منهجية الحوار

calendar icon 08 تشرين الثاني 2001 الكاتب:محمد رشيد قباني

* يمثله سماحة القاضي الشيخ محمد دالي بلطة
(مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات")
(كلمات الافتتاح)



ممثل فخامة رئيس الجمهورية، فخامة نائب رئيس الجمهورية، ممثل دولة رئيس مجلس الوزراء، سعادة السفير البابوي، أصحاب السماحة أصحاب المعالي والسيادة، أيها الحفل الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى رسل الله أجمعين وبعد. فإن الحوار بين مختلف بني البشر على تنوع أفكارهم ومعتقداتهم غاية منشودة أبداً ومنزلة عالية جداً إن دلت على شيء فإنما تدل على رقي المتحاورين ورجحان عقولهم وغلبة النزوع المثالي على غريزة التسلط والسطوة سمة البهائم والكواسر. والحوار ضرورة من ضرورات الوجود البشري الذي خلقه الله سبحانه وتعالى متنوعاً في فكره وادراكه واختلاف نظرته للأمور. فكلٌ يرى القضية من زاوية لا يراها الآخرون أو قد يكون قد خاض فيها تجربة لم يتسن لغيره الخوض فيها بعد. فكيف يستوى هذا وذاك وكيف يصلان إلى حل واحد مع اختلاف المعطيات عند كل منهما؟ إن هذه المنطقية ليست من مسلمات الجدل الفكري فحسب بل هي قبل ذلك من بديهيات الحقائق الإيمانية التي يجب أن نعتقدها. قال الله تعالى في كتابه ?ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خقلهم? [هود، 118-119].

والاختلاف هنا قد يكون رحمة وآية من آيات الله ولا يناقضه أن الاتفاق نقمة بل هو حجة فالمتضادان قد يجتمعان في الحكمة ويتفقان في المصلحة. قال تعالى ?أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين? [الواقعة،71-73]. كما أن الماء متاع وتقوم به الحياة مع أنهما متناقضان ومن هنا قوله تعالى ?ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين? [الروم، 22] فالإنسان أكبر من أن تنتجه آلات المصانع على قياس واحد أو نمط متفق مع بعضه لأنه الخليفة في الأرض المزود بالعقل المنير المرتبط بمنافذ السمع والبصر الذي يمشي في مناكب الأرض ينظر ويتأمل، قبلته ملكوت الله تعالى وهو طريق صعب لا يمكن أن يستوي فيه الناس بل لا بد أن يكون حظ المُجِدِّ أكبر ونصيب المجتهد أوفر.

والحوار كانت فاتحته بداية من الله سبحانه وتعالى في أعز قضية ألا وهي الإيمان حيث طلب من الإنسان بطريقة حوارية لها نهاية واحدة وكان يمكن أن تتطلب جزماً دون أن تعبر هذا الطريق، فالآمر هو الله والمأمور هو العبد، ولكنها التربية الإلهية التي يجب أن يتنبه إليها الإنسان في رحلته في الحياة مع إخوته من بني البشر. بما يدل على مكانتهم المرموقه التي لا يجوز أن ينحدروا عنها فكان الحوار: ?قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عند قوم لا يؤمنون? [يونس،101]  ?أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت? [الغاشية،17-20]. ?يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ماشاء ركبك? [الانفطار،6-8]. وغيـر ذلك كثير من الآيات. لكن الحوار يتعثر في الأرض وبين بني البشر ويحل محله الصراع. مما يحتم علينا أن نعلي صوتنا أكثر فأكثر مؤكدين على منهجية الحوار ذلك لأن موقد هذا الصراع ومنزلة مكان الحوار تجرد عن بديهيات المكونات البشرية وقد كان عنوان هذا اللقاء في غاية الروعة والإتقان حين سمي بحوار الحضارات، فمن ليس عنده حضارة لا يمكن أن يكون أهلاً للحوار. والحضارة التي نعنيها ليست بكثيرة الاختراعات واكتشاف الفضاء والوصول إلى المريخ وإنفاق الميزانيات الباهظة من أجل ذلك بل هي مجموع القيم النفسية والإنسانية التي تحق الحق وتبطل الباطل.

فهؤلاء اللذين وطئوا القمر وأنفقوا الكثير من أجل ذلك شرعوا اغتصاب الحقوق واعتبروا المقاومة إرهاباً، فأي حوار يمكن أن يقوم في ظل تلك المعادلة الفوضوية التي لا يقرها منطق ولا عدل. إن هؤلاء أسسوا الأمم المتحدة كي تكون معقلاً للحوار ومن ثم كي يصدر القرار نتيجته. فإذا بهم ينتقون القرار استنساباً وليس عدلاً بما يحقق لهم المصلحة ويتشددوا في تنفيذه ويتركون في الأدراج القرارات المصيرية كرامة الشعوب. فكيف يمكن أن يقوم الحوار بين الصهاينة الذين اغتصبوا فلسطين وشردوا أهلها في البلاد يعانون ويتألمون، ليأتي هؤلاء من بلدان مختلفة يسكنون منازلهم التي مازالت في ذاكرتهم ويحرثون أرضهم ويأكلون خيراتهم ولما قاموا يطلبون بما أقره لهم كل قانون، وليس لهم من قوة سوى الحجر، انهالت عليهم التهم الجاهزة سلفاً من زعماء الارهاب الحقيقيين والفعليين في العالم الذين اعتمروا قبعات الكوبوي قديماً وامتطوا صهوات الخيل فأبادوا الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، وها هم اليوم يمارسون نفس تلك السياسة، ولكن أين حرب الخيل وتلك القبعة منها؟ إنهم يمارسون تلك السياسة بأفتك ما أفرزته شياطين الإنس من أسلحة الدمار تنهال هنا على رؤوس أصحاب الحق في فلسطين، وهنالك على بيوت الطين والخيم الممزقة أصلاً ودور المسنين في أفغانستان، بحجة مكافحة الإرهاب محدثين إرهاباً يفوق الإرهاب الذي يحاربونه أضعاف أضعاف.

أيها الإخوة إن السياسة التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية في العالم اليوم وتحمي إسرائيل في ممارستها والتي نستطيع أن نسميها سياسة عدم التوازن وسياسة الكيل بمكيالين، وسياسة الغطرسة والتسلط هي أخطر بكثير مما حدث يوم الحادي عشر من أيلول الماضي.

إن هذه السياسة لن تدع مجالاً لصوت معتدل أن يتكلم ولا لصوت متزن أن يحاور إنها سياسة خرقاء تقحم هؤلاء فيما يسمونه بالتطرف والإرهاب إقحاماً, إنها سياسة تستفز الذين يجنحون إلى الوداعة والطمأنينة لاختيار طريق الصراع بدلاً من الحوار الذي كان عندهم كل الحرص أن يبقى وسيلتهم الوحيدة، فكيف سنثني هؤلاء الكبار الذين يخربون الأرض على من فيها؟ كلنا يبحث عن جواب وكلنا لم يجده بعد، وأرجو أن لا يطول بنا الزمن حتى نجده فعندها سنجد الدنيا غير الدنيا والإنسان غير الإنسان.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source