* خطاب في ذكرى عاشوراء أُلقيَ بتاريخ 1969/03/27، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك مني سلام الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار. ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك. السلام على الحسين وعلى عليّ بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
في الليلة السابقة كنّا نستعرض الخطوط العريضة للثورة الحسينية التي سميناها مدرسة كربلاء، وقد قلنا إن نبيّ الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاول بتعاليم الله، وبتطبيق هذه التعاليم وبتكوين المجتمع الإسلامي في المدينة أن يرفع من مستوى الإنسان ويجعل منه مصداقًا لقوله: كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيته. وحاول أن يُشْعِر الإنسان بأنه سيّد الخلق، وأنه خليفة الله في الأرض، وأنه مسؤول عن سعادته وشقائه من الناحية الفردية، وهو أيضًا مسؤول عن السعادة والشقاء الاجتماعيين.
هذه التصرفات وما ذكرتُه بصورة موجزة في الليلة الماضية، غيّرت من مستوى الأمة وجعلت من الناس بين مرغوب ومرهوب. هناك من يخاف، وهناك من يسمع، فالضعف سيطر على الناس وكانوا يسكتون عن كلّ ظلم، وعن كلّ محنة عامة أو خاصة، وأمثلة ذلك كثيرة؛ يكفينا مثالٌ واحد هو موقف أهل الكوفة من مسلم بن عقيل. فأنتم تعرفون أن الإمام الحسين (عليه السلام) حينما وصل إلى مكة ممتنعًا عن بيعة يزيد، وقد عرف الناس هذا الموقف، بدأ أهل الكوفة يكافئون الإمام الحسين وطلبوا منه أن يحضر عندهم، ويكون لهم إمامًا. فالإمام أرسل مسلمًا بن عقيل مع رسالة مفصلة، وتمكن مسلم في فترة وجيزة أن يأخذ البيعة من أهل الكوفة. بعشرات الألوف كلّهم بايعوا الحسين وكتب للإمام ما جرى.
وبعد ذلك، وبعد هذه البيعة التي كان لها القداسة العربية، زائدًا على القداسة الإسلامية، فالبيعة كانت مقدسة حتى عند الجاهلية من العرب... فالإنسان إذا التزم بشيء أو بايع شخصًا فقد كان وفيًا معه، منفذًا لما التزم به. وقد كرّس هذا المعنى الإسلام بقوله: المؤمنون عند شروطهم، المسلمون عند شروطهم، الإنسان حرٌّ حتى يَعِدْ، وأمثال ذلك، ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾ [المائدة، 1] وغير ذلك من التعاليم. هذه البيعة المقدسة عند أحرار العرب قبل الإسلام، والمقدسة قداسة شديدة عند المسلمين تنكر لها أهل الكوفة بين عشية وضحاها. فقد دخل ابن زياد متنكرًا، بل متزيًا بزي يُخيل إلى الناس أنه الحسين دخل في الكوفة، ودخل قصر الخلافة، وبدأ بتوزيع الأموال، وبتهديد الناس، وبإرسال الإشاعات الكاذبة وبتهديد الناس بأن جيش يزيد على أبواب الكوفة وبأمثال ذلك. استعمل أسلوب التهديد والتطميع، وخلال أيام قليلة تمكن أن يُرجع جميع من بايع مسلمًا بن عقيل، أرجعهم جميعًا من بيعته. فمسلم بن عقيل (رضوان الله عليه)، كان يصلي في ليلة من الليالي في مسجد الكوفة، وكان معه آلاف من الناس يصلون، وبعد أن أنهى صلاته ونظر خلفه، فما وجد أحدًا إطلاقًا وهو في الليل، كان كالحائر يدور في شوارع الكوفة ولا يعرف إلى أين ينتقل، وفي أيّ بيت يدخل، وإلى أيّ مكان يأوي، ولا يجد أمامه بابًا مفتوحًا. هذا الموقف المايع الذليل الذي لا نجده في أكثر الأمم تأخرًا ووحشية وخنوعًا وجدناه بين المسلمين، تلك الأمة التي كانت لها المواقف المشهورة التي ذكرتُ بعضها.
فإذًا، الإمام الحسين كما شرحتُ، وجد نفسه أمام أمة قد نامت ضمائرها؛ أمام أمة مستكينة خائفة طامعة لا تتمكن من ممارسة حقوقها ومن مراقبة حكامها، وحكامها يتصرفون بها كما يشاؤون، وتُجَنّد مئة ألف رجل كما يقول معاوية: لا يفرقون بين الناقة والجمل. أمام هذا الواقع المرير ما وجد الإمام الحسين طريقًا لحثّ هذه الضمائر، ولإيقاظ هذه النفوس، ولإعادة الدم السليم وتحريك الدم في عروق أبناء الأمة إلا بتقديم تضحية كبرى ليس فوقها تضحية، وهكذا قدَّم.
وقد ذكرتُ كيف قدّم التضحية الكبرى، فالحسين (عليه السلام) ما اكتفى بالتضحية بنفسه، بل ضمّ مع نفسه جميع أولاده، وجميع إخوته، وجميع أبناء عمه. وحاول أن يُخرج معه إلى المذبح، إلى مسلخ كربلاء، جميع بني هاشم وجميع من يمون عليهم من عائلته، فأخرجهم وكتب لهم الرسالة الشهيرة: ألا ومن خرج منكم معي يُقتل، ومن لم يخرج لم يبلغ النصر. وهكذا حاول أن يأخذ جميع من يملك من الأحفاد والأبناء والرجال، أخرجهم إلى مذبح الحرية، وهو يعلم حسب تصريحاته التي سمعناها أنهم سوف يُقتلون جميعًا.
وما اكتفى بهذا المقدار، فقد أخرج معه جميع نسائه، زوجته وأخواته، وبنات عمه وكل من يمون عليهن من النساء، أخرجهم جميعًا حتى يراهن الله كما قال سبايا، وحتى يكمّلن رسالة الحسين، ومفهوم ثورة الحسين (عليه السلام)، فيبلّغن الأحداث في البلاد التي مرّت عليها هذه المواكب. ثمّ ما اكتفى بهذا المقدار فحاول أن يبرز فظاعة الجريمة، فكان يأخذ الطفل ويعرّضه للقتل، وهو يعلم أنهم سوف يقتلون الطفل فيسجلون على أنفسهم إدانة فوق الإدانة. وقد حاول أن يعلن على رؤوس الأشهاد أنهم منعوه وأهل بيته من الماء وامتنعوا عن إعطائه الماء، ولو كان ماءً لا يفيد... امتنعوا عن ذلك.
وهكذا استعمل الحسين (سلام الله عليه) أسلوبًا خاصًا لرفع مستوى التضحية، ولجعل التضحية بمستوى لا يمكن أن يُتجاهل حتى ترى الأمة هذه الأحداث وتتحرك فيها ضمائرها، وإن كانت ضمائر نائمة أو طامعة أو خانعة أو خائفة. الأحداث كبيرة كبيرة، وهم بحاجة إلى هزات عنيفة، والهزة العنيفة لا يمكن أن تحصل إلا بتقديم تضحية عنيفة قوية.
هذه خلاصة المقدمات التي ذكرناها ووصلنا إلى هذه النقطة أن الحسين (عليه السلام) بهذا الأسلوب ماذا كسب؟ هل كسب الجولة؟ هل تمكّن أن يُوقظ ضمائر الأمة أم لا؟
وقبل أن ندخل في الإجابة على هذا السؤال، أحبّ أن أذكر لكم مثلًا مشابهًا في ظرفنا الحاضر وفي محنتنا الكبرى أمام القضية الفلسطينية. الحقيقة أنه حينما ننظر إلى مستوى الأمة ومستوى عدونا إسرائيل، نجد أننا وصلنا إلى مستوى مشابه جدًا، إلى المستوى الذي بلغته الأمة في أيام الحسين: مليونان من البشر أمام مئة مليون من البشر. أمة دون حضارة ودون تاريخ أمام أمة ملؤها التاريخ والأمجاد والبطولات؛ منطقة صغيرة من الأرض أمام مناطق واسعة كثيرة؛ منطقة فقيرة أمام مناطق غنية بكثير من أنواع الثروة. ثم واقعة حزيران والوقائع التي سبقتها وتلتها، كلّها تؤدي بنا إلى موقف الأمة أيام الحسين (عليه السلام). فنحن نشعر بأننا نائمون... ابتُلينا بهذه النكبة العظيمة، ولا نزال نلتهي بمشاكلنا الخاصة وصراعاتنا المحلية والداخلية. لا نزال، كلّ واحد منّا لا يتحمس لقضيته الكبرى التي يرتبط بها مصيره ومصير مستقبله ومصير أولاده وأبنائه من الأمة. لا نهتمّ بهذه القضية بمقدار عُشر ما نهتمّ بقضيتنا الخاصة! هل وضعنا غير ذلك أيها الإخوة؟ لاحظوا أنفسكم خلال 24 ساعة، ماذا نقدم من طاقات لأجل الأكل والشرب وتنظيم بيتنا؟ وماذا نقدم من الطاقات في سبيل حلّ المشكلة الفلسطينية؟
أمام هذه النكبة التي عمّتنا وعمّت مستقبلنا، نحن لا نزال نتفرج كما كانت الأمة تتفرج على المحن والمصائب التي كانت تعانيها أيام الحسين (عليه السلام). فإذًا، بإمكاننا أن نذكر هنا وجه شبه بصورة موجزة، ونقول نحن في هذه الفترة، وفي هذه المحنة العصيبة من تاريخ أمتنا بحاجة إلى موقف حسيني آخر، بحاجة إلى تقديم تضحيات كبرى تكون بمستوى تدهور الأمة خلقيًا وفكريًا واجتماعيًا. نحن نحتاج إلى تقديم هذه التضحيات، نحتاج إلى تجنيد جميع طاقاتنا الفردية والجماعية. نحتاج إلى أن نتجه كلّنا كأفراد، وكجماعات، وكفئات، وكأحزاب، وكدول، كمنظمات، وكجيوش وكمقاومة جميعنا نتجند لاتجاه واحد الاتجاه الأساسي في حياتنا. ومن دون ذلك فنحن من المتفرجين، لا نمارس أيّ عمل، وقد تركنا مسؤولياتنا، فننظر يومًا إلى الجيوش، ويومًا إلى القادة، ويومًا إلى المقاومة الفلسطينية... كلّها مقدسة، ولكن ما دورنا أيها الإخوة؟ ما واجبنا أيها الناس؟
نحن بحاجة إلى تقديم تضحية بمستوى انحطاطنا، ضحايا بمستوى تدهورنا. وهكذا نتمكن من علاج المشكلة كما تمكن الحسين من علاج المشكلة. فَلْنَدْرُسْ كيف حلّ الحسين المشكلة بعد تقديم هذه التضحيات الكبار. قُتل الإمام الحسين (عليه السلام)، قُتل هو وجميع أهله، وجميع أصحابه، وأهل بيته من الرجال، ثم سُبيت النساء جميعًا، ثم سَحقوا أجساد الحسين وأهل بيته بالخيل، بحوافر الخيل. تمكنوا أو حاولوا أن يدفنوا جسد الحسين بعدما قتلوه تحت التراب وتحت الرمال، ثم تركوه... تركوا الأجساد الطاهرة في الصحراء حيث تأتي الرياح الشديدة فتنقل الرمال من مكان إلى مكان، وتكوّن أكوامًا من الرمال؛ ربما كانوا يفكرون أنه غدًا سوف تأتي العواصف فتدفن جسد الحسين والدماء الزكية، ولا يبقى من الحسين وأهل بيته أثر يُذكر أبدًا. ولكن بعدما قُتل الحسين (عليه السلام) وانتهت المعركة، بدأت آثار الانتصار الحسيني.
هنا يجب أن نعترف بأن الظروف التاريخية التي عاشها الحسين (عليه السلام) تختلف عن ظروفنا التاريخية. نحن في وضعنا هذا بمجرد ما ينطلق جيش من دولة مستعمِرة إلى جزيرة صغيرة في المحيط الهادئ، كلّ العالم يعرف بما يجري. ولكن في أيام الحسين لا إذاعات ولا تلفزيونات ولا جرائد ولا وكالات أنباء... فإذًا، حتى تتفاعل الأخبار والأحداث بحاجة إلى زمن، فلا تتعجبوا إذا عاش بنو أمية بعد الحسين عشرات السنين. يجب أن ننظر إلى التاريخ كمجموعة وإلى تتالي الأحداث وتوالي المشاكل.
بمجرد ما قُتل الحسين (عليه السلام) وأصحابه وانتهت المعركة، بدأت الثورات صغيرة صغيرة ثم كَبُرَت ونَمَتْ وانطلقت وتحولت إلى عواصف شديدة قضت على بني أمية وأحداثها وآثارها وجيوبها وتأثيرها على الأمة في التاريخ، أو أَنْسَت أهدافهم وخطوطهم وأغراضهم من صفحة التاريخ.
حينما قُتل الحسين، قامت امرأة من جيش ابن زياد، من جيش الكوفة، شعرت بحالة خاصة، فركضت وأخذت عمود الخيمة، فصاحت في الناس: هذا رسول الله، هذا عليّ بن أبي طالب، هذه فاطمة، كلّهم يأتون إلى هذه الأرض... فبدأت بإطلاق هذه الشعارات وبدأت بالهجوم على القوم، ركض بنو قومها وأخذوها وسجنوها وحفظوها. ومثل هذه القضية بعد القتل مباشرة حصلت عدة قضايا غير مذكورة في تاريخ واحد، لكن المطالع في جميع هذه الكتب يتمكن من استخراج أحداث كثيرة من هذا النوع. ثم انتقل آل البيت إلى الكوفة، ومنها إلى الشام في الطريق التي ذكرتها أمس من الكوفة إلى الموصل إلى نصيبين إلى حماه وحمص وحلب وبعلبك والشام. في هذا الخط، حصلت أحداث كثيرة، منها ما ذكرتُها ليلة أمس؛ في كلّ بلد كان الناس يلتفون ويستقبلون هؤلاء الأسرى بفرح وزينة، ثم يسألون: من هم؟ فيُفاجأون بالأجوبة وبالكلمات وبالخطابات التي كانت تلقيها زينب وأم كلثوم وعليّ بن الحسين وغيرهم؛ فكانوا يندبون ويبكون ويتأثرون ويتوبون ويودعون القافلة، ثم يبنون مكان رأس الحسين مشهدًا باسم مشهد رأس الحسين، أو مسجد رأس الحسين، أو مسجد النقطة، وأمثال ذلك كما هو موجود إلى الآن في كثير من هذه المدن.
وفي الطريق أيضًا ينقل لنا التاريخ قصصًا كثيرة؛ قسم من هذه القصص نُقل في التاريخ بشكل غيبي، مثلًا يقولون إن الجماعة التي حفظت وكانت تحمل رأس الحسين (عليه السلام)، وضعت رأسه في مكان، بعد ذلك وجدت أنه مكتوب فوق الرأس هذه الجملة أو هذا البيت من الشعر:
أترجو أمة قتلت حسينًا شفاعة جدّه يوم الجزاء
محت هذا الشعار، ونامت، بعد فترة وُجِدَ شعر آخر مكتوب في نفس المحل.
التاريخ القديم ينقل هذه الأحداث كأشياء غيبية، ولكن نحن لا نضطر أن نفسرها بأحداث غيبية. كان هناك ثوار، كان هناك غير راضين، كان هناك في صفوفهم من يشعر بالندم والتوبة ويتصرف هذه التصرفات، ويكتب هذه الشعارات توبيخًا وتأنيبًا وإيلامًا لقتلة الحسين (عليه السلام)... هذه الأحداث أكثر من أن تُروى، حتى وصل موكب آل البيت إلى الشام.
دخل موكب آل البيت، والرؤوس الطاهرة والأسرى، إلى الشام بنفس الدخول الذي كان يدخله في كلّ مكان. استقبلوهم بمظاهر الزينة والمعايدة والفرحة، حتى أدخلوهم قصر يزيد. في قصر يزيد أيضًا حصلت مناقشات كثيرة، وخطبت زينب (سلام الله عليها) الخطبة المشهورة، وصل الأمر إلى درجة ]أن[ أهل الشام بدأوا يتوبون ويندبون ويتبركون ويضغطون على يزيد بإعادة الرؤوس الطاهرة والأسرى إلى بلادهم؛ حتى إن زوجة يزيد أقامت في قصر يزيد مجلسًا للبكاء على الحسين (عليه السلام). يقول أحد الشعراء الكبار، يقول:
أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهم أغري الوليد بسبّهم والحاجبا
حتى زوجة يزيد بدأت تبكي وتنوح على الحسين (عليه السلام) في قصره. وعند ذلك، اضطر يزيد بأن يقول أنا ما قتلتُ الحسين، لعن الله ابن زياد الذي قتل الحسين؛ كان يحمّل المسؤولية لجماعته ولأصحابه ولحكام العراق. رجع موكب آل البيت إلى المدينة، بعد فترة وجيزة حصلت واقعة الحرة. خرج أهل المدينة ثائرين، هجموا على بيوت بني أمية الموجودين في المدينة، محاولين قتلهم، مما اضطر مروان -هذا الذي كان يشير إلى قتل الحسين في مجلس حاكم المدينة، هذا العدو الأول لآل بيت الرسول- اضطر أن يلجأ إلى عليّ بن الحسين، فجعل جميع نساء بني أمية في بيت عليّ بن الحسين (عليه السلام)، مما جعل الإمام عليّ بن الحسين يخرجهم بصورة محفوظة إلى خارج المدينة حتى لا يمسهنّ أحد بسوء. ثم خرج جميع بني أمية بعدما قُتِل منهم من قُتِل... صحيح أن يزيد ردّ على هذه الثورة بعنف في واقعة الحرّة المعروفة، وقتل من أهل المدينة جماعات كان بينهم سبعون صحابيًا، ولكن الثورة وقعت نتيجةً لإراقة دم الحسين (عليه السلام).
وبعد ذلك صارت عدة ثورات في المدينة مما فرض على بني أمية أن يُخرجوا زينب من المدينة، لأنهم كانوا يعرفون ما دامت زينب تسكن فيها لا يمكن أن تستقر المدينة. فأبعدوها إلى مصر كما يقولون، أو إلى الشام كما هو موجود ]في[ بعض الروايات الأخرى. أما في الكوفة فبعد فترة وجيزة أيضًا قامت ثورة التوابين، أربعة آلاف شخص برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي وجماعة أخرى، حلقوا رؤوسهم، وكسروا أغمدة سيوفهم وتابوا، ولبسوا الأكفان، وبدأوا بقتل قتلة الحسين (عليه السلام). وصحيح أنهم قُتِلوا جميعًا، ولكن كانت من آثار حركة الحسين (عليه السلام)، وإيقاظ الضمائر النائمة التي بدأت تتفاعل وتستيقظ يومًا بعد يوم. وبعد ذلك، مرّت على بلاد الإسلام أحداث خطيرة عجيبة كأنها على كف عفريت.
وأشدّ هذه البلاد تحركًا واضطرابًا وانقلابًا، كان في الكوفة بالذات، مركز الجريمة. فنحن نقرأ حوادث غريبة مرّت على الكوفة في فترة جيل أو أقلّ من جيل. نسمع قصة يرويها أحد الكتّاب المؤرخين أنه كان عند عبد الملك بن مروان في قصر الإمارة في الكوفة، كان جالسًا عند عبد الملك، فوجد أمام عبد الملك بن مروان رأس مصعب -مصعب بن الزبير- فتأثر وقال له: يا عبد الملك، يا أمير المؤمنين، أيها الخليفة، أنا في هذا القصر وتحت هذه القبة رأيت أحداثًا غريبة. قال: كنت في هذا المكان منذ مدة غير طويلة، وكان جالسًا مكانك ابن زياد، فوجدت أمامه رأس الحسين (عليه السلام) مقطوعًا. بعد مدة وجيزة رأيت رأس ابن زياد محلّ رأس الحسين أمام المختار بن أبي عبيدة الثقفي. بعد مدّة رأيت رأس المختار أمام مصعب بن الزبير، والآن أرى رأس مصعب بن الزبير أمامك، ولا ندري متى نرى رأسك أمام شخص آخر في نفس المكان. اهتزّ عبد الملك وخرج من القصر، وأمر بهدمه مفتكرًا أن القصر فيه النحوسة، مع أنه ليس في القصر نحوسة، وإنما آثار دم الحسين تتفاعل وتحرك الناس وتكوِّن الأحداث.
أما المدينة فكانت تهتزّ مثل الكوفة. أما مكة فشاهدت أحداثًا كثيرة وحوادث وفتنًا لا تُعدّ ولا تُحصى. وكانت الثورات [قد] عمّت جميع العالم الإسلامي ومن المشهور أن جميع الثورات التي تكوّنت خلال هذه الفترة في العالم الإسلامي، كان شعارها يا لثارات الحسين، حتى ثورة بني العباس التي قضت على بني أمية، كان شعارها يا لثارات الحسين، لأن هذا الشعار كان مقبولًا عند الناس. بمجرد ما يرفع أحد شعار يا لثارات الحسين كانوا يلتفون حول هذا الشعار ويحاولون الانتقام من قتلة الحسين.
فإذًا، الإمام الحسين (عليه السلام) قدّم التضحية، وتمكّن من التأثير في ضمائر الأمة، ولا يزال. وبعد انقراض بني أمية وانطفاء ذكرهم، وانطفاء آثارهم ومحو قبورهم وتنائي تعاليمهم، لا يزال دم الحسين يحرّك المسلمين الأحرار الأُباة في كلّ مكان وزمان. ولا يزال حينما نذهب إلى مشهد الإمام الحسين نجد أن العلم الأحمر فوق مشهده، والعلم الأحمر كما تعرفون شاهد وإشارة عربية على بقاء الثأر وعدم الأخذ بالثأر.
ونحن نقول في زيارتنا الخاصة للإمام الحسين: السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره... نعم، الحسين ثار الله. أما نحن حينما نحتفل بذكريات الإمام الحسين، ونشعر بتقدير وحبّ وعاطفة نحوه، علينا أن نحاول أن نكون من الآخذين بثأر الحسين. ثأر الحسين كيف يؤخذ؟ قتلة الحسين قُتِلوا. فإذًا، ثأر الحسين كيف يؤخذ؟ ثأر الحسين يؤخذ بمحاربة الباطل، بمحاربة الظالم، بمحاربة المنحرف، بنصرة الحقّ، بتقييم الحقّ، بالدفاع عن الحقّ، بالوقوف مع الحقّ. الأخذ بثأر الحسين ونصرة الحسين (عليه السلام)، يحصل بتحسين الأخلاق، بحلّ المشاكل، بتصفية القلوب. الأخذ بثأر الحسين يحصل بالتهيؤ العام لأجل تحسين وضعنا الاجتماعي، ولأجل تحسين وضعنا الدفاعي أمام عدو الحسين، عدو الله: إسرائيل. الأخذ بثأر الحسين على الصعيد الفردي، كلّ فرد منّا يتمكن أن ينصر الحسين بتحسين وضعه الخلقي أو الديني.
يا شباب الحسين، يا أبناء الحسين، أنتم الذين تبكون على الحسين وتحبون الحسين، عليكم أن تنصروا الحسين وتحققوا أهداف الحسين من تضحيته. ولا شكّ أنكم لا تبخلون بذلك.
ونسأل الله لي ولكم التوفيق والاستغفار.
والسلام عليكم.
