لماذا العيد؟

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* الخطبة الأولى للإمام موسى الصدر من خطبتي عيد الفطر، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الحمد لله على ما هدانا، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الحمد لله على ما هدانا.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أيها الإخوة الأعزاء،
نحن في هذا اليوم، الذي يُعتبر أحد العيدين الأساسيين في الإسلام، نستلهم من الأعمال الواردة في هذا اليوم المبارك، معاني هذا العيد؛ لأن هذا العيد من وضع ديننا وإسلامنا.
وإذا نريد أن نفهم ماذا يقصد الإسلام من وضع هذا العيد؟ وإلى ماذا يرمي؟ ما المقصود من إيجاد هذا اليوم عيدًا مباركًا؟ إذا نريد أن نفهم، حتى يكون لنا عيدًا مباركًا كما يريده مشرَّعه وصاحبه، علينا أن ننظر إلى الأعمال، والأذكار والواجبات في هذا اليوم. حينما ندرس هذه الأشياء نفهم ما المقصود من هذا العيد.
أولًا، كما تعلمون، زكاة الفطرة، زكاة الأبدان، زكاة سلامة الأجسام عن كل فرد للمستحق.
ثانيًا، صلاة العيد في الاجتماع، لا بالانفراد، في المصلى وبجماعة. ثم في الصلاة نقرأ وقبل الصلاة نرتّل التكبير. الزكاة، والتكبير، والتهليل، والصلاة، والجماعة، ثم أدعيتنا المأثورة في هذا اليوم. هذه تعاليم دينية، تذكرنا بهدف هذا العيد، والمقصود من بركة هذا اليوم. واضع هذا العيد، ومقنن هذا الدستور، هو يُفَهّمنا عن طريق هذه الأدعية والأعمال، ماذا يريد من هذا اليوم؟
هل يريد لبسًا جديدًا؟ أو يريد تقديم الحلوى؟ أو يريد أشياء شكلية لا تتجاوز بسمات الإنسان وثغور أبناء الأمة؟ أو يريد معنىً أعمق من هذا؟
كيف نتمكن من فهم ما هو أعمق؟ من دراسة أعمال هذا اليوم. فنحن كما تعلمون، قبل الصلاة نذكّر أنفسنا مرات ومرات، وعشرات المرات قبل صلاة الصبح، وبعد صلاة الصبح، وقبل الخروج من البيت، وحين المشي إلى المصلى، وقبل الصلاة، وقبل الخطبة، نعرف، ونذكِّر أنفسنا بأن الله أكبر، وأنه لا إله إلا هو، وأنه هدانا، فلنا العزّ؛ لأن ربنا هو أكبر، ولأنه لا إله إلا ربنا، ولأنه هدانا.
فإذًا، نحن في سبيل الخير والحق، ونحن مع العزّ المطلق، وليس هداية ولا من طريق إلا طريقنا.
ثم ندخل في قراءة الآيات المباركات في سورة: ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ [الأعلى، 1] وفي سورة الشمس، وفي كل من السورتين، إذا درسناهما بصورة دقيقة، ما يوحي إلينا فكرة العيد، وهدف العيد.
ويبرز هذا الهدف بصورة واضحة في هذه الأدعية التي كررناها تسع مرات في صلاتنا، فقلنا: اللهم أهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، وأهل العفو والرحمة، وأهل التقوى والمغفرة... لقد خاطبنا ربنا بهذه المواقف الأربعة، وهذه الأسماء الأربعة، وهذه الوجوه الأربعة. قلنا: اللهم ربنا، يا من هو أهل الكبرياء والعظمة، ويا من هو أهل الجود والجبروت، ويا من هو أهل التقوى والمغفرة، ويا من هو أهل العفو والرحمة.
خاطبنا ربنا بهذه الأسماء الأربعة، وأنتم تعلمون أن الإنسان حينما يريد أن ينادي ربه، فيختار الاسم المناسب لحاجته، وهذا من لياقة الأدعية، وهذه عادة متبعة؛ أنت إذا تريد أن تكسب صداقة صديقك، فتخاطبه باسم الأخ، وإذا تريد أن تكسب غيرته، فتسميه باسم آخر، كما هو العادة عند العرب.
فمن آداب الدعاء، أننا إذا نريد من الله سبحانه وتعالى الرحمة فنسميه باسم يا رحيم؛ وإذا نريد من الله الرزق نسميه باسم يا رزاق؛ وإذا نريد من الله الانتقام من العدو نسميه باسم يا منتقم، يا عزيز، ويا جبار. وهذا من أدب الدعاء، أن الإنسان يوجه خطابه إلى اسم الله الخاص؛ وله الأسماء الحسنى والأمثال العليا.
فحينما نقرأ أن الأمر الديني في هذا اليوم، أن نخاطب الله بهذه الأسماء الأربعة، نفهم ما المقصود من هذه المخاطبة. فحينما ننادي الله في هذا اليوم، في هذا اليوم المبارك، في هذا اليوم العيد، في صلاتنا، حينما نخاطب ربنا، فنسميه أول ما نسمي فنقول: اللهم أهل الكبرياء والعظمة. ماذا تفهمون أيها الإخوان من هذه الجملة؟ نحن لا نخاطب أول ما نخاطب ربنا في هذا اليوم، باسم يا رزاق، أو باسم يا رحيم، أو باسم يا كريم. لا نخاطبه بهذه الأسماء، بل نخاطبه أول ما نخاطب: اللهم أهل الكبرياء والعظمة.
ألستم معي في استلهام هذا المعنى اللطيف من هذه الأدعية المباركة أننا بحاجة قبل كل شيء إلى أن نخاطب كبرياء الله وعظمته. والسبب، لأننا أصبحنا بحاجة إلى سند هو ما فوق سند البشر، وإلى عظمة تفوق عظمة المادة والسلاح والفرد والإنسان.
نحن اليوم نحتاج، وفي كل يوم نحتاج، لأننا من دون كرامة وعظمة، ومن دون مساندة ربنا، لا نستحق الاحترام والإكرام، ولا نعادل شيئًا في الدنيا، إذا لم يكن عظمة الله وكبرياؤه معنا فنحن قبل كل شيء، يجب أن نوجه خطابنا إلى الجانب الكبريائي العظمي من ربنا؛ لأننا بحاجة إلى هذه النقطة دائمًا. ثم نحتاج أن نقول: وأهل الجود والجبروت، وبعد ذلك نحتاج إلى أن نقول: وأهل العفو والرحمة. قبل كل شيء، نحن نحتاج إلى عظمة الله، وكبرياء الله. نحن نحتاج إلى القوة، وأن يكون عفونا ورحمتنا، عفو القوي، وعفو العظيم، لا عفو الخانع الذليل.
نحن نخاطب ربنا أول شيء، لأننا نريد أن نكسب منه هذه الأشياء. نريد أن نخاطبه بأهل الكبرياء والعظمة، وبأهل الجود والجبروت، وبأهل العفو والرحمة، وبأهل التقوى والمغفرة. فإذًا، المفهوم من هذه العبارات، أن الإمام، أن شارع الدين، أن مشرِّع الإسلام، قبل كل شيء يريد [أن] يحرك في نفسنا هذه الجوانب، فيقول لنا: أيها المسلمون، انتبهوا!! فأنتم تحتاجون أول ما تحتاجون إليه، إلى أن تخاطبوا ربكم بالكبرياء والعظمة، ثم بالجود، ولكن الجود أيضًا مقرون بالجبروت. وبعد ذلك يأتي دور العفو والرحمة، والتقوى والمغفرة.
فالعفو والرحمة، والتقوى والمغفرة، التي تأتي قبل الكرامة والعظمة، هذا ذل وهوان، وخنوع واستسلام. لماذا الدين يقول: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ [البقرة، 194] ثم يأمرنا بالعفو والرحمة والمغفرة والصفح، ويقول: ﴿وأن تعفوا أقرب للتقوى﴾ [البقرة، 237] أو إلى التقوى. لأنك إذا فُرِض عليك العفو والغفران، فهذا ذلّ وهوان. العفو والرحمة، لهما قيمة، إذا جاءا من مصدر القوة وهكذا التواضع، إذا جاء من الكبير، من القوي، فله قيمة. أما تواضع المتواضع، تواضع الأسير، تواضع الذليل، تواضع الصغير، فلا قيمة له. وهذا من طبيعة تواضع الكبير العزيز المقتدر: العفو عند المقدرة، الغفران مع التمكن من الانتقام، هذا له قيمة.
فإذًا، هذا الخطاب الأول في الدعاء، يفتح أمامنا هذا الباب. فيذكرنا، يا أصحاب هذا العيد، أيها المعايدون بهذا العيد، أيها المتبركون ببركة هذا اليوم، خاطبوا ربكم باسم الكرامة، والعظمة، وباسم الكبرياء، لأنكم بحاجة إلى كبرياء: فـ﴿لله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ [المنافقون، 8]، قبل أن تحتاجوا إلى عفوه ورحمته، ومغفرته. وبعد ذلك، أسألك بحق هذا اليوم، الذي جعلته للمسلمين عيدًا، لماذا جعله للمسلمين عيدًا، ولمحمد (ص) ذخرًا وشرفًا وكرامةً ومزيدًا؟
يوم الكرامة، يوم الشرف، يوم المزيد من الكرامة والشرف. هذه هي النقطة الأولى من موحيات هذا اليوم؛ وهذه هي الثمرة الأولى من ثمار هذا اليوم. فقد وُضِع عيد الفطر بعد عبادة شهر كامل بالصيام وبالاستعداد؛ وشهر كامل من الصيام، ومن الاستعداد، يعطينا من الثمار، ما يكون الثمرة الأولى من ثماره، هو كرامة الإنسان، وعزّ الإنسان، وقوة الإنسان.
إن رمضان أيها الإخوان، كما يعلمنا العفو والرحمة، كذلك يعلمنا الصلابة، والقوة والكرامة. الإنسان، لماذا يتنازل عن كرامته؟ لأنه ضعيف. لماذا الإنسان ضعيف؟ لأنه محتاج. فالحاجة أساس الضعف. لماذا الإنسان محتاج؟ لأنه يتعود، ويضعف أمام الأشياء. فلو كان يشعر بحاجة، وتمكن من الوقوف دون حاجته فلا يشعر بالضعف.
ورمضان يعلمنا ذلك، ويدربنا على ذلك. فإنك في خلال شهر رمضان، كنت تشعر بالرغبة إلى الأشياء، وكنت تمتنع عنها. وهكذا تدربتَ، وتمرنتَ وتمكنتَ أن تستغني عن هذه الرغبات بعض الشيء، وأن تفوق هذه الحاجات بعض الشيء. فرمضان يحاول أن يعوّدك على القوة والترفع أمام الحاجات، وعلى الصمود أمام الصعاب والمشاكل، وعلى هذا، فرمضان يكسبنا السمو والصمود، فرمضان يكسبنا القوة.
وبالنتيجة الثمرة الأولى من ثمار رمضان هي كرامتنا وقوتنا، فإن في حاجتنا سر ضعفنا. وحاجتنا تحصل من الاستسلام لرغباتنا، فالإنسان إذا تجاهل حاجاته، وإذا سما على رغباته يصبح قويًا.
لماذا أنا أخضع للذل والهوان؟ لأني أحب أن أعيش. فإذا كنت محبًا للعيش كيفما كان، وإذا كنت أعبد حياتي من دون الله فإذًا، أخضع للذل والهوان، ولأي وسيلة كانت، حتى أبقى حيًا. أما إذا كنتُ مترفعًا عن هذه الحياة، إذا كنتُ غير مبالٍ بهذه الحياة، إذا كنتُ مستخفًا للحاجات: حينئذٍ، أصبح أقوى، وأكثر صلابة.
بعبارة موجزة يا أخي، كلما كنت راغبًا محبًا، محتاجًا، مستسلمًا إلى شؤونك الحياتية، فأنت أضعف، وأضعف. بمقدار ما تحترم راحتك، أنت عاجز. وبمقدار ما تضحي لأجل أكلك وشربك، فأنت عاجز. وبمقدار ما تتقيد بأنانيتك وأهوائك ورغباتك، فأنت عاجز. وبمقدار ما تحب حياتك، فأنت عاجز.
هل تعلم متى تكون قويًا؟ ومتى تكون كريمًا مكرمًا؟ حينما تتمكن أن تقف أمام أكلك وشربك مترفعًا، وأمام أنانياتك مضحيًا... حينما تتمكن أن تحسن إلى المسيء، فتنسى حقدك، فأنت أرفع من حقدك، وأنت أقوى من أنانيتك... حينما تتمكن أن تمدّ يدك إلى أخٍ مسيء لك، وتتجاهل ما أساء إليك، تثبت بأنك في صِلتك أقوى منه في مقاطعته. وحينما تمكنتَ [من] أن تسمو عن أكلك وشربك، فلا يمكن لصنم الأكل والشرب أن يسيطر عليك. وحينما تمكنت ألّا تبالي بالموت أمام العار، فأنت الحي وأنت القوي، وأنت في سبيل الحي القوي.
أما لو كنا نحن نريد أن نتماسك ونتمسك بكلتي يدينا بحاجاتنا، فلا شك، أننا نصبح خانعين. حسب التعبير القرآني، كما قلت حينما تدعون إلى الجهاد، في الآية المعروفة: ﴿اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة﴾ [التوبة، 38]، هذا الخط الذي يرضى بالحياة الدنيا، أي الأدنى، أي الأرذل، الذي يرضى بهذه الحياة ويتجاهل الحياة الثانية القائمة على أساس التضحية والمحافظة على الكرامة تمكن من النجاح، ومن القوة ومن الكرامة... أما من دون ذلك، ومع التمسك الشديد بأكلنا، بشربنا، بأرضنا، بلبسنا، براحتنا، بأنانياتنا، بأحقادنا، بعواطفنا -وبصورة موجزة- بحياتنا الدنيا... ما دام نحن متمسكين بحياتنا الدنيا، ولسنا مستعدين أن نتنازل عنها قيد شعرة، فيكفينا حياتنا، فلا كرامة، ولا مجد، ولا سمو... حتى هذه، لا، لن تبقى لنا أيها الإخوان. فإذًا، قبل كل شيء العيد يُلهم ويوحي إلينا بالكرامة، ولا كرامة مع الخضوع أمام الحاجات المادية.
أيها الإخوان، إذا تريدون أن تجدوا طريقًا آخر إلى المجد، إلى العز، إلى السمو والتضحية، إلى الرضى بالآخرة، إلى الرضى بالله، إلى الدين، فلن تجدوا ذلك. من أراد عزًا بلا سلطان، وهيبة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته. هذه حقيقة، لا يقصد الله ولا الشرع أن يسخرنا لأجل أهداف خاصة، والله هو الغني ونحن الفقراء؛ وإنما هذا هو الطريق الوحيد.
لا حياة بلا كرامة، ولا كرامة إلا بالتضحية، إلا بالانفصال عن هذا الثقل على الأرض، إلا بالسمو على الحياة المادية، على حياة الدنيا.
شؤون الدنيا كثيرة، فكلما تمكنت أن تتخلى عن قيد من هذه القيود، فأنت أرفع. هذا من وحي عيدنا، وعلى ذلك، فلا عيد لنا، ما لم تكن لنا كرامة. ولا عيد لنا ما لم تكن لنا تضحية. ولا عيد لنا ما دامت أرضنا مستعمرة، وكرامتنا مهدورة، ونفوسنا ذليلة، فلا عيد لنا. أي عيد هذا؟ ونحن نخاطب أول ما نخاطب ربنا بأهل الكبرياء والعظمة، وأهل الجود والجبروت، ثم نأتي إلى أهل العفو والرحمة، وأهل التقوى والمغفرة. 
فنحن في هذا اليوم، الذي سلكنا في خلال هذا الشهر، مسلك الصيام، وقضينا الدورة التدريبية للجهاد، للصمود في وجه الحاجات، للتغلب على أنفسنا، لأجل أن نتغلب على أعدائنا، في هذا اليوم، نتوجه إلى الله وندعوه، ونريد منه أن يوفقنا للعودة إلى كراماتنا، وللدفاع عن بلادنا، وعن مقدساتنا، وللوصول إلى المقام الذي أراده لنا، فـ﴿لله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ [المنافقون، 8].
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا﴾ [النصر].

زكاة الفطر
* الخطبة الثانية للإمام موسى الصدر من خطبتي عيد الفطر، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا﴾
 [النصر]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
وبعد،
نقرأ في السورة المباركة، التي قرأناها في الركعة الأولى من صلاة العيد، في سورة: ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ [الأعلى، 1]، نقرأ هذه الآيات: ﴿قد أفلح من تزكّى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثِرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * إنَّ هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى﴾ [الأعلى، 14-19].
وهذا المعنى، يعني معنى الزكاة؛ في هذا اليوم ورد في هذه السورة، وفي كثير من أدعية هذا اليوم، حتى في الخطبة المأثورة عن أمير المؤمنين (ع) -الخطبة الوحيدة الباقية من تراثنا الإسلامي- يؤكد الإمام فيها على الزكاة. وأنتم تعلمون أن الزكاة في هذا اليوم، واجب على كل فرد متمكن من نفسه، وعن أولاده، وعن عياله. عن جميع من يعوله.
ولا شك أن هذا يرمز إلى تعميق الشعور الإنساني، والتأكيد بأن الإنسان، الإنسان الذي يريده الله، الإنسان الذي يرضى عنه الله، الإنسان الذي يريد أن يربيه الإسلام، الإنسان الذي لأجله الإسلام، ومنه الإسلام، وإليه الإسلام، هذا الإسلام يريد أن يكون الإنسان إنسانًا لا يشعر بالفرح وهناك متعبون، كادحون، جائعون، فقراء. لا يريد الإسلام أن يرى المسلم ينام شبعانًا وجاره جائع، وكما يقول أمير المؤمنين (س): "أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش".
وهكذا، "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانًا وجاره جائع"، هذا الإنسان الذي يتمكن أن يتجاهل جوع الجيران، وألم الأصدقاء، وعجز الفقراء، وحاجة المتعبين أمام عينه، وهو يكون مسرورًا فرحًا، مع أولاده وفي بيته، فهذا إنسان لا يرضى عنه الله. أما الذي يرضى عنه الله، أما الذي يعتبره مصلحًا، ناجحًا، سعيدًا، أما الذي يعتبره الإسلام إنسانًا، ﴿قد أفلح من تزكّى * وذكر اسم ربه فصلى﴾ [الأعلى، 14-15]، ولكن ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى﴾ [الأعلى، 16-17]، حتى لأجلك، لأجل مصلحتك، يجب أن تفضل الآخرة على الدنيا.
فإذًا، سعادة الإنسان تتم حينما يكون أخوه مسرورًا معه، وجاره شبعانًا قبله، وصديقه مرتاحًا... قبل أن تكون أنت المرتاح. الإسلام يريد منا أن نشعر بأن جسدنا، ونفسنا أوسع من متر ونصف متر، يريد أن يرى فينا وجودًا واسعًا. تتألم إذا مرض صديقك، وتبرد إذا برد جارك، وتئن إذا جاع رحمك، هكذا يريد. يريد أن يوسع هذا الشعور ويعمق هذه الصلة، ويجعل منك إنسانًا أوسع حدًا، وأكثر وجودًا من جسد طوله متر ونصف، وعرضه نصف متر. ولهذا يفرض عليك في هذا اليوم، الزكاة. ولا شك، أنكم أديتم الزكاة قبل الصلاة. ولكن، هل ترى أن الواجب ينتهي بزكاة المال، وبدفع المال؟ أنا أعتقد أن زكاة المال تبرز وترمز إلى زكاتك في كل شيء.
فاليوم، أنت يا أخي، كما تقدم من مالك زكاة لجارك أو لعائلتك، أو للفقير أيضًا، قدِّم من صحتك، من فرحك، من تجربتك، من سلامتك، من رأيك أيضًا، زكاة للمحتاج. فما المانع أن تمد يديك لكي تصافح من قاطعته وهو بحاجة إليك من دون أن تحتاج أنت إليه؟ فهل هناك من مانع أن توجه غشيمًا؟ أو تعلم جاهلًا؟ أو تدخل السرور في قلب كئيب أو حزين؟ هذه أيضًا زكاة. وإنما زكاة تأتي من وراء هذا الرمز الذي هو زكاة المادة. بعبارة موجزة، يريد الإسلام منك أيها المسلم أن تضيء ليلة جارك المظلمة، قبل أن تضيء بيتك. ولهذا يقول لك: قبل أن تصلي وترجع إلى البيت، وتحتفل بأفراح العيد، زَكِّ. يريد لك أن تدخل السرور في بيت جارك قبل أن تدخله في نفسك. وهذا هو رمز الإسلام، وهذا هو معنى العيد، وهذه هي بركة العيد. فنسأل الله أن يكون هذا اليوم يومًا مباركًا ويومًا نقوم فيه بواجباتنا.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة. اللهم ما عرّفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه. اللهم إلمم به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثّر به قلتنا، واعزز به ذلتنا، واغنِ به عائلنا، وإقضِ به عن مغرمنا، وأجبر به فقرنا وسد به خلتنا، وبيّض به وجوهنا، وأنجح به طلبتنا، واستجب به دعوتنا، وانجز به مواعيدنا، وبلغنا به من الدنيا والآخرة آمالنا، وأعطنا به فوق رغبتنا، يا خير المسؤولين، وأوسع المعطين، إشفِ به صدورنا، وأذهب به غيظ قلوبنا، واهدنا به لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا، وغيبة وليِّنا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلَّ على محمد وآل محمد، وأعنّا على ذلك بفتح منك تعجله، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمةٍ منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أدخل على أهل القبور السرور، اللهم إغنِ كل فقير، اللهم أشبع كل جائع، اللهم إكسُ كل عريان، اللهم إقضِ دين كل مدين. اللهم فرِّج عن كل مكروب، اللهم ردَّ كل غريب، اللهم فكَّ كل أسير، اللهم أصلح كل فاسدٍ من أمور المسلمين، اللهم إشفِ كل مريض، اللهم سد فقرنا بغناك، اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك، اللهم إقضِ عنا الدين, واغننا من الفقر، إنك على كل شيء قدير. اللهم طهر ألسنتنا، وقلوبنا، وأجسادنا، من معاصيك، ومما لا يرضيك، ونوّر قلوبنا بنور معرفتك وإيمانك. اللهم ارزقنا حج بيتك الحرام وزيارة قبر النبي، وقبور الأئمة (عليهم السلام)، وفي الآخرة شفاعتهم. اللهم إجعل كلمتنا هي العليا، وكلمة أعدائك هي السفلى. اللهم انصرنا في معركتنا. اللهم أعدْ علينا هذا اليوم، ونحن في عز ومجد، وقد مكنتنا من تحرير أرضنا، ومن إعادة بلادنا، ومن إعادة قبلتنا الثانية، ومن القضاء على أعدائك، يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا لا نرضى بهذه الحياة أبدًا، ما دام ليس فيها كرامة، فأعد علينا كرامتنا. وألهمنا أسباب العودة إلى هذه الكرامة، يا أرحم الراحمين. اللهم إغفر لنا ولوالدينا، ولمن وجب حقه علينا، ولمن وصانا بالدعاء. اللهم إغفر لأمواتنا وارحمهم، وأموات الحاضرين، والفقيد، وأمواتنا الذين سبقونا بالإيمان، ووالدنا وروح سيدنا المقدس السيد عبد الحسين شرف الدين، ونبعث إلى أرواح الجميع ثواب الفاتحة.
والسلام عليكم.

source
عدد مرات التشغيل : 10