المحور الأول: الاسلام والتفاوت الطبقي

الكاتب:موسى الصدر

مكتب تشيّع، ع 1، نيسان/ أيار 1959، نَقَلَهُ إلى العربية الشيخ علي حجتي كرماني.
1- كيف ينشأ التفاوت الطبقي؟
2- تأثير الثورة الصناعية في أوروبا
3 طريقان للحلّ
I- الحلّ الماركسي للمشكلة
II- نظرية الحدّ الأدنى للمعيشة
4 الحلّ الإسلامي 
I- هل الخُمس والزكاة ضريبتان في الإسلام؟
II- كيف يحلّ الإسلام مشكلة التفاوت الطبقي؟
III- ما هو الفقر في الإسلام؟
IV- هل يتغيّر الفقر بتغيّر الظروف والأزمنة؟
V- كيف نطبّق قانون الزكاة في العصر الحاضر؟
VI- طريق آخر للحلّ
IIV- في أيّ المجالات يظلّ التفاوت قائمًا، وهل يتبعه ضرر؟

1-  كيف ينشأ التفاوت الطبقي؟
يؤثّر المحيط المادي -أي مجموعة العوامل المختلفة والمتنوعة التي تحيط بالإنسان- على مظهر الإنسان وطاقاته البدنية، وغرائزه وعواطفه، وميوله ورغباته، وحتى أفكاره وتصوراته، بصورة محسوسة. فالماء، والهواء، وأسلوب ونوع الغذاء، ورطوبة الجو، والضغط الجوي، ودرجة الحرارة؛ والمناظر والمشاهدات التي تمُرّ على الشخص في حياته؛ وما يتناهى إلى سمعه، والمستوى المعيشي ووضعه العائلي الخاص، بل جميع الظروف والأوضاع التي تسمّى بالبيئة أو المحيط، لها دور كبير في التربية الروحية والبدنية للإنسان.
هذا الأصل، وإن بالَغَ فيه بعض الفلاسفة الماديين حتى ذهب إلى أنّ جميع قوى الإنسان هي حصيلة بيئته المادية فحسب، وأنكروا دور العوامل الأخرى؛ إلّا أنّ جميع المفكرين والفلاسفة يقرّون بدور العوامل المادية الخارجية في التأثير على حياة الإنسان، أي يقبلون هذا الأصل إجمالًا.
فالفلّاح الذي يفتح عينيه في بيئته البسيطة ولا يرى أمامه سوى السهل الواسع والفضاء الممتد، ويشعر بدفء الشمس وعطاء السحاب وحركة الريح وكَرَم الأرض ونقاء الهواء وعذوبة الماء وسكون الجوّ، ويعيش حياة هادئة وسليمة؛ هل يمكن مقارنته في أفكاره ومشاعره ومظهره بالعامل الذي لا يحيط به سوى الأصوات الرتيبة للمحرّكات، وعمل الماكنة الثابت المحدد، وتزاحم الأشخاص، والمجتمع العمّالي والهواء الثقيل الملوّث بالغازات الخانقة لجوّ المعمل! أو هل يمكن مقارنة ثريّ يرفل بالراحة والنعيم، وتُلَبَّى جميع طلباته بسهولة، تكفيه أدنى دراسة وأقلّ نشاط فكري لمضاعفة ثروته، ويكون جميع الخبراء والمتخصصين من كلّ فرع في خدمته، ولم يكابد الفقر والجوع والمرض... هل يمكن مقارنته من حيث المشاعر والقوة البدنية والعضلية مع عامل في الحفريات يبذل أضعاف جهود الأول في اليوم الواحد من أجل تأمين معاشه البسيط، ويتحمل بمفرده مسؤولية أداء جميع أعماله بمشقّة وعناء؟
وأخيرًا، هل الشاب الذي يعيش في جوٍّ متحرر من جميع القيود، والمنغمس في بحر الشهوات والأهواء، يمكنه أن يفكّر مثل طالب جادّ أمضى حياته في معهد منظّم وسليم، أو أن يحمل كلّ منهما عواطف ومشاعر متشابهة؟
إنّ هذا التنوع والاختلاف في القوى الجسمية والروحية والعواطف، يُلاحظ في جميع شؤون الحياة.
فطريقة العيش، والمعتقدات الدينية والاجتماعية، والآداب، والفنون، ونمط السلوك، وتربية الأولاد، وأسلوب اختيار المسكن والملبس والغذاء، وكلّ النشاطات البشرية، تخضع للتأثير الذي يفرزه اختلاف المحيط المادي.
هذا التفاوت يتراكم شيئًا فشيئًا ليتحوّل بعد جيل واحد إلى تفاوت مهني وطبقي ووطني يزداد اتساعًا بمرور الزمن.

2- تأثير الثورة الصناعية في أوروبا:
لقد أحدثت الثورة الصناعية، والتنامي المُطرد للرأسمالية، وتطور وسائل الاتصالات، وما نتج عن ذلك من مركزية في جميع الشؤون الاجتماعية للإنسان، أحدثت أوضاعًا ساعدت على تكريس هذا التفاوت وتوسيع هذه الفجوة في جميع الشؤون لا سيما في الحياة المادية للإنسان؛ فتحوّلت الرساميل الصغيرة بمساعدة الظروف والأوضاع إلى رساميل كبرى، وظهرت الشركات والكارتلات والمؤسسات المالية وتضاءلت قوّة الحكومات أمام هذه الشبكات الاقتصادية الكبرى.
أما الرساميل والثروات الصغيرة والمتوسطة التي لم تستطع مواكبة الظروف والحصول على فرص مناسبة، فقد تلاشت تدريجيًا بسبب عدم قدرتها على منافسة الرساميل الكبيرة، والتحقت الطبقات الوسطى بركب الطبقات العليا، أو انصهرت في بوتقة الطبقات الدنيا.
لقد عمل التقدم الصناعي وتنامي البنوك، ونظم الإنتاج الحديثة، واستعمار البلدان الضعيفة، وفتح الأسواق العالمية، وارتقاء مستوى المعيشة نتيجة لتطور العلوم والاختراعات على رفع مستوى الطبقات الراقية إلى درجة أعادت إلى الأذهان صور الحياة الخاصة التي كان يعيشها الملوك في السابق؛ فيما أخذ الفقر-من جهة أخرى- يتفاقم حتى بلغ حدًّا لم يكن معهودًا في الحياة البسيطة التي كان يعيشها الفقراء السابقون.
فبينما يُفرض على طبقة أن يتشرّد أطفالها المتضورون جوعًا، توفّر طبقة أخرى أفضل وسائل العيش لكلابها وقططها! حتى إنّ معطفًا واحدًا لسيدة من الطبقات الراقية، يكفي لمؤونة عائلة واحدة لعدة سنوات، أو لتوفير رأسمال لأحد الكَسَبة الصغار من ذوي الإمكانات المحدودة.
إنّ توافر مستلزمات الراحة والصحة، والخدمات العلمية، وما شابه ذلك، في متناول الطبقات الثَريَّة، هيأ لأبنائها فرص التعليم على أحسن وجه، ومن ثمّ صار العلم والصناعة والفنّ محصورًا في نطاقهم.
كما أدّى انعدام متطلبات الحياة وتدنّي مستوى العيش وتفشّي الفقر والمرض بين الطبقات الفقيرة إلى حرمان أبنائها من إمكانية مواصلة الدراسات العليا، أيّ أنّهم حُرِموا من نتائج التقدم العلمي في معالجة أجسادهم المرهقة وأعصابهم المنهارة وحالتهم التي تزداد سوءًا بسبب سوء التغذية وقذارة المسكن والملبس؛ الأمر الذي يُفقدهم السَكينة وراحة البال والوقت الكافي لطلب العلم والمعرفة.
وانقسم المجتمع تدريجيًا إلى طبقتين متميزتين: الأولى نالت كلّ شيء، والثانية فقدت كلّ شيء. أمّا مستقبل هاتين الطبقتين فسوف لا يكون أفضل من ماضيهما إن لم يكن أسوأ، وذلك بسبب وجود الظروف والأوضاع نفسها التي كانت في الماضي.
هذه الهُوَّة السحيقة، وهذا الظلم الفادح، اللذان يُعتبران إفرازًا طبيعيًا للنظم الاجتماعية، كانا يسببان -من جهة- أكبر عناء نفسي للمفكرين من ذوي الضمائر الحيّة، وكانا يشكّلان -من جهة أخرى- أكبر خطر يتهدد الطبقات المترفة، فبدأت -نتيجة لذلك- البحوث والدراسات لمعالجة هذا الداء الاجتماعي الوبيل.

3- طريقان للحلّ:
ومن أشهر وأهمّ الأساليب التي ابتُكِرَت لعلاج هذا الداء وملء هذه الفجوة، أسلوبان:
الأول: تأميم وسائل الإنتاج.
الثاني: توفير الحدّ الأدنى من المعيشة للجميع.
اعتُبِرَ الأسلوب الأول نهجًا ثوريًّا طرحه دعاة الاشتراكية وبلوره كارل ماركس، وطبّقته الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي.
أما النهج الثاني-السلمي- فهو السائد في أكثر الدول الأوروبية بصور مختلفة.
نحاول في هذا البحث -بعد عرض ونقد الأسلوبين- استنباط النهج الأمثل الذي أخذ به الإسلام، وطبّقه.

I- الحلّ الماركسي للمشكلة:
يرى المذهب الماركسي أو الاشتراكية العلمية أنّ الحل يكمن في انتزاع وسائل الإنتاج من ملكية الطبقة البرجوازية، وتأميمها. ويرى أنصار هذا المذهب أنّ العامل الوحيد لتحديد صورة أي نظام اجتماعي هو طريقة الإنتاج نفسها، وأنّ السبب الرئيس للتفاوت الطبقي في النظام الرأسمالي هو استئثار الطبقة البرجوازية بملكية وسائل الإنتاج. وهذا التحكم بوسائل الإنتاج -من معامل وبنوك وشركات وأراضٍ زراعية ومعادن وغيرها- هو السبب في تكديس الثروات بيد مالكي هذه الوسائل، وظهور التفاوت الطبقي الهائل بين هذه الطبقة وطبقة العمال (البروليتاريا). فمتى أُزيل هذا التفاوت الأساسي تزول الفوارق الطبقية ويتساوى مستوى المعيشة تدريجيًا بين عامة الناس، وهذا التساوي سيترك تأثيره في طبائع الناس وقواهم البدنية، وفي الفكر والأخلاق والثقافة والدين والفن والأدب، ويظهر نتيجة لذلك، المجتمع الموحّد، الذي يترك بدوره تأثيره على كلّ شيء، فيتشابه الأفراد في كلّ شيء تقريبًا. وبناءً على هذا، فالمطلوب هو تأميم وسائل الإنتاج، وحسب.
نحن هنا لا يهمّنا البحث في أسس هذه النظرية من النواحي الفلسفية والاقتصادية ولا السياسية. وبما أنّ المشكلة التي نحن بصدد البحث عن حلٍّ لها، هي مشكلة التفاوت الطبقي، فإننا نكتفي بعرض سؤال واحد فقط، وهو: ما هي هذه البيئة المادية التي تخلق -بنظركم- الفكر وكل البنى الفوقية في المجتمع، أو العامل المؤثّر في إيجادها، كما يرى معظم المفكّرين؟
هل هي ملكية وسائل الإنتاج وحسب؟ وهل يبدو توحيد عامل واحد -مهما كان قويًّا- كافيًا للمساواة بين الطبقات، بدلًا من توحيد آلاف العوامل المؤثرة التي كوّنت البيئة وتسببت في إيجاد طبقات المجتمع؟
ألم يعتبروا امتلاك مصنع أو عدمه هو وحده الذي يخلق الفكر، ويوجد الجسم والروح، ويبعث القوى البدنية والفكرية؟ أو كنتم تقولون إنّ مجموع العوامل تشترك في خلق المحيط، وإن المحيط المادي هو الذي يخلق ويؤثّر؟
وفي الفرض الأخير عليكم أن توحّدوا كلّ عوامل المحيط من أجل توحيد الطبقات وإلّا تخلّوا عن مدّعاكم هذا.
ولهذا السبب لم تتمكنوا من توحيد الطبقات في الفكر والعاطفة والميول والطاقات حتى في البلدان الاشتراكية. فإن انعدمت فيها طبقات باسم البرجوازية، إلّا أنّ ثمة طبقات تتفاوت فيما بينها من جميع الجهات وخاصة الظروف والإمكانيات المادية ومستوى المعيشة مثل الحزبيين والبيروقراطيين والفلّاحين والعمال ومتضرري الحرب والعسكريين وعامة الناس.
فالبذخ الذي تتمتع به الطبقة البيروقراطية والحزبية والعسكريون، يبلغ مستوىً يذكّر المرء بالأنظمة الاقطاعية والرأسمالية والبرجوازية.
أمّا اختلاف الأفكار والنزعات فيُلمس حتى لدى بعض قادة الحزب وكوادره، ممّن يُطردون بين فترة وأخرى بتهمة الخيانة والرجعية.

أسباب التفاوت الطبقي في شكله الجديد:
من الواضح أنّ العوامل المادية التي ساهمت في ظهور الطبقات المختلفة، باقية في ظل هذا النظام رغم كلّ اختلافاتها، ولا يمكن زوالها. ومع بقاء العلّة كيف يمكن أن نترقّب زوال المعلول وحلّ المشكلة التي نعاني منها، حتى وإن ارتفع أحد عوامل التفاوت المهمة، أي تأميم وسائل الإنتاج؛ خاصة وأنّ العامل الوراثي يحافظ -بواسطة جذوره القوية- الاختلافات الجسميّة والفكرية والفنية الأخلاقية والمعيشية.

II- نظرية الحدّ الأدنى للمعيشة:
تبنّت الدول الرأسمالية المتمدّنة، مجموعة قوانين وخطوات إصلاحية تؤمّن الحد الأدنى لمعيشة الطبقات المحرومة والضعيفة تشمل الغذاء والمسكن والملبس، معتقدة أنها قدّمت العلاج لهذه الالآم الاجتماعية.
عن هذه النظرية، ينبغي القول: لا شكّ أنكم بهذا القرار استطعتم أن تحولوا دون موت الطبقات الضعيفة والمحرومة، ونتيجة لهذا قد لا يتشرّد طفل بعد الآن، ولا يموت أحد بسبب عجزه عن شراء الدواء، أو بسبب برودة الشتاء.
ولكن، هل استطعتم بهذا الأسلوب أن تردموا الشرخ العميق القائم بين الطبقات؟‍‍ ألا تسبب هذه الهوّة التي تزداد اتساعًا بالتدريج، مشكلة للمجتمع مرة أخرى؟‍
ألا يثير نمط الحياة الخيالية للطبقات المترفة سخط وغضب المحرومين الذين يجدون أنفسهم بعيدين جدًا عن مستوى تلك المعيشة المترفة؟ ‍
هل كُتب على هذه الفئة من عباد الله، الذين حرمتهم القوانين الاجتماعية المغلوطة وجعلتهم لا يملكون ممثلًا في القوة التشريعية والتنفيذية، وأن يظلّوا إلى الأبد محرومين من الحياة المرفّهة إلّا في الأماني والأحلام.

4- الحلّ الإسلامي:
لقد تعامل الإسلام مع هذه المشكلة بنظرة واقعية؛ فما اعتبره خطرًا -كالتفاوت في المستوى المعيشي المادي وآثاره ونتائجه- عالجه ولم يتهاون إزاءه. وأمّا في المجالات الأخرى، فقد استطاع الإسلام بتعاليمه الأخلاقية والتربوية تحقيق نتائج باهرة أيضًا.

I- هل الخُمس والزكاة ضريبتان؟
إنّ تشريع الخُمس والزكاة قانون مقدس وضعه الإسلام من أجل تعديل المستوى المعيشي للطبقات المختلفة. قد يتبادر إلى الأذهان -لأوّل وهلة- أن الخُمس والزكاة هما في عداد الضرائب في الإسلام، بل إن بعض الكتّاب يجزم بهذا. ولكن ينبغي أن نعلم أنّ للضرائب معانٍ مختلفة تاريخيًا. فإن عرّفنا الضرائب -بحسب معناها المعروف والمتداول- بالأموال والوجوه التي تستوفيها الحكومة لإدارة مؤسساتها وحماية البلد من الاعتداءات الخارجية ولأغراض الأمن الداخلي وما شابه ذلك، فإنّ الخُمس والزكاة لا يصدق عليهما أبدًا مفهوم الضرائب.
إنّ التأمّل الدقيق في آيات الخُمس والزكاة وأدلّة تشريع هذه الأحكام الإلهية، يوضح دعوانا بصورة جليّة:
1- ﴿واعلموا أنّما غنمتم من شيء فإنّ للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم باللّه﴾ [الأنفال، 41].
2- ﴿إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل اللّه وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾ [التوبة، 60].
3- وردت روايات متعددة بمضمون الحديث الشريف الذي يرويه زرارة ومحمد بن مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق (ع)، من أنّ الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء ولو علم أنّه لا يكفيهم لزاد...

II- كيف يحلّ الإسلام مشكلة التفاوت الطبقي؟
إن دراسة هذه الأدلّة الثلاثة وسائر أدلّة الخُمس والزكاة والتدقيق فيها، يكشف عن تعيين ستة موارد لإنفاق الخُمس وثمانية للزكاة، فنصف الخُمس (أي ثلاثة من الستة) المعروف بسهم السادة، قد خُصِّصَ للفقراء والمساكين والغارمين (المدينين) وفي الرقاب (العبيد) وابن السبيل خُمس المجموع. أمّا حصّة (العاملين عليها) فتعتبر –في الحقيقة- دعمًا لمشروع الزكاة نفسه. أما سهم (المؤلفة قلوبهم) فيعتبر إنفاقًا سياسيًا، كما يمكن اعتبار (سبيل الله) -بناءً على تعريف بعض الفقهاء الكبار- كل أعمال البِرّ والخير فيشمل الشؤون الدينية والسياسية والاجتماعية.
وعلى أي حال، فمن المسلَّم به أنّ سهم السادة كلّه، وأغلب موارد صرف الزكاة -أي ستة أثمانه- مخصصة للطبقات المحرومة في المجتمع؛ فلا يكون من الأموال التي تخدم مؤسسات الدولة والمصالح العامة بأي حال من الأحوال، ومن ثمّ لا يصحّ إطلاق صفة الضرائب عليها. 
ينبغي التذكير أنه في النصف الأخير من هذا القرن، بدأت الحكومات تتدخل في بعض الشؤون المتعلقة بالطبقات المحرومة كالتأمين الاجتماعي للعمال ومجانية الصحة والتعليم ودور العجزة وأمثالها، وتتقاضى ضرائب من أجل ذلك. في حالة كهذه يمكن إطلاق اسم مثل هذه الضرائب على الخُمس والزكاة.
ومهما يكن من أمر، فإنّ غايتنا من هذا البحث لا تستهدف مناقشةً اصطلاحية، بقدر ما ترمي إلى إثبات أنّ الخُمس والزكاة فُرضا شرعًا من أجل رعاية الطبقات المحرومة، والرواية الآنفة تدلّل على هذه الحقيقة بصراحة تامة.
ولأجل تأكيد هذا الاستنباط نضيف أنه يُلاحظ في بعض الروايات أن الإمام أمير المؤمنين (ع) فرض أيام خلافته ضرائب على بعض أموال المسلمين كما يُستفاد من المعتبر والصحيح الذي نقله زرارة ومحمد بن مسلم عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام): "وضع أمير المؤمنين (ع) على الخيل العتاق الراعية في كلّ فرسٍ في كلّ عام دينارين وجعل على البراذين دينارًا".
ومن ملاحظة كلمة "وضَع" يتضح أنّ ضرائب خاصة كانت تُقرّر في حالة الضرورة، وتُستوفى من أموال خاصة في سبيل ضمان إدارة المؤسسات الحكومية. هذه الضرائب عُبّر عنها بلفظ "وضَع"، لا كما في الروايات والآيات التي وردت لتشريع الخُمس والزكاة. وإن عدّ بعض الفقهاء الرواية المذكورة دليلًا على استحباب الزكاة في تلك الموارد؛ ولكن ظاهر العبارة يوحي إلى ما ذهبنا إليه. وعلى أي الأحوال، فإنّ تعبيرًا كهذا "وضَع" يندر مشاهدته في عبارات تشريع الخُمس والزكاة.
فلننظرْ الآن إلى دور الخُمس والزكاة في حلّ مشكلة التفاوت الطبقي.
يتضح من الآيتين الكريمتين والرواية الآنفة، أنّ موارد إنفاق الخُمس والزكاة مختصة بالطبقات الفقيرة. كما إنّ مفهوم الرواية أن ما يجب على الأغنياء دفعه يكفي لمعيشة الفقراء حتمًا.
وهنا يتعين التدبر في الروايات الآتية:
1- عن أبي بصير قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل له ثمان مئة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثير، ألَهُ أن يأخذ من الزكاة؟ قال: يا أبا محمد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قال: نعم. قال: كم يفضل؟ قال: لا أدري. قال: إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف قوت فلا يأخذ الزكاة، وإن كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة. قال: قلت: فعليه في ماله زكاة تلزمه؟ قال: بلى. قلت: كيف يصنع؟ قال: يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم ويبقي منها شيئًا يناوله غيرهم، وما أخذ من الزكاة فضّه على عياله حتى يلحقهم بالناس".
2- موثقة سماعة: قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ قال: نعم ..."
3- رواية عبد الرحمن بن الحجاج عن الرجل يكون أبوه أو عمّه أو أخوه يكفيه مؤنته، أيأخذ من الزكاة فيوسع به إن كانوا لا يوسعون عليه في كلّ ما يحتاج إليه؟ فقال: لا بأس.
يُلاحظَ من الحديث الأوّل أن دفع الزكاة للعائلة الفقيرة -وإن كان معيلها كاسبًا ويحصل على قوته أو أزيد منه- يبقى مستمرًا حتى يصبح مستواها المعيشي كعامة الناس ويزول التفاوت الطبقي.
كما يُلاحظ في الرواية الثانية، وروايات كثيرة أخرى وردت بهذا المضمون، أنّ امتلاك الدار والخادم لا يمنع من أخذ الزكاة، بل وحتى الإبل، كما في رواية إسماعيل بن عبد العزيز "إنه يصلح لها" أي الزكاة ما لم يبلغ كفاف شأنه.
4- ووردت روايات كثيرة في باب الزكاة تجيز دفعها حتى للحج بأن يحج بها غير المستطيع. ولا يقف دفع الزكاة للفقير عند حدّ حتى يصدق عليه أنّه صار غنيًا. جاء في إحدى هذه الروايات: الكافي -عاصم بن حميد- عن أبي بصير: أن شخصًا امتنع أن يدفع الزكاة لشيخ يأكل اللحم والخبز ويعيش في سعةٍ نسبيًا. فتأثر الإمام الصادق (ع) وذكّره متعجّبًا بأن الله أوجب على الأغنياء ما يسدّ حاجة الفقراء من الطعام والشراب والملبس والمسكن والزواج بل وحتى الصدقة والحج بما يكفيهم، وكذلك للتوسعة على عيالهم.

III- ما هو الفقر في الإسلام؟
بعد أن طالعنا هذه الروايات بدقّة، نلفت نظر القارئ الكريم إلى النقطة الآتية:
في كل الآيات والروايات التي تخصّ الخُمس والزكاة وموارد صرفها، ورد اسم الفقير والمسكين. فمن هو الفقير؟ عرّفوا الفقير بأنّه "الذي لا يملك قوت سنته". بيد أنّه يمكننا القول أنّ مفهوم ومعنى الفقير -مثل أغلب المفاهيم العرفية- مفهوم يتغير ويتبدل بتغيرات الزمان وطبيعة الحياة الإنسانية وتفاوت الوضع المعيشي للناس، بل بحسب اختلاف المناطق والمدن في الزمن الواحد. ففي الوقت -أو البلد- الذي يكون القوت الغالب للناس خبز الشعير -مثلًا- فإن الفقير هو من لا يسعه تأمين ذلك لعياله لمدة سنة. ولكن لو كان الأرُز هو القوت الغالب، فإن الفقير هو من لا يستطيع توفير طعام عائلته من الأرُز لمدة سنة، وإن كان يسعه توفير الحنطة أو الشعير[1].

IV- هل يتغير الفقر بتغيُّر الظروف والأزمنة؟
وهذه النسبة نفسها تجري في جميع شؤون المعيشة من الملبس والمسكن ووسائل الترفيه والزينة وغيرها. فمن لا يسعه تأمين المستوى العادي الذي يعيشه أهل بلدته في ذلك الزمان، يُعدّ فقيرًا. وكلما ارتفع المستوى المعيشي لعامة الناس، تغيّر معنى الفقير في المجتمع واتسع تبعًا لذلك أيضًا.
فمن يسافر اليوم ماشيًا، أو لا يملك حذاءً، أو يعيش في كوخ صغير، أو لا يجد ما يأكل سوى خبز الشعير، يُعتبر فقيرًا، في حين كان أغلب الناس يومًا ما يسافرون مشيًا، ولم يكن يلبس الحذاء إلّا المترفون من الناس.
نصل الآن إلى استخلاص الغاية العملية للزكاة والخُمس، وهي تقليص التفاوت الطبقي إلى أقصى حدّ ممكن، حيث خصّص الإسلام عشرًا من أموال الأغنياء لطبقة خاصة من المحرومين باسم الخُمس، وعشرًا أُخر (وأحيانًا 1/20 منه) إلى طبقات أخرى من المحرومين.
وهذا التقسيم في الثروة ونقله من الطبقات الغنيّة إلى الطبقات المحرومة يستمرّ حتى ردم هذه الهوة وعودة الوضع إلى حالته الطبيعية، وتحقيق التوازن بين مستوى الطبقات الضعيفة والمستوى العام، أو حسب تعبير رواية أبي بصير: "حتى يُلحقهم بالناس"؛ أو بتعبير روايات أخرى: حتى يصدق على الفقير أنّه صار غنيًا.

V- كيف نطبِّق قانون الزكاة في العصر الحاضر؟
يتّضح من البحث أعلاه حول معنى الفقير، مدى التوازن الذي يسود المجتمع على أثر المساعدات المتواصلة والمستمرة إلى الطبقة الفقيرة، خاصة في رواية "سماعة" التي لم تتوقف في تعريف الفقير عند من لا يملك أدنى القوت، بل شملت حتى صاحب الدار والخادم؛ لأنه مشمول بالزكاة وهذا بذاته أفضل تأييد لدعوانا في رواية عبد الرحمن بن الحجاج وروايات أخرى، تجويز بأخذ الزكاة لتوسعة المعيشة والارتقاء بها إلى المستوى العام.
أمّا رواية عاصم بن حميد فتأمر بإعطاء الزكاة لتحسين مستوى معيشة الفقير ولا ترى اللحم والتمر -وكانا من الغذاء الجيد وقتئذٍ- مانعًا دون استحقاق الزكاة، حتى أنه ورد في ذيل هذه الرواية وروايات أخرى لفظ "وسّع" بصراحة تامة، وهي تكشف عن أن الحقوق التي تجب على الأغنياء غايتها تحسين حالتهم والتوسعة عليهم؛ وإن لم تفِ وجب إعطاء المزيد. وهكذا، كلما ارتفع مستوى معيشة الطبقات المرفّهة ارتفع -من خلال هذه الحقوق- المستوى المعيشي للطبقات الضعيفة أيضًا، حتى يحصل التعادل والتوازن المنطقي والصحيح، الذي لم يكن من بنات أفكار كاتب هذه السطور، بل تشهد على ذلك الروايات الآنفة بصراحة.
هنا ينبغي تنبيه القرّاء الكرام إلى أنّ الدين الإسلامي أمَرَ بدفع الخُمس والزكاة بصورة عامة -وقد عرفنا نتائجه- إلّا أنه ترك تنفيذه وأسلوب تطبيقه للزمان، وأَوكل تفاصيله إلى الحاكم الإسلامي حسب ما يراه من المصلحة.
ولكي لا يتخذ دفع الزكاة طابعًا يشعر آخذها بالألم والضعة، أو تدفع بعضًا آخر إلى البطالة والتكاسل، فإنه يمكن أن ينظّم من خلال منظمات كالتأمين الاجتماعي للعمال وغيره، فيكون الدفع بصورة كريمة -من جهة- ولا تكون عطاءً مجانيًا من جهة أخرى.
فالدُور التي تؤسس لضمان معيشة الفقراء المعاقين وتضع بين أيديهم فرص عمل تتناسب وإمكاناتهم، تعد من أفضل أساليب دفع الزكاة.
وأخيرًا، فإن التأمين الصحي والتعليمي هو أحد أكثر الطرق فاعلية وتأثيرًا في تقديم العون للطبقات المستحقة والمحرومة.
إن أسلوب الحل الذي اعتمد الخمس والزكاة لتعديل التفاوت الطبقي يُومي في الحقيقة إلى رفع المستوى المعيشي للطبقات المحرومة.

VI- طريق آخر للحلّ:
وينبغي الإضافة أنه ثمة أسلوب ثانٍ -وقائي- في الإسلام لحل هذه المعضلة يحول دون ظهور الاختلافات الطبقية الفاحشة.
فهناك حدود وقيود في الإسلام لكسب الثروة، منها: تحريم الربا -والربا هو أساس الرأسمالية المعاصرة- وتحريم الاحتكار، ومنع معاملات "المخاطرة" و"الغرر" التي قد تضاعف الثروة بشكل فاحش أو تقودها إلى خسارة فادحة، فهي تشبه القمار من هذه الجهة.
وبعد أن تتجمع الثروة ويتكدس المال، يأتي الإرث -كتشريع إسلامي رفيع- لتقسيم الثروة وتوزيعها والحؤول دون تضخمها. وهذا الموضوع بحد ذاته بحاجة إلى مقالة خاصة، واسعة ومفصله.
ومن جهة أخرى، لا يحبّذ الإسلام التظاهر بمعطيات المال المادية من بذخٍ وترف، ليمنع -ما أمكن- من حدوث التأثير في نفوس الآخرين وحدوث الفجوات العظيمة. كما حرّم الإسلام التبذير والإسراف وذمّ المترفين. وكان بعض الأساتذة يعتقد أن هذا هو سبب حرمة لباس الشهرة لأن التظاهر بالترف هو الذي يؤدي إلى الشهرة.

VII- في أي المجالات يظلّ التفاوت قائمًا، وهل يتبعه ضرر؟
كان بحثنا حتى الآن، عن التفاوت الطبقي من حيث المستوى المعيشي، وعَرَضْنا الأسلوب الذي يقترحه الإسلام لحلّ المشكلة.
أمّا الآن فنعرض للاختلافات الأخرى الموجودة في حياة الناس من قبيل اختلاف القوى الفكرية والجسمية، والتفاوت في العواطف والمشاعر، والأخلاق، والقابليات المختلفة؛ ونقول:
في هذا المجال لا يسعى الإسلام للقضاء على هذه الاختلافات -خلافًا للأسلوب الماركسي- بل يُستفاد من بعض كلمات الأئمة أنّ مثل هذه الاختلافات ضرورية ورحمة. وهذه الاختلافات هي السبب وراء قيام الأشخاص بأداء المسؤوليات الاجتماعية المختلفة الملقاة على عاتقهم، كلٌّ حسب طاقته واستعداده وحاجته، دون أن تبقى مسؤولية ما ملقاة على الأرض. لأنّ كل شخص يتعهد القيام بأحد الأعمال حسب رغبته وتخصصه الفكري والعملي، وينتفع المجتمع من تخصّصه وطاقاته الفكرية والفنية والصناعية التي يتفاوت فيها عن الآخرين.
ولكي لا تكون هذه الاختلافات سببًا للتفاخر، وإيلام الآخرين، ولكي لا تنثلم الوحدة الاجتماعية التي تحتاج إلى أعضاء مختلفي الاختصاصات والمواهب، فإنّ إرشادات أخلاقية كثيرة عيّنت واجبات وحقوق الأفراد بعضهم تجاه بعض، كحقوق الأسرة والجيران والأصدقاء والأساتذة. ووردت تأكيدات بليغة تحثّ على التعاون ومنع أي نوع من سوء التفاهم، وهو ما يتطلب بحثًا مفصلًا وواسعًا.

source