مؤتمر المواسم والعطاء

calendar icon 11 تشرين الثاني 1999 الكاتب:بهجت غيث

مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الافتتاح)


بسمه تعالى نبدأ دائماً في أول السطور وعليه نتكل في جميع الأمور

أيها الأحباء أصحاب السماحة والمعالي والسعادة والفضل والفضيلة أيها الأخوة المؤمنون جميعاً.

السلام عليكم وطابت أوقاتكم ومناسبة اجتماعكم في الذكرى الرابعة لمؤتمر الكلمة السواء الذي ينعقد هذه السنة استكمالاً لبحوث مؤسسات الإمام الصدر، لإلقاء مزيد من الضوء على الهوية الثقافية وأبعادها وتأثيراتها في مسيرة نهوض الأمة التي استمرّت ولم تتوقف أو تغيب بتغييب صاحب تلك الشمعة الفكرية التي أضاءت ما حولها، وأحرقت أسراب فراش التخلّف والاقطاع والجهل وأحدثت صدمة وعي ويقظة تفاعلت ولا تزال في المجتمع اللبناني المنفتح على مختلف أبعاد الثقافات والديانات والحضارات، حيث يشكّل بطوائفه المتعدّدة نموذجاً حيّاً وصادقاً عن المجتمع العالمي بأسره، ويعطي لهذا المجتمع مثالاً وقدوة في الالتقاء على الكلمة السواء والحوار البنّاء - حوار التفاهم والتعايش وتبادل الفكر والرأي الآخر- حوار الثقافة وأبعادها المتعدّدة في حياة الإنسان المخلوق الأسمى والأقرب الى خالقه من كل مخلوقاته ومبدعاته بما خصّه وميّزه عنها جميعاً بالعقل المفكّر المشرق بصور الروح الحيّة اللطيفة البسيطة الخالدة بأمر ربها ومبدعها الأزلي السرمدي والنفس العاقلة آلة التعبير الحسيّ عن الذات الآدمية ذات الصنعة اللطيفة المتقنة، جلّ الصانع المبدع المكوِّن الخالق الواجد لموجوداته ليوجد، المنزّه عن تنزيه خلقه ليُعبَد ويُوَحّد كما نطقت بذلك الآيات النورانية "وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون" أي ليعرفوني. وهذه المعرفة لا يمكن أن تصح وتثبت إن لم تنطلق من معرفة الذات وترتقي في معراج الصفاء الروحي المشرق بنور العقل لتقتحم مملكة المعالم الإلهية والأسرار الكونية فتكشف سر الكل في الجزء من الصنع العجيب وتتعرّف على الحق من مكان قريب، وهل أقرب الى الإنسان من ذاته لذاته، فإذا عرفها عرف كل شيء وإذا جهلها جهل كل شيء.

ومن هنا أيها الأخوة المؤمنون يصح القول بأن النفس الإنسانية لا يأتيها الشر والخير إلا من ذاتها لذاتها و"كل نفس بما كسبته رهينة" ولن يغيّر اللّه ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم -وهذا هو التغيير العاصف الذي يجتاح العالم في هذا الزمن الصعب على مشارف العبور من الألفية الثانية الى الثالثة حيث توغّل إنسان هذا العصر كثيراً في نفق ظلمة التخلّف الروحي والجهل الذاتي رغم كل مظاهر تقدّم ثورة العلم والاكتشافات وتطوّر الحضارة في سباق العولمة المادية التي أنتجت الصراعات والحروب والفوضى والخراب والدمار والكوارث المتصاعدة من الأرض والهابطة من السماء على هذه القرية الكونية وأهلها المُشار إليهم بقول الحق سبحانه في الكتاب العزيز "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمّرناها تدميراً" "وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً" (الإسراء 16-17). فقد أمرهم سبحانه وتعالى في الوصية الإلهية المتكرّرة على إسماع العائلة الآدمية منذ بدء التكوين خلقاً بعد خلق ودوراً بعد دور الكلمة السواء التي تجمع كل الشعوب والأمم والأديان والطوائف المتعدّدة وتذكّرهم بحقيقتهم الواحدة وما يتذكّر إلا أولوا الألباب، وهل صرخة صاحب إشراق الشمس العيسوية: "إعرفوا الحق والحق يحرّركم" تختلف في جوهرها وحقيقتها عن تمامها وكمالها في مضمون تكرارها وإعادتها على لسان أخيه صاحب إشراق الشمس المحمّدية "ولقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون". وهل مأساة هذا العالم والمعاناة التي يتخبّط بها في ظلمة نفق هذا العبور واجتياز المفصل الألفيني الأصعب في تاريخ البشرية إلا من ظلمة جهل الحق والحقيقة واشتعال نار الشك والشرك في نفوس الخليقة حتى علت صيحة الباطل وخفتَ صوت الحق فامتلأت الأرض ظلماً وجوراً وفساداً، وهل هذا الجور والظلم والعصيان وفقدان الإيمان وتعذّر تحقيق السلام إلا نتيجة جهل الإنسان بثقافة معرفة الحق وترسيخ الثقة في نفسه والإخلاص له والثبات معه بعزم وإرادة وتصميم وعمل حتى تحقيق الأمل. وهل يتحقّق السلام الحقيقي إلا في النفوس المطمئنة الراضية المرضية؟ وهل يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟ وهل ينضح كل إناء إلا بما فيه؟

إنه زمن الامتحان وكشف ما تخبئه الصدور والانتقال من عصر الظلمة الى عصر النور. وهل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً كما نطق الحق في الكتاب المبين "أنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً" (الإنسان 3) إلى أن يقول وقوله الحق فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً واذكر اسم ربّك بكرة وأصيلاً". (الإنسان 24-25).

نعم أيها الأخوة الأحباء، إننا نعيش زمن عودة الإنسان الى ذاته ليتعرّف على نفسه ويعرف أسباب خلقه ويدرك أن خلاصه ونجاته من طوفان مفاسد هذا العصر لا يتحقّق إلا من خلال سفينة نفسه الذاتية الجادة في طلب شاطئ الأمان رغم تلاطم الأمواج وعلو زبد الباطل على وجه الماء الزلال. ولا ينفعه انتماؤه بالهوية الى أي دين أو طائفة أو مذهب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والقلب السليم يعني الخالي من الكره والحقد المليء بالمحبة والصفاء والنقاء. فأين العالم الذي نعرفه كما هو مليء بالصراع والاضطراب من السلم والسلام والسلامة والتسليم للحق بقلب سليم وطرد الأوهام والتخلّص من الظلام؟ أين الانسان من السلام الذي يجب أن يصنعه بنفسه لنفسه؟ وهل يصح سلام الإنسان مع الآخرين إن لم يصح في نفسه أولاً؟

ولا يتم ذلك إلا بصدق الإيمان لأن الإيمان الصادق عطر القلوب ومزكّي النفوس وباعث الإشراق الروحي القادر على ترجمة سر هذا الكون وسلوك المنهج السليم والطريق المزدهر بالفوز والنجاح. فمصارعة قوى الشر لا تتم إلا بالإيمان المفعم بحتمية انتصار الخير في النهاية وعندما ينتصر الإنسان على الشر في نفسه ويرى حقيقتها المتّصلة بعالمها الأسمى يتمسّك بمبادئه ويثبت على كلمة الحق ويمتلك الإرادة والقوة والتصميم على المتابعة مهما كانت الصعوبات والعراقيل يتم تخطيها للوصول الى الهدف المنشود بدون خوف مع الحق ولا تراجع ولا تردّد ولا انهزام لأن الحق قوي بذاته وبعزّة ثباته ولا خوف عليه بل الخوف على ضعفاء الإيمان الغير واثقين بأنفسهم وبخالقهم الشاكّين بحتمية النصر مع التمسّك بالحق والثبات والصمود حتى تحقيق وعده: "ليُحق الحق ولو كره الظالمون". هذا ما يحدث أيها الأخوة في موقف لبنان المقاومة الملتزم مع سوريا الأسد دائماً بصمود وقوة معزّزة بحكمة الرؤساء ودماء الشهداء ليكون شاهداً على حتمية انتصار الحق المسلّح بالإيمان الصادق والثقة بالنفس على كل أسلحة العدو الممسوكة بأيدٍ مرتجفة لا تدافع عن حق ولا تتعاون على البر والتقوى بل على الإثم والعدوان.

فبالإيمان الصادق وبالصبر مع الحق والصمود والثبات تتحقّق المعجزات. وهذا ما تحقّق بعضه وسيتحقّق بإذنه تعالى أيضاً في مسيرة الإصلاح والنهوض التي بدأت مع إطلالة العهد الجديد على اللبنانيين بعد المعاناة الطويلة حيث تجدّد الأمل وبدأ العمل لتقويم الاعوجاج وتصحيح الخلل رغم كل العقبات والصعوبات وبدأت مسيرة الخلاص من معاناة الماضي من دويلات من المزارع الطائفية والمذهبية وبناء دولة القانون والمؤسسات على أسس سليمة عادلة نظيفة مطهّرة من الفساد والمفسدين. ولا بد من التحلّي بالصبر والثقة بالنفس وتشجيعها دائماً على التمسّك بالحق والثبات والصدق والإخلاص في العمل كما نرغب حتى تحقيق الأمل والغالب في النهاية من أعانه اللَّه وكل المبطلين والمنحرفين والمغرورين المتكبّرين على الحق المفسدين في الأرض كباراً وصغاراً مهما عظمت قدرتهم وطالت أذرعتهم في الظلم والجور والتعدّي، فيد اللَّه فوق أيديهم، ومهما حسبوا أنهم يستطيعون تنفيذ مخططاتهم وأحلامهم وأوهامهم فالحساب عنده عز وجل، والكل في قبضته ولا يخرج شيء عن أمره وارادته· "إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون· فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون". (يس 82-83) نسأله تعالى أن يهدينا جميعاً ويوفقنا لما فيه خير أنفسنا ويوفقكم في مؤتمركم أيها الأخوة لتعزيز مسيرة صاحب الذكرى وتعميم الهوية الثقافية الإنسانية الإسلامية أي الإسلام بمعناه الرحب الأوسع المحتوي لكل فرد لإحداث صدمة الوعي الحقيقي لما فيه خير لأمتنا العربية والإسلامية وخير للإنسانية جمعاء لتعود الى صفائها ونقائها كما كانت منذ بدء التكوين لتستقبل الفجر الروحي المشرق على البشرية مع صبحة الألفين رغم كل الغيوم المتراكمة، فرب غيمة نراها تبكي وهي تبتسم، والصبح بمشيئته قريب إنه تعالى سميع مجيب.

والسلام عليكم والشكر والتشجيع للقيّمين على تنظيم هذا المؤتمر الدائم المواسم والعطاء ولجميع الحضور والمحاضرين في كل المواضيع التي تساهم في نشر الوعي وتحرير النفوس بصدق الإيمان وعشتم وعاش لبنان.

وكل عام وكل مناسبة وانتم بخير

source