بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
في الأسبوع الماضي كنا نتحدث عن الدعاء المأثور بعد كل صلاة في شهر رجب، وبقي قسم من الدعاء وعدنا بتفسيره فيما بعد، ومن جانب ثانٍ في هذه الأيام، وفي السابع والعشرين من شهر رجب حسب المشهور عندنا مبعث النبي الكريم (ص) ثم معراجه، والإسراء ذكرى الإسراء، وهذه مناسبة عظيمة أيضًا تستحق التحدث، ولكننا خصصنا غدًا حفلة كبرى لمناسبة ذكريات المبعث والإسراء والمعراج... إن شاء الله نجتمع في نادي الإمام الصادق ونتحدث ويتحدث المحدثون عن هذه المناسبة.
أما اليوم فمناسبة أخرى عزيزة أيضًا مناسبة وفاة الإمام موسى بن جعفر (س). في الخامس والعشرين من شهر رجب وفاة الإمام موسى بن جعفر سلام الله عليه، ونحن كما تعهدون هذه الذكريات من وفيات ومواليد نستعين بها ونتبرك بها ونكتسب من إحيائها تعاليم وأوامر ورصيد لحياتنا الصعبة في هذه الأيام، نستعرض حياة أئمتنا الذين قال في حقهم رسول الله (ص): "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا... وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".
فإذًا، التمسك الذي يحول دون الضلال ودون الانحراف، التمسك بالقرآن وبعترة رسول الله الأئمة الميامين، والتمسك بهما ليس معناه حبهما واحترامهما وتقديسهما، وتقبيل القرآن ووضعه على الرأس، أو حب الأئمة ووضعهم في القلب، أو وضع صورهم في البيوت. التمسك أي العمل، التمسك يعني الاقتداء، فالذي لا يضلّ والذي يمشي في الخط المستقيم هو الذي ينفّذ ويطبّق أوامر الكتاب ويستنير بنور الكتاب، القرآن الكريم، وأيضًا يفتّش في سيرة أئمته ويدرس حياتهم ويجد في مواقفهم مواقف نموذجية يقتدي بها.
وفي هذه الأيام، أيام الوفيات والذكريات، نحن نستعرض خلاصة من حياتهم حتى نستعين بها في هذا اليوم المظلم، في حياتنا الخاصة والعامة، أمام مشاكلنا. ومن حسن الحظ، ومن إرادة الله، وتصديقًا وتطبيقًا لكلام رسول الله في أئمتنا، نجد أنواعًا من الحياة ومواقف متعددة، نجد فيهم الخليفة، ونجد فيهم المسجون؛ نجد فيهم الكبير، ونجد فيهم الشاب؛ نجد فيهم الأبيض، ونجد فيهم الأسمر، الإمام الجواد كان لونه أسمر؛ ونجد فيهم وليًا للعهد مثل الإمام الرضا، ونجد فيهم علماء يمارسون عمل العلماء فقط مثل الإمام الصادق والباقر، نجد فيهم المضطهد مثل الإمام زين العابدين أو الإمام موسى بن جعفر، ونجد فيهم المسجون في ثكنات الجيش مثل الإمام الهادي والإمام العسكري الملقبين بالعسكريين لأنهما كانا يعيشان في مراقبة السلطان وفي ثكنات الجيش؛ نجد فيهم كل لون، نجد من كانت أمه ست، ونجد من كانت أمه جارية، عبدة، أمة، في أئمتنا من كانت أمه أمة. نجد الجميع والكثير والألوان من المواقف.
فإذا حاولنا أن نفتش في حياة الأئمة حتى نجد درسًا ليومنا نتمكن، لأنهم عاشوا أنواعًا من الحياة في الأجيال الإثني عشر التي عاشوها. ولكن أحب أن أقول هنا بأننا مع الأسف في لبنان بالذات نهمل هذا الجانب، وإن كنا لا نتقن التمسك بالقرآن أيضًا نجد أنفسنا نحب الأئمة ونضحي بأرواحنا لأجل تمجيد ذكرهم وإحياء شأنهم، ولا نقبل أحدًا يهينهم أو يمسّهم بسوء، ولكن هل نعرفهم؟
بعض أولادنا مع الأسف لا يعرفون أسماء الأئمة الإثني عشر، وهذا غاية الظلم أيها الإخوة؛ أما نحن فربما لا نعرف متى ولدوا ومتى ماتوا وما هي سيرتهم وكيف عاشوا؟ إذا نحن ما عرفناهم كيف نتمكن من التمسك بهم؟ (مضبوط)؟ إذا أنت لا تعرف أن إمامك كيف عاش وكيف جاهد وكيف مات، لماذا تتمسك به؟ كيف تقتدي به؟ كيف تتخذ منه... هذا ظلم. يجب علينا أيها الإخوان أن نعرفهم ونعرف حياتهم ومماتهم وسيرتهم ونعلّم أولادنا، ما تقدرون على هذا؟ نأخذ الطفل الصغير كل ليلة، كل يوم نعلمه واحد من الأئمة.
هذا واجبنا، لا يمكن أن تقول أن كل الواجبات على علماء الدين أو على الأئمة أو على الجمعية أو على المؤمنين، "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، أنت في بيتك مسؤول، يجب أن تعلم أولادك من الصغر، حتى يكون التعليم مستقرًا في قلبه، تحاول أن تعلمه من الصغر، ما هو القرآن؟ ما هي ميزات تعاليم القرآن؟ من هم الأئمة؟ كيف عاشوا؟
أئمتنا نعتز بالانتساب إليهم. في حياة الإمام موسى بن جعفر كنت أقرأ، وجدت أن رجلًا مسيحيًا زار الإمام أيام كان في بغداد، وقال: قد بُعِثْتُ من قبَل مطران الشام، كبير رجال الدين في سوريا في وقتها، كانوا موجودين طبعًا مثل اليوم، يقول قال لي ما دمت تحب العلم، ويظهر أن هذا التابع، هذا الشخص كان يحب العلم كثيرًا ويبحث كثيرًا ويفتش كثيرًا، قال له: ما دمت تحب العلم فعليك بأعلم أهل زمانك. قال له: ومن هو؟ قال: هذا هو موسى بن جعفر أعلم أهل زمانه وله أحاديث متبادلة مع الإمام.
هؤلاء الأئمة الذين ما ورد في تاريخهم وتاريخ معاصريهم موقف سلبي أبدًا، لا نقائص شخصية، ولا تصرفات غير صحيحة، ولا مواقف جبانة، كلهم في خط واحد ونور واحد، يقفون الموقف الواجب، وهم الذين حرسوا الدين، ومنعوا الحكام والخلفاء والسلاطين من تحريف الكلم وتغيير معالم الدين، هم الذين حرسوه، فأئمتنا (يسوى) نعرفهم أيها الإخوان، ومن السهل جدًا أن تطلعوا على سيرة الأئمة، لا يكلّف الكثير، ولا يحتاج إلى الكثير... أسماؤهم، وولاداتهم، ووفاتهم، نبذة من كلماتهم، خلاصة من سيرة حياتهم واجب، وأكثر من واجب. لماذا؟
كما قلت، إلا يقول رسول الله (ص): "إني تارك فيكم الثقلين"، كما يجب عليك معرفة القرآن حتى لا تضل، واجب عليك أن تعرف الأئمة حتى تقتدي وتهتدي. الإمام موسى بن جعفر من هؤلاء، وله ميزة في حياته تختلف هذه الميزة ويختلف الإمام بها عن سائر الأئمة، هذه الميزة أنه عاش في أيام الاضطهاد الشديد، كما نقرأ في زيارته المخصوصة. هو كان يُنقل من سجن إلى سجن، المحبوس في ظُلَم السجون، الإمام موسى بن جعفر عاش أكثر أيام نشاطه في اضطهاد مستمر، أي اضطهاد؟ اضطهاد بمقاطعته وقطع الناس عنه، كانوا يفصلون بين الناس وبينه، وكانوا يراقبون أصحابه وجماعته، فيكيدون لأصحابه. معروفة قضية علي بن يقطين، وعلي بن يقطين من أصحاب الإمام، ومن العلماء في زمانه، لكنه كان موظفًا في ديوان السلطان، في ديوان الخليفة هارون الرشيد برتبة عالية، كان مستشارًا، طبعًا التقسيمات الإدارية وقتها ما كانت بالشكل الحاضر، فكان بمنزلة الوزير، مَحْرم سرّه وموزّع أمواله والمطلع على أسراره، كان رجلًا كبيرًا.
هذا الرجل يشكو عند الإمام موسى بن جعفر من أنه مُبتلى بالخدمة عند الظالمين ويحب أن يترك ولكنه يخاف على حياته، تسمعون كيف كانوا؟
كانوا يشكون ولا يرضون بالتعاون مع الظالمين، ولو كان فيه الأموال ولو كان فيه المجد، كانوا يخافون على دينهم لأنهم كانوا على علم بما ورد عن رسول الله وعن الأئمة، بأن الذي يساعد الظالم ويعاون الظالم هو شريك معه ولو كان ذلك بمقدار تقديم قلم إلى يد الظالم لكي يكتب.
يقول صفوان الجمّال رضوان الله عليه، وهو أحد الأصحاب، كان عنده كميات كثيرة من الجِمال يكريها لحكام السلطان، فيسأله الإمام: هل أنت تكري وتؤجر خيلك وجِمالك للحاكم؟ قال: نعم، ولكن أقدم خدمة ولا أريدهم، آخذ أجري أشتغل وآخذ أجري. قال الإمام: حينما الجِمال تحمل بضائع الخليفة أو الحكام، وتريد من الخليفة أجر هذه الخدمات إلا تحب في قلبك أن يبقى الحاكم حيًا لكي يدفع لك أموالك، قال: بلى. قال: فإذًا، ترضى ببقاء الظالم، وتحب بقاء الظالم.
إلى هذه الدرجة ما كانوا يقبلون، الممالأة مع الظالم، والمسايرة مع الظالم أيًا كان وفي أي لبس كان وبأي درجة كان، مشاركة مع الظالم.
علي بن يقطين يقول شكوتُ للإمام، فقال لي: أنت تعمل مع الحاكم الظالم ولكن تتمكن أن تخدم جماعتك وأصحابك والمستضعفين، وتدافع عن حقوقهم وتوصلهم إلى بعض حقوقهم، فهذه كفارة عملك، فيجوز لك أن تبقى، بل لا يجوز لك أن تترك، يجب عليك أن تبقى هناك وتعمل. ولكن ما كانوا يتركون العمل.
معروف أنه مرة بعث الخليفة هدايا إلى علي بن يقطين، وبعث كمية من الهدايا في جملتها جبّة مذهّبة مزركشة نفيسة، بعثها إلى علي بن يقطين، علي بن يقطين وقت الذي وجد هذه الهدايا استأنس وأراد أن يقدمها إلى الإمام، لأن الإمام أعز خلق الله عليه. فبعث إلى الإمام الهدايا كلها، فالإمام قبل البعض وأرجع البعض، وفي جملة هذا البعض بعث الجبّة المذهّبة، واعتذر عن قبولها وقال أنا لبستها وصليت فيها، ولكن أعيدها اليك، علي بن يقطين حينما وجد أن هذه الجبّة مباركة، أحبها ووضعها في صندوق وكان يتبرك بها في بعض الليالي يلبسها لكي يتذكر الإمام.
مضى مدة، فأحدهم قدم تقريرًا إلى الخليفة يقول أن هذا الرجل من موالي موسى بن جعفر ولا يحترمك ولا يؤمن بأنك على حق، والدليل على ذلك أنه يدفع الحقوق الشرعية والزكاة للإمام، والسند الحي على ذلك أنه بعث الجبة المعروفة والهدايا إلى الإمام. فطلبه الخليفة وعاتبه وتكلم معه، ثم قال له: أين الجبّة؟ فقال: هذه الجبة ادخرتها ووضعتها في صندوق وأتبرك بها، وهذا مفتاح الخزنة؛ فحجزه عنده وبعث المفتاح، وجاؤوا بالجبة وانكشف الأمر. الإمام كان يصون حياتهم وينصحهم في كثير من الأمور ويتخذ لهم احتياطات حتى لا يبتلوا بمثل هذه البلوى.
كانوا يضطهدون الإمام حكام زمانه، فجعلوه في سجن، ونقلوه من سجن إلى سجن، وقطعوا صلته بالناس، وكانوا يضطهدونه ويمنعونه من التحدث، فيراقبونه، وأكثر من هذا كانوا يفقرونه ويحولون دون وصول الأموال إليه... محاولة التفقير والتجويع.
في بعض الأخبار أن بنات الإمام ما كان لهن لبس حتى يلبسن ويخرجن من البيت، ما كان لهن لبس للبنات حتى يغطين جسدهن فيصلين في وقت الصلاة فكن يتبادلن اللبس الكامل بعضهن مع بعض. أي اضطهاد تريد أكثر من هذا؟ ﴿ظلمات بعضها فوق بعض﴾ [النور، 40]، الاضطهاد بكل معنى الكلمة، ولكن الإمام هل سكت؟ هل ترك؟ أبدًا. انظر إلى الكتب الفقهية تجد الروايات والأحاديث والأدعية والتعليمات الدينية مليئة عن الإمام موسى بن جعفر، ولكن لها طابع خاص. الأحاديث المروية عن بقية الأئمة مذكور اسم المروي عنه، فيقول المحدّث سمعت الصادق، سمعت أبا عبد الله، عن أبي جعفر وهكذا، إلا الإمام موسى بن جعفر، الأحاديث الواردة عنه سمعت الرجل، سمعت العالم، سمعت الرجل الصالح.
كانوا يعبّرون عن الإمام بتعبير رمزي، يعني الإمام ما ترك الأمر للطغاة حتى يحولوا دون تقديم التعليمات للناس وإعطاء التوجيهات للعالم، بل ما سكت. وكان يقدّم لهم بين فترة وأخرى وفي كل مناسبة، وفي السجون حتى التعليمات الدينية، وهذه معروفة.
سبب الاضطهاد في أيام موسى بن جعفر أن الأمر استقر السلطان للعباسيين، بينما في أيام الصادق والباقر كانوا مزعزعين كانوا مضطربين. ما تمكنوا من فرض حراسة أو مشاكل للأئمة؛ أما في أيام موسى بن جعفر فقد استقروا وتوسع سلطانهم وتمكنوا من رقاب الناس، فكانوا يضطهدون الإمام، ولكن هذا الاضطهاد لا يحول.
الإمام كان في السجن، الإمام كان مضطهدًا وكان فقيرًا، ومع ذلك ما كان يسكت، ما كان يترك، ما كان يمتنع عن التوجيه والعمل. تريدون سيرة أكثر من هذا أيها الإخوان؟
نحن نجد أن أئمتنا، وهم من عائلة وجماعة وفئة طهّرهم الله وأذهب عنهم الرجس، مع ذلك لا تجد إمامًا ساكتًا أبدًا، زين العابدين كانوا يضطهدونه، ويحولون دون توجيهاته وتعليماته، فكان يجلس في المسجد ويقرأ الدعاء، ويقول كل شيء بأسلوب الدعاء. تجد في أدعية الإمام زين العابدين كثيرًا من العقائد، والفقه، والتعاليم الدينية والتوجيهية والتربوية؛ وتجد في كلام الإمام موسى بن جعفر أيضًا؛ ثم أنه كان داعيًا للناس بغير لسانه. لماذا كانوا ينقلونه من سجن إلى سجن؟
لأن سيرته في السجن، دوام عبادته، دوام صلاته وصيامه... كان يلقيها ويقرأها في السجن، هذه الأمور كانت تؤثر في الناس وتغيّر قلوب الناس، بعد فترة وجيزة كان يتحوّل هذا الرجل الجلاد، كان يتحول حارس السجن إلى خادم للإمام، إلى تلميذ عند الإمام، إلى متأثر بتعاليم الإمام، وهكذا كان.
لا عذر لنا أيها الإخوان، لا عذر لنا في ترك واجباتنا أبدًا. تريد فقرًا أكثر من فقر موسى بن جعفر؟ تريد اضطهادًا أكثر من اضطهاده؟ ومع ذلك ساعد في تقويم الدين ورفع كلمة الله، وقال الحق في أي ظرف من الظروف كان وعاش. نحن فبمجرد ما شعرنا أن العالم أدبروا وأعرضوا عن الدين نخاف نتكلم، ربما فلان أو فلان يزعل، ربما فلان يناقش أو يعذّب أو يتهّم، فليكن! الذي يحتقرني أو يحتقرك لأنك على حق، هذا شرف كبير لك؛ لأنك تكتسب مرضاة الله، بسخط المخلوق، من هو المخلوق؟ هل هو منبع رزقك أو وسيلة خلودك؟ أبدًا. بمجرد ما شفنا الناس أعرضوا نخاف ونقف؟ لماذا نقف؟ لأن التيار جارف؟ ماذا يصير إذا قلت كلمة الحق، إذا تصرفت تصرف الحق ماذا يكون؟ يقولون لك أنك متأخر؟ يتهمونك؟ فليكن! هذا شرف للإنسان. يكفي أن الله يكون معك. ﴿كفى بالله وكيلًا﴾ [النساء، 81]، ﴿إن الله يدافع عن الذين آمنوا﴾ [الحج، 38].
أي اضطهاد يمكن يحول دون سعيك وعملك؟ أي ظروف صعبة ممكن تحول دون نشاطك وعملك؟ أبدًا. الحركة الدائمة والسعي المستمر هذا هو سيرة الإمام وسيرة أئمتنا جميعًا، والواجب أن نكون مثلهم، وسيرة أئمتنا جميعًا. دائمًا وأبدًا، والا فالإنسان الذي يتراجع ويقف، الإنسان الذي يخاف من حكي الناس، الإنسان الذي يشعر بالصِّغر وعدم الثقة بالنفس أمام مواقف الناس، هذا لا يصلح أن يعيش بهذه الدنيا، هذا حشيش، هذا علف، هذا خفيف، تبن... "يميلون مع كل ريح، أتباع كل ناعق". الإنسان الذي يمشي وراء التهديد أو التطمين كله مثل بعض، مرة جماعة يدفعون مصاري أو يوزعون جاهًا نحن نمشي وراهم، أمير المؤمنين (ع) يعبّر عنا "أتباع كل ناعق ويميلون مع كل ريح ولا يستضيئون بنور العلم"، ومرة واحد يخاف فيمشي، نفس الشيء... ما الفرق؟
أما الإنسان الذي يؤمن ويثق بالله ويعتبر أن الله هو وليّه ممّ يخاف؟ أمير المؤمنين (س) يقول في وداعه لأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه منع الخليفة أن يودعه أحدًا، سفّروه من المدينة إلى أسوأ المناطق وأكره المناطق على قلب أبي ذر سألوه قال ربذة، أبعدوه إلى ربذة ومنع الناس من وداعه وما ودعه، وما ودعه أحد إلا أمير المؤمنين (س)، الذي يقول "لا تستوحشوا طريق الهدى لقلة أهله". قلال الناس؟ فليكن، شو بيصير؟ من هم الناس؟ إذا جاء كل العالم والله ما رضي، من يتمكن أن يمنع عنك موتك، أو قتلك، أو من يتمكن أن يمنع مرضك؟ ما أحد يقدر ولو جاء كل الناس؟ المهم أنك ترضي ربك وتكون متصلًا به، "لا تستوحشوا طريق الهدى لقلة أهله". هذه حقيقة، لا تقولوا: الحمد لله الدنيا بخير، المؤمنين كتار، مساجدنا مليئة، لا طريق الهدى. طريق الحق قليل من يمشي في طريق الحق، قليل من يحكي الحق، قليل من لا يخاف إلا الحق، "لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله".
علي (ع) حضر للوداع، يقول لأبي ذر هذا البطل العملاق يقول له: يا أبا ذر، لو أن السماوات والأرضين كانتا رتقًا لعبد من عباد الله فاعتمد عليه واستند إليه وتوكّل عليه يجعل الله من أمره مخرجًا. ما في ظلام دائم أبدًا، لو كان العالم يحاول اضطهادك وتفقيرك وتشريدك وضرب حقك، لو كان العالم كله متفق عليك أنت ما لك حق أن تيأس من رحمة الله، لا ييأس ولا يئس من رحمة الله إلا كل مذنب غير مؤمن، المؤمن بالله الحق، أنت لا تعتقد أن الله هو الحق كما يقول القرآن، ماذا يعني الله حق؟ يعني خلق العالم على أساس الحق، يعني ﴿ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين* ما خلقناهما إلا بالحق﴾ [الدخان، 38-39]، أليس كذلك؟ إذا كان العالم على أساس الحق فلا بد من أن ينتصر الحق، كلها فترات، كلها زوابع، كلها رياح، تنتهي والحق يتجلى. لكن يجب أن تكون صابرًا قليلًا، لأنه ما يريدون مدللين، ما يريدون ضعاف، ما يريدون خوّيفة، ما يريدون ناس جبناء، يريدون مثل علي بن أبي طالب، يريدون من هذا المصدر لا يخاف ولا يرهب، ويقول: "أعر الله جمجمتك" ويقول: لو كانت السماوات رتقًا على عبد من عباد الله لجعل الله من أمره مخرجًا". هكذا يريد، أما إذا بدك تخاف وتفزع وتطمع وتمشي هكذا وهكذا.. وخلص، يعني "أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"، أي ركن وثيق تقدر أن ترجع إليه أكثر من عناية الله الذي كانت السماوات مطويات بيمينه؟ هذا هو أمير المؤمنين ينصح أبا ذر ويزيد من عزمه وقوته. أبو ذر لو ما كان يموت في الربذة، كان يموت بعد ذلك بسنة أو سنتين، لو كان في القصور، لو باتوا على قلل الأجبال... يموتون، لا فكَّ من الموت. ما دام هذه الحياة تنتهي، ما دامت هذه الحياة مؤقتة، إذا ما كان عشرين، فثلاثين. إذا ما كان خمسين فستين تسعين في أكثر؟ في أكثر من مئة؟
ما دام الحياة مؤقتة لماذا الواحد لا يريد أن يعرف هذه الحياة في أفضل ما يمكن؟ في الحق يخلد مع الحق، ويبقى مع الحق.
موسى بن جعفر لا يبالي، يقول هارون الرشيد أمام قبر النبي يسلّم عليه "السلام عليك يا ابن العم". الإمام موسى بن جعفر يقول "السلام عليك يا جدّاه"، يتحداه، يعني إذا أنت معتز بأنه ابن عمك البريء منك، هذا جدي الذي يحبني لأني أنا ماشٍ في خطه، أنا لست سلطانًا، لست ظالمًا، أسعى في سبيل تقوية دينه واستقامة أمره. زعل الرجل وشكا إلى رسول الله من ابنه موسى ابن جعفر، ونقله إلى السجون، من سجن إلى سجن.
فإذًا، أيها الإخوان، نحن في هذا اليوم الذي نشعر بإقبال من قلوبنا نحو الإمام موسى بن جعفر في يوم ذكراه نقتبس من حياته، نستفيد من سيرته، نفكر قليلًا بأمرنا، كم يجب أن يكون الإنسان ضعيفًا يا إخوان؟ نقعد في مجلس إكرامًا لي أو لك فلان يحكي كذا وكذا... حرام. لماذا نحن نقلل من قيمتنا لهذا المقدار؟ لماذا نغيّر كلامنا وحديثنا لهذا المقدار؟ لماذا نريد نرضي الناس فنكذب ونكتسب سخط الخالق؟ لماذا نخاف من زعل زيد أو عمر من الناس؟ نترك واجبنا لماذا؟
الإنسان هو خليفة الله في الأرض، الإنسان خطه أن يكون مثل علي بن أبي طالب، هذا هو طريق الإنسان الكامل، لماذا يريد أن يكون ضعيفًا؟ لماذا يريد أن يكون مريضًا؟ لماذا يريد أن يكون خائفًا أو طامعًا؟ وما أسخف الحياة التي تقضى بهذا الشكل وإرضاءً لرضا الناس؟ لرضا من هو أعجز منّا.لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
الإمام زين العابدين سلام الله عليه في دعاء من أدعيته يقول: "وعلمت أن طلب محتاج إلى محتاج سفه في العقل وذلّة في الرأي"، طلب المحتاج إلى المحتاج شو يعني؟ يعني طلبك من رئيس الجمهورية. يعني طلبك من الزعيم الفلاني. يعني طلبك منّي وطلبي منك. يعني طلبك مما عدا الله، مهما كان نوعه وجنسه، فليكن! من الذي يقدر أن يقضي لك حاجة، قلت لك سابقًا أن الدعاء لا يعني أنك تترك الأسباب. امشِ وراء الأسباب واسعَ. ولكن تعلم وقت الذي تحكي معي وتطلب مني قضاء حاجة قلبك ليس موجودًا عندك، قلبك عند الله وتطلب من الله أن يجري الخير على يدي، هذا هو.
تروح عند الحكيم وتعالج نفسك، ولكن لا تثق بأنّ الطبيب هو الذي يشفيك، قلبك يكون متوجه ومبتهل ومتضرع إلى الله، لأنه يلهم الطبيب العلاج، ويسهّل لك الطب والعلاج.
وهكذا في كل حياتنا نعيش معه. نقول مثل الإمام أمير المؤمنين حينما سُئل هل أنت رأيت ربك؟ فقال: "والله ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله قبله وبعده وفيه ومعه"، طبعًا لا بالعين بل بالقلب كما تعرفون.
فإذًا، عند هذا المقدار، ما السبب للطمع والخوف؟ للدجل للنفاق؟ للغيبة للكذب؟ ما السبب؟ وقت الواحد يشعر أنه متصل بالله يحكي كلمة الحق ولو عند سلطان جائر، ما قالوا أفضل العبادة لماذا أفضل العبادة؟ لأن الشخص الذي يقول الحق عند سلطان جائر يعني يستدعي الحق ويفضّل الحق ويتوسل إلى الحق ولو خسر، ولو في موقف خطير، وهذا دليل على قوة إيمانه وصلابة عقيدته.
موسى بن جعفر مصباح الهدى مثل كل الأئمة. نحن في يومه نتذكر سيرته المليئة بالاضطهاد من كل جانب، ثم نرى أنه ما أخذته لومة لائم في سبيل خدمته للدين وسعيه للحق، ونحاول بشفاعة حبنا له وتوسلنا إلى الله أن نكون في حقه.
وفقنا الله جميعًا، وسلام الله عليه وعلى أتباعه وأجداده وأبنائه. والسلام عليكم.
