العمل الرسالي والعمل المأجور

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 02 نيسان 1972 الكاتب:موسى الصدر

...السابقة أن المجتمع أو ما نسميه في بعض الحالات بالشعب أو الأمة عبارة عن مجموعة أفراد متفاعلة. والتفاعل يعني العمل المتبادل. فإذًا، المجتمع يساوي الإنسان زائد العمل، وقلنا أن العمل على نوعين: العمل المأجور والعمل الرسالي.
العمل الرسالي هو العمل الذي يقوم به الإنسان لأجل هدف، لأجل تحقيق هدف. بطبيعة الحال، العمل هذا يعتبر خطوة في سبيل كمال الإنسان، أو بالتعبير الإسلامي يعتبر عبادة، والحديث الشريف يقول: العبادة سبعون جزءًا، أفضلها العمل. والعمل الرسالي هذا، لا يرتبط بكمية الأجر سواء كان الأجر قليلًا أو كثيرًا. فالعمل متقن، يعني من مميزاته، عدم البخس في العمل والاتقان. فالحديث الشريف يقول: الذي يبخس في عمله، يخون هذه الأمة، والحديث الشريف يقول: رحم الله من عمل عملًا، فأتقنه.
فإذًا، العمل المأجور يساوي أجره، فإن كان الأجر كثيرًا، فالعمل كثير. وإن كان قليلًا، فالعمل قليل. والعمل المأجور مهنة، حرفة، قيمته تعادل أجره. وأجر العمل كما نعرف، في المجتمعات يختلف في المجتمعات الرأسمالية الطامعة كانت قيمة العمل لا شيء، وكان يعتبر الأجر صيانة للعامل حتى يتمكن من الاستمرار في العطاء. وما قُدِّم في تلك المجتمعات إلى العامل كان نتيجة للضغوط ابتداءً من هذه المدرسة الفكرية إلى أن نصل إلى المثالية الماركسية المادية أن العمل هو يعادل البضاعة كلها. العمل في جميع هذه المراحل، عمل مأجور.
والعمل المأجور هذا عمل مادي لا يختلف بين عمل الإنسان وعمل الآلة في الحقيقة. ولذلك بإمكاننا أن نسمي العمل المأجور العمل الميت حيث لا روح له، ونسمي العمل الرسالي العمل الحي، حيث إنه قطعة من الإنسان هادفة تحقق كمال الإنسان. هذه نبذة عما قلناه في الحلقة الماضية.
فإذا فرضنا أن الفرد زائد العمل شكّل المجتمع، فقد وصلنا إلى أن هناك نوعين من المجتمع، نوع عمله عمل رسالي، ونوع آخر عمله عمل مادي. هذه نقطة البداية. فلنتابع السير حتى نعرف إلى أين يسير بنا هذا التقسيم.
العمل المادي المأجور بطبيعة الحال، تعبير عن وجود الإنسان لأن الإنسان مثل البطارية عمل مجمد، عمل المجتمع، حينما يعطي في الحقيقة يعبر عن نفسه. الإنسان بعمله يستهلك نفسه، ويحول ذاته إلى العمل. فعندما يكون العمل ماديًا، بالتدريج يتحول الإنسان المُعطي للعمل المادي، يتحول إلى الإنسان المادي أيضًا.
طبيعة التفاعل بين الإنسان وعمله، طبيعة التفاعل بين الإنسان وبين عمله، أصل سبق ذكره في عدة أبحاث. يعني تدريجيًا العمل المادي يحول الإنسان إلى الإنسان المادي، يعني الإنسان الذي يتحرك بدافع المنفعة لأنه يتدرب تدريجيًا كفرد، ويعيش المجتمع الذي لا يتحرك، أو بالتعبير الآخر لا يعمل إلا بدافع مادي. عند ذلك الإنسان يصبح موجودًا ماديًا يسعى إلى كسب المزيد من المال، أو على حد التعبير الديني يصبح المال والمادة إلهًا له. إله يعني قدس الأقداس، يعني المحرك الأول وهنا ينكشف أمامنا بسهولة كيف أن الصراع في منطق المجتمع المادي جزء من الحياة وجزء من المجتمع.
أرجو الانتباه، الإنسان المادي يعني الذي يسعى لكسب المزيد والمزيد والمزيد من الأرباح. هذه طبيعة الإنسان، هذا الصراع. والسبب أن طموح الإنسان لا نهاية له. الإنسان حسب المفهوم الديني وحسب ما يقول القرآن: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا﴾ [الأنبياء، 91]. يوجد في الإنسان الجزء اللانهائي من المزيد، وهذا واضح حينما يرغب الإنسان شيئًا، ويسعى لتأمين شيء، لو فرضنا أنه يريد مالًا، لو كسب الملايين الملايين من المال لا يهدأ، يرغب في المزيد. يريد البيت، يريد السيارة، يريد الجاه، يريد الشهرة. مهما كان... لو وصل الإنسان إلى أي غاية مادية لا يهدأ، يريد المزيد. هذا يكشف عن الشعور اللانهائي الموجود في الإنسان. طموح الإنسان لا حد له. أما ساحة الإنسان المادية فلها حدود، أما الساحة المادية للإنسان هي الأرض، ابتداء من البيت ثم القرية ثم البلد ثم الكرة الأرضية ثم العالم المادي كله.
الإنسان الذي يسعى لأجل المزيد من المال دائمًا في صراع، لأنه في بيته كمية المكاسب في بيته محدودة. هذه الكمية المحدودة لا تتمكن من إقناع طموح هذا الفرد. فبطبيعة الحال، هو أخذ حصته، ويسعى لأخذ حصة أخيه وأخته أو ابن عمه في بيته. ونفس الحالة موجودة في الشخص التالي. فالصراع يبدأ من البيت. ثم في القرية، مكاسب القرية المادية محدودة، لا تتمكن من إقناع الفرد، يأخذ نسبة من أموال القرية، فيريد المزيد، فيصطدم بالآخر. يأخذ مخترة القرية، رئاسة بلدية القرية، وجاهة القرية، يريد المزيد، فيصطدم بالآخر.
والصراع هذا ينتقل من البيت إلى القرية وإلى البلد وإلى المجتمع ككل. الصراع هو طبيعة الطموح اللانهائي والمكاسب المحدودة، وليس ناتجًا عن الصراع الطبقي كما يقول ماركس. هذا الحديث جرى عندنا في حلقات العمل في السنة الماضية. لو كان ماركس يعيش غير الفترة التي عاشها، التي كانت فترة تكوين الطبقة العاملة، أو طبقة الكادحين حسب تعبيره، بداية تكوين هذه الطبقة، فعاش الصراع ففلسفه، فلسفه فلسفة مرحلية. بينما لو عاش بعد هذه الفترة، كان يرى أن الصراع ينتقل من بين طبقة وطبقة إلى داخل الطبقة.
اليوم نحن أمام أنواع من الصراع لا تفسير لها في منطق ماركس الطبقي؛ بين طبقة واحدة الصراع. والحقيقة أن الصراع ناتج من المادية للطموح، وليس من الطبقية في الحياة الاجتماعية، لأن الطبقية أيضًا تجسيد حي للأطماع المادية. عندما يريد صاحب رأس المال أن يكسب المزيد من الأرباح على رأس العامل، والعامل أصبح واعيًا فيريد المزيد من المكاسب ولو على حساب صاحب رأس المال، يتطور الصراع بين العامل وبين صاحب رأس المال. نفس المشكلة قائمة داخل العمال وداخل الطبقات الرأسمالية، رأس المال الصغير والكبير، وبينها وبين رأس المال المنافس.
هذا الذي نسميه بالصراع بين جميع الأفراد. فإذًا، المجتمع الذي يتكون من العمل المأجور، هذا المجتمع مجتمع الصراع، أو مجتمع السباع. كل فرد يحاول أن يكسب المزيد من الأرباح. المثل الشايع الذي يقول: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، نضيف عليه مقدمة أنا على أخي وأنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الآخر. وهذه حقيقة لأن الإنسان الذي اتخذ المادة إلهًا، أو الإنسان الذي أعطى العمل المأجور، فتحول هو إلى بطارية العمل المأجور إذا صح التعبير، هذا الإنسان هو وحده لا تنطبق مصلحته مع مصلحة أحد، تتفق مصلحته مع مصلحة أخيه تسعين في المئة، فيتحالف مع أخيه ضد ابن عمه. وتتفق مصلحته ومصلحة أخيه ومصلحة ابن عمه، خمس وسبعون في المئة فيتفقون ضد الغريب. ثم تتفق مصلحته مع أولاد عمه، مع أولاد قريته، مع أولاد عائلته، مع أولاد بلده، مع أولاد مذهبه سمه ما شئت أي إطار... ستين في المئة، خمسين في المئة، أربعين في المئة، فتتفق هذه المجموعة من الناس ضد الطرف الآخر.
هذا الذي يُقال اليوم أن السياسة لا تعترف بالصديق المطلق ولا بالعدو المطلق. السياسة تعترف بالمصلحة حسب اتفاق المصالح. فإذًا، الإنسان الذي يتحول إلى مجموعة من الأعمال المادية يعني الإنسان الذي أصبح يعبد المادة، هذا! هو وحده. لا صديق له، ولا رفيق له. بل جميع التكتلات في هذا المجتمع كلها من أنواع الشركة لا يوجد أخوة، ولا قرابة، ولا علاقة جوار، ولا علاقة أمة، ولا علاقة شعب. العلاقات كلها شركة تجارية. المجتمع المبني على أساس العمل المادي.
أولًا، مجتمع الصراع، صراع شامل، ابتداءً من الفرد وانتهاءً إلى الصراع الدائم.
ثانيًا، مجتمع الغرباء. كل فرد غريب، وبنفس الوقت مجتمع الشركات. كل تكتل كعائلة شركة صغيرة، بيت أصغر، قبيلة شركة أكبر، الشعب شركة أكبر وهكذا. مجتمع شركات يعني جميع العلاقات علاقات مادية. هذه بعض الميزات العامة في المجتمع المادي، ونتيجة هذه الميزات أن المجتمع المادي مجتمع طبقات أو بتعبير أدق مجتمع فئات. من جملة الفئات وفي مرحلة معينة الطبقات. فيقال عن الطبقات والصراع بين الطبقات thèse و antithèse في تكوين الطبقات، كل هذا يعود إلى المبدأ، يعني المجتمع يُبنى من العمل المادي المأجور.
ففي الجانب الآخر العمل الرسالي الذي يكوّن المجتمع، العمل الحي يكوّن المجتمع الحي. في المجتمع الذي يتكون من العمل الرسالي. هناك، الإنسان ليس غريبًا، لأنه في العمل الرسالي المتحكم ليست المادة، المتحكم هو الهدف أو ما يسمى بالقيم، والهدف يجمع يعني الهدف يفوق الإنسان فيربطني بزميلي في الهدف، الهدف.
لست عند ذلك فردًا معزولًا عن الآخر، كلانا نكون في الهدف، في الرسالة. الرسالة دائمًا تجمع، كل التكتلات، تكتلات رسالية. ففي هذا المجتمع هناك مفهوم للرسالة، هناك مفهوم للأخوة، هناك مفهوم للصداقة، ولكن المفهوم الأول لوحدة العقيدة، يعني لوحدة الهدف. في هذا المجتمع لا يوجد طبقات. المجتمع لأنه لا يبدأ بالصراع، وإنما ما يُرى هو التسابق أو بتعبير القرآن استباق: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الحديد، 21]، أو: ﴿فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة، 148]. منافسة للمزيد، وليس صراعًا. يعني لا أريد أن أتقدم على حسابك، بالعكس قد أعطيك لأن الإيثار يكمل الرسالة عندي. العمل عبادة. المجتمع المبني على العمل الرسالي كما يقول الحديث: مثل المؤمنين في تراحمهم، التراحم له معنى في المجتمع الرسالي، ولا غنى له في المجتمع المادي، لأن التراحم محله في المجتمع المادي التفاوت، مقدار ما أعطيك منك وآخذ منك مقدار، تجارة.
مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم، كمثل جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأجزاء بالسهر والحمى. المجتمع يتحول إلى جسد حي. هذا العمل حي، الإحساس حي، جزء من الرسالة. لا يوجد صراع داخلي والتفاوت الموجود الذي يشكل في المجتمع المادي طبقات، في المجتمع الرسالي أو في مجتمع المؤمنين تفاوت يزيد بالتفاعل. ذكرنا أكثر من مرة مثالًا بأننا إذا وضعنا ظرفين، في واحد منهما ماء مالح، وفي واحد منهما ماء حار ثم فتحنا بين هذين الكأسين أو الظرفين بفاصل، ربطنا بين الظرفين. هناك جريان الماء المالح يأخذ من الماء الحار الحرارة، والماء الحار يأخذ من الماء المالح الملوحة. هذا الجريان إذا كان الفرق بين الملوحة هنا والحرارة هناك، كلما كان الفرق أكثر، الجريان أشد. هذا الذي يسمونه السك والتوصيل في الكهرباء. تفاوت السك كلما كان أكثر، التعاطف يصير أشد.
ففي المجتمع المتعاطف، المجتمع الحي، التفاوت يزيد في التماسك، في الوحدة، لا يشكل طبقات متصارعة؛ متعاطفة لأنه هناك تراحم، هناك رسالة، لأنه العمل رسالي. إذا افترضنا أن جميع أنواع البشر كلهم متساوون في جميع الميزات والكفاءات؛ افترض كل الأفراد مثل بعض كلهم، مثل بعض، لن يكون هناك مجتمعًا، لأنه لن يكون هناك تفاعل، لأنه لا يملك أحدهم ما يفقده الآخرون، ولا يفقد أحدهم ما يملكه الآخرون. فكل ما هو موجود. هاتان الكأسان، لو فرضنا، أو الظرفان من الماء، لو كانت درجة الحرارة أو الملوحة في كليهما متساوية، وفتحنا بين الظرفين برابط، هل يحصل هناك جريان؟ لا يحصل. فإذًا، في المجتمع الرسالي الفروق الفردية سبب التفاعل، سبب الجريان، سبب الوحدة، وهذا مفهوم الآية الكريمة: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف، 32]. لا يعني القرآن الكريم في هذه الآية أن هناك تفوق بين الطبقات، ولا يريد القرآن الكريم أن يكرس الخلاف الطبقي كما فهم من هذه الآية بعضهم. بل يقصد أن يقول أن كل بعض، يعني كل فرد له كفاءات. من خلال كفاءاته يساهم في رفع مستوى الآخرين، ويسخّر الآخرين، ويقود الآخرين. اليوم طبيب عندما يقول لك يجب أن تستعمل الدواء الفلاني، وتمتنع عن الأكل الفلاني، وتتخذ النظام الفلاني في حياتك، أنت تطيع. يعني الطبيب في طبه يقودك، وفي نفس الوقت المهندس الذي يطببه الطبيب، والمهندس يرجع يقود الطبيب في هندسته، في بناء بيته. والمحامي الثالث يقودهما في اختصاصه. فكل بعض فوق الآخرين من خلال كفاءاتهم، هذا ما معناه؟ هذا معناه العمل ضمن الاختصاص، وحتى هناك تعبير للآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال، 24]، أو في الآية الأخرى أن الله أقرب إليك: ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق، 16]. الله في المفهوم الإسلامي، الحق، الحق من الله. وكل إنسان في كفاءته حق وأقرب إلى الإنسان: ﴿مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق، 16]. مثال ذلك، الطبيب، أنت تسمح للطبيب بأن يطلع على أسرارك كما لا يطلع عليها أخوك. تسمح للطبيب بأن يكشف عن حرمك عند المرض في إطار اختصاصه ما لا تسمح لأخيك; لأن الطبيب في حقله الطبي حق، وطالما أنه حق: ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق، 16]. هذا مفهوم الحق، مفهوم الكفاءة. يعني الثبات الواقعي في الخارج.
نلخص المجتمع الرسالي، مجتمع حي يحس البعض بوجود بعض. لا صراع، بل سباق. السباق ناتج من التفاوت في الكفاءات، والتفاوت في الكفاءات يؤكد الجريان والتعاطف والتبادل، وبالتالي مجتمع غير متصارع، موحد، حي، غير طبقي.
المجتمع المقترح عندنا في الإسلام ليس فيه طبقية. هذه الخطوة أو الصورة الأكثر تفصيلًا من الصورة الأولى التي تحدثنا عنها. وهناك صورة أكثر تفصيلًا، نتحدث عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله.
غفر الله لنا ولكم.

source
عدد مرات التشغيل : 58