رحلة الحج هي رحلة إيمان ببعديه السماوي والأرضي

* مقال لسماحة الإمام موسى الصدر إثر عودته من رحلة الحج بتاريخ 1977/12/09
إن القرآن الكريم يقرن بين فرض الحج على المستطيع وبين اعتبار التخلف كفرًا، والتأكيد على ﴿إن الله غني عن العالمين﴾ ]آل عمران،97]، وبإمكان الباحث المتعمق في مفاهيم الآيات أن يستخرج من آية الحج معانٍ عديدة منها:
عموم الوجوب للقادر وهو الذي يملك حسب نص الأحاديث، الزاد والرحلة والعودة للكفاية، ومعنى هذا أن الرؤية والمسلك والإحساس عناصر ثلاثة تتحول في الحج إلى الله.
وهذا التحول ضروري في حياة المسلم الفردية والجماعية. ومنها أن رحلة الحج هى رحلة إيمان ببعديه: البعد السماوي والبعد الأرضي، وأن الإنسان عندما ينتقل بجسده إلى الكعبة وإلى المقامات والمناسك، فإنه ينتقل أيضًا من الخلق إلى الحق، ومن الفرد إلى الأمة:
*رحلة الخلق إلى الحق تتحقق بقطع الالتزامات المادية والعروج إلى عالم التحرر والتجرد عن الماديات، فالحاج يترك بيته وأهله وعاداته وبلاده، ثم يصل إلى الميقات فيترك ملابسه ويهمل جسمه، وبعد أن يمارس أعمال الحج يترك إرادته ووقاره وتساؤلاته العقلانية ويستسلم لأوامر الله ويتبرأ من أعداء الله خلال رمز الرمي، وأخيرًا يتنازل عن ماله فى رمز الأضحية. وهكذا يتحرر الإنسان عن كل ما سوى الله، وعن جميع علاقاته المادية والحياتية.
*ورحلته من الفرد إلى الأمة تتحقق بترك المميزات والمشخصات الفردية والعائلية والوطنية والقومية والطبقية فيذوب في صورة موحدة تقترب من قلب الإسلام: الكعبة المكرمة ثم من الصفا والمروة، وهنا تندمج أمواج الأفراد والجماعات بحركة دائرية حول الكعبة، وبحركة أفقية بين الصفا والمروة فتكون وحدة متمازجة متحدة البداية والنهاية والسلوك والحركات، وهكذا يخرِّج مصنع الحج من الفرد جماعة.
ومنها أن الإعراض عن الحج بمنزلة الكفر والتكبر والأنانية، وهذا ما تعبِّر عنه فقرة ﴿فإن الله غني عن العالمين﴾ ]آل عمران،97].
ومنها أن الحج غنى للإنسان بعد فقره، وعطاء من الله في مختلف النعم، وأنه علاج لآلام الإنسان ولحاجاته. وآيات الحج تؤكد فوائد الحج، وتعددها تارة وتجملها أخرى عندما تطرح كلمة ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾ ]الحج،28].
وفي رحلتي المباركة، حاولت أن أختار هذا السبيل، وفي هذه الظروف القاسية بالذات، لأني أدركت حاجتي وحاجة وطني ومنطقتي وأمتي وطائفتي وصنفي ومؤسستي وحركتي، ولمست بوضوح عواصف الرياح العاتية التي تسلب كل مبادرة وكل علاج.
التجأت إلى حرم الله وإلى أمن الله وإلى بيت الله والتجأ معي كل ما أمثِّل، وكل من أمثِّل، وكنت واثقًا من أني بهذا اللجوء، وفي هذه الرحلة سوف أجد غنى من عند الله الذي هو غني عن العالمين، وسأشهد منافع لكل الجهات التي تلازمني وألازمها.
وكانت عناية الله وستكون:
فقد توفقت بهذه العبادة الجليلة بما لها من معانٍ سامية وبما فيها من ظروف الدعاء والاستجابة. وكان وطني والجنوب بالذات وأهلي جميعًا معي هناك.
وقد التقيت بنخبة من المسلمين القادمين من أقطار الأرض وبخاصة إخواني الإيرانيين الذين يعانون من موجة الإعلام المضلل ومن رحلات مضللة قلقًا على إخوانهم هنا، وكذلك اللقاء تم مع رجال العلم والفكر والتأثير في العالم العربي.
وكانت اللقاءات موضحة ومبددة للغرض الذي أراد الإعلام المتآمر نشره في العالم. فقد كان الإعلام أحد عناصر التآمر الرئيسية التي لعبت في أحداث لبنان.
وتوفقت من مواقف خطابية مسؤولة أمام رجالات الإسلام، حتى إن جميعهم أدركوا المسؤولية الثقيلة التي يحملونها أمام الأحداث في لبنان والجنوب بالذات.
وقد أكد كثير من المسؤولين أن خطابك أخرجنا من دائرة التقليد وكنا في منى نستمع إلى حديث مسؤول ونحسُّ بمعنى المسؤولية العامة التي يحملها ويحملها الحج على المسلمين في كل عام.
وكانت اللقاءات مع قادة المملكة العربية السعودية استعراض عام للأحداث وتطوراتها، وصورة المستقبل في المنطقة وفي العالم الإسلامي.
والحديث عن الجنوب والأخطار المحدقة به، وضرورة إبعاده عن الصراع المسلح، وضرورة إبعاد لبنان عن دائرة الصراع العربي، ومطالبة المملكة باستعمال نفوذها لدى الأطراف اللبنانية والأطراف العربية لمعالجة المحنة التي تجاوزت كل حدّ.
أقول أن الحديث عن ذلك كان النقطة الأساسية في حواري مع قادة المملكة والذي وجد قلوبًا متعاطفة وآذانًا صاغية وهممًا مستنفرة أمامه، والحمد لله.
ثم أن القسم الآخر من البحث كان حول وحدة المسلمين وضرورة نبذ الخلافات والتنبه لما يدس العدو في صفوفهم، وبواسطة بعض أفرادهم من تهم وافتراءات وتشكيكات، وكان بيدي بعض أمثلة جاهزة للتقديم.
ويشهد الله أن اهتمام المسؤولين هناك كان يفوق اهتمام السادة علماء الدين في إيران والعراق الذين زودونا برسائل حول هذا الأمر.
وصدرت الأوامر بمنع استمرار هذا النوع من النشرات والكتب مع ملاحظتين:
الأولى: عدم صدور أمثال هذه الأخطاء في المجتمعات الإسلامية الشيعية.
الثانية: ضرورة تمتين العلاقات بين علماء الدين من مختلف المذاهب الإسلامية من أجل معالجة الجذور لهذه التصرفات اللامسؤولة التي تخدم عدو الإسلام والإيمان.
وهكذا خرجت من المقابلات متأكدًا ومكررًا ما قلته يوم منى وأمام قادة المسلمين في العالم:
"إن الله قد أكرم قادة المملكة العربية السعودية بخدمة قلب الإسلام الكعبة المكرمة وبخدمة ثغور الإسلام".
"والثغور التي تحفظ ليست على الأرض وفي التاريخ وحدهما، بل إنها في القلوب والعقول أيضًا".
"وقد سمع المسلمون قبل ثلاثة أيام قول ملك المملكة العربية السعودية: بضرورة الجهاد لتطهير المسجد الأقصى والصلاة فيه، وهذا يدل على التزامه بحفظ ثغور الإسلام. كيف لا، وقد قدمت المملكة في هذا السبيل أغلى شهيد".
"وها أبناء ثغر من ثغور الإسلام -أبناء الجنوب- أولئك الذين حفظوا الأمانة وصمدوا ورفضوا التعامل مع العدو رغم التهديدات والاغراءات، ها هم يقولون لكم ما قال أهل الثغور يومًا لأحد أسلافكم: وامعتصماه".
إنني كثير التفاؤل بنتائج هذه الرحلة! كيف لا، وقد أدينا ما لله علينا رغم ضعف استطاعتنا؛ ولذلك، فإن المؤكد أن الكريم سيعطينا ما عليه لأنه قادر ولأنه كريم...