*يجب التمييز بين الحضارة كتجارب ومكتسبات بشرية وبين الأسس التي قامت الحضارة عليها.
*الاسلام يبني حضارته على أسس أخلاقية ولا يغفل الجانب المادي.
*العلاقات البشرية في الاسلام قائمة على أساس الكمال البشري.
*يريد المستعمر للإسلام أن يبقى في إطار الايمان التجريدي لا أن يدخل في المجال الحياتي.
أيها المشاهدون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله أوقاتكم. بدعوة من حضرة صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني قام سماحة الامام موسى الصدر بزيارة للمملكة إطلع خلالها على معالم النهضة والتطور الذي تعيشه بلادنا بقيادة باني نهضة بلادنا الفيصل المفدى. كما قام سماحته بأداء مناسك العمرة خلال هذه الزيارة ويسرنا اليوم أن نلتقي بسماحته لنتحدث معه قليلاً:
في البداية نرحب بسماحة الامام موسى الصدر ونقول أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في بلدكم الثاني المملكة العربية السعودية، وبالتالي نقدم الشكر لكم لقبولكم دعوة البرنامج لتسجيل هذا اللقاء مع سماحتكم.
*في البداية لعل السؤال الاول الذي يتبادر إلى الذهن هو أن نسأل عن الانطباعات التي خرجتم بها سماحتكم من خلال زيارتكم للمملكة العربية السعودية؟
- أيضا عليَّ أن اقدم الشكر لهذه المقابلة الكريمة التي تسهّل لي مهمة الاتصال بإخواني في هذا البلد الكريم، مهبط الوحي، كما تسهل لي مهمة الشكر العميق لتسهيل هذه الزيارة من قبل سمو الامير عبدالله حفظه الله، وشكري لتمكني بالتشرف بمقابلة جلالة الملك.
أما بالنسبة للانطباعات، الحقيقة، الانطباعات عادة يُسأل عنها من غاب عن بلدٍ ثم حضر، نحن بإمكاننا أن نقول إننا لا نغيب أبداً عن هذا البلد، إلى جانب تشرفنا بالحج وبالعمرة والزيارات المتكررة، كل يوم خمس مرات نحضر بقلوبنا وبأفئدتنا إلى هذا البلد الكريم.
والحقيقة إن ما يشاهده الإنسان في المملكة من التطور السريع يلفت النظر وبصورة خاصة أمران أساسيان في المملكة:
الأمر الأول: سرعة التطور. فالانسان كاد أن لا يميز المكان الذي زاره قبل سنة في جميع أنحاء المملكة، في مكة المكرمة، في عرفات ومنى، في الطائف، في جده، في الرياض. ومن النواحي الانمائية والاجتماعية والصناعية سرعة التطور تفوق الحد المتعارف عليه في البلاد وفي المناطق الاخرى.
والأمر الثاني: الوسيلة التي تستعمل لمثل هذا التطور وهي الأهم الوسيلة الاصيلة. يعني المملكة لا تحاول المحاكاة كما هي (...) المعروفة في بلادنا الشرقية التي غُزيت فكرياً والغرب أعطانا أساليبه ومقاييسه، ونحن نستعمل في أكثر البلاد الشرقية العربية والاسلامية مع الأسف نفس الوسائل أو نسخة عن الوسائل التي تُستعمل في الغرب، بينما في المملكة في كل شيء يظهر أن العمل على أساس استعمال الوسائل الاصيلة، الوسائل المنسجمة مع هذه الارض ومع هذا التراث سيما ان التراث هو أشرف تراث ترك للانسان المتحضر.
ولا غرابة في هذا التأصل الناجح في مجال وحدة المملكة، في مجال إشاعة الامن والسلام. وكلنا يعرف أن الاحكام الاسلامية هي التي أمنت هذا الامن الشائع في البلاد الواسعة المنتشرة والتي مرت على فترة فقر وفترة قاسية، يعني عدم التعدي والاعتداء لم يكن لأن ابناء المملكة أغنياء ولكن سلامة الاساليب وصحة الوسائل كانت السبب في إشاعة الامن في البلاد.
ثم تطوير المؤسسات، بناء دولة حديثة متفاعلة مع القاعدة الشعبية،.
أيضا مع المرحلة الاخيرة لاحظنا أسلوب المملكة في مواجهة العدو الاسرائيلي حول الحروب والاعتداءات، حول الضغط على المؤسسات العالمية التي تدعم إسرائيل وغير ذلك.
حتى بإمكاننا أن نقول إن المملكة تقود اليوم حركة تحدٍ للحضارة الغربية المادية التي فشلت في تأمين الحياة المرفهة والانسانية لأبنائها وتفتش عن تبرير فشلها. تريد الحضارة المادية أن تقول إن سبب الغلاء والتضخم أسعار البترول مع العلم أن هذا التضخم بدأ قبل أسعار البترول.
إذن الاصالة والسرعة تظهران وتلفتان نظر كل من يزور المملكة، ولا غرابة في استعمال الوسائل الاصيلة لأن الله سبحانه وتعالى عندما اختار هذا البلد الامين لرسالته إنما اختاره لما يعلم من صلابة التمسك ووفاء الامانة.
فعندما نحن نلاحظ القرآن الكريم نشاهد أن سبب الوحي ذكر في سورتي "الفيل" "وإيلاف" [قريش] نحن نعرف أن سنة ولادة الرسول الاكرم (ص) كانت عام الفيل أي عندما أراد المستعمر، في ذلك الوقت كان المستعمر الحبشة وحاكمه في اليمن، أراد إستعمار مكة، فجاءت الارادة الالهية بإرسال الطير وبضرب الفيل وأصحاب الفيل وهلاكهم. وهذا أدى إلى صيانة هذا البلد الامين من الاستعمار الذي من طبيعته إذلال الناس واحتقار الناس وخلق الناس "المايعين" الضائعين، ولذلك عندما نضم سورة "الفيل" إلى سورة "إيلاف"، وهما من منطلق الفقهاء سورة واحدة، نجد أن الله سبحانه وتعالى صان هذا البلد الامين من الاستعمار كما انه من الاساس جُعل أول بيت وضع للناس في مكة.
إذن مكاناً وزماناً حفظ هذه المنطقة من الاستعمار وبالتالي هيأ الشعب هنا لتحمل مسؤولية الرسالة الالهية، لاشك أنه وجد الرسول (ص) فيهم بعض الصعوبات ولكن بعد أن أسلموا حفظوا الامانة، وهذا يعني أن هذه المملكة إلى جانب الاتجاه الروحي لها أيضا مسؤولية حضارية إسلامية كبرى تؤديها.
*سماحة الامام كما تفضلتم في حديثكم ان الكثير ممن بهرتهم الحضارة الغربية رغم ان الدين الاسلامي هو الدين الصالح لكل زمان ومكان فكيف نستطيع ان نشرح لهؤلاء بأنه لابد لهم من العودة إلى الدين الاسلامي الصحيح ويجدون فيه كل الاشياء وكل الوسائل التي يمكن لهم الحصول عليها من تطور وتقدم وهو في صالحهم وهذا الدين وضع لكل زمان ومكان؟
- الحضارة الغربية، علينا أن نميز بالفعل بين الحضارة كمكتسبات بشرية إنسانية يعتز بها، كتجارب إنسانية جديدة، وبين الاسس التي وُضعت الحضارة عليها.
نحن نعرف أن الحضارة الغربية ورد فعلها التي هي الحضارة الشرقية، الشيوعية، هذه الحضارة المادية بُنيت في أعقاب وفي أواخر القرون الوسطى عندما عانى بعض العلماء والمفكرين الكثير من الجهات الدينية في اوروبا. فقالوا لكي نتحرر من رواسب الماضي ومن تقديس آراء افلاطون وأرسطو العلمية، قالوا فلنتحرر من هذه الوسائل وبنوا حضارتهم على الاساس المادي، لأن القاعدة هي مادية وهي الربح وهي المنفعة.
فالمكاسب البشرية والانتاج الكبير الذي قدمة الانسان في اطار هذه الحضارة كان على أساس مادي، وبالتالي خلق للانسانية مساوىء ومصاعب ومآسٍ: الاستعمار، الحروب، الاستثمار، التمييز العنصري، القلق الدائم وها هم يعيشون مشكلة التضخم والغلاء الفاحش المتزايد يوما بعد يوم.
لا بد من ان العالم اليوم يدرك أكثر من ذي قبل أن وضع الحضارة، أي حضارة، على أساس مادي، يعني عدم وجود ضوابط لتحديد سلوك الانسان في مختلف المجالات.
ولذلك نجد أن الحضارة الغربية في اي اتجاه طغت، في حقل الارباح، في حقل الحروب، في حقل الجنس، في حقل الغلاء، لانه لا توجد ضوابط تحدد نمو الحضارة بشكل غير منسجم مع بقية الحاجات البشرية.
إذن أنا أعتقد اليوم أن هذه الحضارة المادية حكمت على نفسها بالفشل. الاسلام يضع حضارته على أساس حقيقي معنوي أخلاقي ويتبنى النمو البشري المادي أيضا في هذا الاطار، ولذلك التجربة الاسلامية الحضارية كانت تجربة ناجحة إلى القرن الرابع، التقدم في العلم، التقدم في الثقافة، التقدم في العمران، تسهيل المهمات الحضارية ورفاه العيش، أمّنها الاسلام جميعاً رغم أن الاسلام لم يستعمر يوماً وما اضطهد شعباً يوماً ولا حكَّم عنصراً على عنصر. صحيح أن الاسلام حرّر مناطق كثيرة، ولكن دائماً كان يعتمد على أساس أن الناس من خلال أحكام الله هم الذين يحكمون، إذن الحضارة الاسلامية تعتمد على أسس إنسانية.
فإذن الاساس يجب أن يتصحح، والتجارب الحضارية الحديثة يستفاد منها كأي مكاسب بشرية اخرى، نحن يجب أن لا يكون عندنا عقدة ضد اي إنتاج بشري، ولكن الأساس خاطىء، وإذا صححنا الاساس يعني آمنا بالمجتمع الذي يقترحه الاسلام.
المجتمع الاسلامي ليس مجتمعاً فردياً أو ما يسمى Individualist ولا مجتمعاً جماعياً أو ما يسمى بمجتمع "سوسياليست"، إنما المجتمع الاسلامي مجتمع الانسان، ذي بعدين، الفردي والاجتماعي، يعني على أساس حقيقة الانسان. ثم العلاقات البشرية بعضها مع بعض تعتمد على أساس الكمال البشري، يعني عندما يقدم الانسان خدمة يقدم ككمال ولا يقدم كعمل مقابل أجر لأن العطاء في المجتمع المادي تجارة، كل من يعطي حتى يأخذ، هذا معناه تجميد الانسان وتنزيل نفسيته وروحيته، بينما المجتمع الاسلامي، الانسان يعطي لأنه يعبد الله، خلال ذلك يعني يكتمل.
إذن العطاء عطاء سامٍ، عطاء متكامل الضوابط تحول دون طغيان الانسان في مختلف هذه المجتمعات وطبعا الدولة لا بد من مراقبتها للشواذ، لكن الاساس القاعدة يجب ان تتصحح.
إذن نحن لكي نوضح لشبابنا المتعطشين للتطور، ومن حقهم أن يتعطشوا إلى التطور، أن نوضح الاسس التي تبنى الحضارة عليها، وهذه النقطة بالاضافة إلى التجربة الاسلامية التي حصلت في القرون الاربعة الاولى اعتقد أنه أوضح دليل على نجاح الحضارة الاسلامية.
*سماحة الامام ألا تعتقدون أن دعوة التضامن الاسلامي تقف سداً منيعاً ضد التيارات الهدامة وما هي نظرتكم إلى دعوة التضامن الاسلامي وإلى ما وصلت إليه في هذه المرحلة حتى الآن؟
- بدون شك ان تضامن المسلمين والتضامن الاسلامي صيانة للرسالة الاسلامية، لأن الرسالة الاسلامية ليست رسالة مجردة تنمو بمعزل عن الانسان. الفكر الاسلامي يُضمن من قبل الانسان المسلم، والانسان المسلم كما قلنا في رأي الاسلام إنسان ذو بعدين: بعد فردي أي الحرية وعدم تحوله إلى آلة، والبعد الجماعي يعني ليس هو إله ايضاً يتصرف كما يشاء.
إذن المجتمع الاسلامي ضمانة لسلامة الانسان المسلم، والانسان المسلم ضمانة لسلامة الفكر الاسلامي، من هنا نجد ان الرسول الاكرم (ص) في بداية الاسلام وضع أسساً ثابتة للتضامن الاسلامي ضمن ثلاث مواد، عندما يقول "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم". إذن التساوي بين المسلمين يعني عدم التصنيف.
ثانيا: احترام العهد والذمة، يعني كل إنسان يحترم مسؤولية الانسان الآخر، مسؤوليته الجماعية ومسؤوليته الفردية، مسؤوليته العائلية ومسؤوليته الوطنية، التزاماته ضمن عهود وعقود، والتزاماته الذاتية، والتضامن ضد العدو، ضد الخطر الذي يتحدث عنه القرآن الكريم: اليهود والذين أشركوا، وكل معتدٍ طبعاً على الاسلام.
إذن التضامن الاسلامي ضمانة للفكر الاسلامي لإعطاء الصورة الصحيحة عن الاسلام، هذا الشعب الكبير جداً، هذه الامة الواسعة بما لها من الانتاج، وبما لها من العطاء، وبما لها من الثروات، عندما تلتقي وترفع الحواجز وتمنع التصنيف وتمنع التشكيك وتمنع التعصب والانكماش، ستصبح بحرا كبيرا متضامناً متفاعلاً وتشكل قوة كبرى لإبراز الاسلام بالشكل الصحيح، ولحل مشاكل هذه الامة من أقصاها إلى أقصاها، وللانسانية جمعاء، لأن الفكر الإسلامي رحمة للعالمين، وليس مجرد خدمة للمسلمين فحسب، وبرزت بالفعل هذه الصورة عن التضامن الاسلامي مؤخراً إنفتاح المسلمين لا سيما في مؤتمر "لاهور" تبين أن المسلمين مهتمون بالعالم الثالث، يعني العالم المستعمَر، العالم المضطهَد، العالم الذي دفع ثمن طغيان الكبار.
إذن الاسلام برز من خلال هذه الفترة من التضامن الاسلامي في مؤتمر لاهور وقبله وبعده كقوة انسانية لخدمة المستضعفين حسب تعبير القرآن، لأن المستضعفين هو التعبير القرآني عن المستَعْمَر والمستَثْمَر وهكذا.
أعتقد أن التضامن الإسلامي في هذا الوقت بالفعل دخل دوراً جدياً وعملياً، وأوضح للعالم الاسلامي ولغير المسلمين مدى انفتاحه وضرورته وصيانته للفكر الاسلامي.
*سماحة الامام.. ذكرتم كلمة التشكيك وما من شك ان الكثير من الحاقدين على الاسلام يشككون في الاسلام وفي الدعوة الاسلامية وذلك بما يكتبون وينشرون، ما هو الواجب على العلماء للرد على هؤلاء ولتوضيح فكرة أو توضيح الدين الاسلامي على حقيقته؟
- أتصور أن أي فكرة، أي رسالة دائما تتعرض للتشكيك وللصعوبات، وكلما زاد التشكيك والصعوبات يجب أن يتأكد الانسان من نجاح الدعوة أكثر، نحن نشاهد انه في أول الدعوة الاسلامية الاتهام بالسحر والجنون والمطامع إلى جانب الاضطهاد الجسمي والمقاطعة، هذه الامور التي لاقاها الرسول (ص) في بداية الدعوة.
اذن في اي فترة الاسلام يريد أن يتحرك، أو أي فكرة في خدمة الناس تريد أن تتحرك تواجه صعوبات، وأعتقد أن هذه الصعوبات تساعد الرسالة لأنها ترسخ وتخلق تياراً، وتعميق التفهم والوعي، لا يجب أبداً أن نشكو من الصعوبات التي نواجهها في اي دعوة.
أضف إلى ذلك أن الصورة التي أعطيت عن الاسلام في فترة من الزمن مع الاسف لم تكن صورة صادقة، الاسلام في فترة من الزمن برز كقوة روحية مجردة غير مهتمة بالشؤون العامة والحياتية للناس، فكان الناس يرون مسلمين في منتهى الصلاح والتقوى يصلون ويصومون ويحجون ويبتهلون إلى الله ولكن جارهم جائع، يُظلم الناس أمامهم فيسكتون، هذه الاهتمامات الاسلامية الاولى التي يؤكد عليها الاسلام ولا يميز أبداً بين الايمان بالله والاهتمام بشؤون الناس "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".
﴿ارايت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين﴾ [الماعون،1 - 3].
وفي عشرات من الآيات القرآنية والروايات النبوية الشريفة وسلوك الائمة والصحابة بارز أن الاسلام يهتم بالناس إلى جانب الاهتمام بالايمان بالله.
إذن الاسلام في وقت من الاوقات ظهر من خلال سلوك المسلمين كروحيات، كإيمان مجرد، هذه الصورة إستفاد منها العدو فكرّس الاسلام الذي لا يحل ولا يربط، لا يضر المستعمر ولا يمنع العدو إطلاقاً، العدو أصبح يتمسك بالاسلام بهذا المفهوم، يريد للاسلام أن يبقى في إطار المساجد، في إطار الايمان التجريدي، في إطار العبادة، وعندما وجد أن الاسلام بدأ يدخل في المجال الحياتي طبعاً اندهش وبدأ يتهجم، وبعض المسلمين مع الاسف الذين تعودوا أن يروا في الاسلام علاقة مع الله فقط، وفتشوا في شؤون حياتهم عن محاكاة الآخرين شرقية كانت أم غربية فوجئوا أيضا بدخول الاسلام الحياة المعاصرة، ولذلك تعرضت الدعوة لكثير من الصعوبات، وفي الحقيقة الصعوبات من خير الدعوة وطبيعي، وأرجو أن تكون النتائج لهذه الدعوة تفوق هذه الخسائر والصعوبات.
*سماحة الامام هذا يدعوني لأسبق الزمن لأنه في عام 1395 هـ بعد أشهر بالتحديد سيعقد مؤتمر في مدينة الرياض دعت إليه جامعة الرياض، وهذا المؤتمر سوف يبحث في العلم والتكنولوجيا، طبعاً هذا يدعونا لأن نسأل سماحتكم عن تطلعكم ومدى النتائج التي يمكن أن يتمخض عنها هذا المؤتمر خاصة وهو المؤتمر الأول للتضامن الاسلامي؟
- بدون شك أنا أتمنى من كل قلبي وأدعو لنجاح هذه المحاولة الشريفة وأتمنى على المؤتمر هذا أن يفتش في الدرجة الأولى ويكشف أولاً عن الاسس الحضارية المعاصرة التي سيجدها في التجربة الاسلامية في القرن الرابع، لأننا إذا كشفنا المكاسب الحضارية والثقافية الاسلامية في القرون الاربعة الاولى، أولاً: أعدنا الثقة إلى نفوس شبابنا المتطلعين إلى العلم والثقافة وأكدنا لهم بأنه نحن لسنا أميين، لسنا أناس عالة على الحضارة نشحذ العلم والثقافة، أصلاء في الانتاج، وهذا له تأثير كبير في نفوس شبابنا الذين نطلب منهم التحرك نحو العلم والتكنولوجيا.
ثم عندما نلمس الخطوط الاولية للحضارة نكتشف الانحرافات التي حصلت في الغرب، لأن الحضارة الاسلامية كانت ميزتها أنه عندما يعرفون شيئاً ويكتشفون شيئاً، يكتشفون مكانه أيضا في الوجود، وهذا يعني عدم الطغيان، يعني كل شيء من اكتشافات لجغرافية العالم، للبوصلة لانعطاف النور، لمختلف العلوم التي اكتشفوها، اكتشفوها في إطار الرؤية الشاملة للوجود، وكذلك ما طغى أحدهم وما ألّه أحدهم نفسه، ما انغش أحدهم باكتشافه، وهذه الصيانة صيانة للانسانية ورسالة للمسلمين.
فالتماس نقاط البداية في هذه الحضارة وهي في المكتشفات الاسلامية الاولى أهم إنتاج هذا المؤتمر، بالاضافة إلى تشجيع العالم الاسلامي والمواهب الهائلة المعجزة التي تتوفر داخل هذه الامة والتي في الوقت الحاضر يستفيد منها الغرب والشرق على حد سواء، تبني هؤلاء وتوفير الوسائل اللازمة لهم لأن يعملوا ولأن يكونوا على طريقة الاولين في العطاء الحضاري والثقافي إن شاء الله.
*سماحة الامام بصفتكم من الاعضاء البارزين في مركز البحوث الاسلامية، مجمع البحوث الاسلامية ولقرب إنعقاد المؤتمر هل لنا أن نعرف ما هي البحوث التي سوف تتقدمون بها في هذا المؤتمر؟
- الحقيقة ان مجمع البحوث الاسلامية كما تعرفون جزء من الازهر الشريف ويدعو كل سنة إلى المؤتمر ومن حسن حظي اني أتشرف في كل سنة بهذا المؤتمر الذي يضم كثيراً من العلماء المسلمين في أقطار العالم.
الحقيقة حتى الآن العلماء الذين يحضرون المؤتمر هم الفقهاء وبعض العلماء المطلعين على شؤون الاقتصاد، ولكن يتغلب عليهم طابع الشريعة.
ولذلك الابحاث التي طرحت حتى الآن غالباً هي الابحاث الفقهية، أضف إلى ذلك الاهتمام بالمصائب الاسلامية الكبرى مثل إبتلاء الأمة بإسرائيل.
في السنة الماضية طُرح موضوع الربا ونحن نعرف أن ما يعانيه الناس والمسلمون من شيوع الربا ومن تأسيس البنوك وممارستها للربا بحكم طبيعتها، هذه مسألة حياتية مهمة للمسلمين، فكانت محاولات لإعطاء آراء حول بعض حلول استعملتها بعض الدول الاسلامية من اوراق الاستثمار وغيرها، بعض حلول بديلة قُدمت وكانت أبحاث قيمة ولكن لم تصل إلى نتيجة، على الاغلب في المؤتمر القادم هناك بحث بالفعل عن البديل عن الربا، نحن بحاجة إلى تنمية، نحن بحاجة إلى تحريك رؤوس الاموال المجمدة، وهذه الاموال تخشى "الريسك" مثلما يقولون وتعريض اموالهم للخطر، ولذلك لابد من ضمانة هذه الاموال وتحريكها والتأكيد من سلامة التصرف فيها، فلا بد من وجود مؤسسة بديلة عن البنوك أو إعطاء صورة صحيحة عن البنوك وحلٌ لهذه المشكلة،
بالاضافة إلى ذلك أعتقد أن المسلمين دائماً في هذه المرحلة، يعني في مرحلة اليقظة والتطلع والتوجه نحو الاصالة، دائما عندهم عشرات بل مئات من المسائل للبحث، كيف يحلون المشكلات المعاصرة بالنسبة للاقتصاد، بالنسبة إلى تحديد الاسعار، بالنسبة إلى التعامل بين الشعوب الاسلامية الذين هم امة واحدة، ومع ذلك نتيجة لتجزئة البلاد وكونها بلاد مختلفة حصل انواع من التعامل الجديد بينهم، حول المسائل الجمركية، حول مختلف الشؤون، كما حصلت المشاكل أيضا حول الثروات المنتشرة في العالم الاسلامي ومدى واجب المسلم أو مدى واجب المجتمع المسلم في أي بلد بالنسبة للمناطق والبلاد الاخرى.
إذن هناك أبحاث كثيرة ومطروحة على صعيد البحث والمؤتمرات غالباً لا تقيد الباحث، تذكر عدة امثلة ثم تترك المجال للباحث ان يقدم أي بحث جديد ولا أحاول أن أستبق الأمور أرجو أن أتمكن من المساهمة بتواضع في هذا المؤتمر إن شاء الله.
*ها تعتقد سماحتك ان بنك التنمية الاسلامي الذي عقد مؤخرا في جدة وكانت له النتائج القيمة هو السبيل او الطريق الاول للتغلب على المشكلة التي ذكرتموها بخصوص الاموال بالنسبة للمسلمين والربا؟
- الحقيقة ان هذا من مفاخر فكرة التضامن قضية بنك التنمية، لأن بنك التنمية لا يعني إطلاقاً اعتماد الربا في الاقراض، إنما بنك يعني مساهمة الميسورين المسلمين في توظيف اموالهم في المناطق المتخلفة، ووجود المناطق المتخلفة أنا أعتقد مشكلة كبرى للعالم الاسلامي، مثلا أنا أعرف انه وراء محنة"الفيليبين" كلها أن المناطق التي يعيش فيها المسلمون هي المناطق التي تشكل المناطق الخصبة في الفيليبين، ولكن عدم تمكن المسلمين من استثمار هذه الاراضي فتح شهية الآخرين وخلق لهم مشكلة، وانه لو كانت الاموال موفورة في توظيفها في تنمية المناطق تلك ربما كانت المحنة تخف إلى حد كبير وهذه المشكلة أيضاً قائمة في مختلف المناطق.
اذاً بنك التنمية بالفعل يدعو الانسان المسلم إلى الأمل الكبير، انه يتمكن من تنمية المناطق، وتوظيف رؤوس الاموال، في إبراز المواهب وفي إبراز الامكانات واستثمار الاموال وإستثمار الثروات الهائلة المتوفرة لدى العالم الاسلامي. دون شك هذا البنك أنا متفائل به جداً وأتمنى تنميته وتوسعته وتصعيد شؤونه.
*في الواقع سماحة الامام حديث شيق وكان بودنا أن نطيل ونأخذ من سماحتكم الشيء الكثير ليسعد المشاهدون بما لديكم، لايسعنا ونحن في ختام هذا اللقاء إلا أن نشكركم ونكرر الشكر لقبولكم دعوة البرنامج لتسهيل هذا اللقاء مع سماحتكم.
- أنا أيضا بدوري أشكركم على أن وفرتم لي هذه الفرصة الطيبة، وأتمنى لهذه المملكة، ولجلالة الملك، ولإخوانه الذين يعيشون بين الناس كعائلة ويسعون في سبيل رفع مستوى هذا البلد، ولشعب هذه المملكة الذي عليه أن لا ينسى أبداً انه أمين على رسالة الله، ليس في أيام الرسول فحسب، بل دائماً، والمؤسسات ومن جملتها مؤسسة الاعلام والتلفزيون أتمنى لهم النجاح والتوفيق وإعادة اللقاءات.
*الاسلام يبني حضارته على أسس أخلاقية ولا يغفل الجانب المادي.
*العلاقات البشرية في الاسلام قائمة على أساس الكمال البشري.
*يريد المستعمر للإسلام أن يبقى في إطار الايمان التجريدي لا أن يدخل في المجال الحياتي.
أيها المشاهدون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسعد الله أوقاتكم. بدعوة من حضرة صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني قام سماحة الامام موسى الصدر بزيارة للمملكة إطلع خلالها على معالم النهضة والتطور الذي تعيشه بلادنا بقيادة باني نهضة بلادنا الفيصل المفدى. كما قام سماحته بأداء مناسك العمرة خلال هذه الزيارة ويسرنا اليوم أن نلتقي بسماحته لنتحدث معه قليلاً:
في البداية نرحب بسماحة الامام موسى الصدر ونقول أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم في بلدكم الثاني المملكة العربية السعودية، وبالتالي نقدم الشكر لكم لقبولكم دعوة البرنامج لتسجيل هذا اللقاء مع سماحتكم.
*في البداية لعل السؤال الاول الذي يتبادر إلى الذهن هو أن نسأل عن الانطباعات التي خرجتم بها سماحتكم من خلال زيارتكم للمملكة العربية السعودية؟
- أيضا عليَّ أن اقدم الشكر لهذه المقابلة الكريمة التي تسهّل لي مهمة الاتصال بإخواني في هذا البلد الكريم، مهبط الوحي، كما تسهل لي مهمة الشكر العميق لتسهيل هذه الزيارة من قبل سمو الامير عبدالله حفظه الله، وشكري لتمكني بالتشرف بمقابلة جلالة الملك.
أما بالنسبة للانطباعات، الحقيقة، الانطباعات عادة يُسأل عنها من غاب عن بلدٍ ثم حضر، نحن بإمكاننا أن نقول إننا لا نغيب أبداً عن هذا البلد، إلى جانب تشرفنا بالحج وبالعمرة والزيارات المتكررة، كل يوم خمس مرات نحضر بقلوبنا وبأفئدتنا إلى هذا البلد الكريم.
والحقيقة إن ما يشاهده الإنسان في المملكة من التطور السريع يلفت النظر وبصورة خاصة أمران أساسيان في المملكة:
الأمر الأول: سرعة التطور. فالانسان كاد أن لا يميز المكان الذي زاره قبل سنة في جميع أنحاء المملكة، في مكة المكرمة، في عرفات ومنى، في الطائف، في جده، في الرياض. ومن النواحي الانمائية والاجتماعية والصناعية سرعة التطور تفوق الحد المتعارف عليه في البلاد وفي المناطق الاخرى.
والأمر الثاني: الوسيلة التي تستعمل لمثل هذا التطور وهي الأهم الوسيلة الاصيلة. يعني المملكة لا تحاول المحاكاة كما هي (...) المعروفة في بلادنا الشرقية التي غُزيت فكرياً والغرب أعطانا أساليبه ومقاييسه، ونحن نستعمل في أكثر البلاد الشرقية العربية والاسلامية مع الأسف نفس الوسائل أو نسخة عن الوسائل التي تُستعمل في الغرب، بينما في المملكة في كل شيء يظهر أن العمل على أساس استعمال الوسائل الاصيلة، الوسائل المنسجمة مع هذه الارض ومع هذا التراث سيما ان التراث هو أشرف تراث ترك للانسان المتحضر.
ولا غرابة في هذا التأصل الناجح في مجال وحدة المملكة، في مجال إشاعة الامن والسلام. وكلنا يعرف أن الاحكام الاسلامية هي التي أمنت هذا الامن الشائع في البلاد الواسعة المنتشرة والتي مرت على فترة فقر وفترة قاسية، يعني عدم التعدي والاعتداء لم يكن لأن ابناء المملكة أغنياء ولكن سلامة الاساليب وصحة الوسائل كانت السبب في إشاعة الامن في البلاد.
ثم تطوير المؤسسات، بناء دولة حديثة متفاعلة مع القاعدة الشعبية،.
أيضا مع المرحلة الاخيرة لاحظنا أسلوب المملكة في مواجهة العدو الاسرائيلي حول الحروب والاعتداءات، حول الضغط على المؤسسات العالمية التي تدعم إسرائيل وغير ذلك.
حتى بإمكاننا أن نقول إن المملكة تقود اليوم حركة تحدٍ للحضارة الغربية المادية التي فشلت في تأمين الحياة المرفهة والانسانية لأبنائها وتفتش عن تبرير فشلها. تريد الحضارة المادية أن تقول إن سبب الغلاء والتضخم أسعار البترول مع العلم أن هذا التضخم بدأ قبل أسعار البترول.
إذن الاصالة والسرعة تظهران وتلفتان نظر كل من يزور المملكة، ولا غرابة في استعمال الوسائل الاصيلة لأن الله سبحانه وتعالى عندما اختار هذا البلد الامين لرسالته إنما اختاره لما يعلم من صلابة التمسك ووفاء الامانة.
فعندما نحن نلاحظ القرآن الكريم نشاهد أن سبب الوحي ذكر في سورتي "الفيل" "وإيلاف" [قريش] نحن نعرف أن سنة ولادة الرسول الاكرم (ص) كانت عام الفيل أي عندما أراد المستعمر، في ذلك الوقت كان المستعمر الحبشة وحاكمه في اليمن، أراد إستعمار مكة، فجاءت الارادة الالهية بإرسال الطير وبضرب الفيل وأصحاب الفيل وهلاكهم. وهذا أدى إلى صيانة هذا البلد الامين من الاستعمار الذي من طبيعته إذلال الناس واحتقار الناس وخلق الناس "المايعين" الضائعين، ولذلك عندما نضم سورة "الفيل" إلى سورة "إيلاف"، وهما من منطلق الفقهاء سورة واحدة، نجد أن الله سبحانه وتعالى صان هذا البلد الامين من الاستعمار كما انه من الاساس جُعل أول بيت وضع للناس في مكة.
إذن مكاناً وزماناً حفظ هذه المنطقة من الاستعمار وبالتالي هيأ الشعب هنا لتحمل مسؤولية الرسالة الالهية، لاشك أنه وجد الرسول (ص) فيهم بعض الصعوبات ولكن بعد أن أسلموا حفظوا الامانة، وهذا يعني أن هذه المملكة إلى جانب الاتجاه الروحي لها أيضا مسؤولية حضارية إسلامية كبرى تؤديها.
*سماحة الامام كما تفضلتم في حديثكم ان الكثير ممن بهرتهم الحضارة الغربية رغم ان الدين الاسلامي هو الدين الصالح لكل زمان ومكان فكيف نستطيع ان نشرح لهؤلاء بأنه لابد لهم من العودة إلى الدين الاسلامي الصحيح ويجدون فيه كل الاشياء وكل الوسائل التي يمكن لهم الحصول عليها من تطور وتقدم وهو في صالحهم وهذا الدين وضع لكل زمان ومكان؟
- الحضارة الغربية، علينا أن نميز بالفعل بين الحضارة كمكتسبات بشرية إنسانية يعتز بها، كتجارب إنسانية جديدة، وبين الاسس التي وُضعت الحضارة عليها.
نحن نعرف أن الحضارة الغربية ورد فعلها التي هي الحضارة الشرقية، الشيوعية، هذه الحضارة المادية بُنيت في أعقاب وفي أواخر القرون الوسطى عندما عانى بعض العلماء والمفكرين الكثير من الجهات الدينية في اوروبا. فقالوا لكي نتحرر من رواسب الماضي ومن تقديس آراء افلاطون وأرسطو العلمية، قالوا فلنتحرر من هذه الوسائل وبنوا حضارتهم على الاساس المادي، لأن القاعدة هي مادية وهي الربح وهي المنفعة.
فالمكاسب البشرية والانتاج الكبير الذي قدمة الانسان في اطار هذه الحضارة كان على أساس مادي، وبالتالي خلق للانسانية مساوىء ومصاعب ومآسٍ: الاستعمار، الحروب، الاستثمار، التمييز العنصري، القلق الدائم وها هم يعيشون مشكلة التضخم والغلاء الفاحش المتزايد يوما بعد يوم.
لا بد من ان العالم اليوم يدرك أكثر من ذي قبل أن وضع الحضارة، أي حضارة، على أساس مادي، يعني عدم وجود ضوابط لتحديد سلوك الانسان في مختلف المجالات.
ولذلك نجد أن الحضارة الغربية في اي اتجاه طغت، في حقل الارباح، في حقل الحروب، في حقل الجنس، في حقل الغلاء، لانه لا توجد ضوابط تحدد نمو الحضارة بشكل غير منسجم مع بقية الحاجات البشرية.
إذن أنا أعتقد اليوم أن هذه الحضارة المادية حكمت على نفسها بالفشل. الاسلام يضع حضارته على أساس حقيقي معنوي أخلاقي ويتبنى النمو البشري المادي أيضا في هذا الاطار، ولذلك التجربة الاسلامية الحضارية كانت تجربة ناجحة إلى القرن الرابع، التقدم في العلم، التقدم في الثقافة، التقدم في العمران، تسهيل المهمات الحضارية ورفاه العيش، أمّنها الاسلام جميعاً رغم أن الاسلام لم يستعمر يوماً وما اضطهد شعباً يوماً ولا حكَّم عنصراً على عنصر. صحيح أن الاسلام حرّر مناطق كثيرة، ولكن دائماً كان يعتمد على أساس أن الناس من خلال أحكام الله هم الذين يحكمون، إذن الحضارة الاسلامية تعتمد على أسس إنسانية.
فإذن الاساس يجب أن يتصحح، والتجارب الحضارية الحديثة يستفاد منها كأي مكاسب بشرية اخرى، نحن يجب أن لا يكون عندنا عقدة ضد اي إنتاج بشري، ولكن الأساس خاطىء، وإذا صححنا الاساس يعني آمنا بالمجتمع الذي يقترحه الاسلام.
المجتمع الاسلامي ليس مجتمعاً فردياً أو ما يسمى Individualist ولا مجتمعاً جماعياً أو ما يسمى بمجتمع "سوسياليست"، إنما المجتمع الاسلامي مجتمع الانسان، ذي بعدين، الفردي والاجتماعي، يعني على أساس حقيقة الانسان. ثم العلاقات البشرية بعضها مع بعض تعتمد على أساس الكمال البشري، يعني عندما يقدم الانسان خدمة يقدم ككمال ولا يقدم كعمل مقابل أجر لأن العطاء في المجتمع المادي تجارة، كل من يعطي حتى يأخذ، هذا معناه تجميد الانسان وتنزيل نفسيته وروحيته، بينما المجتمع الاسلامي، الانسان يعطي لأنه يعبد الله، خلال ذلك يعني يكتمل.
إذن العطاء عطاء سامٍ، عطاء متكامل الضوابط تحول دون طغيان الانسان في مختلف هذه المجتمعات وطبعا الدولة لا بد من مراقبتها للشواذ، لكن الاساس القاعدة يجب ان تتصحح.
إذن نحن لكي نوضح لشبابنا المتعطشين للتطور، ومن حقهم أن يتعطشوا إلى التطور، أن نوضح الاسس التي تبنى الحضارة عليها، وهذه النقطة بالاضافة إلى التجربة الاسلامية التي حصلت في القرون الاربعة الاولى اعتقد أنه أوضح دليل على نجاح الحضارة الاسلامية.
*سماحة الامام ألا تعتقدون أن دعوة التضامن الاسلامي تقف سداً منيعاً ضد التيارات الهدامة وما هي نظرتكم إلى دعوة التضامن الاسلامي وإلى ما وصلت إليه في هذه المرحلة حتى الآن؟
- بدون شك ان تضامن المسلمين والتضامن الاسلامي صيانة للرسالة الاسلامية، لأن الرسالة الاسلامية ليست رسالة مجردة تنمو بمعزل عن الانسان. الفكر الاسلامي يُضمن من قبل الانسان المسلم، والانسان المسلم كما قلنا في رأي الاسلام إنسان ذو بعدين: بعد فردي أي الحرية وعدم تحوله إلى آلة، والبعد الجماعي يعني ليس هو إله ايضاً يتصرف كما يشاء.
إذن المجتمع الاسلامي ضمانة لسلامة الانسان المسلم، والانسان المسلم ضمانة لسلامة الفكر الاسلامي، من هنا نجد ان الرسول الاكرم (ص) في بداية الاسلام وضع أسساً ثابتة للتضامن الاسلامي ضمن ثلاث مواد، عندما يقول "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم". إذن التساوي بين المسلمين يعني عدم التصنيف.
ثانيا: احترام العهد والذمة، يعني كل إنسان يحترم مسؤولية الانسان الآخر، مسؤوليته الجماعية ومسؤوليته الفردية، مسؤوليته العائلية ومسؤوليته الوطنية، التزاماته ضمن عهود وعقود، والتزاماته الذاتية، والتضامن ضد العدو، ضد الخطر الذي يتحدث عنه القرآن الكريم: اليهود والذين أشركوا، وكل معتدٍ طبعاً على الاسلام.
إذن التضامن الاسلامي ضمانة للفكر الاسلامي لإعطاء الصورة الصحيحة عن الاسلام، هذا الشعب الكبير جداً، هذه الامة الواسعة بما لها من الانتاج، وبما لها من العطاء، وبما لها من الثروات، عندما تلتقي وترفع الحواجز وتمنع التصنيف وتمنع التشكيك وتمنع التعصب والانكماش، ستصبح بحرا كبيرا متضامناً متفاعلاً وتشكل قوة كبرى لإبراز الاسلام بالشكل الصحيح، ولحل مشاكل هذه الامة من أقصاها إلى أقصاها، وللانسانية جمعاء، لأن الفكر الإسلامي رحمة للعالمين، وليس مجرد خدمة للمسلمين فحسب، وبرزت بالفعل هذه الصورة عن التضامن الاسلامي مؤخراً إنفتاح المسلمين لا سيما في مؤتمر "لاهور" تبين أن المسلمين مهتمون بالعالم الثالث، يعني العالم المستعمَر، العالم المضطهَد، العالم الذي دفع ثمن طغيان الكبار.
إذن الاسلام برز من خلال هذه الفترة من التضامن الاسلامي في مؤتمر لاهور وقبله وبعده كقوة انسانية لخدمة المستضعفين حسب تعبير القرآن، لأن المستضعفين هو التعبير القرآني عن المستَعْمَر والمستَثْمَر وهكذا.
أعتقد أن التضامن الإسلامي في هذا الوقت بالفعل دخل دوراً جدياً وعملياً، وأوضح للعالم الاسلامي ولغير المسلمين مدى انفتاحه وضرورته وصيانته للفكر الاسلامي.
*سماحة الامام.. ذكرتم كلمة التشكيك وما من شك ان الكثير من الحاقدين على الاسلام يشككون في الاسلام وفي الدعوة الاسلامية وذلك بما يكتبون وينشرون، ما هو الواجب على العلماء للرد على هؤلاء ولتوضيح فكرة أو توضيح الدين الاسلامي على حقيقته؟
- أتصور أن أي فكرة، أي رسالة دائما تتعرض للتشكيك وللصعوبات، وكلما زاد التشكيك والصعوبات يجب أن يتأكد الانسان من نجاح الدعوة أكثر، نحن نشاهد انه في أول الدعوة الاسلامية الاتهام بالسحر والجنون والمطامع إلى جانب الاضطهاد الجسمي والمقاطعة، هذه الامور التي لاقاها الرسول (ص) في بداية الدعوة.
اذن في اي فترة الاسلام يريد أن يتحرك، أو أي فكرة في خدمة الناس تريد أن تتحرك تواجه صعوبات، وأعتقد أن هذه الصعوبات تساعد الرسالة لأنها ترسخ وتخلق تياراً، وتعميق التفهم والوعي، لا يجب أبداً أن نشكو من الصعوبات التي نواجهها في اي دعوة.
أضف إلى ذلك أن الصورة التي أعطيت عن الاسلام في فترة من الزمن مع الاسف لم تكن صورة صادقة، الاسلام في فترة من الزمن برز كقوة روحية مجردة غير مهتمة بالشؤون العامة والحياتية للناس، فكان الناس يرون مسلمين في منتهى الصلاح والتقوى يصلون ويصومون ويحجون ويبتهلون إلى الله ولكن جارهم جائع، يُظلم الناس أمامهم فيسكتون، هذه الاهتمامات الاسلامية الاولى التي يؤكد عليها الاسلام ولا يميز أبداً بين الايمان بالله والاهتمام بشؤون الناس "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".
﴿ارايت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدعُّ اليتيم، ولا يحضُّ على طعام المسكين﴾ [الماعون،1 - 3].
وفي عشرات من الآيات القرآنية والروايات النبوية الشريفة وسلوك الائمة والصحابة بارز أن الاسلام يهتم بالناس إلى جانب الاهتمام بالايمان بالله.
إذن الاسلام في وقت من الاوقات ظهر من خلال سلوك المسلمين كروحيات، كإيمان مجرد، هذه الصورة إستفاد منها العدو فكرّس الاسلام الذي لا يحل ولا يربط، لا يضر المستعمر ولا يمنع العدو إطلاقاً، العدو أصبح يتمسك بالاسلام بهذا المفهوم، يريد للاسلام أن يبقى في إطار المساجد، في إطار الايمان التجريدي، في إطار العبادة، وعندما وجد أن الاسلام بدأ يدخل في المجال الحياتي طبعاً اندهش وبدأ يتهجم، وبعض المسلمين مع الاسف الذين تعودوا أن يروا في الاسلام علاقة مع الله فقط، وفتشوا في شؤون حياتهم عن محاكاة الآخرين شرقية كانت أم غربية فوجئوا أيضا بدخول الاسلام الحياة المعاصرة، ولذلك تعرضت الدعوة لكثير من الصعوبات، وفي الحقيقة الصعوبات من خير الدعوة وطبيعي، وأرجو أن تكون النتائج لهذه الدعوة تفوق هذه الخسائر والصعوبات.
*سماحة الامام هذا يدعوني لأسبق الزمن لأنه في عام 1395 هـ بعد أشهر بالتحديد سيعقد مؤتمر في مدينة الرياض دعت إليه جامعة الرياض، وهذا المؤتمر سوف يبحث في العلم والتكنولوجيا، طبعاً هذا يدعونا لأن نسأل سماحتكم عن تطلعكم ومدى النتائج التي يمكن أن يتمخض عنها هذا المؤتمر خاصة وهو المؤتمر الأول للتضامن الاسلامي؟
- بدون شك أنا أتمنى من كل قلبي وأدعو لنجاح هذه المحاولة الشريفة وأتمنى على المؤتمر هذا أن يفتش في الدرجة الأولى ويكشف أولاً عن الاسس الحضارية المعاصرة التي سيجدها في التجربة الاسلامية في القرن الرابع، لأننا إذا كشفنا المكاسب الحضارية والثقافية الاسلامية في القرون الاربعة الاولى، أولاً: أعدنا الثقة إلى نفوس شبابنا المتطلعين إلى العلم والثقافة وأكدنا لهم بأنه نحن لسنا أميين، لسنا أناس عالة على الحضارة نشحذ العلم والثقافة، أصلاء في الانتاج، وهذا له تأثير كبير في نفوس شبابنا الذين نطلب منهم التحرك نحو العلم والتكنولوجيا.
ثم عندما نلمس الخطوط الاولية للحضارة نكتشف الانحرافات التي حصلت في الغرب، لأن الحضارة الاسلامية كانت ميزتها أنه عندما يعرفون شيئاً ويكتشفون شيئاً، يكتشفون مكانه أيضا في الوجود، وهذا يعني عدم الطغيان، يعني كل شيء من اكتشافات لجغرافية العالم، للبوصلة لانعطاف النور، لمختلف العلوم التي اكتشفوها، اكتشفوها في إطار الرؤية الشاملة للوجود، وكذلك ما طغى أحدهم وما ألّه أحدهم نفسه، ما انغش أحدهم باكتشافه، وهذه الصيانة صيانة للانسانية ورسالة للمسلمين.
فالتماس نقاط البداية في هذه الحضارة وهي في المكتشفات الاسلامية الاولى أهم إنتاج هذا المؤتمر، بالاضافة إلى تشجيع العالم الاسلامي والمواهب الهائلة المعجزة التي تتوفر داخل هذه الامة والتي في الوقت الحاضر يستفيد منها الغرب والشرق على حد سواء، تبني هؤلاء وتوفير الوسائل اللازمة لهم لأن يعملوا ولأن يكونوا على طريقة الاولين في العطاء الحضاري والثقافي إن شاء الله.
*سماحة الامام بصفتكم من الاعضاء البارزين في مركز البحوث الاسلامية، مجمع البحوث الاسلامية ولقرب إنعقاد المؤتمر هل لنا أن نعرف ما هي البحوث التي سوف تتقدمون بها في هذا المؤتمر؟
- الحقيقة ان مجمع البحوث الاسلامية كما تعرفون جزء من الازهر الشريف ويدعو كل سنة إلى المؤتمر ومن حسن حظي اني أتشرف في كل سنة بهذا المؤتمر الذي يضم كثيراً من العلماء المسلمين في أقطار العالم.
الحقيقة حتى الآن العلماء الذين يحضرون المؤتمر هم الفقهاء وبعض العلماء المطلعين على شؤون الاقتصاد، ولكن يتغلب عليهم طابع الشريعة.
ولذلك الابحاث التي طرحت حتى الآن غالباً هي الابحاث الفقهية، أضف إلى ذلك الاهتمام بالمصائب الاسلامية الكبرى مثل إبتلاء الأمة بإسرائيل.
في السنة الماضية طُرح موضوع الربا ونحن نعرف أن ما يعانيه الناس والمسلمون من شيوع الربا ومن تأسيس البنوك وممارستها للربا بحكم طبيعتها، هذه مسألة حياتية مهمة للمسلمين، فكانت محاولات لإعطاء آراء حول بعض حلول استعملتها بعض الدول الاسلامية من اوراق الاستثمار وغيرها، بعض حلول بديلة قُدمت وكانت أبحاث قيمة ولكن لم تصل إلى نتيجة، على الاغلب في المؤتمر القادم هناك بحث بالفعل عن البديل عن الربا، نحن بحاجة إلى تنمية، نحن بحاجة إلى تحريك رؤوس الاموال المجمدة، وهذه الاموال تخشى "الريسك" مثلما يقولون وتعريض اموالهم للخطر، ولذلك لابد من ضمانة هذه الاموال وتحريكها والتأكيد من سلامة التصرف فيها، فلا بد من وجود مؤسسة بديلة عن البنوك أو إعطاء صورة صحيحة عن البنوك وحلٌ لهذه المشكلة،
بالاضافة إلى ذلك أعتقد أن المسلمين دائماً في هذه المرحلة، يعني في مرحلة اليقظة والتطلع والتوجه نحو الاصالة، دائما عندهم عشرات بل مئات من المسائل للبحث، كيف يحلون المشكلات المعاصرة بالنسبة للاقتصاد، بالنسبة إلى تحديد الاسعار، بالنسبة إلى التعامل بين الشعوب الاسلامية الذين هم امة واحدة، ومع ذلك نتيجة لتجزئة البلاد وكونها بلاد مختلفة حصل انواع من التعامل الجديد بينهم، حول المسائل الجمركية، حول مختلف الشؤون، كما حصلت المشاكل أيضا حول الثروات المنتشرة في العالم الاسلامي ومدى واجب المسلم أو مدى واجب المجتمع المسلم في أي بلد بالنسبة للمناطق والبلاد الاخرى.
إذن هناك أبحاث كثيرة ومطروحة على صعيد البحث والمؤتمرات غالباً لا تقيد الباحث، تذكر عدة امثلة ثم تترك المجال للباحث ان يقدم أي بحث جديد ولا أحاول أن أستبق الأمور أرجو أن أتمكن من المساهمة بتواضع في هذا المؤتمر إن شاء الله.
*ها تعتقد سماحتك ان بنك التنمية الاسلامي الذي عقد مؤخرا في جدة وكانت له النتائج القيمة هو السبيل او الطريق الاول للتغلب على المشكلة التي ذكرتموها بخصوص الاموال بالنسبة للمسلمين والربا؟
- الحقيقة ان هذا من مفاخر فكرة التضامن قضية بنك التنمية، لأن بنك التنمية لا يعني إطلاقاً اعتماد الربا في الاقراض، إنما بنك يعني مساهمة الميسورين المسلمين في توظيف اموالهم في المناطق المتخلفة، ووجود المناطق المتخلفة أنا أعتقد مشكلة كبرى للعالم الاسلامي، مثلا أنا أعرف انه وراء محنة"الفيليبين" كلها أن المناطق التي يعيش فيها المسلمون هي المناطق التي تشكل المناطق الخصبة في الفيليبين، ولكن عدم تمكن المسلمين من استثمار هذه الاراضي فتح شهية الآخرين وخلق لهم مشكلة، وانه لو كانت الاموال موفورة في توظيفها في تنمية المناطق تلك ربما كانت المحنة تخف إلى حد كبير وهذه المشكلة أيضاً قائمة في مختلف المناطق.
اذاً بنك التنمية بالفعل يدعو الانسان المسلم إلى الأمل الكبير، انه يتمكن من تنمية المناطق، وتوظيف رؤوس الاموال، في إبراز المواهب وفي إبراز الامكانات واستثمار الاموال وإستثمار الثروات الهائلة المتوفرة لدى العالم الاسلامي. دون شك هذا البنك أنا متفائل به جداً وأتمنى تنميته وتوسعته وتصعيد شؤونه.
*في الواقع سماحة الامام حديث شيق وكان بودنا أن نطيل ونأخذ من سماحتكم الشيء الكثير ليسعد المشاهدون بما لديكم، لايسعنا ونحن في ختام هذا اللقاء إلا أن نشكركم ونكرر الشكر لقبولكم دعوة البرنامج لتسهيل هذا اللقاء مع سماحتكم.
- أنا أيضا بدوري أشكركم على أن وفرتم لي هذه الفرصة الطيبة، وأتمنى لهذه المملكة، ولجلالة الملك، ولإخوانه الذين يعيشون بين الناس كعائلة ويسعون في سبيل رفع مستوى هذا البلد، ولشعب هذه المملكة الذي عليه أن لا ينسى أبداً انه أمين على رسالة الله، ليس في أيام الرسول فحسب، بل دائماً، والمؤسسات ومن جملتها مؤسسة الاعلام والتلفزيون أتمنى لهم النجاح والتوفيق وإعادة اللقاءات.