العطاء الحسيني في واقعة كربلاء

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* محاضرة للإمام الصدر بمناسبة ذكرى عاشوراء في بيروت، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
عظّم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بالحسين (ع)، وجعلنا من الطالبين بثاره والعاملين لتحقيق أهدافه. السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك منّا سلام الله أبدًا ما بقينا وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّا لزيارتك. السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
الإمام الحسين (ع) أعطى الإنسان كثيرًا، قدّم نفسه وقدّم كل ما يملك من أولاد وأرحام وأصدقاء، قدّمهم جميعًا تضحيةً وفداءً للمحافظة على الحق، وما أراد من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا؛ لأن الإنسان الذي يضحي قد يكون في تضحيته مغامرة فيخرج لطلب الحكم أو لطلب السلطان، فيغامر ويقول إما أن أُقتل، وإما أن أنتصر فأعيش حاكمًا أو ملكًا.
هذه التضحية قيمتها أجرها، إذا انتصر الإنسان فيبلغ هدفه، وإذا مات فقد غامر ولا يطلب من أحدٍ شيئًا. الإمام الحسين ما دخل في المعركة على هذا الحساب، لأنه كما سمعنا وكما عرفنا من أول ساعة كان يعرف أنه يدخل في معركة غير متكافئة الأطراف وسوف يُقتل؛ وقد يدخل الإنسان في معركة، فيضحي بنفسه لأجل كسب مجد لعائلته وأبنائه، هذه أيضًا تضحية، ولكنها تضحيةٌ ناقصة، يقدم شيئًا وهو نفسه، ويأخذ شيئًا وهو مجد أبنائه وعز عائلته.
الإمام الحسين ما دخل في المعركة على هذا الأساس، لأنه قدّم جميع من كان معه في كربلاء، قدّمهم ضحايا قبل أن يقدم نفسه، فقد شاهد بعينه قتل أبنائه وإخوته وأحفاده وأصدقائه وآل بيته جميعًا. فإذًا، لمن يريد المجد من بعده؟! لمن اختزن المجد من بعده؟! قدّمهم جميعًا، ربما تقولون أنه كان له علي بن الحسين زين العابدين ما قُتِل، والجواب أن علي بن الحسين كان بمنزلة الميت، فما اشترك بالقتال لأنه ما كان يتمكن من الوقوف على رِجليه. أما الذين تخلّفوا، وما اشتركوا في الحرب فلا يقبلهم الحسين أهلًا، كما يصرح بذلك في وصيته حينما يُحرج جميع أهل بيته فيقول لجميع آل عبد المطلب: من خرج منكم معي يُستشهد، ومن لم يخرج لم يبلغ الفتح.
وهكذا أكد بأنه لا يقصد من تقديم تضحيته أن يوفر لآل بيته أو لعائلته المجد والعز. وثالثًا، قد يقدم الإنسان تضحية حتى يكتسب سمعة وشهرة، الإمام الحسين أيضًا ما دخل على هذا الأساس، لأن هذه التضحية أيضًا تضحية ناقصة، يقدم نفسه ويكتسب حسب تعبير الشاعر العمر الثاني، السمعة. الإمام الحسين ما دخل على هذا الحساب، على المعركة ما دخل بهذا الحساب. لماذا؟ لأنه لو كان يريد شهرة وسمعة، كان يُقتل في المدينة أو في مكة، لكان أفضل، لأنها ملتقى المسلمين، لأنها قبلة المسلمين، لأنه كان موسم الحج في مكة، فكان يُقتل وكان العالم، جميع العالم، يعرف أن الحسين قُتِل واستشهد في سبيل الله. وكان يكتسب المجد على هذا الأساس. فإذًا، الإمام الحسين ما قصد في معركته لا مال، ولا جاه، ولا مجد لأحفاده وآل بيته ولا شهرة وسمعة.
هذا من الناحية الكيفية والمعنوية، أما من الناحية المادية فالتضحيات لها درجات. قد يقدّم الإنسان بعض طاقته أو شيئًا من ماله، وقد يقدّم الإنسان جميع وجوده فيُستشهد، وقد يقدّم مع نفسه جميع أبنائه وأحفاده، وقد يعرّض جميع نسائه للحبس والسبي، وقد يعرّض كل ما يملك -والإمام الحسين دخل على هذا الأساس- يعني ما ترك شيئًا يملكه إلّا وقدّمه في سبيل الله وفي سبيل خدمة الحق والخير. فإذًا، تضحية الإمام الحسين من جهة الكم ومن جهة الكيف لا نظير لها على الإطلاق، وهو كان يحاول أن لا يوفر شيئًا. ذكرتُ في بعض الليالي السابقة، وأنتم سمعتم أنه ما كان هناك أي حاجة لتقديم الضحية الطفل الرضيع، ولكنه أبى إلا أن يقدمه، لماذا؟ لأسباب وأهداف كبرى. كما تعرفون المسرح ما كان يخلو، الميدان ما كان خاليًا من رمي أو سهم أو نبال أو سيف أو هجوم، فمعنى أخذ الطفل وتقبيله وطلب الماء له وتعريض الطفل في الميدان، تعريضٌ له للخطر؛ ولهذا، الحسين أسخى ما يمكن أن يبذله الإنسان في سبيل الله، بذله وقدّمه وأعطاه.
هذا من جهة المعركة، أما من جهة ظروف الأمة فقد سمعتم في الأيام الماضية وفي هذا اليوم الكثير الكثير، الأمة بلغت نهاية التدهور والتدني والانحطاط الخلقي والخضوع للحاكم الظالم والطمع في الموهومات، وكانت تحتاج إلى هزة عنيفة، وقد استعمل هذه الهزة الحسين (ع) بتقديم التضحية. اختار الظروف المناسبة وقدّم أسخى ما يمكن أن يقدم في هذا السبيل، لماذا؟ لله فقط، لا لنفسه، ولا لمجده، ولا لعائلته، ولا لشهرته، لله فقط. ولهذا، نحن نقول: "السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره"، تعالى الله أن يكون له ثأر، الله سبحانه وتعالى ليس له دم، لأنه ليس بجسم، هذا إيماننا، فلماذا نقول الإمام الحسين هو "ثار الله"؟ هذا التعبير تمامًا مثلما نقول أن عليًا هو يد الله. الله ليس له يد، لماذا نقول: علي يد الله وليس لله يد؟ يعني أن يد علي لا تتحرك إلا بإرادة الله، يعني يد علي لا تتحرك بإرادته، برغبته، بشهوته، بميله، بحاجته وإنما تتحرك بإرادة الله، بأمر الله، ولا تتحرك حسب نهي الله. فإذًا، لو كان لله يد، وليس لله يد طبعًا، لو كان لله يد، لكانت تعمل كما تعمل يد علي؛ ولهذا نقول: علي يد الله. ولنفس السبب نسمي الحسين ثار الله، لماذا نسميه ثار الله؟ لأنه لو كان لله ولد لكان يُقتل في ما قُتِل فيه الحسين (ع). لو كان لله جماعة، لو كان لله أزلام، لو كان لله أنصار، لو كان لله أرحام، لو كان يدخل الله بنفسه في المعركة كان يدخل حينما دخل فيها الحسين (ع).
معركة لله أبدًا، لا يشوبها شائبة ولا يدخل فيها أمر غير الله أبدًا؛ ولهذا نقول: "السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره". فإذًا، المعركة الحسينية معركة بلغت النهاية كمًا وكيفًا وغايةً وظرفًا وجميع شؤونها وشجونها. ولهذا، التعبير الذي ورد عن الإمام الحسن والذي نُقِل عن رسول الله (ص): "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"، هذا هو معناه أنه ما بلغ يوم في العالم مقام هذا اليوم يوم عاشوراء، يوم ما أعطى الحسين (ع) الدهر والزمان والمكان والحق في كل جانب من جوانبه، وفي كل أمة من الأمم قدّم أسخى ما يمكن أن يقدمه إنسان، وقد قدّم. ولهذا، فإذا تعبنا، فإذا مللنا، فإذا شعرنا بشيء من التعب فلا نشكو من ذلك، خاصة ونحن نجتمع نفكر أننا نكرّم الحسين باجتماعنا، غاية شريفة. نحن في كل سنة إكرامًا للحسين نجتمع، هذا شيء صحيح، ولكن هل يا ترى نحن في اجتماعاتنا هل نقدم شيئًا للحسين أو نأخذ شيئًا من الحسين؟ أنا أعتقد نحن نجتمع فنأخذ من الحسين شيئًا من جديد، لأننا في مدرسة الحسين (ع)، وفي مدرسة عاشوراء، وفي مدرسة كربلاء نجتمع فنستمع إلى مواعظ ودروس، ونستمع إلى ما يثير عواطفنا، ويحرك دماءنا وينير الدرب لنا من جديد. فنحن في كل اجتماع نجتمع لأجل الحسين نأخذ شيئًا جديدًا ولا نعطي الحسين شيئًا. الحسين لا يريد منّا شيئًا، الله سبحانه وتعالى أغناه عن أجر الناس وأجرة الناس، نحن نجتمع حتى نأخذ من جديد. ولهذا، فبإمكاننا أن نقول أن الحسين أعطى بتضحيته الكبرى لهذه الأمة وللإنسانية جمعاء، أعطى لا التضحية المثيرة المحركة فحسب، بل أعطى حتى بذكرياتها الخالدة عبر التاريخ لهذه الأمة الشيء الكثير.
من الذي عنده الرصيد الحسيني أيها الإخوة؟ انتبهوا بعض الشيء إلى وضعنا، من دعاكم لهذا الاجتماع؟ من بعث إليكم ببطاقة دعوة وهيأ لكم وسيلة السير حتى تأتون إلى هذا المكان؟ من قدّم لكم سيجارة أو شربة ماء، أو يقدم لكم أكلة في هذه الحفلة؟ أبدًا! جئتم من عند أنفسكم فاجتمعتم هذا الاجتماع الحاشد، أليس هذا رصيد كبير لهذه الأمة يتمكن أن يحل بها مشاكلها؟ ويتداول بها أمورها؟ فيبحث ويناقش ويستفيد ويستعين باللقاءات، ويجتمع ويستفيد من الاجتماعات؟
ثم أن هذا الاجتماع ليس الاجتماع الوحيد عندنا، ففي كل بلد اجتماع، وفي كل قطر حشود، وفي كل منطقة ذكريات، وفي كل يوم من هذه الأيام ذكريات كثيرة تمتد من أقصى العالم إلى أقصاه. كما قلتُ لكم أنا شاهدت احتفالات واسعة كبيرة في السنغال، أقصى أفريقيا الغربية، شاهدت احتفالات الحسين في هامبورغ أقصى نقاط أوروبا الشرقية. وعرفت، واستلمت بطاقات تُبين احتفالات مشابهة في أقطار العالم كلها: في أندونيسيا، في اليابان، في أميركا حتى. فإذًا، هذه الاحتفالات العفوية الدورية الحاشدة التي تجعل الغائب عن الاحتفال يشعر بنفس... الآن بالفعل نحن، الشخص منّا إذا ما اشترك في حفلة عاشوراء، يشعر بشيء من النقص، بشيء من الفراغ، يريد أن يجتمع أينما ما كان، يريد أن يجتمع ويستمع، هذا رصيد كبير ليس مثله رصيد.
نجتمع، لماذا؟ وراء الاجتماع ما وراء الاجتماع من الأهداف والنتائج إذا كان قادة الاجتماع في مستوى اجتماعاتهم، أما إذا كانوا فاشلين، لا يتمكنون أن يستفيدوا من الرصيد، فالحق عليهم، ليس الحق على الشعب ولا الحق على الحسين (س). هذا أصل الاجتماع، ثم روحية المجتمعين ما شاهدتُ ولا يشاهد أحد نفسية المجتمعين كما يُشاهد في الاحتفالات الحسينية.
بعض السنوات الماضية جرّبنا، بدأنا الاحتفالات من الساعات المبكرة، فتكلم الخطباء والأدباء وقرأنا بعض المصرع، ثم انتهت الساعة العاشرة حفلتنا، وقرأنا الزيارة وقلنا بلسان الحال أنه انتهى الاجتماع هيا (فِلّوا)... الناس رأيناهم جالسين لا يمشون مع أنه ثلاث ساعات أربع ساعات في الحر، في الضيق لا يوجد أي تقديم ومع ذلك الاستعداد والإقبال النفسي موجودان. فإذًا، كيفية الاجتماعات ونفسية المجتمعين أيضًا في الاحتفالات الحسينية تبلغ القمة. وأكثر من هذا، من الطبيعي في هذه الاجتماعات الحاشدة ومع هذه النفسيات الطيبة المقبلة، من الطبيعي أن تُقرأ سيرة الحسين ومصرع الحسين واستشهاد الحسين. وهنا نصل إلى هذه النقطة المدهشة العطاء الحسيني في واقعة كربلاء حينما يُعرض، فبإمكانك أن ترى في كل سطر من سطوره درسًا وعبرة وفائدة. ولهذا، نحن نشكر الله ونسلم على الحسين (س) الذي مهّد لنا وأعطانا هذا الرصيد الكبير من الذكريات.
أيها الإخوة الأعزاء،
مقابل هذه النعمة، ومقابل هذا الرصيد إذا ما استفدنا من هذا الرصيد فعلينا الوزر المضاعف كما تعلمون لأن الإنسان إذا لا يملك وسيلة العلاج، ومات عن مرض فليس عليه العتب. لكن إذا كان يملك وسيلة العلاج وما عالج نفسه ثم مات، فهذا مسكين، هذا محروم. العطشان الذي يموت في الصحراء لا عتب عليه، ولكن العطشان الذي يأتي إلى الماء فينظر إلى الماء ولا يشرب ويموت من العطش، فهذا أحمق، فهذا لا نسميه إنسانًا. نفس الشيء بالنسبة للرصيد الحسيني والمدرسة الحسينية، هذا الرصيد الضخم، هذه الاجتماعات الحاشدة، هذه النوعية الموجودة في المجتمعين، وهذا المحتوى والدروس الثمينة التي بالإمكان تقييمها وإلقائها للناس، إذا ما استفدنا منها فنحن تمامًا مثل العطشان الذي يموت قرب الماء.
ماذا نستفيد من هذه الاجتماعات؟ حسب الزمن يختلف نوع الاستفادة أيها الإخوان. في ظرف من الظروف حينما كنا مضطهدين وتحت ضغط، وكان الهدف عقيدتنا وتديننا ومذهبنا، كنا نحتفل هذه الاحتفالات لأجل إثارة العواطف وإكثار الحزن والبكاء والتولي والتبري وتغذية روح أولادنا بولاء آل البيت وكره أعدائهم، كنا نغذي ذلك من خلال التاريخ حتى لا نذوب، لأن العدو المسلح بالحكم والسلاح ووسائل الإعلام وكل شيء، كان بكل اهتمام يريد إذابتنا وإفنائنا كمعتقدين بالحسين. فكنا نرد على هذه المؤامرة وهذه المحاولة بإحياء هذه الذكريات وبإثارة العواطف وبالبكاء وبالنحيب وببيان التبري من أعداء الحسين وأمثال ذلك. ولكن في هذا التاريخ وفي هذا الوقت حينما نشعر بحرية لإقامة هذه المجالس، هل منعكم أحد من حضوركم في هذا المجلس؟ بالعكس، الوسائل الرسمية وغير الرسمية موفورة لكم للمشاركة في هذه المجالس بسهولة وبلطف.
فإذًا، إذا نريد أيضًا أن نستفيد من المجالس كما كنا نستفيد سابقًا، فهذا يسمى في مصطلح علم الاجتماع "تنفيس". نحن عندنا مشاكل على الصعيد العام وعلى الصعيد الخاص، إذا بدأنا نبكي على هذه المشاكل، وما قمنا بعمل إيجابي جديّ ضد هذه المشاكل... فقط بكينا، البكاء يُشفي حقدنا وغليلنا وغضبتنا، فنترك ولا نعمل شيئًا أبدًا، ونترك المشاكل تنمو وتزدهر وتكبر من دون العلاج. الاكتفاء بالحزن والبكاء في هذا الوقت لا يجوز خلاف هدف الحسين.
كان يقول أحدهم -أحد العلماء- كان يقول للحسين ثلاثة أنواع من الأعداء:
النوع الأول: هم الذين قتلوه، فهؤلاء أقل خطرًا، لأنهم قتلوا جسمًا محدودًا.
النوع الثاني من الأعداء: هم الذين حاولوا محو آثاره، فهدموا قبره، ومنعوا زوّاره، وعذبوا مجاوري قبره، هؤلاء خطرين أكثر من العدو الأول، ولكنهم ما تمكنوا أن يعملوا شيئا.
النوع الثالث من أعداء الحسين: هم الأخطر وهم الذين حاولوا تشويه أهداف الحسين، وتزييف أبعاد الثورة الحسينية، وصدها إلى تجارة أو إلى مكاسب رخيصة أو إلى استغلالات شخصية، هؤلاء حاولوا القضاء على البعد الحسيني الأرفع، على الهدف من الحركة الحسينية.
فنحن في هذا العصر أيها الإخوة المؤمنون أصبحنا واعين يجب أن ندرك أبعاد عملنا ونغتنم نتائج رصيدنا الحسيني الكبير. إذا اكتفينا بالحضور وبالبكاء، معنى ذلك أنه سلينا أنفسنا، وعزيّنا قلوبنا، وارتحنا قليلًا، وتركنا المشاكل فوق المشاكل تنمو وتزدهر ولا نستفيد من هذه المجالس شيئًا، يعني شوَّهنا الحسين، يعني أخذنا من إطار هذه المجالس وهذا الرصيد الكبير، أخذنا منه محتواه، وما تركناه يتفاعل في نفوسنا.
أيها الإخوة،
الرصيد الحسيني في التاريخ قام بدور كبير، حفظ مذهبنا، حفظ ولاءنا، حفظ تعاليمنا، وزّع التعاليم إلى أقطار العالم، كان مدرسة في التثقيف الديني في كل منطقة من مناطق العالم حينما لم يكن هناك من وسيلة إعلام. ولكن اليوم ماذا تعمل المجالس الحسينية في نفوسنا؟ نحن أجساد هذا المجلس وتركيبات هذه الحشود، هذه الحشود تتكون مني ومنك، ماذا نستفيد من هذه المجالس؟ نبكي، أن نبكي... مضبوط. ولكن أن نبكي مقدمة، يجب أن نستفيد من هذه المجالس. أنا أوجه السؤال لنفسي وإليكم، ماذا كسبنا من يوم عاشوراء؟ ومن العاشر من محرم؟ ماذا استفدنا؟ ماذا استفدنا على الصعيد العام؟ وماذا استفدنا على الصعيد الخاص؟ إذا ما استفدنا وبكينا، أنا أخبركم بأنه لا ينفع.
نحن من أي فئة أيها الإخوان؟ نحن من الذين نبكي ونقتل الحسين؟ إن شاء الله، لا. بيننا إن شاء الله (ما موجود). لكن تريدون أن أشرح من الذي يبكي ويقتل الحسين؟ الذي يبكي ويقتل الحسين... الحسين الآن غير موجود حتى يقتله طبعًا، هناك شيء أعز من الحسين، بأيدينا [...] الحسين، كرامة أمة الحسين، مقدسات الحسين. فإذا نحن بكينا، وحاولنا إضعاف أهداف الحسين، إذا بكينا وكنا مع الباطل، إذا بكينا وشهدنا شهادة الزور، إذا بكينا وساعدنا عدوّنا، إذا بكينا وأكثرنا من الخلاف والشقاق في مجتمعنا، إذا بكينا وزدنا من المعاصي، في الحقيقة نحن نبكي على الحسين ونقضي على الحسين في نفس الوقت لأنه نحاول أن نقضي على هدف الحسين الذي هو أشرف من الحسين.
إن شاء الله نحن لسنا من هذه الفئة، من فئة عبيد الله بن الحر الجعفي، كيف نحن؟ أظن فينا بعض الناس من جماعة عبيد الله بن الحر الجعفي، كثير منّا من هذه الفئة. في المعركة، في المعركة الحسينية التي هي ممتدة من الأزل وإلى الأبد، وما الحسين إلا أحد قادتها. في هذه المعركة، نحن واقفون ونبكي على الحسين طبعًا، ولكن ليس لنا همة الجِدّ، نحن بطبيعتنا مجاملين، ليس لدينا خُلق القسوة والشدة، نجامل الفاسد، الفاسق، المنحرف، ونكتفي بمساعدة مالية. أذكر أوضح مصادرها ثم نأتي بالتدريج: أمامنا مشكلة فلسطين، أمامنا العدو الصهيوني خطر على الجميع، ولا أحد منّا يشك في أن هذا الخطر قائم وجاثم عليه وعلى أولاده. أظن لا عاقل على الإطلاق يشك في أن الصهيونية خطر على فلسطين وعلى ما حول فلسطين، لا يشك أحد. ماذا نعمل؟ نحزن، نبكي، نتأثر... وقسم منّا أيضًا يساعد مساعدة مالية. إذا كانت المساعدة المالية التي نقدمها للفدائيين أو للمجهود الحربي وأمثال ذلك، إذا كانت هذه المساعدات لأجل التخلي عن الواجبات الشخصية، فنحن من جماعة عبيد الله بن حر الجعفي. أنت تساعد، وأنا أساعد ولي كل الشرف بذلك، ولكن هذا لا يعني بأني قدمت واجباتي المباشرة؛ أنا عليّ إذًا واجبات، أنا إذًا سوف أدخل المعركة. لا تقبل المعركة الهزل والمجاملات والمسايرات، لا تقبل. يجب أن تدخل برأسك في المعركة أنت وأولادك، وأنا وأولادنا ونساؤنا، كلنا. القضية ليست قضية هزل، ما مرت علينا في التاريخ أخطار مثل هذه الأخطار باللسان، بالحكي، حتى بدفع المال، ما أدينا واجبنا.
يجب أن نخوض غمار المعركة، يجب أن نستعد لمواجهة المعارك العظيمة، المعارك التي لا تنتهي إلا بتجنيد جميع قوانا وكل طاقاتنا. ندفع ونؤيد وفي نفس الوقت نستعد لمعركتنا الكبرى، نستعد، كيف نستعد؟ نتدرب. أنت متدرب! أنت إذا سمعت طلقة رصاص ما موقفك؟ أنت إذا وجدت يومًا ما العدو أمام بيتك ما موقفك؟ تقدر تدافع! أنت تقدر تدافع، نساؤك كيف؟ بناتك كيف؟ أولادك كيف؟ مستعدون لمواجهة المعركة؟ أو نريد أن نتخلص من كل هذه الحقائق المرة بإعطاء مال؟ هذا لا يكفي يا أخي. يجب أن نستعد، يجب أن نتهيأ، نتدرب نفسيًا بالسلاح، بالعقل، بوضع المجتمع، برصّ الصفوف، بالتقارب بين الناس، بالتعاون مع كل الطاقات التي تشتغل في سبيل هذه المعركة، يعني نشعر بأن الهدف الأول في حياتنا هو هذه المعركة، والباقي يأتي بعد ذلك.
نحن علينا أن نعيش كما يقول أحدهم، نحن علينا أن نعيش مجتمع حرب. مفهوم ما يعني مجتمع حرب؟ نحن نعيش اليوم مجتمع رخاء، مجتمع سلام، مجتمع وكأننا لا عدو لنا، ولا خطر علينا... سهراتنا مستمرة، لبسنا وضعه كما كان، حياتنا العادية كما هي... أبدًا! فإذًا، إذا صار دورنا... ماذا نصنع؟ ماذا نعمل؟ هذا هو معنى التهرب عن الجِدّ وعن الواقع. لا نريد، أو قسم منّا لا يريد أن يواجه المعركة بعمقها وحقيقتها. يريد أن يغطي على عينه وعلى رأسه حتى لا يرى، حتى لا ينتبه. نحن علينا أن نساعد المقاومة بكل ما عندنا من الإمكانات المادية والإمكانات الأدبية. ولكن، هذه ليست كل واجباتنا، هذا جزء من واجبنا. وبعد ذلك يأتي دورنا نحن، نحن أيضًا يجب أن نتهيأ، كل فرد مني (ورايح) كبير وصغير، الرجل والمرأة، علينا أن نستعد ونتهيأ. نتهيأ بالسلاح، نتهيأ بالإيمان، نتهيأ بالوعي التام لما يجري حولنا حتى لا نؤخذ على حين غفلة، ولا نُغدر بكلمات وكلمات من هنا وهنا، يجب أن نكون واعين لمصيرنا، لمعركتنا ونستعد. يجب أن نساعد جميع الطاقات التي تشتغل وتسعى، ولكن كل هذا أو المساعدات التي تساعد الذين يخوضون المعركة أو المرابطين على الحدود... كل هذا ليس معناه أنه نحن ليس علينا واجب. إلى أين (رايحين)؟ نفتل ونبرم حتى نقول نحن غير مسؤولين.
لا، أنا أقول لكم بإسم الحسين أنت مسؤول مباشرة، يعني أنت مباشرة عليك أن تسعى وتستعد لحمل السلاح، وأنا السيد موسى عليّ واجب أن أستعد مباشرةً لحمل السلاح في هذه المعركة، إلى أين (رايحين)؟ يعني يجب أن نفتل ونقول إن شاء الله (ما في شي)، إن شاء الله (ما في شي)، إن شاء الله يدبروا... الآن تشتغل الجيوش، الآن يشتغل الفدائيون؛ نعم، يشتغلون، لكن أنت ماذا؟ كل سنة نقول نبدأ.
أيها الإخوان،
لا أطلب منك دفعة واحدة أن تقفز من هذا الجانب رأسًا إلى الجانب الآخر. لا، بالتدرج وبالتهيؤ. اليوم أنت تريد أن تنصر الحسين، لماذا؟ لأنك اليوم ترى بعينك، بعين قلبك، الحسين (ع) قُتِل جميع أهل بيته، وقُتِل جميع أصحابه، ونساؤه معرضات للأسر، هو واقف وحده في الميدان، وينادي: هل من ناصر ينصرني؟ هل من ذابّ يذب عن حرم رسول الله؟ تسمع اليوم، سمعتَ الآن، أليس كذلك؟
لا أنظم شعرًا، ولا أقول كلمةً أدبية، الحسين واقف وحده في الميدان اليوم، أليس الحق المتمثل بالحسين اليوم غريب في العالم؟ أليس الدين المتمثل في الحسين غريب في العالم؟ أليس الدين غريب في بيوت أهله اليوم في العالم؟ فإذًا، علينا أن ننصره ولو ببارودة صغيرة، ولو برصاصة صغيرة. كيف يعني؟ ولو بأملٍ واحد، بكلمةٍ واحدة، بموقف واحد وقت الذي تخرج من النادي أيها الشاب الصغير الموجود عندي إلى أكبر الشباب يجب أن تفكر كيف تريد أن تنصر الحسين؟ كيف تريد أن تقوي صف الحسين؟ كيف تريد أن تحقق أهداف الحسين؟ هذا المطلوب منك.
فإذًا، في هذه المدرسة نسأل الله أن نكون من الذين نبكي على الحسين (ع) ونؤيده. ولا شك أن بركته التي هي بركة الله سوف تؤيدنا وتساعدنا على الوصول إلى هذه الأهداف. الحسين الذي يفتح باب المعركة ويسنّ سنّة الإباء والفداء والاستشهاد، يحاول أن يحدد الطريق، فيطبق قوله تعالى: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى﴾ [المائدة، 8] حتى في وقت الغضب كن عادلا. الحسين (ع) في يومه العظيم علّمنا كيف أن المسايرات والمجاملات وترك النهي عن المنكر، وترك الأمر بالمعروف، والوقوف أمام الباطل يؤدي إلى ما أدى إليه من المأساة، [كلها] أبرزت ذلك؛ ولهذا، سُمِيَ بمصباح الهدى وسفينة النجاة.
أيها الإخوة الأعزاء،
نحن بلغنا تقريبًا آخر حفلتنا، ونريد أن نتفرق من هذا المجلس الحسيني، ولكني متخوف وأراكم متخوفين أننا نترك المجلس ولا نستفيد من هذا اليوم شيئًا. فنحن نتوسل إلى الله سبحانه وتعالى ببركة الحسين وبدم الحسين ونستشفعه عند الله سبحانه وتعالى على أن يلهمنا الله الهمة لنصرة الحسين في أنفسنا وفي أمورنا.
أيها الإخوة، لا أريد أن أقترح عليكم، كما أقول في كل سنة شيئًا معينًا، فكلكم راع وكل مسؤول عن رعيته. كل واحد منكم من الصغير والكبير أخبر بمصيبته ومشكلته؟ ما هو ذنبه؟ ومعصيته؟ ما هو نقصه في طاعته لله؟ ما هو نقصه الخلقي؟ ونقصه الفكري؟ ونقصه العقلي؟ كل واحد منا يعرف ما مصيبتنا، وبإمكاننا نحن أن نختار... لأجل الحسين، وإكرامًا للحسين، نختار عملًا واحدًا، معصيةً واحدةً نتركها، أو صلاةً نصليها، أو حجًا نحجه، أو صيامًا نصومه، أو خلافًا أو حقدًا أو معصيةً نتركه ونزيله من قلوبنا... عملٌ واحد. هل وافقتم على ذلك؟ دليل الموافقة أننا الآن نقرأ الزيارة ونتوجه إلى الحسين (ع) ونجدد بيعتنا مع الحسين، وإن شاء الله نكون من أنصاره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

source
عدد مرات التشغيل : 149