الإمام والتشيع

calendar icon 02 تشرين الثاني 2002 الكاتب:محمود فرحات

* المؤتمر الثالث للحركة الثقافية في النبي شيت (الجلسة الثالثة)


بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد وعلى نبيه وآله افضل الصلاة وبعد:

السلام عليكم ايها السادة الأجلاّء والأخوة الأفاضل ورحمة الله وبركاته، والسلام على سبط رسول الله وحفيد امير المؤمنين والائمة الطاهرين السيد الجليل السجين جسدا، الملزم إقامة، الحاضر، كما معنا، مع كل محبيه وعارفيه وانصاره ومريديه ... نسأل الله تعالى له ولمن معه، ولكل الاسرى والمعتقلين من اخواننا وابنائنا، الفرج والاخلاص.

ومن ابسط واجباتنا حيال هذا المؤتمر الكريم والسادة الامجاد الذين لم يوفروا جهداً في اعداده وتحمل مشقاته وفي مقدمهم السيد الجليل الفاضل الصديق السيد مالك الموسوي رعاه الله ورفاقه وأخذ بيدهم إلى مزيد من العطاء النبيل ... من ابسط الواجبات شكرهم وتقدير جهودهم والدعاء لهم بالخير والتوفيق وحسن القبول.

والحديث في موضوعنا بعنوان "التشيّع في فكر الإمام الصدر"، يلزمنا بعرض سريع للشيعة وبعض ملامح تاريخهم. إذ أنه لم يتسنّ لخط التشيّع عبر تاريخ الاسلام الكبير، منذ وفاة رسول الله (ص) إلى ما قبل نصف قرن من ايامنا هذه ان يتجلّى على حقيقته، وبكامل ابعاده ومبانيه، فقد بقي طيلة قرون الاسلام، الحقيقة المغيّبة، والحق المطارد والمهدور ...

والسبب واضح ومعروف وهو مصادرة السلطة ومرجعية الحكم بعد وفاة رسول الله بشكل مفاجئ ومباغت وعمل سريع خاطف، قامت به جماعة محدودة جداً من المسلمين بمعزل عن معظم الفاعليات الاساسية في الدعوة، والمجاهدين الذين كان لهم الدور الاكبر في انتصارات الاسلام وتثبيت وجوده، وكذلك بمعزل عن اهل بيت النبي صاحب الدعوة وفيهم اعيان الاسلام وفي مقدمهم علي صاحب بدر واحد والخندق وخيبر والعاديات فضلاً عن انه اول من آمن بالدعوة وتفانى في سبيلها وانه الأتقى والأورع والأقضى والأعلم. وللنبي صاحب الدعوة اقوال ومواقف وتصريحات كثيرة واضحة وبيّنة في تميّزه، وانه، اي علي، هو الولي والخليفة والوصي، أثبتها كل الكتب والمصنفات التي تشكل مصدراً اساسياً ومرجعاً رئيسياً، بعد كتاب الله للتعرف على الاسلام في قواعده واسسه وفي تفاصيله وجزئياته.

وما لا يقبله عقل او منطق ولو كانا يسيرين هو ان مثل هذا الرجل وارهاط الصحابة الاجلاء قائمون على بعد عشرات الامتار من المكان الذي اجتمع فيه عدد من الناس ليس فيهم ممّن يعبّر عنهم بكبار الصحابة سوى انفار لا يتجاوزون اصابع اليدين الاثنتين والباقون بعددهم القليل هم من عامة الناس ومن ازلام وانصار سعد بن عبادة وبشير بن سعد فبالإضافة إلى عدد محدود لاشخاص غير معروفين ليقرروا امراً بعد تنازع وتدافع وشهر سيوف مما يكشف مستوى المشاركين امراً ليس خاصاً بهم بل أمر المسلمين جميعا، كما انه ليس عادياً فهو بمستوى النبوة وخطورتها، والأمر هو خلافة رسول الله وإمامة المسلمين من بعده.

واستنكر علي وارهاط الصحابة الأمر، وتحدث عن غرابة الأمر اسلوباً في المبدأ والأصل، وتجاوزاً لحقوقه ومؤهلاته وتأكيدات النبي ووصاياه. وفكّر وأمعن النظر في التصدّي ومواجهة الأمر.. ولكن ما نقل له وسجلّه التاريخ فيما بعد عمل جرى بين المجتمعين في السقيفة من تحاشد وتشاتم ووضع الأيدي على قبضات السيوف، والتهديد بالقتل جعله يدرك ان الموقف ليس فيه مكان للحجة والإقناع، أو التذكير والبيان، أو طرح الأمور التي تثير العامّة بل وحتى الخاصة، وتستقطبها في محاور وانقسامات، وهم حديثو عهد بالايمان في الاساس وبالاسلام كرسالة ودين، واكثرهم ليس لهم من الاسلام إلا قولته وفيهم الجاهلي الذي لا يزال يحنّ ويتحرك بجاهليته، والوثني الذي لم ينتزع نهائياً وثنه من قلبه والعشائري الذي تنخّيه عشائريته، وفيهم المنافق الذي يريد هدم الاسلام وتفشيل الدعوة والمثل الأبرز ابو سفيان وهو اشد الناس حقداً على علي من منطلقاته يعرض عليه، للصراع، ان يملأ الارض له خيلاً ورجلا.

هذه الأمور وغيرها، عرضت لعلي لحظة قراره، وأكثر ما هو معروف عن علي، وثابت في صفحات الاسلام، فدائيته واقتحامه المخاطر، وجرأته في سبيل الدعوة، انطلاقاً من موقفه الفتي يوم الدار إلى اقتحاماته وبطولاته في معارك الاسلام والذود عنه مروراً بفدائيته ليلة المبيت اذ فدى الدعوة ونبّيها بمبيتة في مكان محكوم بالقتل المؤكد ... لذلك كان قراره فداء الاسلام الهش والدعوة الطرية بحقه وجميع استحقاقاته، فاستكان ببيته ولزم الصمت، مسجلاً موقفاً اعتراضياً، سلبياً، يفهم الناس والتاريخ ان الطريقة التي دارت وجرت في تنصيب الخليفة ليست هي الطريقة التي رسمها الله تعالى، وصرح بها نبّيه وابلغها للناس والمسلون جميعاً، علماؤهم، فقهاؤهم، اصوليوهم، متكلموهم متفقون على وجوب نصب الاوصياء وان لكل نبي من انبيائه ورسله وصياً، يقوم بأمر الدين، ورعاية شؤون المؤمنين وقيادتهم من بعده.

ولم يشذ عن هذا الوجوب المسلمين جميعاً سوى فرقة صغيرة جداً من الخوارج باسم "العجاردة" ذهب شذوذها معها، اذ لم تكن من اهل البقاء والاستمرار.

وقد يسأل احد اذا كان الأمر هكذا والمسلمون جميعاً متفقون على وجوب نصب الوحي والامام بعد النبي فأين الخلاف الآن؟

والجواب هو انهم اتفقوا على الوجوب واختلفوا في الكيفية.

جماعة السقيفة بالشكل الذي أشرنا إليه، رسموا للوصاية وللأمامة والخلافة نهجاً هو ان الناس هم الذين يختارون الوحي والإمام وينتقونه او ينتخبونه ويعبر عنهم في كثير من المناقشات الكلامية في هذا المورد بجماعة الاختيار وجماعة علي وشيعته، وقد قال فيهم رسول الله بلاخلاف في القول: "يا علي انت وشيعتك الفائزون يوم القيامة". التزموا بالنصوص النبوية وبالنهج الالهي في ان الله تعالى هو الذي يرسل النبي وينصب له من بعد ذلك في حياته او قبيل وفاته الوحي، ويعبر عنهم ايضاً بجماعة النص أو التعيين، أو الامامة.

وينتقد جماعة النص، اي شيعة علي، جماعة الاختيار بعد الطعن في المبدأ، انكم في الخليفة الاولى، اخترتم فكيف في الخليفة الثاني؟ وقد سماه سابقه الخليفة ابو بكر وكيف الثالث؟ وكيف في الرابع؟ وكيف في المصيبات العظمى بعد الخلفاء الاربعة في معاوية ويزيد والملك المتوارث وأولياء العهود "وأمراء المؤمنين" والخلفاء الفسقة الماجنين".

ثم اذا كان الخليفة الأول وقد شعر بدنو الاجل اوحى، ولم يترك الامر هملاً وكذلك الثاني لم تهدأ عيناه إلا بعد ان تسمى الستة، بالشرط الغريب"، فمال بال محمد النبي والرسول، صاحب هذا الأمر لم تعترفوا له بوصية وتقولون انه مات ولم يوصِ؟!.

المهم ... هذا الحديث يجر إلى الاسترسال، وإلى عودة مقيتة إلى الماضي المؤلم. ولكن الشيعي الذي يقرأ الكوارث والمصائب والفجائع والظلم الذي لا يطاق عن جماعته في التاريخ ولا يزال يرى ويقرأ حتى هذه الأيام وهو متيقن ان مبانيه في اسس العقيدة هي الصحيحة والمنطقية وان كل ثقافته ومعلوماته في هذا الامر امر الولاية مأخوذ ومستقى من كتب المسلمين الاخرين الذين لا يتورعون – هداهم الله – عن رمي الشيعة، بالكفر احيانا وبما لا يعقل من الأراجيف والبهتان .. هذا الانسان جبار في ايمانه بطل في اسلامه، حريص حتى الموت وسفح بحقوق ومنها حقه على ظالمية، كإمامة امير المؤمنين على الاسلام وكيانه ووحدته.

ونخرج انفسنا من هذا الموضوع ونخلص إلى القول ان الشيعة لم يعترفوا بولاية او قيادة او إمرة مؤمنين إلا لعلي وابنائه الأحد عشر اهل بيت الرسول الذي قال عنهم جدهم كما ورد في اهم صحاح المسلمين من جماعة الاختيار، الائمة من بعدي وفي لفظ "الامراء". اثنا عشر كلهم من قريش وفي اقوال ثابتة اخرى تصريح بعلي وابنائه الاحد عشر.

وكان من نتائج عدم الاعتراف بها وإنكار الامور على الذين تولوا السلطات ومقادير الامور في الأمة، ان فتحت عليهم نيران الحكام والسلطات بغزارة وقوة وفي كل ساح ومجال. وبدأت المجازر وحفلات القتل والابادة، والملاحقة وسمل العيون وقطع الايدي والارجل بدءاً من معاوية الذي كان همه الأكبر وهاجسه الأعظم علياً امير المؤمنين.

وقد بادر في أول عمل له بعد اغتيال علي ان دعا الناس وكتب إلى الاقطار والأمصار يأمرهم بسب علي في خطبة الصلاة واعد فرقاً من جيشه سيرها في نواحي الجزيرة يلاحقون شيعة علي وانصاره ومحبيه بالقتل وقطع الاعناق والارزاق ولم يسلم من هذه الحملات النساء والاطفال حيث قتلوا طفلين لعبيد الله بن عباس بعد فرار والدهما .. ليأتي بعده يزيد الفاجر الماجن السكير باجماع المسلمين كلهم فيذبح امام المسلمين وافضلهم في عصره على الاطلاق وجمعاً من ابنائه واصحابه من اجلاء المسلمين ويحمل جيشه رأس الامام الحسين على الرمح من كربلاء إلى الكوفة فللشام ويسبي بنات رسول الله وينقلهن حاسرات سافرات في هذه المسيرة الطويلة في أسوء مذبحة واشد مجزرة وحشية وبربرية.

واذا كان يزيد قد استباح حريم رسول الله وحرمته في بناته وابنائه فكيف يكون شأنه مع شيعتهم المساكين الضعفاء؟

ويقدم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الذي قال فيه الفقيه الكبير الشعبي: لو جاءت الامم بمجرميها وجئنا بالحجاج وحده لغلبناهم .. إلى غيره وغيره من ملوك العباسيين والذين هيأ لهم النمط الهندسي في بلادهم فجعلوا السراديب سجوناً ومعتقلات للشيعة وزجوا فيها عدداً من ائمة اهل البيت واستفادوا من عظام ايدي وارجل الذين كانوا يقتلونهم منهم اوتاداً واسافين لربط دوابهم وخيولهم، وهدموا قبر الإمام الحسين في كربلاء وفلحوا ارضه وكانوا في الوقت ذاته يغضون انظارهم عن الزنادقة والملاحدة الذي كانوا يجلسون في بغداد يناقشون بالحادهم وفلسفاتهم الناس والعلماء، إلى غيرهم ايضاً من جميع الحكام والسلاطين وامراء الدويلات والمماليك والاتراك ومجازرهم الفظيعة وجرائمهم المروعة.

ومن الطبيعي خلال هذا المسار كله ان تخرس الالسن وتستكم الافواه وان لا يرتفع صوت او تنبس شفة إلا بحمد الطغاة والثناء عليهم .. فقد كانوا يأخذون الناس على الظنة ويقتلونهم بالوشاية والكلمة التي لا تكون على المزاج. فلم يجرؤ العلماء والفقهاء على الاعتراض والانتقاد فلهم ممن سبق عبرة كحجر بن عدي وسعيد بن جبير، وميثم التمار وابن المسيب وابي حنيفة الذي سجن وعذب ومات في السجن لأنه افتى بوجوب او جواز نصرة محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي ابي طالب.

بيد ان ائمة آل البيت الاطهار عليهم السلام كانوا يعتبرون ان الدين امانة في اعناقهم بل هو مسؤوليتهم امام الله فاذا حجبهم الناس عن مسؤولياتهم او منعوهم حقهم في القيادة والرئاسة ونصبهم الله أمناء واوصياء على ذلك فهذا لا يعني سقوط المسؤوليات وبطلان تنصيبهم.

لذلك لم يدخر واحد منهم جهدا وكانوا في عصورهم المنارات والمعالم، وكانوا الموجهين والمعلمين.

فمن مصلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين استنارت عقول واتسعت مدارك واهتدت قلوب.

جلس في محرابه منصرفاً عن السياسة وشؤونها، عازفاً عن التدخل في شؤون حكم والحكام ووفد العلماء والفقهاء وأهل الحديث والتفسير، من داخل البلاد وخارجها يسألونه ويأخذون عنه. واعاد رسم معالم الشريعة بعد ان تفوضت في عهد يزيد باستباحة المدينة وكانت مركز العلم والعلماء والفقهاء، والمفسرين وكانوا يعرفون بالقراء حيث قتل جيشه على ما تقول كتب التاريخ ما يقارب العشرة آلاف منهم، وعاش الباقي منهم حالة ذهول وتشتت ورعب. وكذلك كان العلم والفقه وعلوم الدين قد جمدت في عهد معاوية الذي كان همه شتم علي وملاحقة شيعته وقتلهم وبالخصوص قتله للصحابي الجليل حجر بن عدي ونفيه للصحابي الصدوق إبي ذر وغيرهما من اعيان الصحابة والفقهاء الأمر الذي عكس حالة من الانكفاء والتوجس والجمود العلمي والفقهي.

وقد اعاد الإمام السجاد تأهيل عقول الناس وتأهيل نفوسهم وارواحهم بتعاليم الاسلام الصحيح في كل المجالات وبين وظائف الحكام والرعية ومسؤولياتهم في صوغ ابتكاري هو الأدعية التي لا تشكل ممسكاً عليه ولا على قائليها للسلطات. وفي رسائل كان يوجهها إلى كبار فقهاء السلطة يذكرهم فيها بتعاليم الله ومرجعيته للعباد وينصحهم فيها بملازمة التقوى كرسالته المشهورة في الحقوق، ورسالته إلى الزهري كبير فقهاء ذلك العصر وغيره من الفقهاء.

وجاء بعد الإمام زين العابدين ولده الإمام محمد وبعده ولده جعفر وقد عرفا بالصادقين وحافظا على مرجعية العلم والعلماء والفقهاء والمفسرين واهل الرواية والحديث وعلى نشر المعارف على اختلافها وتنوعها حتى علوم الكيمياء والحساب، وكان من ألصق اصحابهما بهما جابر بن حيان احد واضعي اسس علم الكيمياء.

وقد عرضت ايام الباقر عليه السلام مشكلة كبرى في النقد مع الروم لم يجد عبد الملك بن مروان لها حلاً إلا عند الإمام الباقر.

وكانت حجافل الاسرى والسبايا التي كان يرسلها جنود الاسلام في فتوحاتهم وحشودهم قد بدأت تفد وتترى على مراكز الاسلام وكانت هذه الوفود تحمل معها ثقافاتها ومعتقداتها وعاداتها ورسومها، فشكلت تفاعلات مهمة في العالم الاسلامي منها الجيد الحسن ومنها السيء الخطير وخصوصاً فيما يتعلق بالامور العقائدية والاصول الدينية، واسفرت هذه التفاعلات عن حالات من الزندقة والالحاد إلى جانب افكار برزت عند المسلمين كالارجاء والقدرية والمفوضة ..

وقد تصدت جامعة الامامين الصادقين لهذه الموجات والحالات والافكار فأجهضتها وخنقتها في مهودها وكانت الجامعة تسع وفود المتعلمين في الفقه والرواية والتفسير وعلم الكلام من مختلف بلاد المسلمين القريبة والبعيدة وقد تعاظمت هذه المدرسة – الجامعة درجة قال عنها الفقيه الشعبي الذي ذكرناه آنفاً لقد وجد اربعة آلاف رجلاً يقولون: حدثني جعفر بن محمد.

وكذلك الائمة الباقون .. ومن المهم ان ننبه ونلفت إلى انهم جميعهم اخذوا العلم عن بعضهم وهو علم رسول الله، ولم يستطع باحث او مؤرخ سير ان يثبت ان احداً منهم تتلمذ على غريب او تلقى علماً من سواهم.

فالعلم واحد عند جميعهم وهو علم النبي الذي هو من الله عز وجل وانما هي الظروف والفرص تتوافر لهذا الامام أكثر من الآخر.

ومرة ثانية ننتزع انفسنا من بحور الأمة صلوات الله عليهم لنعود إلى موضوعنا عن الحفيد الممتحن الذي ورث عن آبائه واجداده اصول علومهم وبحوراً من فقههم واحكامهم. حتى السجن ورثه عن جده اول امام سجين من ائمة العترة النبوية الامام – ويا سبحان الله اهي صدف ومقادير ام امور ربانية في تطابق الاسماء – الإمام موسى الكاظم والإمام موسى الصدر وللحفيد الممتحن الذي غيبته السجون ان يصرخ في وجوه سجانيه العتاة:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم..

وليسمح لي الاخوان جميعاً بوصلة صغيرة اصل بها حاضراً بماضٍ او فرعاً بأصل. ان الشيعة يرون ان تعاليم الأئمة وتوجيهاتهم وارشاداتهم هي تعاليم الاسلام النبوي والرسالة المحمدية. ولا يدعي الائمة صلوات الله وسلامه عليهم ان ما اعطوا من علم اسلامي هو منهم فهم ناقلون عن جدهم (وآمل ان يعرف من لا يعرف من الشيعة هذه الحقيقة) لذلك فان معرفة الاسلام وحقائقه وتوجيهاته وتربيته تكون من خلال هذه التعاليم. ولا يقيمون وزن بعوضة لاحاديث رويت بواسطة اشخاص مجروحين او مدانين كذلك الذي ضرب الخليفة الثاني عمر ظهره بالسوط وقال له: "يا عدو الله لا تكذب على الله ورسوله" ومع هذا نرى ان معظم الاحكام الشرعية والواجب والندب والمحرم والمكروه معتمد في اثباته او ثبوته على روايات عنه. او كذلك الخارجي عمران بن حطان الذي يدان بمعتقده باستحلال دماء المسلمين قاطبة وحتى بقر بطون الحوامل من نسائهم وقتل الحمل بعد اخراجه، وبقتل او التدبير لقتل الخليفة الراشد خليفه المسلمين الإمام علي، وما ادراك ما علي؟ او كطريد رسول الله وغيره من المجروحين في فن الجرح والتعديل ويرفض حضرة البخاري ان ينقل حديثاً او رواية للإمام العملاق الصادق جعفر بن محمد الذي تصاغر في مجلسه الإمام او حنيفة كما يحدث عن نفسه، فيقول "فجثوت امامه على ركبتي جلسة التلميذ امام معلمه.." ويقول: أعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس! ما رأيت افقه من جعفر بن محمد. هذا الإمام العملاق الصادق يقول البخاري وقد سئل لماذا لا تروي عن جعفر بن محمد؟ يقول: في نفسي منه شيء!!!

من هذا ومثله وغيره وهو كثير وكثير جداً في الموضوع المذهبي في تاريخ الشيعة والمذاهب الاخرى نبني على ان الظلم السياسي وطغيان الحكام والسلاطين على الشيعة قد سرى إلى الموقف الديني والمذهبي الذي يجب ان يكون خالصاً للحق والحقيقة وان الفقهاء والعلماء قد تحولوا في فقههم وعلمهم إلى رغبات السلاطين ومصالحهم بل نرى في فتوى ابن تيمية وغيره في استحلال دم المسلمين الشيعة واستباحة اعراضهم ونسائهم غطاء شرعياً – وفق مذاهبهم – لبربريات ومجازر ومذابح المماليك ..

لقد افتى الفقهاء بان دم المسلم كونه موالياً لأهل البيت، المطهرين بصريح القرآن، حلال، وبأن كتبه ومصنفاته كتب ضلال لا يجوز اقتناؤها، شراؤها او الاطلاع عليها، وبأنه كافر!! لا يجوز التعامل معه.

وقامت الهجمات والحملات والتشويه والافتراءات والدس المفضوح مع الممارسات الدائمة للقتل والتعذيب، والسجن والتشريد، فلجأ الشيعة على العموم إلى التكتم والتستر وما يسمى بالتقية مع شروط فيها، وانكفأوا ضمن تجمعاتهم ودوائر تواجدهم. وانصرف علماؤهم وفقهاؤهم إلى الكتابة والتأليف وكانت الغالبية العظمى من تصانيفهم في بيان اصول الاعتقاد، والولاية والخلافة وبيان احقية علي والائمة في الولاية والدفاع عن حريم التشيع المنتهك والرد على الافتراءات والاتهامات التي كانوا يرمون بها جزافا وعلى غير اساس، وفي كتابة التفاسير ومجاميع الحديث.

وليس في حدود استقصائي في امكانية ذكر كتاب شيعي في مرحلة من تاريخهم هي الاكثر سواداً، خارج هذه الدائرة.

واستمر الوضع على هذا الحال ردحاً كانت ثقافة الشيعة محدودة بهذا النمط في الكتابات والمعلومات.

وبدأت الكوابيس تنداح عن صدور الشيعة في بعض البلاد والاماكن وهبت نسيمات حرية فكر واعتقاد. وتطلع الشيعي فلم يجد في خزائنه فكراً منهجاً، وثقافة مميزة تحاكي الثقافات الخاصة التي تعتمدها الأمم والشعوب، والعامة، التي تنسج من خلال الانفتاح والتواصل مع العلم. فهو يملك المقومات والتراث الضخم الذي هو ايمانه معتقده بأن العالم لا يصلح إلا به وبمهديه، وان التخلي عنه هو تخل عن الله وعن سياق البعثات السماوية وركائزها.

وتطلع قسم كبير منهم إلى الأفكار المنمقة والطروحات المبهرجة فسلبت لبه وانجرف صوبها وكاد المسلم الشيعي يضيع وهو يحمل في كيانه مشاعل النور، وينزلق وهو متمسك بأشد الثوابت، وكان الأمر يحتاج إلى وصلة قوية وثابتة تصل بين التراث والحاضر يين الخزائن ومواكب الحاجة بين كنوز الجواهر والذهب النقي التي كاد الغبار المتراكم عليها ان يخفي حقيقتها، ويذهب بريقها ولمعانها وبين نفض الغبار وتسييل هذه امكانات فعلية صالحة للتداول والغنى.

واخيراً سطع الضوء وانطلقت الاشارة والبشارة من بلاد الرضا واهل البيت عليهم السلام، من ايران وقم المباركة بالتحديد.

منذ نصف قرن من السنين، في بدايات الخمسينات من القرن الميلادي الفائت تنادى طليعة من علماء ايران ومفكريها لم يتجاوزوا العشرة في العدد في بدايات الأمر إلى عمل حثيث وسعي مقدس غايته الكبرى والاساس وضع المذهب الشيعي بتعاليمه ومفاهيمه، واخلاقه وسلوكياته، ورؤاه في الحياة والموت والكون والطبيعة وعلاقات الانسان بهذين الاخيرين نظام الحكم والسلطات والمسؤوليات الخاصة والعامة، وعير ذلك من كل ما يتعلق بالانسان والحياة في صف الأطر والمدارس والافكار العالمية المطروحة، بعد ذلك الانحباس الطويل.

وكان اول عمل بادرت اليه هذه الكوكبة هو دعوة دور النشر والتأليف إلى الاستفادة من العلماء والخبراء في إخراج المكنزات الشيعية من الخزائن والمخابئ إلى التداول والتعميم، بعد اجراء عمليات شاقة من التصحيح والتدقيق والشروح والفهرسة والتوثيق وما إلى ذلك، مما يسهل على المراجع والقارئ سبل الاستفادة والمعرفة. يندد ان تجد اليوم كتاباً من كتب التراث، او الحديثة لا يلتزم بهذه الضروريات. وقد شعرت بالاطمئنان والارتياح وابتسمت كثيراً عندما طلب مني محقق في احدى دور الطباعة والنشر وكان بين يديه كتاب لي في شرح معاني القرآن الكريم وألفاظه، توثيق الكتاب. وكان هذا دليلاً على رسوخ الدعوة القمية.

ثم عمدت هذه الكوكبة إلى اصدار مجلة رصينة تناولت فيها، طالما استمرت، جميع المواضيع الاسلامية بابحاث وافية علمية دقيقة وبتعبيرات واصطلاحات حديثة ومناسبة، استكتبت لها اختصاصيين مستحدثين. وكانت المجلة كتاب كل بيت وخلجة كل فكر.

وانتشرت إثر ذلك وعلى نداءات المجلة والكوكبة الواعية، المركز والمؤسسات والنوادي والهيئات التي استفاقت على ضرورة المنحى الجديد التحديثي وعلى تقصي اللغة الجديدة التي يجب ان يخاطبوا الناس أناسهم والآخرين بها.

وما قصدته من عرضي هذا هو القول بأن النهضة الشيعية الفكرية الحديثة بدأت في قم بايران وان الإمام السيد موسى الصدر الحاضر معنا، في وجداننا واقوالنا وبياناتنا كان أوجه هذه الطليعة المباركة التي يدين لها المذهب بانطلاقته المباركة، وكان ابرز الناشطين والفاعلين فيها.

ويحفظ لها المتمذهب المنصف، الفضل الكبير،

ومن المهم جداً، بل لعله اصل المطلب الاشارة إلى ان الشيعة في كل أماكن تواجدهم كانوا نتيجة الوضع ال.......... من الاضطهاد والتنكيل، والقتل والتشريد الذي عاشوه ولا يزالون في عدد من البلدان والأماكن قد جعلهم يستكينون إلى اوضاعهم الفكرية وييأسون من تغير الأحوال وتبدلها مكتفين من النشاطات الفكرية بما يخص الولاية والاحقية.

لذلك يمكن اعتبار الخروج عن التقليد، والانعتاق من الحالات النفسية المتجمدة، ثورة بحق، ومفصلاً من مفاصل المسيرة الشيعية في التاريخ.

وان في الكلمة التي ذكر ان الإمام الصدر اطلقها في بدايات تحركه ونشاطه في لبنان وفي اشارته إلى الوضع العلمائي "جئت لانفض غبار السنين" هي في قلب الوضع وصميم الحالة.

فالعلماء في لبنان معظمهم مجتهدون افاضل اتقياء ورعين طاهرين لاغبار عليهم ولا اوساخ غير انهم كانوا على الحد الذي اشرنا اليه من التحرك والانطلاق وبنفس الروحية أو الذهنية التي كانت تعم علماء الشيعة في كل مكان وفي ايران، قبل ذلك التحرك المجيد. حتى ان كثيراً منهم كانوا ييئسون الناس من تحسن الأوضاع العامة وتبدلها ويدعونهم إلى الصبر والانتظار إلى يوم الخلاص والفرج الموعود، وأن لا دولة لهم – للشيعة – ولا سلطان إلا دولة المهدي (عج).

ولطالما سمعت شخصيا هذه المقولة في ايران مع بدايات تحرك كوكبة التحديث وكنت قد بدأت تحصيلي الديني هناك. وقد شرفت يومذاك بالتعرف على معظم رجال الكوكبة ومن استقطبت من رعاة التحديث و تتلمذت لبعضهم. كما عايشت عدداً من النمط الآخر من العلماء اصحاب تلك المقولة.

ولقد اظهر الإمام الصدر فهماً عميقاً متقدماً لحقيقة الخط الشيعي ومساراته يمكننا افرادها تحت عناوين تالية:

1- المذهب الشيعي ليس اسلاماً آخر، ولا خطاً يتميز عن خط الرسالة المحمدية فقد رفض وصفه بالمذهب بالمعنى الاصطلاحي فقهياً، او كلامياً أو سياسياً إنما هو رؤية وسلوك وهذا نص قوله الحرفي: "إن التشيع في تصور الكثير من الناس هو مذهب فقهي يقابل المذاهب الفقهية الاسلامية او مذهب كلامي رديف لمذهب المعتزلة والاشاعرة. او هو موقف سياسي ناتج عن الآراء العائدة إلى الخلافة الاسلامية بعد رسول الله (ص). والحقيقة ان التشيع هو رؤية وسلوك بينهما الأئمة المعصومون من آل البيت واتباعهم، يتجاوز في ابعاده الاجتهادات الفقهية او الآراء الكلامية والموقف السياسية .."

ويقول في مورد آخر: "التشيع رؤية اسلامية صافية، وسلوك اسلامي صاف يجعلان من الشيعة طليعة الأمة. واذا كان المطلوب ان يسمى التشيع مذهباً فان المطلوب ايضاً، عند ذلك، ان نعطي كلمة المذهب" اجمع الحقيقة.

وكان يتماشى ما أمكنه الأمر وبما لا يسبب الاحراجات الكبيرة المشاركة في المناسبات والمواقف المذهبية الصرفة، تعبيراً عملياً وفعلياً على الاسلام الواحد الموحد.

ويقول في مكان آخر: إن مفكري الشيعة – او على الأقل بعضهم – يميلون إلى رفض تصنيف التشيع مذهباً في الأصل منفصلاً عن المذاهب الآخرى. المفكرون يرفضون ذلك، بل انهم يقولون ان التشيع بمعنى المسؤولية هو ايديولوجية القادة وسلوكهم القيادي المعتمد على الاجتهاد والجهاد. وهو الدرس الصحيح للمرحلة المعاشة، والسعي حتى الشهادة في سبيل تحويلها إلى الافضل.

وفي اجواء عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين (ع) يقول: "وهنا نصل إلى التلاقي العميق بين الامامة والشهادة، لأن الإمامة مسؤولية لصيانة تحرك الناس، ومن الطبيعي ان المسؤول قد يحتاج إلى درجة الشهادة.

فالشهادة جزء من الإمامة، وندرك مفهوم الحديث الوارد عن الائمة "ما منا إلا شهيد أو مسموم" حيث يلقي – الحديث- الأضواء على ابعاد النضال الذين كانوا يمارسونه لتحمل مسؤولياتهم. وهنا نصل إلى النمط العريض لتاريخ التشيع الذي تشكل عاشوراء صفحة بارزة منه .. ذلك الخط الشاق المأساوي الذي جعله رغم قلة اصحابه مذهب الرفض او المخالفة أو المعارضة في إطار الالتزام الاسلامي العام بالنصوص، والمتجدد بالاجتهاد.

ويرى الإمام الصدر ان استشهاد الإمام الحسين يوم عاشوراء هو حلقة مترابطة بين الماضي والمستقبل حين يقول:

".. وهنا نجد ان جهاد الانبياء والائمة والاوصياء جميعاً .. في ساحة واحدة، بحيث يمكننا ان ندرس موقف كل منهم في اطار عام. ومن جملة هذه المجاهدات، بل قمة هذه التضحيات، استشهاد الحسين يوم عاشوراء.

فليست الشهادة الحسينية حلقة معزولة عن الحلقات الأخرى، بل ندرسها من خلال تاريخ نضالي طويل اوجد شهادة الحسين كم ان شهادة الحسين اوجدت شهادات اخرى. ولكن شهادة الحسين هي القمة. لذلك فالروايات الشيعية عن زيارات مأثورة له كزيارة وارث يأتي فيها: السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله (ربط بين الحسين وآدم (ع)). السلام عليك يا وراث نوح نبي الله. السلام عليك يا وراث ابراهيم خليل الله. السلام عليك يا وارث اسماعيل ذبيح الله. السلام عليك يا وراث موسى كليم الله. السلام عليك يا وارث عيسى روح الله. السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله …

والتركيز واضح وبين على ربط الحركة الحسينية بالحركات القيادية لتحرير الانسان من عبادة آلهة الأرض، ودوره في انه يحمل اعباء التاريخ، كلها، ضمن معارك جرت منذ البداية في وجه الطغاة ولخدمة المعذبين في الارض منذ كانت الارض. وهذه المعارك استمرت وسقط شهيد تلو شهيد في الطريق حتى جاء الحسين وهو سيد الشهداء فهو حلقة مترابطة مع هذا الماضي. وبنفس الوقت هذا يعني ان حركته نابعة من حركتهم وهي بدورها ام الحركات".

2- المذهب الشيعي (مع ملاحظة المعنى المقبول للمذهب) هو خط الاسلام الأصيل خط محمد رسول الله ومن بعده علي امير المؤمنين فاذا قال علي في وقته قولاً في مسألة وقال ابن مسعود او ابن عباس، او زيد او عمرو. فلماذا نترك علياً ونأخذ هذا او ذاك؟

ألم يثبت جميع كتاب التاريخ والسير والفقاهة والرواية ان عمراً قال: لا كانت معضلة ليس لها ابو الحسن؟! وعلي ليس للشيعة وحدهم بل هو امام لكل المسلمين وعلي بن الحسين زين العابدين سيد الفقهاء في عصره بلا خلاف عند جميع المسلمين، ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وقد أدركه او حنيفة صاحب احد المذاهب الاسلامية الكبرى يقول: "ما رأيت افقه من جعفر بن محمد". وقولات الشافعي في اهل البيت تكاد تبلغ حد الغلو. والإمام احمد الذي يروي في مسنده ما لم يقله الشيعة في كتبهم عن علي وبنيه. وكذلك جميع ائمة المذاهب الآخرين وعظماء فقهائها وكبارها يجدون أئمة اهل البيت.

وقد كان ائمة اهل البيت مراجع للجميع ومحل ثقة واجلال واعتراف بالفضل والعلم من الجميع فلماذا يرغب إليهم ائمة المذاهب ويراجعونهم ويغرف عنهم العامة والناس من المسلمين لقد شاءت السياسة الظالمة المعادية والخائفة من ائمة اهل البيت ذلك … فصار.

من هنا يقول الإمام الصدر اننا لسنا مذهباً مقابل مذاهب او موقفاً سياسياً قبالة مواقف اخرى، انما نحن الاسلام الصافي المنقي نأخذه من منابعه واصوله فتعالوا ايها المسلمون الاصفياء الانقياء ولنعمل سوياً في جميع المواقف والأمور التي تصب في خانة الاسلام الواحد لذلك كان اول عمل له بعد تشكيل المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى ان وجه رسالة خطية إلى مقام دار الافتاء السنية دعا فيها إلى العمل سوياً تحت راية الاسلام الواحد الذي ليس من تعاليمه حكاية المذهبيات بشكلها المتداول.

وكتب كتاباً بنفس المضمون وزاد فيه اقتراحات لعمل موحد إلى المؤتمر الاسلامي العام في القاهرة ولكن تبعية السلطات والحكومات والدول ابقت الكتابين بدون جواب.

ولم يكن لكل جهة كانت تنظم مؤتمراً اسلامياً في انحاء العالم الاسلامي اجمع من دعوة الإمام الذي كانت كلمته الوحيدة في هذه المؤتمرات التحرر من اطر المذهبيات الضيقة والخروج إلى رحاب الاسلام الواسعة حيث يلتقي الجميع.

3- المذهب الشيعي ليس فصيلاً منعزلاً او دعوة ضيقة مغلقة، انه الاسلام بعالميته وانسانيته وباشراقاته العلمية ومساهماته الكبرى في بناء الهيكل الحضاري للانسان في غير مرحلة من الزمن. إنه المسجد الأندلسي الذي صاغ عقولاً غربية في فرنسا واسبانيا وغيرهما وساهمت من العقول في حركة التقدم والتطور في بلادها. إنه الاسلام الذي يدعو إلى الدخول في السلم كافة. إنه حركة السواء. إنه الخط الذي كتب أحد رموزه الإمام زين العابدين منذ اربعة عشر قرناً رسالة بحقوق تخجل منها ومن دقائقها وتفاصيلها شرعة حقوق الإنسان التي تعاملت على كتابتها جميع امم العالم منذ خمسين سنة ونيف. إنه الخط الذي يكتب فيه اكبر رموزه علي عليه السلام قبل ذلك علاقة الحاكم بالمحكوم والراعي بالرعية، في عهده لمالك الأشتر المعروف.

لذلك انطلق الإمام الصدر إلى المجتمعات المسيحية والجماعات والهيئات ووقف في واحدة من كبريات كنائسهم في كنيسة الكبوشية يحاضر عن الله وتجلياته في خلقه وعن اخوة الناس، وضرورة تعاونهم وترابطهم من اجل الانسان…

ولم يقف في دعائه ودعوته على ارض لبنان فقط ونقول للانصاف والتاريخ ان الجماعة هنا تعاطفوا مع الإمام الصدر تعاطفاً ملحوظاً.

فقصد المرجعية المسيحية الكبرى في العالم والتقى بسيدها واسمعه نداء الانسانية المنفتح من اعماق قلب المفكر والعالم الشيعي المسلم.

هكذا يرى الإمام الصدر الخط الشيعي خطاً اسلامياً نقياً فوق المذاهب والانقسامات وسماويا صافيا يؤمن كما المسلمون جميعاً بجميع انبياء الله ورسله، وخطاً انسانياً يعمل لكل ما من شأنه خلاص الانسان وكرامته شعاره آية منتقاة من عديد "ولقد كرمنا بني آدم .."

وحديث مختار من اطمار: (الخلق كلهم عيال الله احبهم اليه انفعهم لعياله).

وفرضت عليه التعددية في لبنان ومؤسسات الطوائف والضغوط الكثيرة التي كان يتعرض لها من فاعليات في الطائفة وشباب ضائع تائه، لا سقف له ولا مرجعية، كان قد ذهب جماعات منهم إلى سقوف الآخرين فلم توفر لهم عدم البلل .. فكان المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى.

ولم تكن ذهنية الإمام الصدر وروحيته لتقبل ترؤس مؤسسة او إطار مذهبي منغلق، لذلك حول المجلي وبسرعة فائقة إلى ملتقى للديانتين الكبرتين في لبنان، الاسلام والمسيحية، على تعدد مذاهبهما. وكانت النشاطات الكبرى والعامة تتم بحضور الجميع .. ولم يخل يوم من ايام المجلس ونشاطاته في لبنان إلا وفيه هيئة او لجنة من علماء الدين عند الطرفين العائلات الروحية على مستوى مطارنة الطوائف وعلماء المسلمين البارزين.

وفي أزمة لبنان وقضيته في الجنوب والاعتداءات الاسرائيلية المتتابعة على ترابه واهله احتضن الجنوب كما الام لوليدها ولم يوفر مسعى او يدخر جهداً لعونه ونصرته في داخل لبنان وفي خارجه. فأسس في المجلس الشيعي هيئة من كبار رجال الطوائف في لبنان بأسم هيئة نصرة الجنوب ليضع الجنوب وقضيته في هم اللبنانيين جميعاً، ودرعاً أمام ضعف الدولة ومؤسساتها وروتين الادارات فيها، إلى حالة طارئة لمواجهة الخسائر الناتجة عن الاعتداءات الاسرائيلية إلى اضراب يوم شارك فيه جميع اللبنانيين كان ابرز واهم موقف لبناني موحد لم يسبقو له مثيل في تاريخ لبنان القديم والحديث، لشكل على اثره مجلس الجنوب لتفادي روتين المؤسسات والادارات الرسمية، وللغوث السريع للمصابين، والبيوت المهدمة، وغير ذلك مما يساعد على صمود الناس في ارضهم وديارهم.

واسس حركة المحرومين حركة اللبناني المحروم والمضطهد والمستضعف حركة لبنان في مختلف قضاياه. واشرع ابوابها لجميع اللبنانيين بلا قيد او عائق ديني مذهبي وكانت منه أول دعوة للمقاومة وعمل فعلي فقد كانت فصائل الحركة تتصدى للعدو الذي كان يحاول بين الفينة والاخرى التسلل او الاجتياح الجزئي كما جرى في تلة شلعبون وغيرها من النقاط.

ونلزم انفسنا بالتوقف بعد كل هذه الإطالة لنقول: إن الإمام الصدر شخصية فريدة في ذاتها، شيعية تمثل الخط الشيعي خط الاسلام المنقى اصدق تمثيل، في فكرها ورؤاها وان حركتها في فهمها والتزامها، اسلامية تلتزم عالمية الاسلام، وانسانيته ومفاهيمه، التي تسع الجميع وتعمل من اجل الجميع.

ولن ننسى اخيراً انه ابرز اركان الطليعة التي يدين لها التشيع والشيعة في تحديث الفكر وتأطيره بشكل يناسب تطورات الحياة والمجتمعات.

دعؤنا وابتهالنا إلى الله تعالى في شهر دعوات المؤمنين فيه مستجابة، نحن على ابوابه هو شهر رمضان المبارك ان يفرج عن هذا العملاق الانساني، لأن الانسانية في مختلف جوانبها وحالاتها تحتاج اليه. وان يحسن عاقبة هذا الإمام الذي اعتقد انه لو كان طليقاً، حراً، بيننا في هذه الايام، الداخلية والخارجية، الاقليمية والعالمية لوجد ذكاؤه الحاد وقدرته البالغة على استيعاب الأمور مع براعته الفائقة في البيان والتحرك سبلاً ومخارج لكثير من ظروفنا الصعبة وايامنا القاتمة هذه.

الحركة الثقافية في النبي شيت