الحاكم بين الشعب و الدين ..عن فكر الامام موسى الصدر

calendar icon 23 نيسان 2005 الكاتب:قاسم محمد عثمان

الامام الصدر من اوائل الذين ساهموا في اطلاق الحوار الاسلامي المسيحي في لبنان. فكان مع رفاقه المطران جورج خضر والاب يواكيم مبارك والشيخ صبحي الصالح وحسن صعب والاب فرنسوا دوبره لاتور ويوسف ابو حلقة ونصري سلهب اول من وقعوا بيانا في الثامن من تموز ،1965 في اطار المحاضرات التي نظمتها "الندوة اللبنانية" عن "المسيحية والاسلام في لبنان". هذا البيان يشكل نقطة البداية الفعلية للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان لما تضمنه من تأكيد على الثوابت المشتركة في المسيحية والاسلام.

إن من يطّلع على فكر الإمام موسى الصدر يعرف تماماً أسباب تغييبه، لقد جاهد من أجل الفقراء والمحرومين والمستضعفين ودعا الى الحق، ونادى بالكرامة الانسانية، وسعى الى رفض الصنمية، صنم المال والجاه والنزعات القبلية، والأنانيات والاندفاعات الخاطئة بحجة الكرامات وليست هناك من كرامات أمام الحق.

يقول الإمام إن البداية تبدأ برفض كل آلهة الأرض بمفهومها الواسع... وهذه البداية التي هي نواة التحرر تشكل أساس الايديولوجية الاسلامية. فالتحرر إذن هو أساس الإيديولوجية الاسلامية بحسب الإمام، فيرفض الإقطاع الديني البديل بنظره عن الإقطاع السياسي. فأين واقعنا الراهن اليوم حيث يسيطر الإقطاع الديني على عقول بعض الشباب ويدفعه الى التهور وارتكاب الجرائم بحجة الدين. ويقول الإمام “ما أكثر الجرائم التي ارتكبت باسم الدين وما أكثر صروح الظلم التي بُنيت وأُسست باسم الدين”.

من هنا يسأل الإمام: هل هناك ما يضمن لنا وبوسيلة دينية الفصل والتمييز بين الدور الايجابي التحرري للدين والدور السلبي الذي مُورس ويُمارس باسم الدين؟

ويجيب فوراً، بأن الأحكام الدينية مليئة بهذه الضمانات مستحضراً العهد الذي أرسله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الى مالك الأشتر الحاكم المعيّن من قبله على مصر.

لنتوقف عند فقرة معروفة هي منع الحاكم من التحجب والابتعاد عن الناس. يقول ما معناه: ان التحجب عن الرعية يدعو الى انحراف الحاكم فيصبح في وضع لا يطيق فيه الا المجاملات ولا يقتنع الا بالمديح ولا يرتاح الا للملق. ثم يتغير فيشعر بأنه رسول وبأنه نسيج وحده، وبأن الذي يؤيده فقط هو الوفي المخلص فيوزع المناصب على أزلامه ويبعد العلماء والأكفياء الصادقين عن بابه، وينهار بالتالي المجتمع. ومن جهة أخرى، فإن الناس عندما يبتعدون عن الحاكم يتوهّمون أوهاماً فيشعرون بالضعف ويميلون الى السكوت على الظلم. ان كلمات الإمام علي صريحة في ضرورة استمرار اللقاء والحوار والمناقشة مع الحاكم وهذا الأمر مشتقّ من تعليم إسلامي “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. والضمانة تبقى في التقاء الحاكم بالناس والاستماع الى النقد والمحاسبة بالاضافة الى محاسبته لنفسه التزاما بالحديث الشريف “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”. وكأن الإمام يصف واقع العالم العربي متنبئاً بالمآسي التي يمر بها جراء ابتعاد الحاكم عن الناس وفقدان الحرية والديموقراطية وانتفاء المحاسبة وتداول السلطة فأضحى الحاكم نسيج وحده فاقداً كل اتصال بالناس غير عابئ بتطلعات الشعب العربي الذي يسير الى الهاوية. وهذه فلسطين قد ضاعت وضاع العراق وكاد لبنان أن يضيع، ولا نزال نقف على الأطلال نبكي مثل النساء ملكاً لم نحمه مثل الرجال.

أما الانفصال بين مبدأ العدالة الاقتصادية والاجتماعية وبين الايديولوجية الاسلامية فهو جزء من مأساة الفصل بين العقيدة والشريعة. هذا الانفصال بوجوده وبقناعة المسلمين على مختلف فئاتهم فيه أفقد العمق والشمول والدوام في أسس العدالة حتى أصبحت العدالة الاقتصادية والاجتماعية وغيرهما مطلبا اجتماعيا وموضوعا سياسيا صرفا كما يقول عن أوضاع الأمة اليوم.

ان العقيدة المنفصلة عن نتائجها الاجتماعية لا تؤثر في أوضاع المسلمين الحياتية ولا في سلوكيتهم الخاصة والعامة. واقترنت لدى البعض بالعبادات فقط لتنظيم العلاقة بين الفرد وخالقه فحسب ولتسهيل رحلة الموت ليس إلا... إننا لا نعرف بالضبط متى حصلت هذه المؤامرة؟ ويسمّي الإمام اقتصار العبادة لتسهيل مرحلة الموت مؤامرة. متسائلاً عن مرحلة الحياة ودور الدين فيها. فقد انفصل الانسان عن العدالة وأفرغت العبادات من محتوياتها وأصبحت طقوساً متسائلا عن مسؤولية رجال الدين الذين بدعوتهم أو بسكوتهم فقد حلّت العبادات محل العدالة مع ان الاسلام أعلن “أن أفضل العبادات كلمة حق عند سلطان جائر”.

ومرحلة الحياة عند الإمام أهم من تنظيم مرحلة الموت ولئن اقترن جهاده بالاثنين معاً. فهو من جهة أطلق أطروحة المقاومة اللبنانية وضعاً للخصوصية في سياقها الوطني العربي والاسلامي. إلا أنه يوم إطلاق هذه المقاومة وضع الحجر الأساس لبناء مدرسة في كفرشوبا ورفع عينه الى السماء وقال: يا سماءنا نحن الآن هنا أقرب إليك من أي مكان آخر.

فالإمام باني المؤسسات العديدة قد عرف منذ البدء أهمية هذه المؤسسات في انتظام حياة أبناء المجتمع الذي ينتمي اليه وإعدادهم وتأهيلهم ورفع مستواهم الفكري والتربوي والاجتماعي والصحي. لم تقتصر دعوته الى القتال فقط وان كان “السلاح زينة الرجال” بل رفع بيد البندقية لمقاتلة إسرائيل التي هي “شرّ مطلق” وبالمقابل رفع المعول لبناء صروح العلم والتربية والفكر.

وبنفس القدر من الأهمية أولى الإمام أبناء طائفته اهتماما خاصا. واسمحوا لي هنا وأنا من موقعي أن أدقق معكم في مقولة سادت وقد عايشتها كما عايشها غيري هي مقولة ان الإمام قد أخرج المارد من القمقم والمارد المقصود هو الشيعة على ما نراه اليوم والذي تنظر إليه شرائح المجتمع اللبناني بقلق: قلق الطغيان الأكثري، وقلق الغلبة السياسية وقلق احتكار المقاومة الوطنية.

لقد نمت حركة الإمام موسى الصدر في ظل الأرجحية المسيحية في نظام الحكم قبل الأحداث الوطنية الكبرى من جهة وفي ظل نظام عربي أظهر فشله في مواجهة العدوان والاحتلال الاسرائيلي من جهة أخرى، ولا يزال. ولئن كان الشيعة وهم إحدى الأقليات الثلاث التي تؤثر في قرار الحرب او السلم في لبنان، إلا أن الإمام قد أنشأ الأدوات المناسبة من جهة لإدخال الشيعة في نظام الحكم عن طريق برنامج مطلبي ذي بعد وطني وهو رفع الحرمان ومصدر القلق هو ما تضمنه برنامجه من إلغاء الطائفية السياسية، وتأسيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وهو الهيئة المعبّرة عن تطلعات الشيعة وانتظامهم في إحدى مؤسسات الدولة واعتباره المحاور الرسمي والناطق باسمهم في علاقتهم مع سائر المؤسسات والطوائف، مرسياً بذلك علاقة واضحة وسليمة بين الطرف الشيعي في لبنان والمركز الشيعي المرجعي في العراق، مطلقاً المقاومة اللبنانية شرط أن يتحول اللبنانيون عامة الى عمق فاعل للمقاومة، لا أن تقتصر هذه المقاومة على شريحة واحدة، فتثير حفيظة سائر الفئات او كأن تتحول المقاومة أداة من أدوات العمل السياسي الداخلي.

ان ترجمة الخطوط العريضة التي وضعها الإمام الصدر هي مصدر القلق في مرحلة ما بعد الإمام. وهنا بيت القصيد. الاشكالية المطروحة هي كيف يمكن مواءمة الخطوط العريضة التي وضعها الإمام والتي يتشارك فيها جميع اللبنانيين مع المشروع السياسي الذي يحاول أن يترجم هذه المبادئ العامة في ظل الممارسات العملية اليوم.

نحن نرغب من وراء طرح هذه الاشكالية في فتح باب النقاش الجدّي بصراحة ونزاهة حول الدولة والعلاقة مع الطوائف ودور الطوائف في مشروع الدولة من جهة، والبعد الاقليمي الناتج عن حركة المقاومة اللبنانية ومدى جدوى الاستمرار في ظلّ موازين القوى المعروفة خاصة وان الاحتضان الوطني لم يعد قائما، وكذلك فقدان التغطية الدولية التي استظلت مرحلة التحرير، كما ان لبنان يحتاج الى مرحلة نقاهة لكي يستطيع الاستمرار ووقف هجرة اللبنانيين الى الخارج، ولأن المقاومة تستمر شرط أن لا تتعارض مع سلامة لبنان. وهنا أعود الى فكر الإمام الذي يعطي الأولوية لمرحلة الحياة على مرحلة الموت. تكفيني الاشارة في هذا السياق الى نجاح الإمام في جعل الشيعة متوازنين في شيعيتهم وإسلاميتهم وعروبتهم ولبنانيتهم.

وفي هذا السياق لم يمنع انشغال الإمام بتجديد الفكر الاسلامي وتجديد الخطاب الديني ولا بحركته السياسية المطلبية ولا رغبته في إنشاء المؤسسات، من المساهمة في إطلاق الحوار الاسلامي المسيحي في لبنان. ولأن الانسان هو الأهم بنظره، يعتبر الإمام الصدر أن الدين جُعل لخدمة الانسان لا الانسان لخدمة الدين، وبأن الدين الذي لا يرفع من شأن الانسان وكرامته ليس ديناً إلهياً، والله بريء منه الى يوم الدين. وبالنسبة إليه كانت الأديان واحدة حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: دعوة الى الله وخدمة الانسان وهما وجهان لحقيقة واحدة.

وما يجمع المسيحية والاسلام هو الانسان، هذا المخلوق الذي خُلق على صورة خالقه في الصفات، خليفة الله على الأرض، الانسان هذا، هدف الوجود، بداية المجتمع، والغاية منه، والمحرّك للتاريخ.

وإذا كان “الإسلام هو دين التوحيد” وله طابعه الخاص الذي يميزه عن باقي “الرسالات السماوية” إلا ان منطق الاسلام في شأن الأديان السماوية موجود في القرآن الكريم الذي يعلن “ان رسالة محمد هي العقد الأخير في سلسلة الأديان الالهية، وان محمداً هو خاتم الأنبياء، مؤمن بهم، ومصدّق بأنهم رسل ربه”. ويقرّ الإمام بأن القرآن “ينقل عقائد وأحكاما وقصصا تربوية عن الرسالات السماوية السابقة ويعتمد عليها”. ولا يجد الإمام في ذلك غرابة إذ تتشابه “العقائد والأحكام والأخلاق الاسلامية مع غيرها”.

وفي محاضرة له يروي الإمام الصدر نظرته الى موضوع تتالي الأديان السماوية فيقول: “الرسالات الإلهية ذات أطوار ثلاثة تبدأ برسالة الضمير الانساني تليها رسالة الأنبياء وأخيراً رسالة التجارب المريرة والصعوبات والمشاكل التي يعانيها الانسان والتي هي حركات لرفع الانسان الى الخير والكمال”.

وفيما يتعلّق برسالة الأنبياء، يقيم الإمام الصدر مقارنة بين ما ورد في الانجيل المقدس والقرآن الكريم ليبين أوجه الاتفاق بينهما مختتماً هذه المقارنات بتعليق “طلب الرسل من الناس أن يتعارفوا وأن يستبقوا الخيرات وأن يكونوا كما أراد لهم ربهم (...) والحقيقة ان التفاوت في الرأي وفي الأديان من أهم أسباب الحركة الفكرية وعدم الجمود ومن مستلزمات ظهور المواهب الذاتية.
يُستدلّ من هذه الأقوال معرفة الإمام العميقة بالدين المسيحي من جهة وان الاختلاف هو حق مقدس تجب مراعاته، وان التنوع هو سبب من أسباب الغنى الانساني وليس سبباً للنقمة بين البشر. إذ ما قيمة الأديان إذا أدت الى تفرقة الناس والى خراب الانسان الذي يبقى بنظر الإمام الذي وجدت الأديان من أجله من أجل سعادته وخيره وإعمار الأرض.

هل لي أن أتساءل بعد الآن لماذا الانسان في موسى الصدر قد غُيّب!

إمام على مدى الوطن، قد أطلق حركة ديناميكية أدت الى تحولات جذرية في بنية المجتمع اللبناني المترهّل. قائد على مساحة الوطن العربي الذي حاول أن يعوّض فشل الأنظمة بالتفاف الشعب حول مشروعية المقاومة لإسقاط العدوان الاسرائيلي.

مجدد في الفكر الاسلامي، حاول أن يعيد للاسلام وجهه الأصيل، المتحرر من رواسب النظرات الشخصية التي لم تعد تصلح لا في الزمان ولا في المكان.

هو المبشّر الذي أسس مدرسة الفكر اللبناني والفكر العربي والفكر الاسلامي وقد خُطف في أوج عطائه ونضوجه ونتاجه.

لكن البذرة الخيّرة التي زرعها أينعت فكراً وممارسة، أما في الفكر فقد حمل الأمانة المغفور له الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الإمام المجدّد الذي صالح الشيعة مع أنفسهم وصالحهم مع أقرانهم ومع الدولة والنظام، وأما في الممارسة فقد أعطى اتفاق الطائف الشيعة ما تطلّعوا إليه من رفع الحرمان والغبن.

(*) من مداخلة في ندوة حول فكر الإمام موسى الصدر.

(**) عضو اللجنة الوطنية الاسلامية للحوار، رئيس الفريق العربي للحوار الاسلامي المسيحي.

source