخبرته.
ثم سألني: لماذا لم توافق على الطرح الذي عرضه عليك؟!
أجبت: ومن يضمن ان تنفّذ إسرائيل الانسحاب بعد تسعة أشهر. وحتى لو نفّذت، نحن سنستمر في إطلاق النار عليها، حتى وهي تنفّذ الانسحاب.
فقال: على كل حال، أنا أتفهم وجهة نظرك، وبالعكس أنا أهنئك على رفضك، ولكن عليّ أن أرفع هذا الأمر إلى سيادة الرئيس حافظ الأسد.
وبالفعل، رفع «أبو جمال» الأمر الى الرئيس الأسد، الذي قال: إن رفض نبيه هو عين الحكمة. وأمام تزايد العمليات قرر العدو تنفيذ انسحابه الأول في العام 1985، والذي تمّ على أربع مراحل، الأولى بإخلاء صيدا ومنطقتها في 16 شباط، والثانية بإخلاء منطقة النبطية في 11 نيسان، والثالثة بإخلاء منطقة البقاع الغربي وراشيا والباروك ومنطقة جزين في 24 منه، والرابعة بإخلاء صور ومنطقتها في 29 نيسان. وأبقى على احتلاله لمنطقة الشريط الحدودي.
هذا الانسحاب، شكل الانكسار الأول لإسرائيل، ما أعطى المقاومة دفعا كبيراً.
فأكملت بزخم كبير، وكان «حزب الله» رأس الحربة فيها، وصولا الى 25 أيار من العام 2000، حيث أرغمت العدو على الفرار من الشريط الحدودي. لكنه أبقى على احتلاله لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
لقد انطلقنا في مقاومتنا مستندين الى المبادئ، التي أرساها الإمام موسى الصدر بأن «اسرائيل شرّ مطلق» و«إن التعامل مع اسرائيل حرام» و«قاتلوهم بأسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعا». وهذه المبادئ راسخة في الذهن الجنوبي.
كان سلاحنا في بداية الأمر متواضعا، فلا إمداد للمقاومين، الذين كانوا ينفّذون عمليّاتهم بالمتيسّر لديهم من سلاح، قبل ان تفتح لنا سوريا دون غيرها، باب الإمداد الكبير في هذا الجهاد.
كانت مقاومتنا عائمة على بحر شعبي، احتضنها بكل صلابة، ورفدها بصموده معها وبتصليب عودها امام الآلة الحربية الاسرائيلية، وبرفضه التسليم بواقع الاحتلال. وتدرجنا في المقاومة مع أبناء جبل عامل، من مقاطعة البضائع الاسرائيلية، التي أغرق بها العدو كل الجنوب، الى مواجهته بالانتفاضات والعصيان في القرى، وكانت المرأة في الصدارة، وساهمت نساء الجنوب بشكل فاعل في بثّ همة المواجهة في صفوف العامليين، بعدما ابتكرن الزيت المغلي، وصببنه على رؤوس جنود العدو. وكانت لعروس الجنوب عايدة نصرالله، ابنة برج رحال مأثرة عظيمة، عندما هجمت بيديها المجرّدتين على الضابط الاسرائيلي الذي دنّس بلدتها، فصرعها رصاص الإحتلال وارتفعت شهيدة، وهي التي كانت قد اخترعت «البصل» كمضاد لقنابل الغاز التي أطلقها الجنود الخائفون ضدّ الجنوبيّين المنتفضين في وجههم.
تلك هي الصورة التي عرضتها امام الرئيس حافظ الأسد في دمشق، والى جانبها صورة لا تقل اشراقا عنها، تعرض التحام الجنوبي في ارضه، وتعلقه بها حتى الرمق الاخير، وتلخص قصة السيد خليل صولي ابن التسعين سنة، الذي رفض ان يترك منزله في حدّاثا، وواجه الضابط الاسرائيلي بجسمه الهرم، وطرده من منزله. وقال له: «انا هنا، باق هنا، وسأموت هنا، وقبري هنا، هذه ارضي. واما انت فمكانك ليس هنا».
أذكر أنني قد جئت على ذكر هذه الواقعة في خطابي الذي ألقيته في «سينما الكونكورد» في بيروت، والذي أعلنت فيه عن العملية الاستشهادية التي نفّذها الشهيد حسن قصير في البرج الشمالي، وقلت يومها: هل من المعقول ان يفكر الاسرائيليون بأنهم سيحقّقون النصر في الجنوب، فعلام يعتمدون في تفكيرهم هذا، طالما ان ابن الجنوب ملتصق بالارض هناك، والسيد خليل صولي الذي يبلغ الاثنين والتسعين من عمره، واجه الضابط الاسرائيلي وقال له أنا هنا، أنا قبري هنا، وأنت أخرج من ارضي.
وهنا أشير الى مسألة طريفة، حصلت معي خلال جولتي التي قمت بها بعد أيام من التحرير في المناطق المحررة، ومن ضمنها بلدة حدّاثا. يومها التقيت بالأهالي في حسينية البلدة وألقيت خطابا، وبعدما انتهيت سألت احد ابناء حدّاثا عن السيد خليل صولي.
فردّ عليّ قائلا: السيد خليل زعلان منّك.
استغربت، وقلت: خير، ليش زعلان، على كل حال، اذا هو ما بدّو يحكي معي، وما بدو يجي لهون، أنا بدّي روح لعندو، دلّوني على البيت.
وبالفعل، سرنا قاصدين منزل السيد خليل، ولكن بعدما قطعنا مسافة قصيرة التقينا به آتيا الى الحسينية.
اقتربت منه، وقلت: خلّيك على كلامك، على علمي إنك زعلان منّي وما بدك تشوفني.
قال: طبعا ما بدّي شوفك.
فقلت: طيّب ليش؟
قال: إنت لمّا أنا خلقت، كنت قاعد على إيد الداية اللّي خلّفتني، وبعدين إنت من تبنين وأنا من حدّاثا، يعني إنت جيت من تبنين وقعدت على إيد الداية.
كان يعاتبني، بينما أنا كنت أستمع إليه بمتعة، وقلت: طيّب ليش؟
فقال: يا حبيبي، أنا كان عمري 90 سنة، مش 92 سنة.
ضحكت من أعماقي وقلت: هلّق سنتين فرقو معك؟
فقال: سنتين فرقو معي، هلّق قلال السنتين، أنا كنت حاكي واحدة ومضبّطها حتى تتجوّزني على أساس عمري تسعين سنة، فجيت حضرتك وقمّزتنا عن التسعين، فبطّلت تقبل فيّي، خرّبتلّنا كلّ القصّة وخرّبت كلّ الغزل اللّي عملناه.
كما قلت، انه في بداية انطلاقتها، كانت المقاومة تعتمد في جهادها على أسلحة متواضعة مثل السكين والقنابل اليدوية والرشاشات الخفيفة، ولكن مع انشاء وزارة الجنوب، التي توليتها، دخلت المقاومة في انعطافة جديدة، وشكلت هذه الوزارة الرافد الاساسي للمقاومة ونقطة الامداد الرئيسية للمقاومين، بمختلف انواع الاسلحة والذخائر، التي امدتنا بها سوريا وليس أحد غيرها.
عملية بلال فحص
ونتيجة لذلك، صارت مقاومة شباب «حركة امل» تقض مضاجع الاسرائيليين، وجاءت العملية الاستشهادية للشهيد الحركي بلال فحص في حزيران من العام 1984 لتتوج جهادنا، ولتزف الانتصار، بعدما فجر نفسه بقافلة للعدو على طريق الزهراني، والخسائر التي مني بها العدو جراء هذه العملية اذهلت على المستوى السياسي والعسكري في اسرائيل.
اذكر انني يوم عملية الشهيد بلال، كنت في المستشفى، ولم يتسن لي ان أودعه، سوى على الهاتف، لكنني تسلمت وصيته، احسست يومها بأنني قد شمخت عزا واعتزازا به، وعبرت عن ذلك بكلمات كتبتها في ذلك اليوم، وفيها:
«حين تفجرت،
تكسرت قارورة الطيب،
واندلق الاريج الرمضاني رمضائيا يحرق عدو النهر والشجر وشقيع الحجر.
عدو شقائق النعمان، وتكويرة البيلسان.
طيور الجنوب لا تغادره.
ان اخطأت مرماها، عادها حنينها وتحنانها، ورفة اجنحتها، فتصطفق الغصون وتغار المنون.
فيحمل جنوبه في كل جوانبه، حتى اذا اثقل عليه الحمل عاد اليه ولو اشلاء.
فينفصل الجفن عن العين، والهدب عن قوس قزحه.
وتتمزق يا أخي الى عشر، وتختلط علي قطعك ومزقك، ويبقيان اسمك والقلب.
أول صوت في الاسلام:
بلال والقلب انى لهم ان يعثروا عليه،
فهو لن يدفن، بقي مع الاديم كما هو..
كمشة يد،
قبضة نار، يد من اوارق يقبض على الجنوب.
ذا المشغول بالقلوب.. يا حارسي، وصديقي، ورفيقي وأخي..
يا طير الجنوب، يا حب الجنوب. يا عريس الجنوب.
طيور الجنوب لا تغادره.. وفاطمة بالانتظار».
استمر شباب «حركة امل» في جهادهم مع العلم ان كل العمليات التي كانوا ينفذونها، لم نكن نعلن عنها بانها نفذت باسم «حركة امل» بل باسم «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» الا اننا عدلنا عن ذلك، بعدما شعرنا بأن ثمة اطرافا تحاول مصادرة كل عملية، وتجيرها لنفسها ولمصلحتها، ما دفعنا في النهاية الى ان نعلن عن عملياتنا تحت اسم «افواج المقاومة اللبنانية ــ امل»، علما ان كل التنظيمات الاخرى كانت تعلن عن عملياتها باسمها.
... وحسن قصير
حققت عملية الشهيد بلال، نصرا معنويا كبيرا لنا، خصوصا انها تركت اثارها الانكسارية لدى العدو، الذي اخذ يثير علنا مسألة انسحابه من الجنوب، فكثف شباب «حركة امل» الذين كانوا رأس الحربة في المقاومة، من عملياتهم الجهادية، الى ان فجر الشهيد حسن قصير نفسه بقافلة اسرائيلية في البرج الشمالي، المت العدو الى حد دفعه الى التعجيل في اتخاذ قراره بالانسحاب.
لقد تمت هذه العملية الاستشهادية في 4 شباط 1985، وتزامنت مع الذكرى السنوية الاولى لـ «انتفاضة 6 شباط» وكنت قد اعلنت عنها في خطابي الذي القيته في المهرجان الذي اقمناه في سينما «كونكورد» احياء لذكرى الانتفاضة، وقلت ان منفذها اسد من اسود «حركة امل» لكنني لم اعلن عن اسمه، مخافة ان يتعرض الاسرائيليون لاهله الذين كانوا ما يزالون في الجنوب المحتل.
اهل الشهيد حسن قصير، لم يعرفوا في بادئ الامر، بانه هو من قام بهذه العملية الجهادية، والمؤثر ان والدة الشهيد سمعت خطابي في «الكونكورد» عبر الاذاعة، وقالت لزوجها بعدما اعلنت عن العملية، وما ادت اليه من خسائر كبيرة في صفوف العدو: «فلتحيا البطن التي انجبت هذا الشهيد».
ما حصل انه بعد يومين، انشغل بال الوالد والوالدة لأن حسن لم يعد الى البيت، فقصد والد الشهيد «مؤسسة جبل عامل»، والتي كان حسن عنصرا في «كشافة الرسالة الاسلامية» فيها، ومحمد سعد كان مدير المؤسسة.
سأل الوالد محمد سعد عن ابنه حسن، فنفى علمه بمكانه وقال له: لا اعرف ماذا اقول لك، فثمة مسألة كبيرة حصلت مع حسن.
استغرب الوالد، وقال: ما هي؟!
فرد محمد سعد: على ما يبدو ان المسألة كبيرة جدا، ولهذا طلبه «الاستاذ نبيه» الى بيروت، وقد ذهب الى هناك.
لما سمع الوالد ما قاله محمد سعد، عاد ادراجه، لكن مرت ايام، واهل حسن لم يعرفوا عنه شيئا، عندها حضر والده الى بيروت، وقصدني في منزلي في بربور، وفور وصوله، ابلغني السكرتير بأن شخصا يريد ان يراني لامر ضروري، وهذا الشخص يقول انه من بلدة دير قانون.
طلبت الى السكرتير ان يدخله، واستقبلته في مكتبي، ولم اكن حينها اعرف انه والد الشهيد حسن قصير.
فور دخوله، سلم علي، ثم بادرني بالقول: يا استاذ نبيه، اريد أسألك عن ابني حسن ماذا فعل، لقد قالوا لي انه عمل شغلة كبيرة، وانك استدعيته الى هنا.
عندما قال لي هذا الكلام، اجتاحني تأثر عميق عليه، ووجدتي انتقل من مكاني وجلست بالقرب منه، ثم قلت له: انت رجل مؤمن.
فلم يدعني اكمل، وقال وهو ينظر الي بتعجب واستهجان: هو اللي عملها (العملية الاستشهادية)؟!
فقلت له: نعم.
في الحقيقة لا استطيع ان انسى ابدا، تلك الدمعة التي خرجت من عينيه وانسابت على خده، لتلتقي مع ابتسامة رسمها على شفتيه، بحيث كان يبكي ويضحك في آن معا، فخلته امامي طبيعة ماطرة وازهاراً تتفتح.
امام هذه الحالة، اخذت اواسيه، وقلت له: انت رجل مؤمن، واستشهاد حسن شرف لنا كلنا. فقال لي: الحمد لله رب العالمين، انا لا اضحك هكذا، انا اضحك على والدته التي قالت عندما سمعت خطابك «لتحيا البطن التي انجبت هذا الشهيد».
ثم قلت له: امامك خياران، فاما ان تعود الى زوجتك واولادك في الجنوب، من دون ان يعرف احد بما جرى، لان الاسرائيليين اذا عرفوا بذلك سيتعرضون لكم، اما ان تحضر عائلتك الى بيروت، وانا على استعداد ان اؤمن لكم شقة تسكنون فيها.
فقال: لا، سأبقى في الجنوب.
وتركني ورجع الى الجنوب، وفور وصوله، سألته زوجته عن حسن، فقال لها، الا تذكرين انك قلت تحيا البطن التي انجبته، فلم تتمالك نفسها وصرخت بأعلى صوتها، فاقترب منها، ووضع يده على فمها، وكتموا على شهادة حسن قصير، حتى زوال الاحتلال، حينها اعلنا عن اسمه.
امور كثيرة في المقاومة حصلت، ولم نعلن عنها، حينما كان الاحتلال موجودا، ومنها على وجه الخصوص ما يتعلق بقائد المقاومة الشهيد محمد سعد.
كنت في بداية الاجتياح قد طلبت الى شباب «حركة امل» في الجنوب، بأن يحلوا التنظيم، ويتواروا عن أعين العدو، ويستعدوا لمواجهته، ثم بدأت شخصيا بتوجيه اوامر لتنفيذ عمليات ضد قوات العدو، واخذنا نزيد من وتيرتها يوما بعد يوم، ما استوجب ان نعين قائدا للمقاومة، وبعد فترة من التفكير والبحث عن الشخص الذي تتوفر فيه صفة القيادة، وقع اختياري على محمد سعد، وسبب هذا الاختيار ان محمد سعد كان يمتاز بمظهر طفولي «لا تطلع له ذقن»، وهذا الأمر يجعله بعيدا عن الشك، خصوصا ان من يراه، كان يعتقد أنه لا يقدر ان يحمل وردة، فكيف بالنسبة الى قيادة عمليات المقاومة.
المهم أرسلت بطلبه، فحضر الى منزلي في بربور، وهناك جلسنا وحدنا في احدى الغرف، وعلى كرسيّين متقابلين متجاورين، وأبلغته فورا قراري بتعيينه.
استغرب في بادئ الأمر، ولكن من دون ان يمانع، لكنه سألني مستوضحا: ولماذا وقع اختيارك عليّ أنا دون غيري؟
قلت: لأن شكلك يغشّ، انت بالتأكيد اكبر من رجل، وأنا واثق بأنك اهل لهذه المهمة، ولكن من ينظر اليك يظنّ أنك «غندور»، يعني شكلك ولاّدي، وهذا هو المطلوب.
ضحك محمد سعد من كلامي، وقال لي: توكّلنا على الله.
ومضى محمد سعد في مهمته التي أرعبت العدو، وتمكّن في فترة زمنية قياسية من تنفيذ مجموعة كبيرة من العمليات ضد الاسرائيليين، وألحق بهم خسائر كبيرة، كما تمكّن من نسج علاقة متينة مع قوات الطوارئ الدولية، التي أنقذته احدى وحداتها، ثلاث مرات، من الوقوع في أسر قوات العدو.
كانت المراسلات تتم بيني وبين محمد سعد عبر شخص ثالث، وتكثفت بيني وبينه عشية الانسحاب الاسرائيلي الأول من منطقة صيدا في شباط 1985، وبعده، حيث شعرنا يومها بقيمة المقاومة، وبأنه نتيجة لضرباتها ارغمت العدو على الانسحاب من دون مفاوضات او شروط، وأيقنّا ان المقاومة هي البديل، خصوصا انها بدأت تثمر، وكان أداء شباب «حركة أمل» في أعلى مراتب الجهاد، وتمكّنوا من تحرير عدد من البلدات الجنوبية من داخل مناطق الاحتلال وحوّلوها الى جزر محرّرة لا يجرؤ الاسرائيلي على الدخول اليها او الاقتراب منها.
أذكر أنني في 2 آذار 1985، تلقّيت اتصالا من محمد سعيد، فبادرته على الفور: لا تحادثني على الهاتف.
تحرير بلدات في صور
لكنه أكمل: أريد أن أبشّرك بأن بلدات عديدة في قضاء صور قد حرّرناه، وقوّات العدو قد هربت منها، ولا تجرؤ على الدخول اليها، خصوصا في بدياس ومعركة وبرج رحّال، ليتك تأتي الى هنا، وتشارك أهلك وشعبك هذا النصر.
قلت: إن شاء الله، والآن أقفل الخط.
فقال: لقد أردت أن أنقل لك الصورة.
قلت: لقد وصلت تماما، والمهم الان، هو أن تمارسوا أقصى درجات الحذر، فأنت تعرف أن المعركة لم تنته بعد. بلّغ تحيّاتي الى الشباب جميعا، وإلى الأخ داود.
فقال: اريد ان اقول لك ايضا ان الأخ داود «قطع النهر شوي».
«قطع النهر شوي»، بلغتنا يومها، تعني أنه انتقل الى منطقة الزرارية.
فقلت: الله يرضى عليك، من الآن وصاعدا، لا تتصل بي على الهاتف، وإن اتصلت فلن أرد عليك، وإذا أردت ان تتصل بي، فاتصل حسب الطريقة التي تعرفها.
وانتهى الحديث هنا، وكان ذلك آخر كلام بيني وبينه، اذ أنه بعد يومين من هذا الاتصال، حضر الى منزلي في بربور شقيق محمد سعد، ناقلا اليّ رسالة منه، ولكن بعد دقائق قليلة من وصوله، أبلغتني غرفة عمليات الحركة بخبر انفجار حسينية معركة، التي فخّخها الاسرائيليون قبل انسحابهم من البلدة، وأدّى ذلك الى استشهاد محمد سعد وخليل جرادي، وكوكبة من شباب «حركة أمل» وأبناء معركة.
بطبيعة الحال، كان الخبر صعباً على شقيق الشهيد فأجهش بالبكاء، فيما أنا حبست دمعتي، وانزويت في غرفة وحيدا، جلت فيها عشرات المرّات ذهابا وإيابا، وقلت: لقد كتبت علينا.
ثم جلست خلف طاولة وكتبت:
«إستشهد نصف الجنوب: محمد سعد وخليل جرادي، والأخوة الميامين إلى جانبهما، وعلى النصف الباقي متابعة التحرير.
محمد سعد قمّة المقاومة. حاز قمّة الشهادة.
عهدا من اخوانك قيادة وعناصر في «حركة أمل» تنشق عبير دمك الزكي حتى التحرير.
لقد فشلوا في مواجهتك يا أخي، فطعنوك في الظهر والغدر، يا ابن الإمام الصدر، يا إبن «حركة أمل».
بين مهدك ولحدك كل املنا، كل تاريخنا، وسنصنعه على شاكلة تاريخك».
لقد كان استشهاده خسارة كبيرة، وغيابه احزنني حتى اخر اعماقي، وشعرت يومها بأن ظهر المقاومة قد انكسر. وأذكر انني بعد التحرير قصدت بلدة معركة، وزرت ضريح الشهيد محمد سعد، فلم أتمالك نفسي امامه، وبطريقة لا شعورية، ارتميت على الضريح وأجهشت بالبكاء. ورغم هذه الخسارة استمرّينا في مقاومتنا، ولم تثننا المجازر التي ارتكبها العدو، في الزرارية وسحمر وكوثرية السياد وحومين وعربصاليم، وغيرها وغيرها من البلدات الجنوبية الصامدة، وأرغمناه على تسريع انسحابه نتيجة الضربات الموجعة التي وجهناها اليه، وانكفأ بشكل كامل عن الجنوب آخر نيسان 1985، واستقرّ في الشريط الحدودي.
وهنا لا يستطيع احد ان ينكر أننا في «حركة أمل»، كنّا حتى ذلك التاريخ رأس الحربة في المقاومة.
ورغم كل ذلك استمرّينا على نهجنا، واستمرّت مقاومتنا، انما ليس بالزخم الذي سبق الانتصار الأول، وكان في الصدارة «حزب الله»، حتى تحقّق الانتصار الثاني في أيار من العام 2000.
كنت أشعر بسعادة كبيرة مع كل عملية يوفق فيها المقاومون من «حركة أمل» ومن غير الحركة، وسعادتي العظيمة كانت مع انبلاج فجر التحرير وتحقّق الانتصار. لقد حقّقنا الإنتصار الأول وتعلّمنا الدرس، ونتيجة لهذا الدرس قلت للسيد حسن نصرالله خلال لقاء جرى بيني وبينه في مقر رئاسة مجلس النواب في عين التينة في الرابع والعشرين من أيار 2000، اي قبل يوم واحد من «يوم التحرير»: طبعاً، نحن مسرورون بالتحرير.
فقال: بالتأكيد.
قلت: يجب علينا الآن ان ننتبه وان نحذر من ان ندفع نحن الثمن، لأننا عملنا «دوز عالي»، حتى العرب كلهم لا يستطيعون أن يتحمّلوه.
السيد حسن نصرالله كان مدركاً لهذا الأمر، ولذلك قال في خطابه في الأونيسكو في احتفال الذكرى الأولى للتحرير: «الإنتصار الأول كان له دويّ كبير كبير، لكنه ضاع في الخلافات الداخلية والصراعات التي حصلت».
هذا الكلام صحيح مئة في المئة، فالانتصار الأول أكبر من الإنتصار الثاني من حيث المساحة لأنه أرغم اسرائيل على الجلاء من صوفر الى بيروت الى صيدا الى صور والنبطية، يعني ان القسم الاكبر من لبنان قد تحرر، فيما الانتصار الثاني تبلغ مساحته أقل من نصف مساحة الانتصار الأول.
