* رسالة إلى اللبنانيين بمناسبة استشهاد الإمام الحسين ومولد المسيح (ع) بتاريخ 21 كانون أول 1977، تسجيل مرئي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
المذيع: ذكرى استشهاد الإمام الحسين ذكرى عظيمة ولا ريب إذا ما علمنا معنى الشهادة والاستشهاد. ولذكرى اليوم مناسبة تختلف عن مثيلاتها السابقات وقتًا وظروفًا، كيف نقيِّم هذه الذكرى الخالدة ونقتبس من روحها معانٍ وأبعادًا؟ سماحة الإمام السيد موسى الصدر يجيبنا على ذلك من خلال ما تقدم، سماحة الإمام الكلمة الآن متروكة لكم فماذا تقولون وبأي لسان تخاطبون؟
الإمام الصدر: طبعًا كالعادة أخاطب الإخوان في لبنان جميعًا. أيها اللبنانيون، في هذا الوقت من سنة 61 هجرية، أي 1337 عامًا كان الحسين بن علي وفاطمة وسبط الرسول الأعظم محمد (ص) قتيلًا مع جميع أهله وأصحابه. وكانت أجسادهم المحطمة على أرض كربلاء عرضة لهبوب الرياح الساخنات، مكشوفة لإشعاعات الشمس المحرقة ولجولات الرمال المتحركة بينما كانت عائلته وكل من كان معه تستعد للسبي والرحيل في أقسى الظروف إلى البلاد النائية.
وفي هذا الوقت، وفي نفس المكان أيضًا كانت تنبت بدايات الثورة العاتية التي ترعرعت ثم عصفت بحكم الطغاة وزلزلت عروشهم واجتثت آثارهم من الأرض والتاريخ.
لم تكن هذه الثورة التي انطلقت من كربلاء وعمّت الأنفس وانتقلت إلى الآفاق القريبة والبعيدة إلا بعض آثار استشهاد الحسين، وإلا شعلة محددة من المشعل الحسيني الذي انتصب بعد منتصف القرن الهجري الأول.
إن الساحة الحقيقية التي دارت فيها معركة عاشوراء هي ساحة القيم الإنسانية التي لا تنفصل عن الإيمان. أما أبعادها فإنها تمتد مع الإنسان ومع حياته أينما كان ومتى يكون، تحطِّم جدران سجن ذاته وتربط بينه وبين بني نوعه وتخلق منه وجودًا كبيرًا يفوق حدوده الزمانية والمكانية ويتجاوز قدراته وكفاءاته.
والحسين باستشهاده صان القيم، وبموته أحياها، وبدمه أبرزها ورسمها على جبين الدهر، ثم أدخلها في أعماق القلوب والعقول بعد أن هزها وفجرها بالفاجعة.
إن الإنسان المعاصر للحسين كان يعيش أقصى درجات الانحراف العام الذي بدأ بانحراف الحكم، ثم امتد إلى كافة قطاعات المجتمع وانتقل مؤخرًا إلى النفوس وهزم الضمائر أو سخّرها واشتراها أو سيطر عليها وضلّلها.
الخلافة المسؤولة أصبحت الملك الموروث الذي يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد، والجهاد الذي كان بابًا من أبواب الجنة تحول إلى مغامرة تجلب الأرزاق وإلى باب للارتزاق.
الأموال العامة انتقلت من بيوت المال إلى خزائن السلطان، والمناصب والمراكز تحولت من الأكفاء الأتقياء إلى أزلامه؛ لا قيمة للإنسان ولحريته ولحياته عندما يغضب الحاكم عليه، وقد يُقتل في مرج عذراء، أو يُنفى إلى الربذة أو يتعرض لحملة حديث مختلق من مرتزق أدرك العصور الأولى.
تجري هذه الأحداث وتجري المنكرات والبدع، وتتكرر ولا تجد أمامها معارضًا أو معترضًا أو متسائلًا على الأقل.
أما في هذه السنة وفي لبنان، فإن الذكرى تأخذ أبعادًا جديدة أخرى هي من طبيعة التفاعل بين التاريخ والجغرافيا في القضايا التي ترتبط بحياة الإنسان العامة. فبعد محنتنا الداخلية التي استشهدت فيها القيم وهي التي أحياها استشهاد الحسين، كيف يمكن معايشة الذكرى ومعانيها والاقتباس منها؟
وتقابل هذه الناحية السلبية، نقطة إيجابية وهي لبنانية أيضًا رغم بعدها العالمي. فقد اقتربت ذكرى استشهاد الحسين من يوم ميلاد الفادي المسيح (ع). ذلك اليوم الذي يدفع القيم الروحية السامية رغم الحدود المادية والظروف المنطقية للتاريخ، يدفعها إلى أعماق النفوس ويهز المشاعر والضمائر. ذلك اليوم المليء بمعاني السلام بل يوم السلام نفسه. ومن جهة ثالثة تقع هاتان المناسبتان بين بداية السنة الهجرية والسنة الميلادية وكأن البداية اللبنانية لتاريخه الجديد والتي تضمخت بدماء الشهادة قد تمخضت عن ولادة السلام والمسرة والمجد الإلهي.
وهذا المناخ يبعد عنا التشاؤم مهما ألحّ علينا بسبب القيم التي تساقطت في أرضنا العزيزة إلى جانب أجساد أبريائنا الأعزاء. وبسبب التطورات المثيرة الحديثة في منطقتنا، والتي تشير إلى إرهاصات واضحة لصراع الكبار ولانفجار الحرب الباردة بينهم في هذا الجزء من الأرض.
ثم إن المواجهة في معركة غير متكافئة في السلاح والعتاد وفي المسلك والانسجام، والتي كان أحد آثارها الخلافات الداخلية تملأ الساحة العربية لتمكن الحرب الباردة تلك من تحقيق أغراضها.
ها نحن عشية الذكرى وكأنها التذكير الخاص من الله خالق الأيام ومدبرها ومرسل الرسل وشرائعهم، تذكّرنا في لبنان يعلمنا كيف نعالج محنتنا، نضمد جراحنا، نوحد صفوفنا، ونجابه أحداث المنطقة.
إن العناية الإلهية ترسم لنا الخطة بالذات بندًا بندًا: التضحية بالآراء، بالمواقف، بنتائج الأحداث وحتى بالمصالح الذاتية والفئوية لتحيا القيم، فهي وحدها تجمع وتوحد. ومع التوجه لحياة القيم يولد السلام في الآفاق وفي الأنفس، في السماء والأرض والناس.
والسلام هذا لقاء تاريخي محتوم بين المسيحيين والمسلمين، لأن اللقاء كان تاريخيًا محتومًا بين الإسلام والمسيحية، سيّما عندما تظهر الصهيونية في الأفق لكي تلعب بتراث المسيحية والإسلام معًا وبتاريخهما وحضارتهما وثقافتهما وقيمهما مرة أخرى.
مع فارق كبير هذه المرة، حيث إن التلاعب الذي قامت به في تاريخها الطويل، وفي تاريخنا الطويل، كان صادرًا عن أفراد ومؤسسات. أما هذه المرة فإن المتلاعب دولة تستقطب جميع الأفراد والمؤسسات وتستعمل جميع التجارب السابقة وتستعين بالمضَلَلين في العالم وهم الأكثرية الساحقة من البشر.
إن ذكرياتنا هذه السنة وفي لبنان بوجه أخص، تحمل لنا البشارة الإلهية وتتلو علينا الآيات الكريمة التي تعتبر أن المسيحيين هم أقرب الناس إلى المسلمين، وأن المشركين واليهود الصهيونيين هم أبعد الناس عنهم. وذكرياتنا هذه السنة تأمرنا بالتضحية ليولد السلام والحب والقيم، وتأمرنا بالتضامن الوطني التام لنصون وطننا وجنوبنا الحبيب المهدد، ولكي نصون كل ما نملك أمام الأخطار المحدقة بنا، ولنحمي ظهر أشقائنا الذين أبوا إلا أن يأخذوا السلام العادل الشريف، لا ليُعطَوا السلم الإسرائيلي المشبوه.
ولكي نوجه أخيرًا إخواننا الذين يتصدون لتحرير الأرض والقضية العادلة، نوجههم في اليوم العصيب هذا إلى التفرغ لتحرير الأرض والقضية العادلة، فنقدم لهم عند ذاك حبات قلوبنا وثمرات عقولنا وجهدنا ودعاءنا.
فيا أيها الإخوة اللبنانيون، إلى التضحيات، إلى السلام، إلى الوفاق الوطني، إلى القيامة اللبنانية والتصدي لكل ما يحول دونها أو يشوّهها أو يخنقها في المهد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: شكرًا سماحة الإمام لهذه الكلمة القيمة ولهذه المناسبة العظيمة.
