مؤتمر "كلمة سواء" السنوي الرابع: "الهوية الثقافية"
(كلمات الجلسة الثانية)
قبل مباشرة البحث في موضوع الثقافة والتنمية البشرية لا بد من ذكر جهد وجهود الإمام موسى الصدر ومحاولاته الدؤوبة في سبيل تنمية المناطق المحرومة ونشر انماء متوازن لطالما طالب به لجميع المناطق اللبنانية والتي اعتبرها، وهي كذلك، مناطق محرومة، وقبل مباشرة البحث في موضوع الثقافة والتنمية البشرية لا بد لي هنا من تعريف الثقافة وطرح السؤال التالي ما الثقافة؟
انها قد تعني الآداب والفنون كما قد تعني التراث الشعبي بكل ما فيه من صناعات يدوية، وعادات شعبية. وتشمل الثقافة العقائدية السياسية، والدينية، فهي تعني جميع معارف الإنسان سواء تلك المتعلقة بالطبيعة أم بالمجتمع (محمد عابد الجابري: الثقافة العربية اليوم ومسألة الاستقلال الثقافي في وحدة الثقافة العربية وصمودها بوجه التحديات ص 13- مركز دراسات الوحدة العربية - المجمع العلمي العراقي).
هناك ما يدعى بالثقافة الجامعية، وما يدعي بالثقافة الشعبية كما أن الفهم المتداول لمعنى المثقف هو العلم بصنوف المعرفة كماً ونوعاً. والثقافة تعني ما أنتجه الفكر في مختلف مجالات الماضي والحاضر كما أنه يمكننا تعريف الثقافة بأنها ذلك المركب المتجانس من الذكريات، والتصورات والقيم والرموز، والتعبيرات والإبداعات التي تحفظ لجماعة بشرية ما يشكل أمة وما يحفظ لها هويتها الحضارية في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وهنا يجب التمييز بين الثقافة الجماهيرية ومستوى الثقافة العالمة(نفس المرجع، ص 15)
الأول يضم طريقة الحياة المادية والروحية التي تمنح لامة خصوصيتها فهي إذن معدن الهوية، وهي تمتد من طريقة الملبس والمشرب إلى مكونات الذاكرة الجماعية والخيال الاجتماعي، الرأسمال الرمزي، أما الثاني فيضم مدونة المعارف والإبداعات التي يستهلكها ويعيد إنتاجها العاملون الفكريون في الأمة من علماء وأدباء وفنانين تقنيين.
أما التعريف الثالث، فهو يرى أن الثقافة هي عملية فكرية تعبر عن شعور وإدراك جوانب متعددة من الأحوال المادية، والسلوكية، والفكرية بمقادير متباينة ومتطورة تبعاً لنسبة مكونات وقوة فاعليتها لأنها تأخذ من كل علم وتولي العلوم الإنسانية اهتماماً خاصاً. والمثقفون يعنون بالماضي والحاضر ليكونوا في ذهنهم مزيجاً يختلف في قوة تماسكه ونسبية عناصره ومستواه والسمات العامة للثقافة ليست ثابتة إنما متطورة وان كان تطورها لا يسير وفق نظام منتظم، مطرد، فقد يكون سريعاً أو بطيئاً في جانب، أو جوانب عدة، وقد يؤكد بصورة واحدة رتيبة (صالح أحمد العلي: المكونات التاريخية الأولى لوحدة الثقافة العربية ص 49 في وحد الثقافة العربية وصمودها بوجه التحديات- مركز دراسات الوحدة العربية- المجمع العلمي العراقي).
ان الثقافة على أي حال تعبير عن واقع الأمة وخصائصها ومستواها وتؤثر في توجيهاتها والثقافة تتأثر بأحوال البيئة التي يعيش فيها المثقف ومن هنا كانت أحوال المثقفين الاجتماعية منوعة والجامع المشترك لهذه التعريفات الثلاث يكمن في إجماعها على اعتبار الثقافة مزيجاً من العادات والتقاليد والإبداعات والتعبيرات كما أن الثقافة تحفظ التصورات والقيم والرموز التي تشكل هوية حضارية لأمة ما وهي قابلة للتواصل والأخذ والعطاء كما تم التمييز من خلال هذه التعريفات بين الثقافة الشعبية والثقافة العالمة وبالنتيجة فان الثقافة هي عصارة إنتاج فكر في مختلف مجالات الماضي والحاضر. أنها تعبر عن هوية الأمة وهي هوية اجتماعية وسياسية ودينية تعبر عن حضارة هذه الأمة ونحن في صدد التكلم عن الهوية الثقافة العربية.
على أن موضوع بحثنا لا يتناول موضوع الثقافة فقط إنما علاقتها بالتنمية البشرية لذا سنتطرق إلى موضوع التنمية وعلينا هنا التمييز بين تنمية الموارد البشرية وموضوع التنمية البشرية على أن نتناول في ما بعد مسألة البعد الثقافي وعلاقته بالتنمية البشرية ومفهوم التنمية البشرية الذي هو مفهوم حديث بدأت بنشره الأمم المتحدة عام 1990.
تنمية الموارد البشرية:
هنالك اختلاف أساسي بين التنمية الاقتصادية والتنمية البشرية فمفهوم تنمية الموارد البشرية يعتبر البشر بمثابة موارد يشكل جزءاً لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية (د.رياض طبارة: تنمية الموارد البشرية وأبعادها السكنية في الوطن العربي ص 299، بحوث ومناقشات ندوة تنمية الموارد البشرية في الوطن العربي - دار الرازي الكويت 1987).
وكما أن رأس المال يزداد عن طريق الاستثمار فان الموارد البشرية تزداد عن طريق الاستثمار الإنساني من خلال التغذية والصحة والتعليم بشكل خاص.
وكما هو الحال بالنسبة لأي نوع من أنواع الاستثمار فان تخصيص الموارد اللازمة له يتحدد بالمعدل الهامشي لمردود مقارنة مع أشكال الاستثمار الأخرى اذن ان فكرة تنمية الموارد البشرية هي في الدرجة الأساسية نتيجة لتطور نظرية وتجربة التنمية الاقتصادية في أعقاب الحرب العالمية الثانية (Link Teek ghee: Politics and priorities in human resources development For Asia and the pacific in united nation (U.N) Escape Human resources Development in Asia and the pacific it's social dimension 1986.).
إذ كانت أول مهمة إنمائية في تلك الفترة وكانت بالطبع لتعمير أوروبا، وكان النهج المعتمد لتحقيق ذلك بسيطاً وناجحاً إلى حد بعيد إذ كان لتحويل معونات مادية كبيرة من خلال خطة مارشال، إضافة إلى قدر من التخطيط والتعاون الاقتصاديين نتائج ايجابية مباشرة. وفي الوقت نفسه تسارعت عملية إنهاء الاستعمار فنالت أعداد متزايدة من بلدان العالم الثالث استقلالها وباشرت مسيرتها التنموية.
وهكذا فإن التجربة الناجحة للتعمير في الفترة التالية للحرب أسهمت في خلق تفاؤل بمهمة التنمية الاقتصادية في أميركا اللاتينية وأسيا وأفريقيا. وكان لهذه التجربة اثر حاسم على النظريات الأولى للتنمية الاقتصادية والتي أعطت دوراً متميزاً للاستثمار وبدرجة اقل للتخطيط غير أن تجربة التنمية البشرية في البلدان النامية سرعان ما بينت أن رفع مستويات الاستثمار ومن ثم المساعدة الرأسمالية الأجنبية هو حل جزئي فقط لا يمكن أن يشكل الحل الكامل للمشكلة.
واتضح بسرعة أن الاستثمار الرأسمالي هو شرط ضروري لكنه ليس كافياً وان العوامل البالغة الأهمية في التنمية هي نقل التكنولوجيا المناسبة وخلق القدرة اللازمة لاستيعابها لذلك يجب ان تكمل المساعدات المالية بالمساعدات الفنية التي تعتبر الأداة الرئيسية لتنمية رأس المال البشري ( رياض طبارة: نفس المرجع).
لقد اقتصر تطبيق مفهوم تنمية الموارد البشرية على التدابير التي تؤدي إلى تنمية كفاءة العاملين في المؤسسات والحكومات وغير ذلك من الهياكل التنظيمية.
ولقد برز مفهوم تنمية الموارد البشرية أذن بعد أن كانت قضايا النمو الاقتصادي مقتصرة على شكل رأس المال واستثماراته، وبعد أن كان الاهتمام مركزاً على الإنسان كمورد اقتصادي ينتظر منه زيادة الإنتاج وتطويره من هنا شاع الحديث عن تحسين الأحوال الصحية لقوة العمل حتى تكون قادرة على الإنتاج وفي هذا السياق كثيراً ما نلحظ أن الحديث عن الموارد البشرية إنما يعتبر مرادفاً للحديث عن القوى العاملة ومقتصراً عليها وهو خليط ناجم عن تلك النظرة الاقتصادية للإنسان باعتباره قوة منتجة.
مفهوم التنمية البشرية:
حين نتحدث عن التنمية البشرية يحضرنا بأهدافها ما رمى اليه الإمام موسى الصدر، فقصد بالتنمية الإنسان الذي هو رأس المال الحقيقي وهنا إنما نقصد الإنسان هدفاً وغاية نهائية وذلك في إطار إشباع حاجاته المادية واللامادية وتوفير الظروف المجتمعية التي تحقق الاستمتاع بما عرف باسم حقوق الإنسان (د. حامد عمار: التنمية البشرية في الوطن العربي- المفاهيم –المؤشرات- الأوضاع، دار ابن سينا للنشر).
فالمطلوب في جميع الأحوال هو العمل على تنمية طاقات الإنسان كل إنسان الى اقصى ما يمكن ان تصل إليه وهذا يعني إمكاناته الحسية والعقلية والوجدانية والسلوكية والروحية وذلك عن طريق الوفاء بحاجاته الإنسانية للنمو والتفتح واكتساب القدرة على المشاركة الفاعلة في صياغة الحياة· في هذا الإطار يتضح لنا أن التنمية البشرية تسعى إلى اعتبار الإنسان مورداً، وهكذا اعتبر الإمام موسى الصدر أن الإنسان مورداً. لذلك يجب الدفاع عن حقوقه التي اعتبر انه محروم منها. وان بناء الحجر قبل البشر قد أدى الى تجاهل العنصر البشري، والاهتمام بالنمو الاقتصادي.
فالتنمية البشرية تعتبر الإنسان إذاً مصدر الغنى الحقيقي، كما أن التنمية تهدف إلى خلق بنية تقدم للشعوب إمكانية العيش الطويل وبصحة جيدة فالعائدات المادية والغنى ليست سوى وسائل لان الغاية الرئيسية هو الإنسان صحته، تعلمه، وغذاءه، عدا عن حريته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبحث عن الوسائل الناجعة لتحقيق انسانيته عبر الإبداع والإنتاج والاحترام المتبادل بينه وبين باقي الشعوب وضمان حقوقه الإنسانية الأساسية. إذا تتبلور هذه التنمية الإنسانية عبر شكلين:
الأول: هو دعم الإمكانيات الشخصية على الصعد الصحية والغذائية والتعليمية.
والثانية: دعم قـدرات الإنسـان الإنتاجية والثقافية بما يسـاهم في تحقيق كفايته واستقـلاله
(The human development Report 1990 Chapiter (1), Definer le developpement humain)
وهكذا يتسع مفهوم التنمية البشرية ليشمل العمليات المطلوبة لإشباع حاجات الإنسان المتنوعة خلال مختلف مراحل حياته إذ إنها لا تقتصر على جانب الإعداد المهني الإنتاجي الذي يركز عليه مفهوم تنمية الموارد البشرية. تأتي مسألة الحاجات الاجتماعية والمعنوية كالمشاركة وحرية التعبير والاعتقاد من ضمن استراتيجية التنمية البشرية لتذكر على اعتبار مقايضة هذه المسائل بالنسبة لبعض الأنظمة السياسية شأناً غير مقبول خاصة أن بعض الدول والأنظمة السياسية يعتبر الحاجات الإنسانية والاجتماعية ضرباً من الترف لا تستطيع الدول أن توفرها حتى عبر مؤسساتها الخاصة (د. حامد عمار: نفس المرجع).
وعندما يتحدث الخطاب السياسي عن أرقام مطلقة في مستويات التعليم أو التأمين الصحي والغذائي يجب النظر دائماً الى المؤشرات التي يمكن أن نتحقق عبرها من صحة هذه الأرقام.
ان العوائق أمام التنمية البشرية في العالم الثالث تبقى اكثر من أن تحصى حين نذكر أن مؤشرات قياس التنمية يعتمد على التعلم ويتمحور حول محو الأمية ومسائل الصحة والغذاء لكن هذه المؤشرات لا تكفي لوحدها لأن مؤشر التنمية البشرية يجب أن يعطي ثقلاً مهماً للحرية التي يجب أن تنضم اليها الشعوب باعتماد الديمقراطية سبيلاً لتحقيق العدالة.
وهناك مظاهر لهذه الحرية كالانتخابات الحرة، والتعددية الحزبية والصحافة الغير مراقبة وتحقيق قوانين وقواعد حقوق الإنسان فبلدان كسريلانكا وكوستاريكا وشيلي وتايلندا أصابت تقدماً على صعيد التنمية البشرية اكثر من تحقيقها ارتفاعاً في مستويات معدل الدخل بينما أخرى كموريتانيا والجزائر والعربية السعودية تقدمت على صعيد الناتج المحلي وعرفت تأخراً هائلاً على صعيد التنمية البشرية فالحرية الإجتماعية والاقتصادية والسياسية والحماية من العنف والتهديدات هي غاية ومحرك لإنتاجية الإنسان (The human development Report 1990).
الانتقال من التنمية الاقتصادية الى التنمية البشرية:
لقد كان للتنافس الحاد بين الدول العظمى في فترة الحرب الباردة دور في إشعال جذوة الاهتمام بالموارد البشرية من الزاوية الاقتصادية والتكنولوجية وفي مطلع الثمانينات بدأت موازين التنافس التجاري بين الولايات المتحدة واليابان تميل إلى كفة اليابان بوجه خاص والى جانب دول أخرى دخلت حلبة المزاحمة في الأسواق العالمية وانطلقت الصيحة الأميركية بان أميركا معرضة للخطر وتمت المطالبة بإصلاح النظام التعليمي من اجل تحقيق التميز العلمي. وتبع ذلك تقرير لجنة أخرى لدراسة نوعية العمل وفاعلية سوق العمل ويتجلى التنافس العالمي حالياً في مجال جديد هو التفوق التكنولوجي وخاصة في إنتاج المعلومات وتصنيعها. ويشار إلى ذلك عادة بثورة المعلومات والاتصالات وما يتولد من معارف علمية ووسائل تكنولوجية ويتضح بصورة تدريجية أن العالم الصناعي يعنى بإنتاج المعلومات وتصنيعها اكثر من اهتمامه باستغلال الموارد الطبيعية وتصنيعها (د. حامد عمار: نفس المرجع).
وفي هذا المجال تأتي أهمية المورد البشري مرة أخرى باعتباره منتجاً ومستهلكاً لهذه التقنيات.
لقد أعلت الثورة التكنولوجية القيمة النسبية لجانب الاستثمار في الإنسان مقارنة بعائد الاستثمار في الموارد الطبيعية لا سيما أن الناس في العالم الصناعي يتحدثون اليوم عن مطالب المعلوماتية وما تستوجبه تنمية الطاقة الذهنية لدى البشر(حاجات الانسان الأساسية في الوطن العربي برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ترجمة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة رقم 14، الكويت).
وتشير الاتجاهات العالمية في إطار ثورة المعلومات الى تكريس التقسيم الدولي للعمل بين الدول الصناعية ودول العالم الثالث على أساس من التفوق في العلم والتكنولوجيا وبخاصة في مجال إنتاج المعلومات واحتكارها باعتبارها الاداة الهامة في اتخاذ القرار وتسيير أمور الاقتصاد والسياسة والتقدم بصورة عامة.
إذاً يعطي مؤشر التنمية البشرية نقداً مهماً للحرية التي يجب ان تنضم اليها الشعوب باعتماد الديمقراطية سبيلاً لتحقيق العدالة وهناك مظاهر لهذه الحرية كالانتخابات الحرة والتعددية الحزبية والصحافة غير المراقبة وتحقيق قوانين وقواعد حقوق الإنسان.
بين الثقافة والتنمية البشرية:
ما هي صلة الثقافة بالتنمية البشرية؟
بعد هذه المقدمات التي ربما تساعدنا على الربط بين التغيرات العالمية على الصعيدين السياسي والاقتصادي لا بد من الربط بين مفهوم الثقافة الذي حل اليوم مكان المنطق الاقتصادي والسؤال هو كيف حل الثقافي مكان الاقتصادي الذي كان يُعنى بالتنمية وكيف ارتبط مفهوم الثقافة بالتنمية البشرية؟
هل يمكن الحديث اليوم عن استقلال ثقافي خاصة بالنسبة إلى ثقافة حرة مع أن الثقافة تدخل في علاقة تواصل واخذ عطاء مع الثقافات الأخرى في ظل وسائل الاتصال اليوم وفي عصرنا هذا؟ فاستقلالية الثقافة هنا هو جمودها.
إذا علينا الحديث عن التبعية الثقافية وخطرها على الهوية الوطنية والقومية وكيف يمكن لهذه الثقافة أن تتواصل مع ثقافات أخرى دون أن تكون تابعة لها.
أن الهيمنة الثقافية من طرف القوى المالكة للتكنولوجيا أصبحت استراتيجية لتكريس وتعميق الهيمنة الاقتصادية والسياسية وهي تحقق اختراقاً ثقافيا لأنه يستهدف من خلال هذه الهيمنة فرض تبعية اقتصادية وسياسية وهذا ما تتعرض له دول الجنوب (د.محمد عابد الجابري: نفس المرجع).
- ولا تمارس الولايات المتحدة سيطرتها على دول الجنوب فقط إنما على أوروبا والتي تشكل امتداداً لهيمنة الاقتصاد والسياسة وهذه السيطرة تتجلى باجتياح اللغة الإنكليزية لهذه الدول دراسة ونتاجاً خاصة على صعيد الوسائل السمعية البصرية وأنماط القيم الاستهلاكية.
- وتترافق هذه المسألة مع التناقض القائم بين ميل الاقتصاد المعاصر نحو العالمية التي قوامها الترابط والتبعية المتبادلة من جهة وميل المجتمعات في كافة أنحاء العالم نحو التقوقع في أطر اجتماعية ضيقة كالنعرات الأثنية والطائفية والثقافات الفرعية ثقافة الجهات والاقليات(د. وجيه كوثراني: صدام حضارات أم إدارة أزمات، ص 91، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق).
ويتضح هنا أن الثقافة الوطنية والقومية هي الضحية فعالمية الاقتصاد والسياسة تعني تبعيتها لمراكز الهيمنة الدولية فيطغى الميل إلى نوع من العالمية الثقافية والتي يهيمن فيها الأقوى.
فأوروبا تخشى اليوم إلغاء دور الدولة الوطنية في حفظ الثقافة الوطنية المؤسس لهويتها كدولة - أمة الأمر الذي يهدد بانبعاث النعرات الاثنية والطائفية على مستوى القارة ككل· فكيف الأمر بالنسبة إلى دول الجنوب؟
- ولا ننسى أنه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي الذي شغل الساحة الدولية أيديولوجيا ونتج عنها صراع بين الرأسمالية والشيوعية وصراعات أيديولوجية مختلفة ليبرالية، اشتراكية، أممية، قومية، دينية الخ. تلاشى الصراع الاقتصادي الذي شكل العامود الفقري لهذه الأيديولوجية وحل محله الصراع الثقافي وهكذا تقوم اليوم الشركات العالمية على الاختراق والتوظيف عبر وسائل اتصال معاصرة كما تقوم من جهة أخرى صراعات تأخذ طابعاً اثنياً وثقافياً تحت ستار الاختلافات الثقافية ولا يغيب عن بالنا اشتغال المحللين السياسيين الأميركيين بتحديد عدو الحضارة الغربية (صامويل هانتنغتون: صدام الحضارات: الصدام بين الحضارات ص 17، مركز الدراسات الإستراتيجية والبحوث والتوثيق).
ومعلوم أن الدعاية السياسية قد عاشت مدة طويلة على الخطر الخارجي الذي تمثل بالشيوعية وتجلت وحدة المجتمع الأميركي في الدعوة إلى مكافحة هذا العدو من هنا كان لا بد من خلق عدو يتمثل اليوم تارة بالخطر الأصفر إشارة إلى النهضة الاقتصادية في شرق أسيا والتي يعمل على ضربها، وانتشار الأسلحة النووية في بلدان الجنوب، وطوراً يتمثل بالإرهاب ضد المصالح الأميركية وذلك من خلال التركيز على الإسلام بصورة خاصة (نفس المرجع).
ويذهب بعض المحللين ومنهم صموئيل هنتنغتون إلى أن التصادم بين الهويات الحضارية هو الذي سيهيمن خلال القرن الواحد والعشرين كما يذهب آخرون إلى اعتبار الصراع حتمياً بين الإسلام والغرب.
إذاً هنالك عوامل أربعة تهدد ثقافتنا العربية بالاختراق والاستتباع وهي الهيمنة الثقافية على الصعيد العالمي. التناقض بين عالمية الاقتصاد والسياسة وبين التقوقع داخل الثقافات الفرعية و انسحاب الصراع الأيديولوجي من الساحة وحلول الاختراق الثقافي مكانه.
واقع الثقافة العربية:
أن الوضعية التي تعانيها ثقافتنا العربية اليوم هي وضعية الثنائية- الصراع بين الحداثة والتراث لكنها ليست مشكلة خاصة بالثقافة العربية فقط فبعض الثقافات تعاني من نفس المشكلة اليوم لكن الثقافة العربية اشد معاناة وذلك نظراً لظروف تاريخية هي ظروف الاستعمار وما خلفه من بنى وعلاقات تمكن الغرب من تكريسها من خلال الهيمنه الاقتصادية والاختراق الثقافي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم. هذا التواصل الغير متكافئ تحول إلى تبعية ولم تغير حكومات الاستقلال من هذا الواقع بل كرسته وحافظت على تبعية لمراكز الهيمنة باسم التحديث وضرورات التنمية كما حافظت على القطاع التقليدي باسم الأصالة لضرورات سياسية كما دعمت ثقافة التقوقع من اجل مصالحة آنية وهمشت الثقافة كما مارست ضغوطات سياسية فطغت الأيديولوجية على العلم(د. محمد عابد الجابري: نفس المرجع.).
كيف العمل اليوم في ظل تصاعد حدة النزاعات القومية والاثنية والتيارات الأصولية والعنصرية وفي ظل التفوق النووي والعسكري الإسرائيلي ودعم القوة العالمية له وفي ظل النظريات الجديدة مثل نهاية التاريخ لفوكوياما، وصدام الحضارات والعولمة خاصة بعد توصل الولايات المتحدة الأميركية إلى تزعم العالم. فهل من مناعة ثقافية تقف في وجه هذا الاجتياح المسمى عولمة الذي يسعى إلى فتح أسواق العالم أمامه دون رادع أو وازع ويسمي كل ممانعة تقف بوجهه إرهاباً. خاصة في ظل انقساماتنا الاجتماعية والسياسية التي تنعكس تشرذماً وتناحراً طوائفياً وقبائلياً يجد صدى له في مشاريع التشظي العرقي والاثني أضف إلى ذلك إهمال البنى الثقافية وتحلل بعض القيم التي يحاول الرأس المال تصويرها على أنها من مخلفات الماضي والدعوة عبر الدعاية إلى اتباع أنماط ثقافية جديدة.
في ظل هذه المعطيات أين تقع ثقافتنا التي خضعت منذ أواخر القرن الماضي حتى اليوم إلى استعمار اخذ أشكال متعددة· فمنذ إعلان حقوق الإنسان عام 1947(د. وجيه كوثراني: المسألة الثقافية في لبنان: الخطاب السياسي والتاريخي. منشورات بحسون الثقافية - بيروت·) والمبادرة إلى اعتبار أن الإنسان يحقق شخصيته بالثقافة وأنه يجب احترام الفروقات الفردية لاحترام الفوارق الثقافية حتى اليوم لا زالت القوى العالمية تتدخل بكافة الأشكال في الشؤون الداخلية لكل بلد عربي حتى أنها تمكنت من الدخول في تناقضات العائلات والقبائل والطوائف فكيف الأمر بالنسبة إلى الاتجاهات السياسية والثقافية حيث تعمل بعض الجمعيات الأهلية على ترويج المبادئ الداعية إلى الالتحاق بالنمط الثقافي العالمي الذي يحمل في طياته القيم السياسية والاجتماعية التي يسعى لترويجها دعاة العولمة.
ان الحضارة الحديثة هي حدث مهم خاصة الإنجازات المدهشة التي حققت لخير الإنسان لكن مساوءها كثيرة حيث يواجه الغرب مشكلات كبيرة كانت سبباً في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية (السيد محمد خاتمي: التراث والحداثة والتنمية في أوراق ثقافية -4 - مركز فلسطين للدراسات والبحوث، غزة، قطاع غزة.)
إن واقعنا يفرض علينا تحكيم الوعي والحكم العقلاني الذي بفضله علينا وعي الغرب والحداثة والتنمية فالحضارة الغربية هي نسبية وبالتالي فهي ليست كاملة والتساؤلات دائماً مستمرة حول أي أمر سياسي كان أم اجتماعي أو تنموي والحضارة شأنها شأن اي حضارة إنسانية هي أمر يختص بهذا العالم ولا شك بأن الحضارة الغربية واجهت ازمات عديدة واستطاعت تجاوزها بالاعتماد على طاقاتها الذاتية. أن المعرفة وحدها لم تكن هي السبب وراء ظهور الحضارة الحديثة وثقافتها بل الكثير من الأطماع والتطلعات لعبت دوراً في نشوء الحضارة الحديثة.
إن التسليم التام أمام هيمنة الغرب في موضوعه ليس منطقياً كما الوقوف في وجه الكثير من شؤون الحضارة أمر غير ممكن فالأهم هو وعي الغرب والتعرف عليه بصورة سليمة (نفس المرجع).
كما أنه لا يمكننا التعامل مع التراث باستخفاف لأنه يشكل الهوية التاريخية والاجتماعية للأمم فالتراث تجل لثقافة المجتمع ولا مجتمع من دون ثقافة فالقضاء على التراث يعني مصادرة أساسية للهوية التاريخية والثقافية والقضاء عليها فمن الطبيعي أن يكون التقليد في بعض الأحيان حائلاً دون التغير والتطور ولذا لا مفر من اختراقه ولكن يجب ان نحذر ونحن نحاول الحصول على التنمية الغربية من أن نحقق التنمية الحقيقية فإذا كان نقد التراث وإعادة صياغته أمر ضرورياً فان الأمة القادرة على ذلك هي أمة تمتلك هوية واعية لتراثها وواعية لحقيقة التطورات التي تحدث من حولها.
في التنمية البشرية والأنظمة السياسية:
أن التغيرات على الصعيد العالمي أدت حتماً إلى رؤية مختلفة لضرورات التنمية كما أوردنا سابقاً والسؤال هو حول دور الدول في هذه العملية فهل يمكن للدول الحاكمة اليوم تحت شعارات إيديولوجية معينة القبول بميادين التنمية البشرية خاصة البلدان التي يتحكم فيها نظام الحزب الواحد أي تلك التي لم تعتمد الخيارات الديمقراطية في خياراتها السياسية.
إن تقارير لجان حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية تشهد بألف واقعة ودليل على أن مؤشر إهدار كرامة الإنسان العربي متصاعد بصورة لافتة للنظر وهنالك تراجع محزن في العديد من أقطار العالم العربي.
فقتل الأبرياء مستمر واختفاء المعارضين قائم والسجن بغير سبب أو ضمانة والتعذيب في اقسى وابشع صورة والمحاكمات الصورية والتهم الملفقة وانتهاك القوانين السائدة المتعلقة بالحريات.
هل يمكن في ظل هذه التقارير السير نحو مبادئ التنمية؟ وما السبل الآيلة إلى تطبيقها؟ وهل يمكن تطبيق الشق المتعلق بالتعليم والصحة والغذاء وإهمال الجانب الأساسي المتعلق بالحرية خاصة وان الدول الداعية إلى تطبيق هذه التنمية هي نفسها راعية الأنظمة السياسية التي تنتهك حقوق الإنسان.
ولعل أسوا ما افرزه واقعنا المتردي هي محاولات إجهاض القدرة على التغيير لدى جماهير الشعب ومنظماته المدنية. ولقد تجلى هذا الاحتواء في تغيب الوعي والحقوق وتغيب الحرية وتضخيم سلطة القوى الأجنبية الجبارة والتي لا مناص من الارتباط بها.
ان الطرح التغيري الذي يعبر عنه مفهوم التنمية البشرية والذي يركز على القدرات البشرية وتنميتها ويعتبر أن الإنسان هو مصدر الغنى الحقيقي طرح لا يمكنه أن يلقى الرفض من قبل الشعوب المعنية بهذا الموضوع وهو طرح يقرب إلى الثقافة الدينية لهذه الشعوب التي ترى أن الله خلق الإنسان على صورته. ويجب الإقرار بانسانيته، ولكنها تشكل مأزقاً للأنظمة التي ترى مواطنيها "كماً وليس نوعاً" والتي همشت ثقافتها الأصلية وعملت على تشويه موروثها الثقافي باسم حداثة لا تعبر سوى عن مفهومها المعين للحداثة والهوية.
وأخيراً لا بد من الإشارة هنا أيضاً أن للشعوب ثقافاتها ولا نحاول هنا ابتداع خصوصيات من اجل طرح استقلالية وهمية إنما نعني بهذه الخصوصية التنوع الفكري والتنوع الديني والثقافي في إطار عالميته.
لأنه لا يمكن لثقافة واحدة أن تكون كونية وتطرح عالميتها على شعوب العالم اجمع فتجبرها على اتباع نموذج ثقافي واحد ففي هذا الموضوع يفقد هذا الطرح ديمقراطيته ويدعو العالم للالتفاف حول نموذج واحد يقدم نفسه على انه الغالب فاما أن تمتثل الثقافات واما تعتبر معادية مكابرة وفي هذا الإطار تبدو الممانعة حرباً والمقاومة عصياناً انقلابياً ويجدر التصدي له من قبل الغالب.
هل بات التنوع الثقافي يشكل اليوم حالة بعد أن كان مطلباً في شرعة حقوق الإنسان؟
من هنا نرى أنه يجب أن يأخذ مفهوم التنمية البشرية المطروح اليوم المتغيرات الاجتماعية والثقافية بعين الاعتبار ولا يعني هذا التخلي عن التنمية بل التركيز على ثقافة المحيط الاجتماعي ومدى تقبله لهذه الطروحات أي عدم فرض مسائل تتناقض والمفاهيم الثقافية للمجتمعات باسم عالمية يحملها مفهوم التنمية البشرية.
