مؤتمر "كلمة سواء" السنوي السادس: "حوار الحضارات"
(كلمات الجلسة الرابعة)
عندما شرفني الأخوة في"مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات" بالدعوة إلى المشاركة في هذه الندوة، وإلى الحديث في موضوع" الصراع العربي الصهيوني في إطار حوار الحضارات" انتابتني مشاعر متناقضة، إذ سعدت ولا أزال بهذه الدعوة الكريمة، وأشفقت على نفسي من حجم الإشكاليات التي ينطوي عليها هذا العنوان.
افترضت أن العنوان العريض للندوة (حوار الحضارات) يستبطن مساهمة في الرد على مقولة صراع الحضارات التي أطلقها(صاموئيل هانتنغتون)، كما أنه ينسجم مع استجابة الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى دعوة رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد محمد خاتمي، إلى حوار الحضارات والثقافات باعتبارها عام 2001 م عاماً للحوار بين الحضارات. ولعله افتراض صحيح، استتبع أن ينصرف الذهن مباشرة، إلى العنوان الفرعي، موضوع هذا الجزء من الندوة وهذه المداخلة، أي الصراع العربي الصهيوني، وموقعه في إطار الحوار المحكي عنه وعلى الفور بدأت تنثال الأسئلة تباعاً:
هل الصراع العربي الإسرائيلي، هو صراع حضاري؟ وإذا كان كذلك، فهل هو صراع بين حضارتين محددتي الملامح والسمات؟ فإذا كان أحد طرفيه (العرب) يمتلك عمقاً حضارياً، وإرثاً إنسانياً كبيراً، وثقافة فاعلة عميقة الأثر في التاريخ الإنساني، ومتفاعلة مع الثقافات الأخرى، فهل هذا هو حال الطرف الآخر: العدو الإسرائيلي؟ وكيف يمكن التعامل مع (مجتمع) مشطور بشتى أشكال الانقسامات، ولم يحدد هويته بعد كحالة حضارية أو ثقافية، خصوصا وأن ما يحكى عن المكون الجامع لهذا التجمع الاستيطاني (اليهودية بوصفها ديناً وقومية) هو محط رفض بعض فئاته التي تتصارع على "هوية الدولة" وتنشد إلى هويات فرعية لا يمكن أن تقبل بانصهارها في إطار هوية جامعة ولا تزال تجادل على توصيف اليهودية وتحديد من ينتمون إليها ؟ فهل علينا في هذا الحالة أن نحاور السفاراديم أم الإشكناز، العلمانيين، أم المتدينين، الصهيونيين أم الحراديم؟ وإن اعتبرنا الصراع حضاريا، فهل نلجأ إلى معاملة الظاهرة الإسرائيلية كلها بوصفها استطالة للغرب الاستعماري، الذي نمت في أحضانه وبالتالي النظر إليها بكونها جزءاً منه، ومن حضارته وثقافته أو ممثلة ومتمثلة لهما؟ وهل يبرر اعتبارها كذلك الحوار معها، إن كانت من الأصل، بتكوينها القائم، قابلة لفكرة الحوار وشروطها؟
كانت أجواء الانتفاضة الفلسطينية المجيدة، والقمع الوحشي الذي يقوم به الصهاينة في مواجهة المنتفضين الفلسطينيين، تلعب دوراً ضاغطاً في توجيه مقترح الإجابات على هذه الأسئلة في اتجاهات محددة، ليس لأن المقاومة الفلسطينية ظاهرة طارئة، وليس لأن القمع الإسرائيلي ظاهرة جديدة، بمعنى أن تؤسس الإجابات على وقع الأحداث الراهنة، ولكن لأن المقاومة والقمع المقابل جاء هذه المرة بعد غوص في بحر "الحوار" و "وهم السلام" استمر نحو عشر سنوات، وانتهى إلى ما شهدناه ونشهده، وقبل أن تتكامل الإجابات في معية حالة الصدام المتجدد، في حلقة أخرى من حلقات المواجهة المفتوحة، وقعت أحداث 11أيلول في نيويورك، وما تبعها من تطورات متسارعة وبضمنها تصريحات ومقولات متشنجة، جعلتنا نعيش، ولا نزال، تحت وطأة الإحساس بأن أولئك الذين بشروا بصدام الحضارات، يسعون نحو نهاية التاريخ حقاً، ليس بالمعنى الذي اقترحه ونظّر له (فرنسيس فوكوياما) بل بالمعنى الحسي الذي يتحول معه (الكوكب الأرضي) إلى خراب يتقاتل فيه البشر بالحجارة، إن بقيت لهم طاقة على خوض الحروب بعد.
مع ذلك سوف نسعى إلى مقاربة الإجابة، ضمن العنوان المطروح لهذه المداخلة على أن تأخذ المقاربة، شكل مقترح بصدد موضوع شائك ووافر التعقيد، ونرى أنه من الضروري التعريج على مقولات صدام الحضارات وحوارها توطئة للدخول في موضوعنا.
البحث عن عدو وصدام الحضارات
لم يكن طويلاً ذلك الزمن الفاصل بين توالي ثلاث أطروحات أمريكية، تبدو للوهلة الأولى وكأن لا رابط فيما بينها. في حين أنها تكاد تشكل رزمة واحدة، من حيث الطبيعة والأهداف. ففي السنوات الثلاث الأولى من تسعينيات القرن الماضي، طرح الأمريكيون: إنشاء نظام دولي جديد (جورج بوش) ونهاية التاريخ (فرنسيس فوكوياما) وصدام الحضارات (صاموئيل هانتنغتون) فاعتبر الأول أن الظروف ملائمة من أجل إنشاء نظام عالمي جديد، يكون رشيداً ويضمن الاستقرار والعدل للجميع، ويضمن حقوق الإنسان للأفراد، من خلال المنظمات الدولية، والتطبيق الأمثل للشرعية الدولية، ورأى الثاني أن عصر الأيديولوجيات قد انتهى بانتصار الليبرالية ونموذجها الاقتصادي، الذي سيعم العالم وتنتهي مبررات الصراع. أما الثالث فاعتبر أن الصراع القادم هو صراع حضارات، وأن الخطوط الفاصلة بين الحضارات، سوف تكون حدود حروب المستقبل.
تبدو هذه الطروحات متناقضة في ظاهرها، إذ ما الرابط بين الاستقرار للجميع، وبين الانتصار النهائي لنموذج، وبين التبشير بصراع قادم؟ لكن! سوف يكون هناك من هو قادر على اكتشاف الرابط الجوهري بين هذه الطروحات. وفي حينه لن يصدق البعض أن أمريكا المسيطرة والمنتصرة، إنما تريد ترسيخ انتصارها وسيطرتها، لتتجه نحو" البحث عن عدو" وأن الأطروحة الأكثر دقة حول ما تريده أمريكا مستقبلاً إنما هو أطروحة (هانتنغتون) أما ما هو غير ذلك، فحري أن ينظر إليه بوصفه يخص اللحظة الراهنة ويصلح لأن يكون آليات مناسبة لتعزيز السيطرة.
في الوقائع، عنى النظام الدولي الجديد، تطبيقاً انتقائياً من قبل واشنطن، لمفهوم "الشرعية الدولية" الذي استخدم طول عقد من السنوات على نحو مضجر وفي هذا التطبيق الانتقائي، كانت مصالح أمريكا أولاً، بما هي القطب الوحيد المسيطر على العالم والمتحكم بقرار منظمته الدولية،
وفيما بدت مقولات فوكوياما تأسيساً لعهد جديد من الرأسمالية المتوحشة، ولا تستدعي نقاشاً مسهباً بحد ذاتها، لاندراجها في إطار دعائي أكثر من أي شيء آخر، جاءت مقالة هانتنغتون ليس لتثير جدالاً طويلاً وحسب ولكن لتفصح عن حقائق في تفكير القوة المسيطرة، شكك كثيرون بوجودها.
وإذا سلمنا بأن أطروحة النظام الدولي الجديد، إنما كانت اقتراح أداة لسيطرة أمريكية طويلة، فإن ما جاءت به مقولات هانتنغتون، تشكل وعاء نظرياً مختلفاً لتحقيق الأهداف نفسها، انطلاقاً من تحديد عدو بدت تركيبة النظام الدولي الجديد غير قادرة على فرزه وتعيينه بالشكل المطلوب، فالنظام الذي بدا مستهدفاً ما أسماه بالدول المارقة انكشف عن "فضيحة معيارية" قوضت الركائز التي ادعى استناده إليها، وسرعان ما بدأ يدخل دهاليز النسيان، بكف واشنطن عن استخدام مقولاته.
ربما يسأل البعض عن حقيقة حاجة أميركا "المنتصرة" و"المسيطرة" إلى عدو، وهذا هو السؤال الذي طرحه ذات يوم، من قرأ "تجربة روما" ولم يستطع أن يجد إجابة شافية ومقنعة. إذ لا بد من أن يتساءل، وهو في آونة البحث عن إجابة، هل العدو ضروري للبقاء والاستمرار؟ يبدو أن القوة التي تملك قدراً هائلاً من القوة، تبحث دوماً عن مبرر لامتلاك المزيد منها.. وهذا الأمر الذي يبدو عبثياً أمام المنطق السليم، ليس مفاجئاً لدى قراءة التجربتين الرومانية والأمريكية.
لقد انهارت" امبراطورية الشر" التي دفعت "رونالد ريغان" [وهو من أطلق عليها هذا الاسم] ذات يوم، إلى التفكير علناً باحتلال الفضاء الخارجي، من خلال مشروع خيالي، يستهلك مئات مليارات الدولارات، ويدرأ خطراً غير موجود عن أميركا.
لم يكن انهيار تلك "الامبراطورية" التي ضخمت أميركا قوتها وخطرها على نحو ممل، قبل أن تتكشف عن "خواء مذهل" خبراً جيداً لأمريكا المغرمة على نحو مرضي بتقوية عضلاتها، في مواجهة الأعداء الذين يهددون "الحضارة الأميركية". ويومها لم يتوقف أحد ليشير إلى أن انهيار النظام السوفييتي ونظم الدول الأوروبية الشرقية الدائرة في فلكه، لم يكن بفعل القنابل النووية الأمريكية، وإنما لأسباب أخرى، ويمكن اليوم ـ وبشكل من التمحيص ـ اكتشاف الحجم الحقيقي، للدور الذي ادعته أمريكا لنفسها في ذلك الانهيار.
مع ذلك، كان لا بد من الشروع في البحث عن عدو مكافئ لـ "امبراطورية الشر" المنهارة. وعلى نحو يضمن استمرار الضخ في شرايين "المجمع الصناعي الحربي" الأمريكي، لامتلاك المزيد من القوة. وامتلاك القوة بحاجة إلى تسويغ منطقي، أي إلى وجود عدو، على الرغم من أن أحداً لم يدّعِ منذ ذلك الوقت، امتلاكه لما يكافئ الطاقة الأمريكية، على صنع الموت والخراب والدمار.
وهكذا فقد جاء الحديث عن "صدام الحضارات" بمثابة تنويع على "الأوعية النظرية" لطرق وأساليب السيطرة الأمريكية، والتي وجدت طوال الوقت، ما تسوغ به النزعة المتنامية إلى السيطرة.
عام 1982، استنتج نوعام تشومسكي، أنه خلال الثمانينات: "لن تنحسر حدة نزاع الشمال ـ الجنوب، وسوف تكون ثمة حاجة لابتكار أشكال جديدة من السيطرة لتضمن احتفاظ الشرائح ذات الامتيازات في المجمع الصناعي الغربي بقدر كبير من التحكم بالموارد الكونية، الإنسانية والمادية، وأن تفيد فائدة لا تتناسب مع حجمها من هذا التحكم. وهكذا فليس ثمة مفاجأة في أن تجد إعادة تشكيل العقائدية في الولايات المتحدة أصداء لها عبر العالم الصناعي كله .. غير انه من المقتضيات المطلقة للنظام العقائدي الغربي، أن تخلق هوة شاسعة بين الغرب المتحضرـ بالتزامه التقليدي بالحرية، والكرامة، وتقرير المصيرـ وبين الوحشية البربرية لأولئك الذين يخفقون لسبب أو لآخرـ وقد يعود هذا السبب إلى المورثات المشوهة المعتلةـ في أن يقدروا عمق الالتزام التاريخي الذي يتجلى أحسن تجلٍ، على سبيل المثال، في حروب أمريكا الآسيوية" (1).
أما جورج كينان، "وهو مؤلف سياسة الاحتواء التي وجهت التفكير الرسمي في الولايات المتحدة لزمن طويل إبان مرحلة الحرب الباردة [فقد آمن] بأن بلاده، هي حارسة الحضارة الغربية والوصية عليها [ولم يكن] ليخامر كينان أدنى شك في أن أوروبا وأمريكا كانت في موقع فريد يؤهلها لقيادة العالم، وهي وجهة نظر جعلته يعاين بلاده بوصفها فتى يافعاً، ينمو ليؤدي الدور الذي أدته ذات يوم الامبراطورية البريطانية".(2)
إن من يقرأ هذين النصين الصغيرين، والكثير مما يشبههما، على غرار ما كتبه ريتشارد بارنت في "جذور الحرب" عام 1972 (3)، سوف لن يفاجأ بنص "هانتنغتون" الذي رأى أن يكون منسجماً مع نهاية "عصر الأيديولوجيات"، لجأ إلى تصوير الصراع المستقبلي، بعبارات شديدة الوضوح على أنه "صراع حضارات" وليعاود التأكيد لاحقاً على أن "الحضارات تتطور عن طريق عصور من الاضطراب، وحقبة تتطاحن فيها الدول، تؤدي في النهاية إلى قيام دولة عالمية للحضارة، تكون بالنسبة إلى الحضارة، إما مصدراً للتجديد، وإما تمهيداً للتدهور والانحلال، وقد تجاوزت الحضارة الغربية الطور الذي تتطاحن فيه الدول. وهي تتجه نحو طور دولتها العالمية، وهذا الطور لم يكتمل بعد". ويقول: "إن حلف الأطلسي [يجب أن يكون] بعد انتهاء الحرب الباردة هو المنظمة الأمنية للحضارة الغربية، وأن هدفه الأساسي هو الدفاع عن هذه الحضارة والحفاظ عليها".(4)
لا تعني هذه العبارات أكثر من دعوة للسيطرة، وتحديداً لأداتها، في مواجهة "عدو مفترض" جرى تعيينه أيضاً، وفي نصوص أخرى، سوف نصادف ما يشبه استعادة كاملة لتجربة روما.
يلاحظ كافين رايلي "أن روما كانت من عام 262 ق.م إلى عام 146ق.م منهمكة في حروب مستمرة مع القرطاجيين، والإمبراطورية اليونانية، وكان المؤرخون الرومانيون المتأخرون مشغوفين بتصوير أوائل هذه الحروب خارج إيطاليا على أنها عبء ثقيل تحتمه المسؤولية الرومانية، وعلى أنها حروب دفاعية أساساً، بل لقد رأى المؤرخ "بوليبيوس "التاريخ الروماني كله ،على أنه توسع محتم للإمبراطورية الرومانية التي نشأت بمشيئة الله (وهي تشبه نمطاً آخر من الحتمية الإلهية، أي فكرة القدر المؤكد، التي كان الأمريكيون يهيبون بها تسويغاً لتوسعاتهم) وبينوا أن كل توسع، حمل روما على الاتصال بأعداء جدد وافترضوا كذلك أن هؤلاء الأعداء الجدد، كانوا راغبين في قهر روما (أو إقليم روماني ما) وقادرين على ذلك، وكان من الضروري بالتالي أن تسدد روما الضربة الأولى لأسباب دفاعية، أو أينما حانت الفرصة المواتية، ولذا فلا تثريب على هذه الحروب الدفاعية، لأن كل ما تفعله، هو توظيف ما هو حتمي، لصالح روما الذي هو أيضا صالح الحضارة" .. ولئن عدت حروب القرن الأول "حروبا دفاعية بمعنى ما، فإن حروب القرن الثاني كانت حروبا إمبريالية سافرة، فلم تكن مقدونيا تشكل أي تهديد لروما عام 200ق.م وعام 146ق.م، كذلك دمرت قرطاجة القديمة عام 146ق.م، برغم أنها لم تقم بأي عمل استفزازي ...
في النهاية" أضحت روما بعد كل ذلك، تلك المدينة التي لا تستحق أن ينقذها أو يعيد بناءها أحد؟ (5)
ثمة الكثير في سلوك روما الجديدة، مما يشبه تلك القديمة، سوف نجد تعبيرات متشابهه وسلوكاً متشابهاً: الدفاع عن الحضارة، بنشر الخراب والموت.
تعيين العدو ..الصدام والحوار
في الواقع، فإن التشابه بين تجربة روما، وتجربة العقل الاستعماري الغربي عموماً، يغري بعقد كثير من المقارنات، الأمر الذي لا تحتمله هذه الورقة، ولكن من المكن الإشارة إلى أن المسوغ المعلن في الحالتين، كان الدفاع عن الحضارة، وأن أصحاب تلك الحضارة يحملون عبء الدفاع عنها، وعبء نشرها في أوساط البرابرة والهمج، ولم يقتصر التعبير عن ذلك على الأفكار السياسية المعلنة، بل حتى في الأدب، ففي قصيدة بعنوان " عبء الرجل الأبيض" يصف الشاعر البريطاني سبنسر، عذابات بريطانيا وتحملها المشقات لإشاعة المدنية في العالم، وتخليصه من تخلفه. وفي أي الأحوال ثمة من يشير إلى نسق مطرد، وليس إلى مجرد تشابه، وهذا مجال بحث آخر. لقد وجد دوماً من يقول إن الأصل في الوجود الإنساني هو الصراع والصدام، من أجل الاستئثار، وسوف يعيدنا هذه الحالة، حتى إلى واقعة تقاتل قابيل وهابيل ابني آدم، ولكنه هنا يتجاهل إرثاً إنسانياً هائلاً من التسامح والمحبة أيضاً، كما يتجاهل حقيقة أن استمرار الصراع والتصادم، فرضته حالات الاستعلاء، والقسر، والتعدي.
وتبدو لافتة ملاحظة د. حسين مؤنس، عن أن هذه المشاعر لم تقتصر على جنس واحد أو حضارة واحدة، حيث يقول إن " القول بامتياز الأجناس بعضها على بعض، شائع عند معظم الأمم في الأعصر الوسطى والقديمة، ولا يزال قائماً عند أهل الغرب وخاصة غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية إلى اليوم، فاليونان كانوا يرون أنفسهم أفضل الأمم، وأذكاها وأشرفها، وبقية الخلق همج، والرومان جعلوا الروماني فوق غيره بحكم القانون (......) أما أهل الصين فكانوا يؤمنون بأنهم أفضل الخلق، وأنه لا وجود لأي حضارة أو فضيلة خارج جنسهم، بل كانوا يرون أنهم لا يحتاجون إلى غيرهم في شيء. وليؤكد ملوكهم هذا المعنى أقاموا سور الصين العظيم، حتى لا تدنس أرضهم بأقدام أقوام آخرين، وأما الهنود فشأنهم في تفضيل طبقة البراهمة على غيرها معروف (.....) ويكاد لا يخلو من عقدة الجنس هذه غير العرب بعد الإسلام" (6).
مقابل صدام الحوارات طبعاً جاءت الدعوة إلى حوار الحضارات، والدعوة إلى حوار الحضارات التي جاءت عن السيد خاتمي كانت طبيعية ان تصدر عن الاسلام الذي كان منذ البدء دعوة إلى التسامح والعدل، ولا يستبطن أي شكل من أشكال الاستعلاء، فيما يرتبط "الاصطفاء" في العقيدة الإسلامية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يكن الإسلام معادياً للأديان السماوية التي سبقته: اليهودية والمسيحية، واستمر الحال كذلك دوماً حتى أن المؤرخين المسلمين واظبوا على وصف ما قال الغرب إنها "الحروب الصليبية " بـ "حروب الفرنجة" ما ينزع الصفة الدينية عنها ولا يبقيها في موضع "الحروب الدينية " وبالمناسبة تعيير الحروب الصليبية جاءنا مترجماً.
ومع ذلك، وحتى قبل أن يطلق هانتنغتون أطروحته، كان الغرب الاستعماري وليس الغرب عموماً قد حدد الإسلام على أنه العدو للنظام الدولي الجديد، فيما اعتبر صاحب مقولة "صدام الحضارات "أن الإسلام متصادم مع كثيرين، و قال: "إن للإسلام حدوداً دموية " ودعا إلى مواجهة "الصلة الكونفوشيوسية – الإسلامية، التي ظهرت لتتحدى المصالح والقيم والقوة الغربية" وإلى" استغلال الخلافات والنزاعات بين الدول الكونفوشيوسية والإسلامية ودعم المجموعات الحضارية الأخرى المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية،وتقوية المؤسسات الدولية التي تعكس المصالح والقيم المشروعة للغرب، وتدعم مشاركة الدول غير الغربية في تلك المؤسسات (7).
ولكن لماذا الإسلام، بالرغم مما ذكرناه من دعوته المستمرة إلى التسامح والحوار والتعايش؟
يحاول مفكر إسلامي الإجابة على هذا السؤال بتحديد أربعة عناصر، تجعل الإسلام مستهدفاً:
أ- الموقع المتاخم لأوروبا، والمحاذي للاتحاد السوفياتي (السابق) والمرتبط بأفريقية، والممتد في عمق آسيا بكل ما فيها من ممرات مائية وجوية وبرية، ومصالح إستراتيجية، وسياسة، واقتصادية وحضارية.
ب- فلسطين والأرض من حولها، مهبط الديانات ونقطة التقاء الحضارات، والتي لم يخطئ التاريخ مرة واحدة، في تحديد أهميتها العالمية، إذ يكفي أن نعرف من يمسك بها، لنعرف من يمسك العالم.
ج- الثروات الطبيعية، وخصوصا النفط كسلعة استراتيجية، لا غنى للعالم الحديث عنها، فخلال سنوات قليلة سيزداد اعتماد العالم أكثر فأكثر على النفط الذي تضم منطقة الخليج أكثر من 70% من احتياطه العالمي، ناهيك عن الموجود منه في بقية بلدان العالم الإسلامي.
د- الإسلام كرسالة عالمية ترفض أن تكون مظلومة أو ظالمة، معتدية أو معتدى عليها، ففي هذا عقبة أولى ورئيسة لأي مشروع يريد استعباد الناس" (8).
وهذه جميعها عناصر مهمة، ولكن د.عبد الوهاب المسيري، يركز على البند الرابع من هذه العناصر ملاحظاً أن الإسلام يرفض ابستمولوجية التطويع والتنميط، والنظر إلى الإنسان باعتباره مادة استعمالية، لا ذاكرة لها ولا روح، لا هوية لها ولا خصوصية، وكأن الرجال قطع غيار وزجاجات كوكا كولا، وكأن الإنسان، مثل وحوش الجبال، يعيش بمفرده، فالإنسان في إي منظومة إيمانية (إسلامية كانت أم مسيحية) يرفض أن ينظر إليه باعتباره مجرد مادة، خال من القداسة، والإسلام يقدم منظومة متكاملة، تجيب على الأسئلة الكلية التي تواجه الإنسان فلا بد وأن تتصارع المنظومة الإسلامية مع المنظومة المادية" (9).
بالتالي هل تكمن المشكلة الأساسية، في رفض الإسلام أن يكون عدوانياً أو معتدى عليه، في عالم تنزع القوة الطاغية فيه إلى الهيمنة والإخضاع والسيطرة المطلقة ؟ ليس هناك ما يمنع من اعتبار الأمر كذلك، وفي أية حال فقد كتبت الكثير من الردود على مقولات هانتنغتون، وبينت تفاهتها، فيما تكفل الواقع بإظهار الكثير من خطلها وتخليطها. وتحت وطأة الرأسمالية المتوحشة، ونظامها العولمي، بدا العالم منقسماً بشكل أفقي، وليس على أساس الحضارات (مثال على ذلك أحداث سياتل وجنوه، وفي جنوه كان على البعض أن يتذكر قانون لنش الأمريكي الذي كان يُقتل بموجبه الإيطاليون دون محاكمة). وبدلاً من صدام الحضارات، تزايدت الدعوات إلى الحوار، بيد أن المبشرين بالصدام، سرعان ما استعادوا، كل مكونات خطابهم، بعد التفجيرات التي شهدتها نيويورك وواشنطن، فجرى الحديث عن "حروب صليبية" وعن "حروب الخير ضد الشر" وعن" حرب الحضارة ضد المتوحشين الدمويين". لم تكن هذه اصطلاحات جديدة بل مستعادة من قاموس فكري وسياسي، يزخر بها أصلاً، ويسرف في استخدام تعبير "الحضارة " بتلوينات مختلفة.
لن نعود هنا، إلى مناقشة اصطلاحية، لمفهومي "الحضارة" و"الثقافة"، فقد أشبع هذا الأمر بحثاً، بيد أن المرء لا يستطيع مقاومة إغراء الإشارة، إلى رأيين في الحضارة والثقافة لابن خلدون واوزفالد شبنجلر، فابن خلدون يرى أن "الحضارة هي نهاية العمران، وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر، والبعد عن الخير" فيما يرى شبنجلر "أن الثقافة هي مرحلة التطور، والنمو والحيوية، فإذا وصل الأمر إلى مرحلة الحضارة، فهي النهاية وبداية التدهور، ومن هنا جاء حكمه القاسي على الحضارة الغربية بأنها في مرحلة الغروب والأفول، وأنها الآن تتدهور" وبحسب د.حسين مؤنس، فإن الشعوب الأوروبية انتهت من طور الثقافة ودخلت طور الحضارة، فيما الشعوب النامية ما زالت في طور الثقافة (10).
في مواجهة الحديث عن الصدام جرى إطلاق الدعوة إلى حوار الحضارات، ففي كلمة له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1998 قال الرئيس الإيراني محمد خاتمي: "أتقدم باسم الجمهورية الإسلامية الإيرانية باقتراح كأول خطوة للأمم المتحدة في القرن القادم، بأن يسمى عام 2001 عام الحوار بين الحضارات على أمل أن يكون هذا الحوار خطوة أولى لتحقيق العدالة والحرية في العالم (11).
وفي تأكيد على حقيقة أن الإسلام لا يمكن أن يكون ظالماً ولا مظلوماً شدد السيد خاتمي في خطاب أمام اليونسكو عام 1999 على أن "مبدأ الدعوة لحوار الحضارات (يتناقض) مع الأحكام الحتمية والجبرية للنهضويين التحصيليين "من دعاة النهضة الفرنسية" ومسلمات الحداثة من جهة، كما أنها لا علاقة لها بتشكيك ما بعد الحداثيين الذي لا حصر ولا حد له، من هنا فإن واحدة من واجبات المفكرين المؤيدين لنظرية حوار الثقافات والحضارات هي القيام بتنقيح الأسس الفلسفية وتبيان المبادئ الفكرية لهذه النظرية بما ينقذها من الوقوع في حتمية العداء لأي نوع من أنواع التحري عن الحقيقة والبحث عنها، وكذلك من الوقوع في مهالك التشكيك غير المحدود لمفكري ما بعد الحداثة الذين يفتقرون إلى حس المعاناة والآلام العظيمة لآلاف الناس المحرومين فيعتبرون الدعوة لأي نوع من العدالة والكفاح ضد الظلم شكلا من أشكال الدعوات المتجاوزة للخطابة والحوار. وهو ما لا يمكن إيجاد التفسيرات الفلسفية له، إلا أن أحد الشروط الأخرى المسبقة لنجاح حوار الحضارات يكمن في إشاعة التسامح" (12).
كما أن مفكراً إسلامياً آخر، حدد شروط الحوار الحضاري بـ "الاعتراف بالآخر"، على قاعدة الآية الكريمة: ?يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم? [ ] والتبادل الحضاري (أن يكون لكل طرف من أطراف الحوار حق قول رأيه و بيان موقفه) والاستمرار، وأن يكون محور الحوار الثقافة التي تعبر عنها الحضارات المختلفة (13).
الآن، هل يمكن اعتبار هذه المحددات والشروط صالحة فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني؟
الصراع العربي الصهيوني وحوار الحضارات سوف يعيدنا هذا السؤال مباشرة إلى جملة الأسئلة التي طرحناها بداية. وأحسب أن التفكير في إدراج الصراع العربي الصهيوني، ضمن الصراعات التي يمكن التعامل معها من منظور "حوار الحضارات" وبكلمات أكثر وضوحاً حلها ضمن هذا الإطار، قد ارتبطت بالمشروع الأمريكي لتسوية الصراع العربي الصهيوني الذي بدأ في مؤتمر مدريد. وقد جرت خلال سنوات التسوية التي أعقبت توقيع اتفاق أوسلو محاولات (إسرائيلية أساساً) لجمع رجال دين مسلمين ومسيحيين ويهود في لقاءات سرية، وأعطيت مثل هذه اللقاءات السرية والمحدودة، عنواناً كبيراً مثل "حوار الأديان" وحوار الحضارات وما إلى هنالك من عناوين لم تكن لتعكس الواقع الحقيقي في أي من مستوياته انطلاقاً من العنوان نفسه، وصولاً إلى الموضوعات التي يدور الحديث حولها، وما بين هذا وذاك، الحجم التمثيلي لأولئك المشاركين في مثل هذا النوع من اللقاءات التي هدفت أساساً، إلى جعل اليهودية وحركتها الصهيونية، طرفاً في ما يمكن أن يسمى "حواراً حضاريا" وبالتالي يتيح لها التصرف وفق توصيف يمنحها صفة حضارة أو "ثقافة" مستقلة وقائمة بذاتها وهذه المحاولات تقترب إلى حد ما، مما قام به هانتنغتون، لدى تناوله اتفاق أوسلو، بكلمات تخدم وجهة نظره، ولكنها من ناحية أخرى، تموضع "إسرائيل" ضمن نسق حضاري محدد. يقول: "يمكن المحاجة مثلاً بأن الاتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في شأن قطاع غزة وأريحا، يمثل شذوذاً مثيراً عن النموذج الحضاري وهو كذلك بمعنى ما، بيد أن هذا الحدث لا يبطل صحة النهج الحضاري: فهو مهم من الناحية التاريخية على وجه التحديد، لأنه تم بين مجموعتين من حضارتين مختلفتين، ظلتا تتحاربان لما يزيد عن أربعة عقود، وتعد الهدنات والاتفاقات المحدودة، جزءاً من الصدامات بين الحضارات، مثلما كانت اتفاقية الحد من الأسلحة السوفياتية- الأمريكية، جزءاً من الحرب الباردة، وفي حين أن النزاع بين اليهود والعرب، قد يمكن تطويقه، فإنه سيظل مستمراً (14).
إن النجاح الوحيد الذي حققته تلك المحاولات المشار إليها ومثلها تلك المقولات التي أطلقها الواهمون عن انتهاء الصراع أو قرب انتهائه إنما يتركز في إعادة توصيف إسرائيل بكونها استطالة استعمارية في الوطن العربي، تمثل آخر نماذج الاستعمار الغربي، علماً أن المحاولات المشار إليها لم تكن تهدف الوصول إلى إعادة هذا التوصيف إطلاقاً.
في النص أعلاه، يشير هانتنغتون إلى اليهودية الصهيونية وإسرائيل بوصفهما جزءاً من الحضارة الغربية، ولا يتسع المجال هنا، للقيام بمعاودة البحث في الصهيونية وطبيعتها وكذلك طبيعة الكيان السياسي الذي أقامته "إسرائيل" بيد أنه من الضروري إيراد جملة ملاحظات تعين في الإجابة على الأسئلة المطروحة:
أ- تلفت عبارة "الغرب ضد الباقي" الواردة كعنوان فرعي لواحدة من مقالات هانتنغتون النظر باعتبارها معادلة لما تتصوره اليهودية عن الغوييم (الأغيار). والأمر هنا ليس مجرد مصادفة.
لقد ساد لوقت طويل القول: إن الصهيونية قد نمت في كنف الظاهرة الاستعمارية الأوروبية، وأن الاستعمار الأوروبي هو الذي وجهها في خدمة مصالحه. هذا القول ليس خاطئاً. غير أن العلاقة هي أكثر عمقاً من ذلك. وقد جرى الالتفات أيضاً- وإن بدرجة أقل - إلى إسهام اليهودية والصهيونية غير اليهودية، في تشكيل الوعي الغربي تجاه المشروع الصهيوني الذي كانت بداياته الأولى غير يهودية. وقد بات معروفاً أن محامياً إنكليزياً يدعى (هنري فينش)، هو الذي نشر عام 1621م كتاب العودة العالمية الكبرى الذي دعا فيه إلى إعادة اليهود إلى فلسطين. وفي عهد "كرومويل" عام1649 تحديداً نظم بعض الإنكليز غير اليهود، حركة تدعو لعودة اليهود إلى فلسطين وأرسلوا عريضة إلى الحكومة الإنكليزية جاء فيها: "إن أمة إنكلترا وسكان هولندا سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء وبنات إسرائيل على سفنهم إلى الأرض التي وعد بها أجدادهم إبراهيم واسحق ويعقوب لتكون ميراثاً إلى الأبد". كانت تلك العريضة من إعداد الأنجلوساكسون البيورتان، وهي أعدت بالطبع، بالاتفاق مع حكومة كرومويل، كذلك فإن فكرتها بلا ريب، كانت مستوحاة من الهجرات الأوروبية إلى العالم الجديد (أميركا)، حيث عمليات الإبادة والاستيطان قائمة على قدم وساق.
أما لماذا اليهود في فلسطين بالذات، فإن السبب يعود إلى المناعة التي أظهرتها البلاد العربية، وخاصة في فلسطين، سواء في الحروب الصليبية، أو في الحملات البرتغالية الأولى، وفيما بعد فسر الدبلوماسي الإنجليزي جيمس نيل (1877) بوضوح هذه المسألة حيث قال:"إن احتمال أن يتمكن الإنجليز من استيطان فلسطين بنفس النجاح الذي استوطنوا به في أميركا الشمالية بعيد جداً، بسبب الصعوبات التي يقيمها العرب، وبسبب الافتقار إلى حماية فعالة، وكثير غير ذلك"(15).
ب - كان المهاجرون الأوائل إلى أميركا من البيوريتانيين (التطهريين) الذين حملوا معهم التقاليد والقناعات التوراتية، وتفسيرات العهد القديم التي انتشرت في إنكلترا ودول أوروبية في القرن السادس عشر وما بعده. وكانت اللغة العبرية لغة مهمة في المستوطنات الأميركية الأولى. فالبيوريتانييون كانوا يتكلمونها بسهولة. (..) وكان أول كتاب ينشر في العالم الجديد هو ترجمة مباشرة للكتاب التوراتي "سفر المزامير". وقد سمح لليهود ببناء محافلهم الدينية في وقت مبكر إثر هجرتهم إلى العالم الجديد الأميركي، وتم لهم ذلك قبل أن يسمح البروتستانت البيوريتانيون المسيطرون على معظم المستوطنات الجديدة لطائفة الكاثوليك في بناء كنائسها (16). بهذا المعنى لعبت اليهودية وأساطيرها دوراً كبيراً في تكوين العقل الغربي الأميركي. ولا يزال الأمر كذلك حتى الآن، وإلى درجة أن هناك من يعتبر أن أسباب البركة في الولايات المتحدة "لأننا أكرمنا اليهود الذين لجأوا إلى هذه البلاد، وبورك فينا لأننا دافعنا عن إسرائيل بانتظام، وبورك فينا لأننا اعترفنا بحق إسرائيل في الأرض" (17). ويحكى على نطاق واسع في الولايات المتحدة اليوم عن الإيمان اليهودي- المسيحي، الذي يرى في استيطان فلسطين بواسطة اليهود شرطاً للمجيء الثاني للسيد المسيح.
ج - جرى إنشاء الحركة الصهيونية اليهودية، في لحظة الصعود الكبير للامبرياليتين البريطانية والفرنسية، لحل المسألة اليهودية التي تعني عدم قدرة اليهود على الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها. لكن أساساً لاستيطان فلسطين، الذي تم تصويره على أنه عمل مقدس، وتحقيق لوعد إلهي لليهود بأرض فلسطين، وأيضاً ليشكل هذا الاستيطان حاجزاً بين الغرب المتحضر والشرق الهمجي.
يمكن أن نستنتج من هذه الملاحظات أن الظاهرة الصهيونية التي يعاني الشعب الفلسطيني والأمة العربية ويلات وجودها على أرض فلسطين، تم تصنيعها كحركة استعمارية في الغرب، وأن الذين تبنوا المعتقدات التوراتية، جعلوا من الصهيونية وإسرائيل ديناً جديداً، يقومون بعبادته، ويضمنون استمراره، ويمدونه بأسباب القوة. رغم أن كل شيء بدأ بالتلفيق ويستمر به.
لقد صورت الصهيونية نفسها على أنها حركة تريد حل ما يعرف بالمسألة اليهودية، وهذا الأمر لم يتحقق فعلياً، إذ واجهت ممانعة من الجماعات اليهودية بداية، وتفشل حتى الآن في تحديد هوية للكيان الذي أقامته على أرض فلسطين. فهي بدأت كشركة استعمارية على غرار ما حدث في بدايات استيطان أميركا، واستخدمت الأساليب ذاتها: إبادة وطرد السكان الأصليين، بيد أنها ووجهت بممانعة عنيفة، من شعب وأمة يملكان إرثاً حضارياً عميقاً، وثقافة عظيمة، لم يستطع شذاذ الآفاق سحقها وإبادة أصحابها، وهي إن كانت استطالة للغرب الاستعماري ممثلة لقيمه ونظرته الاستعلائية، فإنها تمثل في الوقت نفسه" الفظاعة في كمالها" وهذه هي سمتها الأساسية، إنها ليست ظاهرة حضارية بأي مقياس، بل هي محصلة ملتبسة لثقافات القسر والإخضاع والسيطرة والاستعلاء، وتمثل أسوأ ما في هذه الثقافات، وهي البقية الباقية من عصور الاستعمار الهمجي. وقادرة على أن تمثل استعادة حيوية، لأبشع ما شهدته تلك العصور، وإذ صورت كحاجز في وجه الهمجية والبربرية، فإنها حملت إلى الشرق بروحه الخضراء المتسامحة، الموت والخراب والدمار.
ولعل الجميع هنا يعرف أكثر مما أعرف وربما شاهد أكثر مما شاهدت، أو خبر أكثر مما خبرت عن هذه الظاهرة الاستيطانية الإحلالية البشعة، لكن ما يصدم حقاً، هو أن يتصور البعض إمكان أن تتحول هذه التلفيقة البشعة، إلى ظاهرة طبيعية، ويعاملها على هذا الأساس، وهذا- برأيي - يشكل المنطلق لفكرة التسوية والتصالح.
لقد دعانا البعض مع انطلاق عملية التسوية، لأن نتغير لأن الصهيونية وإسرائيل تغيرتا، فقد كف المشروع الصهيوني عن عدوانيته وتوسعيته، وتريد إسرائيل أن تكون دولة طبيعية، تتعايش في هذه المنطقة، لم يسأل أصحاب هذا الرأي عن كيف يمكن أن تتحول ثكنة عسكرية أقيمت لأهداف محددة، وتستمر من أجل تحقيق هذه الأهداف، إلى ظاهرة، بل قل إلى دولة طبيعية؟ وكان أن بدأ الدخول في الاختبار، الذي أحسب أن من فوائده القليلة جداً، بل لعلها الجيدة أنه بين لكل ذي عينين تبصران، حقيقة هذه الظاهرة مرة أخرى. إن التسوية والتفاوض، هما شكلان للحوار، فماذا واجه الذين سلكوا هذا الاتجاه، ومع أي ظاهرة تعاملوا؟ لقد واجهوا ظاهرة تقدس العنف والقوة، فالصهيونية المفتقدة إلى مفهوم للهوية يستند إلى تاريخ وقومية، وتراث ثقافي طبيعي، فَبركت هذا كله منذ تشكيلها كحركة لتستطيع خلق لحمة صناعية بين أفرادها ومشروعها أو مجتمعها اللاحق، لتضمن تماسكه وائتلافه حول جملة من القيم والتقاليد والغايات، ولتتمكن بالتالي من توظيفه لصالح خطتها لاستيطان فلسطين والاستيلاء عليها فيما بعد. وإدامة هذا الاستيلاء وتقويته بالتزامن مع قيام التجمع الصهيوني الاستيطاني بخدمة الوظيفة الإمبريالية لإسرائيل التي أدركت الصهيونية منذ البداية أن القيام بها هو شريان تغذية الكيان الصهيوني ووسيلته الوحيدة للحياة.
استندت الصهيونية إلى دين مدني جديد مستمد من التوراة والأساطير والخرافة، وجعلته مكوناً للقومية، ولتوليد مفهومها للهوية، وحاجة مجتمعها المفبرك إلى رموز مشتركة.
الدين اليهودي هو الذي حدد أرض الميعاد والشعب المختار، وهو الذي زود الصهيونية بأهم رموزها: اللغة العبرية كقاسم مشترك، بين المهاجرين إلى ثقافات مختلفة (واللغة أداة ثقافة وليست ثقافة كما هو معروف) التقاليد المشتركة من أعياد ومناسبات وطقوس ومنه (الدين) أرادت تحديد الهوية في كافة أبعادها، لتصطدم أيضا بما ادعته من علمانيتها.
لقد سعى الفكر الصهيوني في حلته الدينية السياسية هذه إلى ترسيخ أيدلوجية الإجماع والاتباع في نفسية الصهيوني واليهودي بشكل عام، مستفيداً من معاناة اليهود وحيرتهم وعزلتهم، هنا وهناك في أنحاء العالم، الأمر الذي كان قد أوصلهم إلى درجة الصفر في سؤال الهوية، فنفخت الصهيونية في شعارات من نوع "إعادة بناء مملكة إسرائيل الكبرى" و"بعث يهودية الأنبياء"، و"إعادة إصلاح اليهود".
وهكذا وإزاء تفكك الوحدة والاجتماع على مكونات ثقافة سياسية موحدة لدى قاعدة الحركة الصهيونية، قدمت الصهيونية ثالوثها المقدس الجديد المستمد من الديانة اليهودية (الأرض، التوراة، الشعب) ليشكل أساس الثقافة السياسية، ومن هنا انطلقت لتبني ثقافة مجتمعها اللاحقة في لعبة رموز فريدة من نوعها في التاريخ حيث لم يجر- ربما إلا نادراً- تركيب مجتمع وثقافة من جملة أفكار لا غير، بل من جملة أساطير، غرست بعناية في تربة التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وأنبتت بعد ذلك زرعتها الشقية.
نقلت الحركة الصهيونية يهود العالم من غيتواتهم الصغيرة إلى غيتو كبير وجديد، في فلسطين، أطلقت عليه اسم دولة، وحرصت أن يظل الغيتو الجديد كذلك معزولاً غير طبيعي، هو غيتو شكلت مستوطناته وأبنيته الأولى ضمن أسوار للدفاع عن النفس في وجه الآخر، ومع هذا التشكيل تأسس عمران الثقافة السياسية على قاعدة العداء للآخر، العدو الأبدي الذي يتحين الفرصة للانقضاض وإبادة اليهود.
كانت الحركة الصهيونية، معنية بزراعة الخوف في نفسية المستوطن اليهودي في فلسطين، لتحافظ على لحمته كتجمع واستنفاره الدائم، وبدون هذا الخوف المنظم من الهولوكوست، المحتمل في أي لحظة، ما كان ممكناً توحيد "المجتمع" حول رموز هوية، ومن أهم هذه الرموز تقديس القوة والعنف وممارستهما ضد الغير في ضربات دفاعية مسبقة، هي وحدها القادرة على حماية إسرائيل من عنف الآخر المحتمل في أي لحظة.
لقد كانت ممارسة العنف الكلامي والمادي ضد العرب الفلسطينيين والعرب بمثابة حاجة سيكولوجية واجتماعية وثقافية وسياسية، ولا غنى عن هذه الحاجة أبداً في مجتمع أدرك مؤسسوه أنه مفعم بالنزعات العنصرية والطائفية وحتى القومية ومملوء بالاستعلاء.
" أن تكون صهيونيا يعني أن تتحمل مسؤولية تاريخية بألا تكون ضحية للقمع" على حد تعبير آفي رافيتسكي، من حركة (نيفوت شالدوم)، ولكي لا تكون ضحية فإن عليك القيام بالمهمة المعاكسة، وهي تحويل الآخرين إلى ضحايا.
حمل هذا العنف نوعاً من القداسة والتأليه، فضمنت الثقافة السياسية التي تمجد العنف تلك الأساطير القديمة التي تقول برسالة أخلاقية، تاريخية للدولة اليهودية، تجعل منها "نوراً يسطع على الأمم" وسميت الدولة الصهيونية "كومنولثاً ثالثاً" أو "هيكلاً ثالثاً" وسميت الهجرة إليه "صعودا" (عالية بالعبرية) واستخدم التاريخ اليهودي بصدقه وكذبه كدليل موضوعي مسهب، داعم للشكوك المخدرة من الغرباء وخطرهم على الأمن الفردي والجماعي، و للحديث عن "استحالة عيش اليهود في عالم غير يهودي" وللقول "إن اليهود يمكنهم فقط أن يثقوا بشعبهم ويجب أن يعتمدوا على أنفسهم".
ترك هذا الأمر أثره في الثقافة السياسية للتجمع الاستيطاني الصهيوني حتى اليوم. وبالرغم من الانقسامات الهامة بين الأحزاب الصهيونية، فإن الجميع ظلوا متفقين على:
1- الشعور بعدم الأمن وعدم الثقة بصدد نوايا غير اليهود نحوهم.
2- الشعور بأن دولة "إسرائيل "والشعب اليهودي غير قادرين على الصيرورة كدولة ومجتمع طبيعيين" وبالتالي فإن "الشعب اليهودي ودولته مقدر لهما أن يكونا دولة تسكن لوحدها" (19).
3- تمجيد عزلة الدولة والشعب وعدم طبيعيتها، واعتبار هذه التفردية دليلاً على العناية الإلهية بالأخيار على عكس ما هو عليه الحال لدى الأغيار( الغوييم).
ويلخص آحادها عام فرادة الدولة اليهودية ولا طبيعتها هذه برسالتها الأخلاقية التي هي كما يلي "الخير للإنسان الخارق والأمة الخارقة وسيسود شعبنا اليهودي على كل الشعوب الأخرى. إن إسرائيل هذه هي الأمة العليا التي تملك القدرة على التوسع، وأن تصبح سيدة العالم من دون النظر بعين الاعتبار إلى ما يمكن أن يكلف ذلك الشعوب الأدنى مقاماً، لأن الأمة العليا الخارقة، والإنسان الخارق هما المنارة والهدف للجنس البشري، أما بقية الشعوب فقد خلقت لتكون خدماً على السلم الذي يتم تسلقه من أجل تحقيق هذا الهدف، والوصول إلى القمة (20).
والإنسان الخارق بالنسبة للصهيونية هو المؤمن بـ" حقيقة قوة الحرب التي لا مفر منها، لأن الحياة بدونها لا يكون لها هدف بالنسبة للفرد" بتعبيرات اسحق شامير، وحقيقة قوة الحرب هذه هي أيضاً" حقيقة الحياة على الحراب إلى الأبد" بتعبيرات إيهود باراك.
هل هذه الظاهرة قابلة للحوار معها؟ يمكن أن ننظر حولنا فقط، أن نستذكر ما يجري منذ أكثر من سبعين عاماً على أرض فلسطين، كي نلتقي بالإجابة.
مع ذلك، فإن ما تقدم، هو ما واجهه أولئك الذين اعتقدوا بتغير إسرائيل لتتكيف مع المشروع الأمريكي للتسوية، ولكن هذا التكيف، أريد منه أن يخدم بالضبط، ذلك النسق الذي تأسس بقوة الحراب، ويستمر بها.
لقد سعت بعض الأطراف الصهيونية إلى محاولة إعادة تكييف مشروعها مع المشروع الأمريكي للتسوية، لكنها لم تكف لحظة عن الاستعلاء العنصري ورأت أن اندماجها في المنطقة (والمنطقة تعبير صهيوني يلغي كل الخصوصيات الثقافية والحضارية لوطننا وأمتنا) يجب أن يكون اندماجاً مهيمناً.
إن يوسي ساريد زعيم ميريتس، هو واحد من الداعين إلى هذا التكيف، ولكن كيف يعبر عنه؟ يقول ساريد: "لو كان سبب تأييدي لإقامة دولة فلسطينية فقط لأن الفلسطينيين يستحقون دولة، لكنت أوقفت هذا التأييد على الفور ربما يستحقون الاحتلال، أما نحن فلا نستحقه" (21).
وعملياً، فإن التسوية بمجملها، قد طرحت الإدماج المهيمن، والمنظومة الشرق أوسطية، وتحقيق هذه المنظومة يعني إذابة الهوية العربية والإسلامية لصالح انتماء جغرافي، يكون علينا معه أن نعاود طرح السؤال: من نحن؟
ولعلنا نكون هنا قد وصلنا إلى النقطة الجوهرية، فمن خلال التسوية أرادت الاستطالة الاستعمارية العدوانية، استكمال عدوانها، عبر التفاوض، على أن يؤدي هذا الأمر، إلى إنكار ثقافتنا وحضارتنا وخصوصيتنا القومية، وأن نتحول إلى شرق أوسطيين، نبيع ونشتري، أن نتحول إلى الإنسان الاقتصادي، بلا هوية ولا تاريخ، وبلا مستقبل، سوى ذلك الذي تحدده متطلبات السوق وقيمه. يقول: منظّر تكييف الصهيونية مع متطلبات المشروع الأمريكي، شمعون بيريز "لا ينبغي أن يكون ماضي العلاقات العربية الصهيونية عقبة في وجه الفرص المتاحة أمامها الآن، بل ينبغي تركيز الاهتمام كله على المستقبل والسوق ويعيد تعريف الإنسان اليهودي ليصبح الإنسان الاقتصادي، إذ يقول: "إن الشعب اليهودي لم يكن هدفه في أي يوم السيطرة. إنه فقط يريد أن يشتري ويبيع وأن يستهلك وينتج، فعظمة إسرائيل في عظمة أسواقها "وقضايا الشرق الأوسط هي قضايا المياه والسياحة ورأس المال وستعم المنفعة وتزداد اللذة من خلال تحالف بين البترول الخليجي والمياه التركية والسوق المصرية والخبرة الإسرائيلية ولا داعٍ للحديث عن الماضي أو القيم، إذ يجب التركيز على الآن، وهنا. ويقول بيريز: "العصر الذهبي لشعوب الشرق الأوسط عصر لم ير له التاريخ مثيلاً، عصر مناسب للعهد الجديد الذي يبتلع العالم بأسره" (22).
إن نسيان الماضي الذي يجري الحديث عنه، لا يعني تطلعاً إلى المستقبل بالمعنى المجرد، إنه يعني لنا النهاية، يعني ضياع فلسطين، وتشتيت شعبها. وجعل الاستطالة الاستعمارية العدوانية كياناً قائداً للمنظومة الجديدة، مسيطراً سيطرة مطلقة. وهذا ليس استنتاجاً مما ساقه بيريز، أو تصوراً مفترضاً لما سوف يكون الحال عليه، بل هو قيل مباشرة، و بأوضح ما يكون من الكلمات. يقول د. هولدت (مدير المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن): "لو تخيلنا أن ما يحدث الآن على مسرح الشرق الأوسط هو مسرحية، فإن مصر هي أحد الأبطال الأساسيين، ومعها كل من تركية وإسرائيل .. ولكن المشكلة هي كيفية إدخال إسرائيل في هذا الإطار وجعلها جزءاً من الشرق الأوسط؟ لذا لا بد من أن تغير هويتها هي الأخرى، لتتحول من قاعدة للنظام العالمي القديم، إلى النظام العالمي الجديد، وهذا يتطلب أن يتم ضمان تفوقها الكاسح عسكرياً على كل دول المنطقة، على أن يظل هذا الدور قوة كامنة واحتياطية تستخدم إذا ما دعت الحاجة، إلى قوة مستنفرة على الحدود، وجاهزة للتدخل في كل لحظة كما هو الحال في المرحلة السابقة" (23).
هل يعدو ذلك عن أن يكون دعوة للإخضاع والهيمنة ؟عملياً تقوم كل معمارية الخطاب الصهيوني المرافق للتسوية، على احتفاظ إسرائيل بقوة هائلة، لا نظير لها عربياً أو إسلامياً (سواء على مستوى دولة واحدة أو على مستوى الكتلتين مجتمعتين) مقابل حرمان الآخرين حتى من أمواس الحلاقة.
ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام السؤال: هل هذه ظاهرة قابلة للحوار؟ لقد شهدنا وعلى مدى سنوات طويلة، أشكالاً من المكابرة، ومحاولات حجب الشمس بالأصابع، وفي كل مرة كان التجمع الاستيطاني الصهيوني، واضحاً في التعبير عما يريد، ومتحركاً ضمن محددات وجوده. فسقطت محاولات التكيف مع المشروع الأمريكي للتسوية، وأطلقت الاستطالة الاستعمارية كل ما تملكه من بشاعة، ولعل في الصور والمشاهد والمواقف، المتواصلة في عرض مستمر، منذ أربعة عشر شهراً أي منذ بدء انتفاضة الأقصى، ما يعفي من كلام كثير. تالياً سوف أورد بعض الملاحظات التي يمكن التعامل معها بمثابة استخلاصات.
استخلاصات
1. تنبني مقولة صدام الحضارات على اقتراح شكل جديد للهيمنة الاستعمارية الغربية، وهذا المقترح ينطوي على آلية لإدامة صناعة الموت والخراب، مستعيدة النموذج الروماني القديم للإخضاع، ومنوعة عليه بامتلاكها أدوات أكثر فتكاً وعدوانية.
2. ورغم تهافت مقومات هذه المقولة جميعاً، وعدم قدرتها على الصمود أمام الواقع فإن استمرار النفخ فيها، واستخدامها أداة لتسويغ العدوانية المتجددة، إنما يؤكد الاستخلاص السابق، أقصد هنا أنه قبل تفجيرات 11 أيلول، كان الانقسام في العالم أفقياً بين القوى المستغله وبين جموع المهمشين والمستضعفين في العالم، وهذا ما ظهر في سياتل وجنوه وإلى الآخر، ولم يكن هذا ينسجم مع مقولة صدام الحضارات، العالم كان متقسماً بشكل مختلف والآن يعاد توصيفه على أساس أن هناك صدام حضارات.
3. إن للحوار (حوار الحضارات) شروطاً، أهمها الاعتراف بالآخر وهذا يعني حقه في الاحتفاظ بخصوصيته، ولكن السؤال، كيف يكون الحوار مع من يؤسس وجوده على الصدام، ولا ينظر إلى الآخر بوصفه صاحب حق، بل "شيئاً" ينبغي امتلاكه و السيطرة عليه؟ وبالتالي فإن أي انطلاقة للحوار، تتأسس أولاً وقبل كل شيء على التخلي عن النزوع إلى السيطرة والهيمنة والإخضاع، من قبل الغرب الاستعماري والكف عن التوسل الدائم للقوة بديلاً للحوار.
4. إن الظاهرة الصهيونية في فلسطين التي تستبطن كل مقومات الفكر الاستعماري ومكوناته ومقولاته، هي ظاهرة طارئة على الوطن العربي، استطالة استعمارية لا يمكن التسليم بوجودها، لأن هذا الوجود يعنى استمرارها في التعبير عن نفسها كاستطالة استعمارية تمارس ممارسات الاستعمار مع نزعة قوية للعدوان والسيطرة والإخضاع. ولماذا يكون علينا أن نحاور ظاهرة عدوانية تلفيقية (أنتجتها ثقافة الغرب الاستعماري، ومتطلبات مشاريعه في السيطرة والإخضاع، وفوق ذلك ترفض وجودنا) بوصفها ظاهرة حضارية تمتلك حق الوجود على أرضنا فقط لأنها قررت ذلك، أو أن أصحابها قرروا؟
5. إن الدعوة إلى التسامح والمحبة والحوار، لا تستقيم مع بقاء شعب محروم من حقوقه وأرضه، ومع التهديد الدائم لوجود أمة ..
الهوامش والمراجع:
1. ورد النص في: ادوارد سعيد، ترجمة كمال أبو ديب، الثقافة والإمبريالية، دار الآداب بيروت، الطبعة الأولى 1997 ص34.
2. ورد في المصدر نفسه ص34.
3. نشر ريتشارد بارنت كتابه جذور الحرب عام 1972، وفيه بين أن الولايات المتحدة تدخلت عسكرياً في العالم بمعدل مرة كل سنة منذ 1945 حتى عام 1967. وهو العام الذي أنهى فيه مسرده الإحصائي، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة "تسن قواعد للسلوك السوفيتي في كوبا والبرازيلي في البرازيل والفيتنامي في فيتنام، ويعبر عن سياسات الحرب الباردة بسلسلة من التعليمات التي تصدرها الولايات المتحدة، حول أمور تقع خارج النطاق الجغرافي الأرضي من مثل ما إذا كان لبريطانيا أن تتاجر مع كوبا أو ما إذا كان لحكومة غويانا البريطانية أن تختار طبيب أسنان ماركسياً ليحكمها".
4. صاموئيل هانتنغتون، "الغرب فريد وليس عالمياً " في كتاب الغرب وبقية العالم بين صدام الحضارات وحوارها، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق (بيروت) الطبعة الأولى 2000، ص170-172.
5. كافين رايلي، ترجمة عبد الوهاب المسيري، هدى عبد السميع حجازي، الغرب والعالم، تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، القسم الأول، عالم المعرفة (الكويت) العدد 90 حزيران 1985 الصفحات من 135-148.
6. د. حسين مؤنس، الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، عالم المعرفة الكويت العدد 297 الطبعة الثالثة أيلول 1998. ص45-46.
7. صاموئيل هانتنغتون، صدام الحضارات، في الغرب وبقية العالم .. م .س .ذ ص31-37.
8. عادل مهدي، النظام الدولي الجديد وأثره على الوضع العربي والإسلامي، قراءات سياسية، مركز دراسات الإسلام والعالم، السنة الأولى العددان الثاني والثالث ربيع وصيف 1991، ص17.
9. عبد الوهاب المسيري، النظام العالمي الجديد ونهاية التاريخ والإنسان، رؤية معرفية، قراءات سياسية، مركز دراسات الإسلام والعالم، السنة الرابعة العدد الأول شتاء1994 ص127-128.
10. د. حسين مؤنس م.س.ذ.ص388.
11. محمد خاتمي، حوار الحضارات في الغرب وبقية العالم.. م.س.ذ ص179.
12. المصدر نفسه ص 255-256.
a. محمد سليم العوا، حوار الحضارات شروطه ونطاقه، في الغرب وبقية العالم م.س.ذ 240-248.
b. صاموئيل هانتنغتون، إن لم تكن حضارة فماذا تكون؟ في الغرب وبقية العالم م.س.ذ ص77.
13. نصر شمالي، الصهيونية غير اليهودية، نص محاضرة غير منشورة.
د.يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية، تجاه الصراع العربي الصهيوني (دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية) مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) الطبعة الأولى، شباط 1990ص 37-38.
14. المصدر نفسه ص77.
15. ميرون آرنوف، الثقافة السياسية في المجتمع الصهيوني، إسرائيل خلال الثمانينيات، دار الحمراء (بيروت) الطبعة الأولى1991، ص160-161.
16. المصدر نفسه ص181.
17. وردت لدى شوقي أبو شعيرة، قنبلة السلام الإسرائيلي، الشاهد (بيروت) العدد 106 حزيران 1994.
18. هأرتس 17/8/1990.
19. عبد الوهاب المسيري النظام العالمي الجديد م.س.ذ . ص120.
20. المصدر نفسه ص131.
