لبنان والشيعة والدولة من بداية الحضور إلى بداية الغيبة (1 من 3)

calendar icon 26 كانون الثاني 2008 الكاتب:هاني فحص

عام 1602، وفي قرية شحور إحدى قرى قضاء صور (جبل عامل - جنوب لبنان) ولد السيِّد صالح شرف الدِّين المؤسِّس للفرع الصدري من الأسرة الموسوية (نسبة إلى الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) والتي تضمُّ إضافة إلى آل شرف الدِّين والصدر آل نور الدِّين الذين برز منهم السيِّد عبد الحسين نور الدِّين الموسوي رفيق جهاد السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين، وسكن السيِّد صالح قرية معركة، وهناك من يروي بأنَّه سكن ثلاث سنوات في قرية جبشيت وأقام فيها حوزة علمية تخرج فيها عالم عرف بالسيِّد محمَّد الجبشيتي، مات في مصر في ظروف غامضة، ومازالت الدار التي أقيمت فيها هذه الحوزة قائمة مع تغيير لحق بها، ويسترعي الانتباه ويعزِّز صحة هذه الرواية، أنَّ هناك مسجداً مازال قائماً إلى جوار الدار، وأنَّ آل عباس القاطنين في جبشيت يعودون بنسبهم إلى آل عباس (أبو الحسن) في معركة، والذين هم فرع من آل شرف الدِّين. ما قد يعني أنَّهم بقية من رافقوا السيِّد صالح أثناء إقامته في جبشيت ولقد حكم بالإعدام وأحرق بيته ومكتبته ففر واستقر مع ولديه علي وصدر الدِّين في النجف الأشرف، وبلغ صدر الدِّين الجد الثاني للإمام موسى الصدر رتبة الاجتهاد وهاجر إلى أصفهان، حيث بلغ السيِّد إسماعيل الجد الأوَّل للسيد موسى درجة الاجتهاد والمرجعية، وتوفي السيِّد صدر الدِّين والد الإمام الصدر عام 1953 في إيران، بعدما درس ودرَّس في العراق وأقام في مشهد (خراسان) وأقام عدداً كبيراً من المؤسسات العلمية والاجتماعية ومات فقيراً وذا أثر كبير على الحركتين العلمية والأدبية وعلى نجله الإمام موسى الصدر الذي ولد عام 1928 في مدينة قم التي تميز طالباً في حوزتها مع مجموعة من نابهي طلابها، وكان أوَّل من دخل جامعة طهران من طلاب الحوزة المعممين، وانتقل إلى العراق عام 1954 حيث قضى أربع سنوات بين أبحاث المراجع وحركة جمعية منتدى النشر التي اشتهرت بنَزعتها الإصلاحية في التعليم وبناء المؤسَّسات وأهمها كلية الفقه.
وزار لبنان عام 1957 فحل ضيفاً على الإمام شرف الدِّين الذي اكتشف مواهبه حتى إذا ما توفي أرسل أنجاله عام 1958 إلى الإمام الصدر، ليخلف أباهم فلبى بتشجيع من المرجع السيِّد حسين البروجردي أواخر عام 1959 وأقام في منزل الإمام شرف الدِّين في صور وكانت أولى بوادره قضاءه على التسول والتشرد في المدينة لينطلق نحو بناء المؤسسات الاجتماعية والتربوية.
كان ذلك بعد أحداث أو (ثورة) عام 1958 التي انفجرت بعد أشهر من إعلان دولة الوحدة بين مصر وسورية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر. وفي خلفياتها البعيدة (أي الثورة) أن عام 1943 كان عام الاستقلال اللبناني عن فرنسا، والذي أنجزه اللبنانيون بالاتفاق بين المسلمين الذين كان بعضهم ميالاً إلى النفوذ الفرنسي وغير مستعجل على الاستقلال، وبين المسيحيين الذين كان بعضهم متشبثاً بضرورة الاستقلال والانفصال عن فرنسا، على أن يكف المسلمون عن اعتبار لبنان جزءاً من سورية ومن دولة الوحدة العربية المنشودة بعد التجزئة التي ترسخت كأحد تداعيات أو استحقاقات ما بعد الحرب الكونية الأولى وإسقاط الدولة العثمانية، من دون ضرورة للخروج من مترتبات الانتماء العربي الذي كان دور لبنان وعضويته الناشطة في جامعة الدول العربية تعبيراً مجزياً عنه، في مقابل أن يكف المسيحيون عن اعتبار لبنان امتداداً لفرنسا والغرب عموماً وعن طلب الحماية من الغرب وفرنسا خصوصاً، ومنذ الاستقلال ودولته الوطنية، كان المسلمون عموماً يشكون من أنَّ مواقعهم في جسم الدولة وإدارتها ليست مساوية أو مقاربة لحجمهم العددي ودورهم الفعلي في بناء الوطن، فرفعوا شعار المشاركة الذي كان المسيحيون يردون عليه بشعار الخوف وضرورة توفير عوامل الطمأنينة، أي أنَّ المسيحيين يخافون من المسلمين لأنَّهم موصولون متصلون بعمقين عربي وإسلامي يحفظهم، بينما حصة المسيحيين في الدولة، بكلِّ مستوياتها، بما تتضمن من زيادة نوعية على حجمهم العددي، هي مصدر الأمان الوحيد أو الأوَّل لهم، إذا أخذنا في اعتبارنا الموقف الغربي عموماً والفرنسي خصوصاً، والذي لم يكن إلى سنوات خلت في موقع التخلي أو التخفيف من حمايته لهم. وإن تبدل لاحقاً لدى الطرف الأميركي خصوصاً لأسباب تتصل بوعي غربي جديد لنظام مصالحه الاقتصادية. وهي لا تقع في دائرة التأثير المسيحي عليها أي أن ضمانتها ليست مسيحية.
وهكذا وجد المسلمون في الثورة المصرية وما أحدثته من وعي قومي ووطني وأسست له من حراك في أقطار عربية عدة نحو الاستقلال أو ترسيخ الاستقلال المتحقِّق، وفي الوحدة المصرية السورية لاحقاً، وما بعثته من آمال وحيوية لا تخلو في مجال تحقيقها من صعوبات وعوائق، خصوصاً في الحالة اللبنانية شديدة التعقيد، وإن كانت صعوبتها لا تمنع من الاستفادة من مناخها ومعادلات القوَّة التي أنتجتها، وفي اتجاه تحقيق المشاركة الإسلامية، أي زيادة نسبة الشراكة الإسلامية في الدولة اللبنانية وتغيير المعادلة التي قامت على احتمال أن يكون إنجاز الوطن اللبناني للجميع، بينما كان إنجاز الدولة للبعض ونصيب البعض الآخر لا يتعدى مقدار الضرورة، وإن تفاوت حجمها بين طائفة إسلامية وأخرى.
وكان المسيحيون في لبنان قد أخذوا في اعتبارهم ما يمكن أن تسفر عنه الثورة المصرية من تغييرات في الاتجاهات العامة في المنطقة لا بُدَّ أن تلحق بهم وبدورهم بعض تداعياتها، فسارع الرئيس الماروني كميل شمعون، بعد تاريخ طويل من النضال في صف العروبة، ومنذ عام 1954، بالانحياز إلى المعسكر الغربي المعادي للثورة المصرية وحركة التحرر العربية المتأثرة بها، وأبدى استعداده لإدخال لبنان في حلف بغداد الذي كان اختزالاً لحلف السنتو، ما أدى إلى تكتل أو تكتيل المعارضة الإسلامية والقومية على مسحة يسارية ضدَّه، فطرحت المعارضة إسقاطه قبل انتهاء ولايته الرسمية، وانفجرت المعارك في هذا الجو من التجاذب الذي تداخل فيه الطائفي مع الوطني والقومي والدولي، وتولت دولة الوحدة، ممثلة بقيادات ميدانية سورية دعم المسلمين والقوميين أو العروبيين (بينهم مسيحيون تقليديون وتقدميون) من دون أن يكون في نية الجهة الداعمة أن تمكن أصدقاءها وحلفاءها من الغلبة التامة، بسبب الرؤية الواقعية التي كان الرئيس عبد الناصر يرى لبنان من خلالها، إذ لم يكن متحمساً لجعل لبنان رغم المد القومي الوحدوي الواسع والمتحفز فيه، على لائحة الأقطار المرشحة للانضمام إلى دولة الوحدة، نظراً إلى خصوصياته الاجتماعية وتعدديته التي ألزمته بالانفتاح على الغرب وجعلت هذا الانفتاح أحد أهم إشكالياته ومصادر حيويته معاً وأساساً لدور لبناني يفترض الدقة في التعامل معه، مع الانتباه إلى أنَّ هذه الخصوصية ليست مستجدة، بل هي ذات تاريخ طويل، كان من تعبيراته أنَّ لبنان الصغير (جبل لبنان) هو القطعة أو التجربة الكيانية الأولى التي اقتطعت بطريقة ما من جسم السلطنة العثمانية ليقام عليها كيان متميز في اتصاله وانفصاله معاً عن الدولة العثمانية (القائمقاميتان والمتصرفية من عام 1860 إلى نهاية الحرب الكونية الأولى) ما يعني عملياً أنه آخر القطع التي تتركب على جسم دولة الوحدة المنشودة دائماً والصعبة دائماً، مع ملاحظة ـ أنَّ لبنان الكبير - بحدوده الحالية - عاد ليتكون بعد التجزئة والانتداب، وكأنَّه ضرورة للكيان الأول (جبل لبنان) أي لبنان الصغير.
ولذلك سارع الرئيس جمال عبد الناصر بالتفاهم مع الأطراف المعنية في الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة التي زادت منذ الخمسينات، وعلى قاعدة التراجع الأوروبي والإنكليزي خصوصاً وفي مواجهة التقدُّم السوفياتي في المنطقة، من وتيرة تعاطيها مع قضايا البلاد العربية، إلى حل وسط في لبنان تمت على أساسه إعادة الحياة إلى الدولة اللبنانية برئاسة الرئيس فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني والذي احتفظ أثناء القتال الذي استمر أشهراً بموقع محايد، والذي أبدى طوال فترة حكمه 1958 - 1964 ميلاً إلى التعاون السياسي والأمني مع الرئيس عبدالناصر وفاءً منه لموقفه الداعم له (فؤاد شهاب) في الوصول إلى سدَّة الرئاسة اللبنانية... وهكذا خرج اللبنانيون من الحرب عن طريق دولة الوحدة أي الطريق نفسها التي دخلوا من خلالها في الحرب. خرجوا وتدبروا لأنفسهم شعاراً لخروجهم يحفظ قواعد العيش المشترك، الذي كان ولا يزال يتيح لأي طرف منهم أن يحقِّق مكاسب على حساب طرف آخر، ولكنَّه لا يسمح بالغلبة المطلقة، وتعود التسوية لتفرض نفسها دائماً، بما تقتضي من تنازلات متبادلة، قد تكون متساوية وقد لا تكون، حسب موازين القوى والأوضاع الإقليمية والدولية. وكان شعار اللاغالب ولا مغلوب شعار التحول من الحرب إلى السلم، أطلقه رئيس الوزراء اللبناني لمرات عدة (صائب سلام) الزعيم الإسلامي السني البيروتي المنحدر من زعامة تاريخية معروفة، والذي كان أحد أمراء الثورة وحربها القصيرة على قاعدة الولاء للثورة المصرية والوحدة وزعيمها العربي، وكان الشعار قائماً على شيء من التسامح اللفظي، إذ لم يكن دقيقاً أو لم تكن دلالته مطابقة، وقد استقر في وعي اللبنانيين عموماً، أن مفصل عام 1958 بما ترتب عليه، قد مكن الطائفة الإسلامية السنية من تعويض غيابها النسبي أو تغييبها عن إدارة الدولة ومؤسَّساتها، مستفيدة من مساندة الطوائف الإسلامية الأخرى (الشيعة والدروز) على قاعدة الحماس العروبي والإحساس بالحرمان من نعمة الدولة، الذي كان يتمّ التعويض عنه شيعياً ودرزياً بالحراك السياسي الفاعل والمرجح في الاستحقاقات الوطنية. ولم يكن بعد قد حان موعد نهوضهم (الشيعة والدروز) وإن كانوا قد اكتشفوا المؤشر على هذا النهوض من خلال ما تحقَّق للسنة.
اكتشف الإمام السيِّد موسى الصدر هذه المعادلة، وما طرأ عليها من تبدلات تتصل بالاجتماع اللبناني العام وحال الشيعة فيه خصوصاً، فلاحظ أنَّ الشيعة بحراكهم الداخلي بذلوا جهداً، وإن كان مضنياً، ولكنَّه فاعل من أجل بناء الكيان اللبناني بما يقتضي من اقتصاد وعمران ونضال ومعرفة واستقلال وسيادة، فأسهموا في تأهيله من خلال اندماجهم فيه وتأهيل أنفسهم له، فأخذ على نفسه أن يعمل على استنهاض الشيعة وتأهيلهم إلى رفع منسوب حضورهم في بنيان الدولة ومؤسَّساتها من دون مسٍّ حقيقي بفكرة الدولة وأولويتها المطلقة بصرف النظر عن عدالتها، أو مس بالميثاق والدستور اللبناني الذي أصبح تقاسم المقامات العليا للسلطة فيه عرفاً ملزماً يزيد على القانون رسوخاً وحساسية، إذ خصَّ الموارنة برئاسة الجمهورية وقيادة الجيش والشيعة برئاسة مجلس النواب والسنة برئاسة مجلس الوزراء، ليعود الإمام الصدر وفي بداية الحرب اللبنانية فيؤكد من خلال الصحافة الفرنسية تمسكه ببقاء رئاسة الجمهورية للموارنة ونقلها من طابعها الميثاقي إلى مادة منصوصة في الدستور. كما حصل لاحقاً في اتفاق الطائف عام 1989. لقد اكتشف الإمام أن نصيب الشيعة في وظائف الدولة الأساسية لا يتعدَّى نسبة 3 في المئة، في حين أن حصة المناطق ذات الغالبية الشيعية في البقاع (الشرق) والجنوب، من موازنات التنمية والإعمار لا تساوي شيئاً أمام أرقام موازنات المناطق الأخرى ذات الأكثرية المسيحية أو المارونية خصوصاً، وقد التقط فيما التقط فرقاً هائلاً بين الإمكانات المخصصة للجنوب في إحدى ميزانيات الدولة وبين الإمكانات المخصصة لمدينة واحدة هي مدينة جونية المارونية، وقد آثر الإمام الصدر أن يتبع في هذا الاستنهاض ومن أجله سلوكاً متنوعاً ومركباً، وبالإضافة إلى نقده المتكرِّر والمركز والمسؤول والجاد والشامل والمدقق للدولة وتقصيرها، وتدرجه في المطالبة بتحقيق المطالب، ركَّز على التوعية والتعليم الديني بمنظور وطني وتوسيع مساحة الاهتمام الفكري والسياسي في المدن والقرى، وحتى لا يبقى نشاطه في هذا المجال ذا صفة شيعية حصرية، ولإعطائه بعده الوطني، تعدَّى في حركته الذاتية الأطر الشيعية إلى جميع المناطق والطوائف وكأنَّه كان يريد أن يشرك الآخرين في وعيهم لمخاطر تقصير الدولة عن أداء دورها الوطني الجامع. وفي سبيل ذلك شجع على التوسع في بناء المساجد والأندية الحسينية (الحسينيات) والأندية الثقافية والرياضية، وأسَّس المدارس المهنية، وحرَّض أهل المواهب من الشيعة على تجاوز فقرهم والانكباب على التحصيل العلمي في الحقول المختلفة رفعاً لسويتهم وسوية أهلهم ووطنهم، مصراً على التواصل الحميم والصريح مع الطوائف الأخرى، ومن خلال مؤسَّساتها الأهلية والروحية، حتى لا يتحول التحرك الشيعي نحو الحقوق الشيعية السياسية والعمرانية والتنموية، وكأنه موجه ضدَّ الآخرين من الشركاء في الإيمان والوطن.
وفضلاً عن حرصه على الوضوح والإيضاح والود والتفاهم مع المسلمين السنَّة والدروز، كان سعيه إلى التفاهم والمكاشفة مع القوى الفاعلة في المسيحيين، مدركاً خطورة اندفاع الشباب الشيعي بسبب الإحباط نحو أحزاب اليسار، ومن هنا أتى حرصه على التواصل والاتصال مع الأنظمة العربية ذات التأثير على لبنان، من المملكة العربية السعودية إلى مصر وسورية، وقام بزيارة مبكرة إلى الفاتيكان وبابا الكاثوليك (عام 1963) كان لها أثر طيب في التقريب بين توجهاته وأطروحاته والمواقف المسيحية منه لاحقاً، لولا الحرب وإصراره على إيقافها الذي جعل أمراء الحرب ينفرون منه ويعادونه ويكيدون له ولشركائه في الموقف من رؤساء المؤسَّسات الروحية القائدة (البطريرك خريش ـ والكاردينال صفير من بعده ـ بطريرك الموارنة ـ والشيخ حسن خالد، مفتي الجمهورية (السني)، والشيخ محمَّد أبو شقرا (شيخ عقل الطائفة الدرزية)، والبطريرك هزيم (بطريرك الروم الأرثوذكس) والبطريرك حكيم (بطريرك الروم الكاثوليك).

- 27/1/2008: لبنان والشيعة والدولة من بداية الحضور إلى بداية الغيبة (الجزء الثاني)
- 28/1/2008: لبنان والشيعة والدولة من بداية الحضور إلى بداية الغيبة (الجزء الثالث والأخير)

source