من الجنوب يصدر حكم التاريخ

calendar icon 20 أيار 1970 الكاتب:موسى الصدر

 بتاريخ 20 أيار من سنة 1970 أعلن الإمام الصدر تأسيس "هيئة نصرة الجنوب" برئاسته وعضوية علماء ورجال الدين في منطقة الجنوب من مختلف الطوائف. وقد عقدت هذه الهيئة مؤتمرًا صحفيًّا تلا فيه الإمام الصدر بيانًا تحدث فيه عن كارثة النزوح من القرى الجنوبية، مناشدًا الضمير العالمي للعمل على إغاثة المواطنين. وبمناسبة عيد المقاومة والتحرير نستعيد نص البيان كاملًا:

أيها اللبنانيون،
في حياة كل شعب لحظات حواسم، وتجارب فرائد، يتوقف فيها تاريخه، ليشهد حياة تتحدى فتتجدد... أو ليخط قصة يوجزها، خبر كان...|
ونحن في لبنان، نمر اليوم بواحدة من أخطر هذه التجارب... وعلى أسلوب مواجهتها يتوقف ويتقرر المصير، فإما أن نكون شعبًا مؤهلًا للبقاء، جديرًا بالاستمرار، أو شعبًا سقط في مستنقعات الوجود، ثم انسحق بين دواليب الزمن، وضاع كما تضيع موجات الصوت على صيوان الأذن الصماء.
أيها الإخوة اللبنانيون،
إن الجنوب لفي خطر... وهو اليوم المحك، ومنه يصدر حكم التاريخ قاطعًا لا يرحم، ولا يهادن ولا يتسكع...
ولا يخالن خائل، إذا سقط الجنوب، أن سياجًا من السحر يسور لبنان، أو خيمة من الغيب تغطي عليه، أو يد قدرة تقيه الأحداث... وشواهد التاريخ شواهد على أمم بادت وأوطان زالت، وقوميات غدت كأساطير الأولين.
إن عضوًا من وطنكم اليوم يمشي إليه البتر. إن جزءًا من تاريخكم، وهو الأعظم، يركض إلى القبر. إن منارات صور وصيدون، وقانا وجزين التي لا تقل عن جبيل وبعلبك وطرابلس وبيروت، مهددة بالتعتيم...
إن أرض لبنان يرويها الليطاني، كما لا العاصي، ولا أي نهر آخر...
إن موجات الليطاني ترتجف فرقًا، وهي تتصور نفسها بين أقدام غزاة الرجس، بعدما كانت تغسل وجه السيد، وعمائــم الأبطال من رجال الدين الذين نازلوا الجزار وسائر الغزاة والجزارين على مر العصور.
أيها اللبنانيون،
هذا الجزء الكبير منكم، كوحدة لبنان، بيدكم وحدكم إنقاذه.
وعلاقاتكم المستقبلية بعضكم ببعض، كل علاقاتكم، مرتبطة بمواقفكم اليوم.
إن ساعة النفير تدق لتجميع وتجنيد سائر الطاقات والإمكانات المادية والمعنوية والخدمات لمجابهة هذا الخطر الذي يهب من الجنوب، ويهدد كل لبنان...
ولا ريب أنكم إذا تقاعستم عن دخول الميدان من كل جوانبه ونواحيه وبسائر متطلباته ومقاصده ومراميه،
وإذا استمريتم في هدر طاقاتكم وإمكاناتكم، وصرفها في المعارك الجانبية،|
وإذا بقيتم ترتضون الفوضى والارتجال، واللامبالاة والغياب في علاقاتكم مع الزمن، فلسوف يأخذكم عدو كل شيء عنده بحساب.
أيها اللبنانيون،
المحنة التي يعانيها الجنوب اليوم، صورتها شعب بائس يائس، لم يساعدوه ولم يمكنوه من مساعدة نفسه، ولذلك أصبح نافضًا يده من كل أحد، ومن نفسه، يواجه عدوًّا مجهزًا بكل قدرة وطاقة، ومجردًا من كل حس إنساني، وغير ملتزم بأية قيمة حضارية، أو مؤمن بأي خلق تواضع الناس على وصفه بالعظمة أو السمو...
والإطار الواقعي لصورة اليوم، يسور أرضــًا محروقة، ومنـازل مهدمة أو متصدعة، ودروبًا تدب عليها أرتال وقوافل من المستضعفين واليائسين الضائعين.
لقد أُغلقت المدارس، وتمزقت أنابيب الماء، وتقطعت أسلاك الكهرباء، وحصدت النار مزارع التبغ وسنابل القمح التي كانت تنتظر الحصاد.
لقد عم الذعر، فبدأ الأمن يتلطى، ونهضت الفوضى تتثاءب وتتمطى...
ثم إنه وقف الجنوبيون وحدهم، في العراء...
وقد رأينا كرؤساء دين في الجنوب من جميع الطوائف، أن المسؤولية تدعونا، وتشير إلينا أن نتقدم إليها، فلم نهن، وتنادينا فكانت "هيئة نصرة الجنوب" التي أولتني شرف التكلم باسمها من على منبر صحافة لبنان.
أيها اللبنانيون،
إن ثقة "هيئة نصرة الجنوب" بكم لا تُحد.
ألستم أنتم الألى زرعتم البطولات في كل واد وجبل،
وعرشتم المعرفة على كل نادٍ ومحضر؟
فلا أقماركم في المهاجر انخسفت.
ولا شموسكم في الحواضر انكسفت.
علماؤكم، ولا كالعلماء، إذا جاءت ساعة العمل.
وجنودكم ولا مثلها الشهب إذا أزفت لحظة البذل.
إعلامكم يلج ضمائر الأمم،
وصفحات هجرتكم تلقي في الروع، وكأن لبنانكم منتشر على كل الأرض، منفتح عليها، ويعانق كل سكانها.
وديبلوماسيتكم الذكية، توقظ ضمير العالم وعقله فتنتزع الحق في محافل الأمم والمؤسسات الدولية، وسط أضاليل العدو، من بين مخالب المعتدين وحماتهم الكبار.
ألستم أنتم بقايا التجاريب، وحكايا البطولات العجب؟
أنتم أيها اللبنانيون، أناشدكم النجدة، للدفاع عن بقائكم أنتم...
وأناشد كل صحافي حر،
وكل رجل فكر،
وكل الخبراء والمهندسين والأطباء والمحامين،
وسائر الجمعيات العاملة في الخدمات العامة،
وكل المؤسسات الاجتماعية،
والنقابات،
والطلاب،
وخصوصًا الأغنياء المثرين،
وكل النساء والرجال القادرين،
وكل الدول العربية،
وكل الدول الصديقة،
وسائر الشعوب التي عاشت تجارب النزوح،
وسائر الأفراد الذين عاشوا مآسي التشرد واللجوء والحرمان،
أن ينهضوا جميعًا لنصرة الجنوب، التي هي أكيد، ومن دون أي ريب نصرة كل لبنان، لبنان شعلة الحق والعدالة والحرية والإنسانية، في كل هذا الشرق...
أيها اللبنانيون،
اجعلوا الجنوب، بالتفافكم من حوله، يشعر أنه ليس وحده في الغابة المسبعة، وعندها يعرف كيف يعانق الجنوبي جرحه، وأرضه وعنق بندقيته وعلم بلاده.
أيها اللبنانيون،
الكارثة تقترب، وقد وقعت فعلًا في عدد من القرى في منطقة العرقوب وغيرها، وبيدكم وحدكم ردها فلا تجعلوها تقع، وإنكم لفاعلون إن شاء الله.
_____________________________
* بيان للإمام الصدر إثر اجتماع هيئة نصرة الجنوب في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى-الحازمية بتاريخ 20 أيار 1970 ، جريدتي النهار والمحرر 21 أيار 1970.

source