الدور الزينبي -2-

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
وبعد، حسب بعض الآثار التاريخية، والموجودة في "المَقَاتل" التي تبحث في واقعة كربلاء وآثارها ومقدماتها يظهر منها أن آل البيت، آل بيت الحسين (سلام الله عليه)، وآل بيت رسول الله، دخلوا الشام في أول شهر صفر، يعني بعد مرور عشرين يومًا من تاريخ استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام). والسبب في ذلك، وفي مرورهم على البلاد المتعددة، أنه في سابق الزمن ما كانت [هناك] الوسائل الكافية السريعة لمرور القوافل في الصحراء. كانوا يخافون من الصحراء باعتبار عدم وجود الماء ووسائل الحياة، ومحل راحة الراكب والمركوب، فكانوا يحاولون أن يعبروا البلاد العامرة.
هذه البلاد، وإن كان الخط الذي مروا به عليها غير واضح وغير مسجل في التواريخ، لأن من كانوا مع الأسرى ومع الرؤوس الطاهرة كانوا يحاولون أن يمروا في خطوط لعلها تختلف عن الخطوط الاعتيادية في السير لأسباب سياسية وللمحافظة، وللخوف من الانقلابات والمشاكل التي تطرأ في الطريق، ولهذا كانوا يمرون على البلاد الكبرى.
هذه البلاد، يظهر مرور آل البيت ومرور الرؤوس الطاهرة عليها بما بقي فيها من الآثار والعلائم على أن آل البيت مروا على هذه النقاط. هذه الآثار هي المشاهد التي بنيت باسم مشهد رأس الحسين (عليه السلام)، في كثير من البلاد بُنِيَتْ مشاهد. هذه المشاهد، لا شك أن رأس الحسين ما دُفِنَ فيها، ولكن وُضِعَ فيها أو حُفِظَ فيها أكثر من ساعات، أو وقعت قطرات من دم الحسين (عليه السلام) في تلك الأماكن ثم احترموها وبنوا عليها مشاهد بل مساجد، لأن هناك حديثًا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما بُنِيَ مسجد إلا على قبر نبي أو وصي أو شهيد استُشْهِد فأصابت تلك البقعة قطرة من دمه فأبى الله إلا أن يُبنى فيها مساجد.
هذا التعليل أو شبهه، أدى إلى بناء مشاهد باسم رأس الحسين (عليه السلام) في كثير من البلاد. هذه المشاهد كآثار تدل على خط عبور آل البيت في رحلتهم من الكوفة إلى الشام. هذه الرحلة التي أخذت حوالي عشرين يومًا أو أقل من الوقت.
في بعض البلاد مثل عسقلان، مثل حماه، مثل حمص... هناك أماكن باسم رأس الحسين (سلام الله عليه)، حتى في حلب، [هناك] مشهد باسم "مشهد النقطة" لا يزال موجودًا، هذا المشهد هو بناء كبير ضخم من أضخم المساجد، هُدِم في أيام الأتراك حينما وضعوا فيه أسلحة ومهمات وعتادًا، ثم احترق العتاد فانهدم المسجد. ثم أخيرًا بدأوا بتجديد عمرانه بالشكل القديم بأمر من المرجع السيد الحكيم (حفظه الله)، وبالتبرع منه وبعض المؤمنين. هذه المساجد وضعت ثم عُمِّرت بشكل كبير في أيام الحمدانيين الذين كانوا في هذه المناطق، وكانوا يوالون آل البيت موالاة كبيرة.
فإذًا، نحن بإمكاننا أن نتصور أن الرؤوس الطاهرة والأسرى مروا بهم على طريق العواصم. وحسب الخط الجغرافي، من المحتمل جدًا أنهم مروا على بعلبك أيضًا. وخلاصة الكلام، أن هؤلاء مروا على كبريات المدن التي كانت واقعة بين الكوفة وبين الشام على طريق الساحل.
هذا الخط التقريبي يؤكد لنا مع بعض الآثار والتواريخ التي تقول إنهم دخلوا في الرملة مثلًا، أو في عسقلان، وكان الناس متهيئين لاستقبالهم وللفرح بورود الأسرى وأمثال ذلك، مما يدل على أن آل البيت مروا على هذه النقاط الكبرى: العواصم والمدن الكبرى التي كانت في وقتها في فلسطين وفي لبنان وفي سورية.
في هذه المدن التي كانوا يمرون بآل البيت، ما من شك أن الأمر، كحادثة عامة، انتصار للخليفة: رؤوس مقطوعة، سبايا، أسرى، جيش... كل هذه المسائل تلفت النظر. حتمًا، أنتم تعلمون أنه عندما يمر جيش من الجيوش في بلد، أهل البلد يطلعون ليتفرجوا، فكيف إذا كان يخصهم، يعني يكون شيئًا لخليفتهم أو لبلادهم. نتمكن أن نتصور أنه من الكوفة إلى الشام، في هذه البلاد الكبيرة وفي كل بلد دخلوا فيه وأدخلوا الرؤوس الطاهرة وآل البيت، كانوا يقابلون باحتفال من الناس ومهرجانات وتقابل مع الجماهير في هذه المدن المتعددة. وما من شك أن في كل بلد هذه المسائل [حصلت]، لا لزوم أن تكون في "الَمَقاتل" حتى نفهم ونقدر [أن] نستنبط من روحية الناس والوضع العام.
ما من شك أنهم في كل بلد كانوا يدخلونه، كان [هناك] حكام من قبل الخليفة وكانوا يحتفلون ويبتهجون بالانتصار فكانوا يُقابلون بالناس. والناس عندهم روح الفضول بطبيعة الحال ويريدون أن يفهموا ما الأمر؟ وما هي القصة؟ من هؤلاء؟ لماذا قُطِعت الرؤوس؟ لماذا أتوا بالسبايا؟ من هؤلاء؟ خوارج، غير خوارج ويستقبلون الناس... وسرعان ما يكون في البلاد الإسلامية في وقتها من يتعرف على هؤلاء؛ يعني بسرعة يتمكنوا أن يفهموا، حتى إذا ما عرفوهم... بلا شك أن هناك طفلًا، هناك صغيرًا، هناك كبيرًا، هناك شيخًا... يدنو من أحدهم فيسألهم من أنتم، من أي الأسرى أنتم؟
هذه العبارة واردة في "المَقَاتل": من أي الأسارى أنتم؟ أنتم من الزنوج؟ أو من الديلم؟ أو من التتر؟ أو من بلاد الكفر؟ من أي الأسارى؟
لأن طبيعة العالم الإسلامي في وقتها كانوا يعتبرون الخوارج هم الكفار الذين يخرجون على الدين، ويخرجون على الإمام، وينحرفون؛ فكانوا يسألون هذا السؤال وهو وارد في أكثر من موضع: من أي الأسارى أنتم؟
ولا شك أن أهل البيت (سلام الله عليهم)، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا كانوا يعرفون كيف يجيبون على هذا السؤال، فكانوا يقولون: نحن من أسارى آل محمد. كيف هذا!؟ من أسارى آل محمد؟! وهل آل محمد يؤسرون ويُسَبون؟ فحينئذ كانوا يشرحون القصة. هذه القصة كانت تنعكس على المستمعين، فيلتفون ويستمعون أكثر. وهنا يجب أن يأتي دور الحديث أو الخطاب، فإما عليّ بن الحسين زين العابدين (سلام الله عليه) يتكلم، أو زينب تتكلم، أو أم كلثوم تتكلم. أحدهم كان يتكلم ويشرح للناس ماذا جرى. ولهذا نجد في كتاب "المَقَاتل" عشرات من الخطب والكلمات ملقاة ومسجلة. أين أُلقيت؟ في الكوفة وفي الشام هذا مبيَّن، [أما] في سائر المدن غير مبيَّن، إما لعدم وجود الرواة، أو لأنهم ما تذكروا هذه الخطبة أين أُلقيت.
فالحاصل أن هذه القافلة خرجت من الكوفة ووصلت إلى الشام وعبرت المدن الكبرى في الطريق، وفي كل مدينة كان يجري الاستقبال والتساؤل والجواب والالتفاف، والخطبة والتعرف والندم والبكاء والحركات الثورية وأمثال ذلك. بطبيعة الحال كانت تحصل هذه المسائل في كل رحلة، وفي كل مرحلة من هذه المراحل.
هنا يتبين تمامًا ما ذكرت في الأسبوع الماضي، وفي احتفالات عاشوراء، أن دور النساء من آل البيت، زينب وأخواتها (عليهن السلام)، يتبين تمامًا [في] ما عملن. كما قلت، كانت النية متجهة إلى أن يقتلوا الإمام الحسين، ويقتلوا جميع الرجال ويخفوهم في الصحراء، ويندمل بالرمال مكان دمائهم وأجسادهم، ولا يعرف أحد ما حدث وما لم يحدث. ولكن، كما يقول الإمام الحسين: إن الله شاء أن يراهنَّ سبايا.
لماذا شاء أن يراهنَّ سبايا؟ حتى يقمن بهذا الدور، حتى يؤدين هذا الدور، حتى يكشفن النقاب عن هذه الواقعة الغريبة في تاريخ الإسلام، حتى يكشفن النقاب عنها أمام كل العالم. ولهذا بدأوا من الكوفة ومروا بالمدن الرئيسية الكبرى، ووصلوا إلى الشام، ثم انتقلوا إلى المدينة وانتقلت زينب (سلام الله عليها) إلى مصر. وفي كل بلد كانوا يتحدثون عما جرى، ويحكمون على تصرف بني أمية، ويزيد بالذات، بمخالفته للدين والشرع والإنسانية والشرف.
وهكذا مهدت زينب (سلام الله عليها) وبتوجيه منها لبقية النساء، مهدن العالم الإسلامي كله أمام الوضع الحقيقي والنوايا الحقيقية لبني أمية، فعرف الناس من هم حكامهم، وما هي قيمة هؤلاء الحكام في منطق الإسلام.
والإنسان، إذا نظر ودرس هذه الخطب العجيبة التي تُلقى في كل مكان، فإنه بلا تردد وبلا شعور، ينحني أمام هذه العظمة بالتواضع والتقدير والإكبار.
تقف زينب في أي مكان من دون أن تشعر بالمصيبة أو المصائب، ومن دون أن يظهر عليها تعب الطريق ومشقة الطريق، ومن دون أن يظهر عليها الأسر ومشكلة السبي، ومن دون أن تخاف من الجيش المراقب، وحتى من حكامهم وكبارهم وصغارهم، من دون الاعتناء بكل هذه المسائل النفسية والمسائل الجسدية لأنه بالفعل سفر عشرين يومًا أو ثلاثين يومًا أو أربعين يومًا في الصحراء على الجمال، وبالشكل المعهود ينهك الجسم ويتلف القوى. ومع ذلك نحن نجد أن زينب (سلام الله عليها) في كل خطبة كأنها جالسة في البيت، وراء المكتب، تبتكر وتدرس وتراقب كل كلمة تلقيها. فلا تجد في جميع هذه الخطب لا كلمة بكاء، ولا الويل ولا الثبور، ولا كلمة خارجة عن الاعتدال أبدًا. كل خطبة تبدأ بالحمد لله والشكر له والثناء لله والحمد والمدح والصلاة على رسول الله وعلى آل بيته، بكل منطق وبكل هدوء، ثم تبدأ زينب (سلام الله عليها)، في كل خطبة بشرح القصة بشكل موجز ومثير، وتحرِّك الناس وتجعلهم يندبون ويتوبون ويتأثرون مما جرى.
أما زينب (سلام الله عليها) في مجلس يزيد، فقد بلغت القمة في الحديث. كما سمعتم مرات، في خطبتها التي ألقتها في مجلس يزيد، أمام الملك الطاغية المنتصر المغرور تقف ولا تبالي. خاصة في تعبير بالنسبة إلى دخول زينب (سلام الله عليها)، إلى مجلس يزيد، أنها دخلت وعليها أرذل ثيابها. هذا التعبير تمامًا يكشف عن وضعها الروحي ووضعها الجسمي، وأنه زيادة على كل المصائب، هناك مشكلة اللباس الخَلِق.
اليوم حينما يواجه الإنسان شخصًا، أو يواجه عدوًا، أو يواجه ناسًا ولباسه ليس مرتبًا [فإنه] يشعر بنوع من الاحتقار أو نوع من الذل أو نوع من الضعف. وأما هؤلاء فبالرغم من كل هذا يعني أن جميع وسائل الضعف، كانت موجودة عند زينب، وجميع وسائل القوة كانت موجودة عند يزيد. الأسباب المادية، ما عدا سبب واحد، هذا هو السبب الرئيسي في قوة زينب وفي ضعف يزيد، السبب إيمان زينب بالله وعدم إيمان يزيد بالله، وشعور زينب بأنها منسجمة مع نفسها تقوم بالجهاد، تدافع عن سبيل الله، تؤدي الواجب، ويزيد على العكس تمامًا.
ولهذا، بالرغم من كل هذه الأسباب، عندما نقيس كلمات زينب وكلمات يزيد، نجد أن زينب في أعلى عليين تتكلم مع شخص في أسفل السافلين، بكل أدب وبكل قوة وبكل حزم. في خطبتها فقرات، الحقيقة الإنسان يندهش لها، وليس للإنسان إلا أن يحترم ويكرم ويقف متواضعًا أمام هذه القوة.
بعد الحمد والصلاة والتذكير بآيات الله وفلسفة الموقف، زينب تقف تفلسف المعركة أنه كيف حدثت؟ كيف يقبل الله بأن الحسين يُقتل ويزيد ينتصر؟ كيف يقبل الله؟ تشرح وتفلسف بآية واحدة: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران، 178]. انتصارك انتصار مؤقت، انتصار حتى تنكشف أمام الناس. أعطاك الله المجال وأملى لك، وأعطاك فرصة حتى تبين ما في قلبك، ما في نيتك، حتى لا يكون لك عذر ولا للناس حجة، ولا لأحد بحث على ما يقوم به الله من عذابك ومن خزيك في الدنيا وفي الآخرة.
تفلسف الموضوع بهذه الكلمات، وخلال الأحاديث تتحدث أحاديث غريبة... في الأثناء تقول هذه الكلمة العجيبة: ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، يعني أن مخاطبتك ليست شيئًا طبيعيًا بالنسبة لي، وإنما الدواهي والمصائب الكبرى تجعلني أتحدث معك، ولئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، ويفرض عليَّ المُصاب أن أقف أمامك، وأتحدث معك لكن هذا لا يمنع أبدًا من شعوري النفسي، فلئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستحقر قدرك وأستكبر تقريعك وأستكثر توبيخك.
ومع ذلك أنا أتكلم معك لكن أعتبرك لستَ أهلًا للكلام ولستَ أهلًا للمخاطبة؛ وأكثر من هذا، لستَ أهلًا للتوبيخ والتقريع. الإنسان يؤنِّب ويوبِّخ ويؤدّب الشخص الذي يكون قابلًا للتوبيخ، أما أنت فلست قابلًا للتوبيخ: وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأولياء ونبت لحمه من دماء الشهداء؛ أنت يُرجى منك الخير؟ أنت الذي عملت. هذا واقعك، هذه طبيعتك. أنت ابن هند التي نبت لحمها من دم الشهداء، ولفظ فوها أكباد الأولياء.
فإذًا، بالرغم من كل هذه العوامل، نجد أن زينب كبيرة كبيرة أمام يزيد. وهكذا يريد الإسلام نساءً من هذا النوع، الإسلام لا يريد نساءً .[...]

source
عدد مرات التشغيل : 33