العلمنة بين قمة عرمون والأحزاب

calendar icon 28 أيار 1976 الكاتب:موسى الصدر

حاوره وليد عوض
*إن الأحزاب العقائدية ترمي الى احتكار المكاسب الوطنية متجاهلة آمال الجماهير المؤمنة.
*إننا لا نسمح بالخروج على أهداف المؤمنين - الأكثرية الساحقة من اللبنانيين لأن في هذا تفريقاً للصف الوطني.
*لا نرى رأي الأحزاب في العلمنة ولا نقبل بفرضه علينا وعلى أبنائنا.
*إن محاولة تقزيم لبنان وتفريغه من بعده القومي سبب أساسي من أسباب المحنة.
*لا يستقيم أمر لبنان إلا إذا أصبح دولة مواجهة.


هل صارت قمة عرمون قمتين بسبب العلمانية؟ فالذين كانوا من حضور مهرجان حركة المحرومين في قصر الأونيسكو صباح الأحد الماضي لاحظوا ملامح صراع خفي بين ممثل سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، وبين سماحة الامام موسى الصدر، والرئيس رشيد كرامي، بسبب موضوع العلمانية. ففي حين سماها الامام الصدر بالالحادية، ولم يرَ فارقاً بين "العلمانيين والالحاديين والاسرائيليين"، وتصدى لها الرئيس رشيد كرامي ودعا الى التعلق بالنظام الرباني، أي نظام الأديان، انبرى الشيخ صبحي الصالح لأعداء العلمانية، وقال: "إن ربط هذا النظام الطائفي السياسي بالنظام الرباني أمر منكر. ننكره في وجه كل من يقوله"، ثم دعا الى "غد ايجابي بناء ديموقراطي علمي (بدلاً من علماني)، سليم التخطيط، فيه العلم والايمان"!.
ولم تمر العاصفة بسلام...
ففي صباح الثلاثاء الماضي طلب سماحة الامام الصدر من مدير عام دار الفتوى حسين القوتلي على التليفون أن ينقل احتجاجه الى سماحة المفتي على ما جاء في خطاب الدكتور الصالح راجياً ألا يتمثل المفتي بعد ذلك بمن يتكلم لغة الشيوعيين، خصوصاً وأن محاضر قمة عرمون تشهد بأن هناك اجماعاً بين أعضائها على رفض العلمانية أو العلمنة، وأن الرئيس صائب سلام ما انسحب من قمة عرمون، الا لأن سماحة المفتي قال له: "هل تريد أن تسير في ركاب كمال جنبلاط"؟. فكيف يتمثل المفتي إذاً بمن يخطب سائراً في هذه الركاب؟
هنا كان لا بد من حوار تصادمي نجريه مع الاثنين: سماحة الامام، وممثل سماحة المفتي.
واسأل سماحة الامام أولاً:

*هل كانت الحملة على العلمنة مخططاً لها في قمة عرمون، بعدما كنتم مع الرئيس كرامي صوتاً واحداً ضدها، أم تراها المصادفة وحدها حكمت بإثارة هذا الموضوع في مهرجان الأونيسكو؟
ويرد الامام بهدوئه المعهود، هدوء المستغرق في التأمل:
- الحقيقة هي أن الحملة في المهرجان كانت موجهة الى الذين يريدون احتكار المكاسب المعنوية والاجتماعية والسياسية التي توفرت للصف الوطني نتيجة لجهود موحدة انطلقت من اجتماع دار الفتوى يوم تصدى المجتمعون هناك للحكومة العسكرية، ونتيجة للضحايا التي قدمها هذا الصف من مختلف المناطق والفئات، وأكثريتهم الساحقة كانت منطلقة من مبادئ سامية وقيم وأهداف روحية ومعنوية، حتى إن الأحزاب العقائدية كانت في المناطق الاسلامية تضرب على الوتر الديني فتجند مقاتلين بهذه الوسيلة. وقد أثمرت هذه الجهود فسقط لبنان القديم، لبنان المزرعة، ثم وعلى أبواب وضع أسس للبنان الجديد الرسالي العربي فوجئنا بمحاولات غريبة ترمي الى احتكار هذه المكاسب لفئة معينة من الصف الوطني طرحت شعاراتها تحت عناوين العلمنة والادارة المحلية، وما الى ذلك، متجاهلة آمال الجماهير الشعبية المؤمنة والمتمسكة بقيمها ومبادئها رغم تفانيها في سبيل الوحدة الوطنية وصيانة المقاومة والدفاع عن الوطن.

ثم يستطرد:
وأغرب من ذلك أن هذه الفئة تحاول احتكار نصرة القضية الفلسطينية لأهدافها السياسية مستعملة إعلام المقاومة ورأيها العام في العالم العربي، وفي العالم أجمع، لخدمتها، دون أن تسمح للجماهير بإبداء وجهة نظرها والتمسك بمبادئها التي انطلقت منها في هذه المسيرة. ولعلك خلال رؤية سريعة للاجتماعات التي تنعقد سرعان ما تعرف مدى خطورة هذه المحاولة وهذه الأساليب، فكان الخطاب في مهرجان حركة المحرومين موجهاً الى هؤلاء ناصحاً لهم مؤكداً أننا لا نتنكر لجهودهم، ونرحب بطاقاتهم في خدمة القضايا الوطنية وفي خدمة المقاومة. لكنَّنا لا نسمح بالخروج على أهداف المؤمنين الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من اللبنانيين لأن ذلك يؤدي الى تفريق الصف الوطني الذي هو الضمانة الحقيقية لتحقيق الأهداف، ولبناء لبنان جديد ولصيانة المقاومة، لاسيما مع وجود الهجمة الاستعمارية القاسية، التي يتعرّض لها لبنان والمقاومة.

*لكن تسمية العلمانيين بالإلحاديين في مهرجان الأونيسكو اعتبرت في بعض الأوساط عبارة عن سد يفصل بين الاسلام وبين بعض عناصر الحركة الوطنية، فجعلت هناك وطنيين مؤمنين ووطنيين ملحدين، ثم جعلت الملحدين كالاسرائيليين!!
- قضية العلمنة هي رؤية اجتماعية لأناس نحبهم ونحترمهم ولأحزاب بعضها حلفاؤنا. لكنّنا بكل موضوعية لا نرى رأيهم ولا نقبل بفرضه علينا وعلى أبنائنا المؤمنين. فموقف قمة عرمون من العلمنة واضح. لقد تبنت إلغاء الطائفية السياسية ولم تقبل بالعلمنة.
لكن سماحة الامام توقف قليلاً ليشعل سيجارة ويقول:
يبقى هنا رأي خاص لدى بعض الباحثين في الفقه حول إمكانية إعداد قانون موحد للأحوال الشخصية يعتمد القدر المشترك من المبادئ الاسلامية المسيحية مع ترك الأمر لكل مواطن عن طريق الشروط الواردة ضمن العقد أن يحقق رغباته وأن يلتزم بمبادئه.

*هل من توضيح أكثر؟
- هناك دراسة في هذا المجال أعدها الشيخ محمد مهدي شمس الدين تتسلمونها خلال يومين.

*الآن نعود الى أول السطر والى السؤال عما إذا كانت الحملة على العلمنة مخططاً لها أم مجرد مصادفة؟
- هي في الواقع صرف مصادفة. لأن حديثي في المهرجان كان مكتوباً ويتلخص بأن السبب الأساسي للمحنة اللبنانية هو في محاولة تقزيم لبنان وتفريغه من بعده القومي. ولذلك فلا يستقيم للبنان الأمر في تصورنا الا اذا أصبح دولة مواجهة تتحمل مسؤوليتها القومية بكل إمكاناتها، وكنت أحلل في محاضراتي سبب انهيار الجيش والمؤسسات حيث إنها منعت من ممارسة دورها المعد لها. فبعدما أثار الرئيس كرامي في المهرجان مسألة العلمنة والادارة المحلية وغيرهما، لم يكن من الجائز السكوت عن القضية المطروحة، لاسيما وأن الجماهير المؤمنة من مسلمين ومسيحيين تمارس الضغط في هذا الموضوع وتشعر بقلق على مستقبلها ومستقبل وطنها. إننا لا ولن نريد تفريق الصف الوطني، وابعاد موقف المسلمين والمسيحيين الملتزمين عن الأحزاب والقوى التقدمية، لكننا نرفض أيضاً فصلهم عن الجماهير باحتكار الأهداف وعدم السماح للآخرين بابداء رأيهم وحتى بحرمانهم أبسط حقوق المواطنية، مثل التمتع بالدقيق، والغاز، والأمن، وغير ذلك من القضايا التي تبدو وكأنها محتكرة للأحزاب أو لمن يسير في ركابها.

*لكن موقف ممثل سماحة المفتي كان في المهرجان نقيض موقفكم. كان بالتحديد ما وصفوه بصوت الحركة الوطنية، وأهم مطالب الحركة الوطنية هو العلمنة. وإذا المهرجان صوتان لا صوت واحد.
- لم يكن البحث في العلمنة، كما قلت، موضع تصميم مسبق. ولذلك فقد فوجئ مندوب سماحة المفتي بالموقف. ولقد شاهدت الأستاذ حسين القوتلي مدير دار الفتوى يمرر الى الدكتور الصالح ورقة تحمل عبارة يريد منها ابداء الموقف. لكنها لم تكن كافية ولم تكن واضحة مما جعل جمهور الحضور لا يستوعب المعنى.
كيف يشرح ممثل المفتي الموقف من جانبه؟

*هل كان الدكتور صبحي الصالح يخطب في المهرجان باسم المفتي، أم يلقي خطاباً باسمه الخاص؟
ويجيب الدكتور الصالح:
- هذا الخطاب كان بطبيعة الحال تعبيراً عن آرائي الخاصة في الدرجة الأولى. وكل ما في الأمر أن سماحة مفتي الجمهورية كان قبل يوم واحد من مهرجان حركة المحرومين وإثر عودتنا من مدينة صيدا، قد رغب الي تمثيله والقاء كلمة بالنيابة عن سماحته في المهرجان. ولقد حاولت كثيراً أن أعتذر لأسباب واعتبارات متعددة لا يسعني الآن شرحها. لكن سماحته أصر فقبلت، خصوصاً بعدما طلب إلى الأخ الأستاذ حسين القوتلي مدير عام شؤون الافتاء أن يرافقني. وكان من أسباب عذري أنني أوضحت لسماحته أنني لا أحب كثيراً خطب المناسبات التي يضطر فيها الخطيب الى عبارات المجاملة، وأوضحت بكل صراحة أنه لا بد لي من أن أسجل موقفاً يليق بمن يمثل سماحته بعدما مرت بنا ظروف رهيبة، وجاءت بعض التباشير بقرب انفراج الأزمة، الأمر الذي يحمل أمثالنا على أن تكون لهم مشاركة ما في مصارحة الشعب اللبناني بالحقائق التي ما تنفك تواجهه بجميع فئاته، وكان جواب سماحته عند ذلك بأن أمراً مثل هذا هو في هذه الظروف جد طبيعي.

ثم استطرد الدكتور الصالح: ويخيل اليّ بفضل ما أعرفه في سماحته من تقارب في وجهات النظر بيننا أنه لو سمع كلامي مباشرة بنفسه، أو نقل كاملاً اليه على حقيقته لأعلن موافقته عليه جملة وتفصيلاً!

*لكن قمة عرمون التي يعتبر المفتي قطباً فيها أخذت موقفاً معلناً من العلمنة، هو غير الموقف الذي أعلنتموه في خطابكم...
وأجاب الدكتور صالح:
- إن أعضاء قمة عرمون معروفون بأشخاصهم، كما أن أسباب دعوتهم الى المشاركة فيها باتت معروفة من الجميع. وهذا يعني أنني لست من أعضاء هذه القمة. ولكن الذي بيني وبين سماحة المفتي من المودة الحميمة قد مكنني طبعاً من الوقوف على أهم القضايا التي رغبت شخصياً الى سماحة المفتي في معرفتها، وكان بديهياً أن تكون بينها قضية العلمنة بعدما احتدم بشأنها نقاش أكثره في نظره عقيم. كنت واثقاً في قرارة نفسي بأن قمة عرمون لا بد وأن تعارض العلمانية على النحو الذي بات نفر معين من الناس يدعو اليه، فلم أعرف جديداً على ما أكده لي سماحته أن الخوض في الأحوال الشخصية هو الزاوية الأساسية التي يتحرك فيها الدعاة الى علمنة الدولة جاهلين أو متجاهلين أن أطوارها التاريخية لم تكن تسمح بإقحامها في المجالات الاجتماعية المحضة، مادامت القضايا السياسية المتصلة بسيادة الدولة غامضة في كل ما يتعلق بها. وكان هذا الموقف ولا يزال هو موقفي الصريح الذي أعلنته منذ أول يوم، وربما قبل الجميع، في ندوة اذاعية بثت على مرحلتين من اذاعة صوت لبنان العربي (المرابطون) أبرزت خلالها عدة أشياء، أولها خطأ تعريب هذا المفهوم الفلسفي التاريخي بالعلمانية، توصلاً الى طرحها على الناس في صورة معينة وفي هذا الظرف المعين بالذات. وثانيها وجوب التمهل، بل أكاد أقول التغيير المقصود، بشأن الأحوال الشخصية لكي تكتمل الدراسات حول هذا الموضوع الحساس في بلد تعددت فيه الطوائف كلبنان بصورة تكون مع الوقت أكثر قابلية لتفهم ما نحن بحاجة اليه وما يجب أن نرفض البحث فيه منذ الآن.

ثم قال: وإني منذ بداية الأزمة وبمجرد أن اطلعت على النسخة الأولى المخطوطة خطاً من برنامج الاصلاح المرحلي قبل طباعته على الآلة الكاتبة أعجبني الكثير من مضمونه لأنني الى حد ما وفي كثير من نقاطه اعتبرت نفسي كالمشارك في صياغته، ولم يكن مشتملاً في صيغته الأولى، كما لا أزال أذكر، على أي لفظ صريح أو ضمني حول العلمانية. وإنما كانت جميع الألفاظ واردة بشعارات الديموقراطية، وشعارات الدولة الحديثة المؤسسة على العلم والفكر، فأعلنت في مناسبات عديدة أنني أتبنى معظم ما في هذه البرنامج وزدت على ذلك أن جمهرة المطالب الواردة فيه هي صورة طبق الأصل عن مطالبنا الاسلامية التي لم ننادِ بها قبل الأحداث فقط في ما سمي بالدعوة الى المشاركة، بل أوشك أن أقول إننا تبنيناها وحددناها ورسمنا معالمها قبل وجود شيء اسمه يسار في لبنان، بل كنا ننادي بها من أيام العثمانيين مع اخواننا المسيحيين قبل الثورة الشيوعية. وهذا ما يجعلني أؤكد أن لا قيمة لمعرفتي أو جهلي بقرارات قمة عرمون، لأنَّني بطبيعة الحال أوقر الأشخاص الكرام الذين صدرت عنهم هذه القرارات وان كانت لا تلزمني في شيء. وهذا ليس معناه أنني لم آت ممثلاً عن سماحة المفتي، لأن سماحته يعلم أنه ليس ضيماً أن تكون آرائي مماثلة في كل جزئية لما يتبناه، أو تبناه من احترمهم وأجلهم. واذا كنت على استعداد لتمثيل سماحته كلما طلب اليّ ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أنني ممثله في كل فكر يقوله، وإلا أنه يحلني من كل وعود أتبناها.

*تبقى حكاية الورقة التي مررها اليك مدير عام دار الفتوى بعدما ركز عليها سماحة الامام موسى الصدر.
وكأنه يذيع سراً أجاب:
- يبدو أن صديقنا سماحة الامام لم يطلع على الورقة المذكورة برغم أنها كانت مفتوحة، ورغم أنني كنت بجوار سماحته ليس بيننا أحد. وقد كتب الأخ حسين القوتلي على هذه الورقة عبارة "النظام الرباني" مع علامة استفهام، بمجرد أن سمعها تأتي على لسان الرئيس كرامي وهو يخطب من على المنبر، ويشن حملة عنيفة على دعاة العلمانية. فقد ركز على القول بأن النظام الذي لا يزال يكفل الأحوال الشخصية ولاسيما لجهة الارث والزواج هو نظام رباني. وقد خشيت شخصياً أن يستنتج الناس من هذا الكلام الذي ليس بخطأ فيه من حيث الاساس بأنه دفاع عن النظام الطائفي السياسي البالي الذي هو في رأيي علة العلل في كل ما بلغناه من فساد، فكان ضرورياً أن أوجه ما اعتبره بعض الصحف حملة عنيفة على هذا النظام الذي آن لنا أن نغيره من الزاوية الأساسية في الدرجة الأولى، وكان عليّ أيضاً أن أعتبرته النظام الرباني هو النظام الديني فقط. وأن النظام الطائفي ليس أكثر من نظام شيطاني.

ثم استطرد: وقد فهمت من بادرة الأستاذ القوتلي في ورقته أنه كان يرمي الى مثل هذا التوضيح لئلا يلتبس الأمر على الحاضرين لا أكثر ولا أقل. فإذا صادف أن كانت له فكرة أخرى فأرجو أن تسألوه عنها أو أن يسأله عنها سماحة الامام!

*لاحظنا تغييراً في تسميتك للعلمانية ضمن خطابك في المهرجان. لقد طرحتها باسم "العلمية". فما المقصود بذلك؟
- إنها علمية النظرة الى الحقائق والمعايير التي هي أساس كل تقدم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. ونظراً لما كان يشوب العلمانية في سياقها التاريخي من انتقائية تأخذ من العقلانية والوضعية وحرية الفكر منطلقاً لها، فقد فضلت أن أصدر عن النبع لا عن الروافد "فمن قصد البحر استقل السواقي".

ثم ختم قائلاً: "فليس من المعقول بعد ثلاثين ألف قتيل ومئة ألف جريح أن نصر على ما يشبه التخلف العقلي في تأسيس دولتنا بعد المحنة"!

وهكذا من مهرجان لحركة المحرومين الى صراع في البيت الواحد حول العلمنة.

فأوساط سماحة الامام موسى الصدر لا تزال تسأل عن المسافة بين سماحة المفتي وبين خطاب ممثله في قصر الأونيسكو. بينما تعتبر أوساط المفتي بأن خطاب الدكتور الصالح كان صوت الحركة الوطنية، ونحمد الله على أن المفتي تمثل ولم... يحضر!

source