في الخامس عشر من حزيران عام 1975 عُقِدت مصالحة بين عشيرتي زغيب والحاج حسن في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى برعاية الإمام الصدر الذي ألقى كلمة شدد فيها على أن مسؤولية كل فرد تاريخية أمام الوطن بالعض على الجرح، وحفظه من الأزمات. ننشر نص الكلمة كاملًا كما نشرته الصحف اللبنانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور﴾ [المائدة، 15-16].
صدق الله العظيم
إذًا، فالهدف من الرسالات الإلهية أولًا إشاعة السلام في الأرض، ثم خروج الإنسان من الظلمات إلى النور.
وإذا لاحظنا أن معنى الخروج من الظلمات إلى النور هو بالخروج من ظلمات الجهل والفقر والمرض والتخلف والأوساخ والكسل والظلم والتجاوز وأنواع الظلام كافة، الخروج منها إلى نور العلم والرفاه والصحة والتقدم والنظافة والجهد والعدل والمساواة وأنواع النور كافة... إذا لاحظنا كل ذلك، نعرف أن الأساس لكل سعي وتقدم في حقول الدين والاجتماع والعلوم، إنما هو تحضير الأرضية، إنما هو في توفير السلام.
فلا خير مع التفرق والخلافات على صعيد المجتمعات، كما وأن الخير في الفرد أي خير كان، علمًا أو سموًّا روحيًّا أو تربية بحاجة إلى وجود السلام في النفس. لذلك، فإن الحديث الشريف يؤكد عدم قبول دعاء من يحمل في قلبه حقدًا على أخيه ووصية الإمام أمير المؤمنين تؤكد أن الإصلاح بين الناس هو أفضل من الصلوات والصيام كافة.
لذلك، فنحن نعتبر أننا في اجتماع أفضل العبادات وأن دعاءنا ودعوتنا موضع استجابة الخالق وقبول الخلق، خصوصًا أن الصلح في هذا اليوم لا يساعد الظلم ولا يقوي الظالم، وهذا هو الشرط الأساس. إذ إن الركون إلى الظالم والسلام معه دعم للظلم، وبالتالي تحضير للخلاف وللحرب والعكس هو الصحيح. إذ إن محاربة الظلم والظالم تساعد على إشاعة السلام، والحديث الشريف يقول: المنظلم أحد الظالمين.
إننا نغتنم فرصة هذه المصالحة التي نعتبرها بعد فترة مأساة طويلة مفتاحًا لإقامة المصالحات بين العائلات المختلفة في البلاد، وسنرى غدًا أن الإخوان سيتجندون لمعالجة بقية المشاكل ولإشاعة السلام في تلك المنطقة الطيبة وبقية المناطق اللبنانية... نغتنمها لكي نتحدث مع الإخوان الأبطال، حول الوضع العام وحول البحث عن الحل، ولا نشك أن الله أكرم الأكرمين سيهدينا إليه، خاصة وأن الاجتماع هو للعبادة بل لأفضل العبادات.
في البلاد أزمة كبرى لعلها أخطر ما واجهه الوطن منذ الاستقلال، إنها أزمة المصير للبنان، بل هي أزمة ذات تأثير مصيري على المنطقة وخاصة على القضية الفلسطينية وعلى الشقيقة سورية.
لقد قُتِل المئات وجُرِح الألوف، وخُطِف العشرات وهُدمت الأحياء وتجمدت الحياة، ومن منطقتكم بالذات قُتِل عشرات الأبرياء.
تعرضت سمعة الوطن للخطر. ثم إن المستقبل القريب وشبح الأزمة الاجتماعية التي نتجت عن تعطيل الأعمال والعمال والمصانع والحياة العامة تقض المضاجع.
هذا على الصعيد المادي، أما الأزمة المعنوية الكبرى فإنها تكمن في تعريض تعايش أبناء الوطن الواحد، هذه الميزة الحضارية اللبنانية، تعريضه للخطر.
وتكمن الأزمة المعنوية أن الإنسان يعجز عن شرح المشكلة للعالم، وعن إيضاح أبعادها التي لا تشرف إطلاقًا.
لبنان، هذا الوطن العزيز، الذي أعطى أبناءه أعز الأشياء قُوبل من قبل بعضهم بأسوأ الجزاء.
تبدو في الأفق ملامح مؤامرة كبرى من أبطالها إسرائيل والامبريالية العالمية المتحالفة معها. إنها ارتعدت من الإمكانات الهائلة التي أنعم الله بها على العرب التي يكفي استخدامها بضع سنوات لكي تتغير المعادلات، لا في المنطقة فحسب، بل في العالم أيضًا.
إن إسرائيل أصبحت في يأسٍ من المستقبل، لذلك فإنها تحاول مع حليفاتها إيقاع الضربة القاضية على العرب. قد يكون المكان الذي اختارته لمثل هذه الضربة هو لبنان، لا سمح الله، والجميع يتذكرون تصريحات المسؤولين في إسرائيل، ولم ننسَ الكلمة التي نُقلت عن لسان وزير الخارجية الأميركي أو كبير مستشاريه.
إذًا، قد تكون الأزمة المؤلمة التي عصفت بوطننا هي بداية محنة، كارثة، مأساة.
رحماك ربي ماذا يعدون لهذا البلد العزيز ولشعبه الكادح؟ ولماذا وصلنا إلى هذه الهاوية؟ كان الفرد اللبناني ولم يزل يؤسس ويعمر وينمي الأوطان في العالم، ماذا حصل حتى أصبح خائفًا على وطنه؟ وما الذي جعل مجتمع العمالقة هشًّا متقزمًا؟لا نبحث في الأسباب، نطوي صفحة الماضي ولا نشمت... لأنفسنا، ولا نقول إن الظلم الاجتماعي، إن الحرمان للأكثرية، إن تجاهل وضع المناطق المحرومة، إن الالتهاء بالنفس والتمسك الجاهل بالمصالح الذاتية والامتيازات، لا نقول إن غياب العدالة الاجتماعية يجعل الجميع في بركان الظلم، ولا نقول إن الكفر بنعمة الله ألقى الوطن في التهلكة، وأن المترفين أُمِروا لتعرض البلاد للدمار لا سمح الله.
لا! ليس الآن وقت المحاسبة.
اليوم مسؤوليتنا التاريخية الكبرى أمام الوطن، أمام التاريخ وأمام الأجيال أن نعض على الجراح، وأن نشمر عن سواعدنا وأن نحفظ وطننا كلٌّ حسب قدرته.
اليوم علينا أن ننسى كل شيء إلا حفظ الوطن الذي أعطانا كل شيء، ولكن حرمنا من كل شيء بعض أبنائه العاقين. نحن لا يمكن أن ننتقم من الوطن، كلا لأننا لا نريد أن ننتقم من أنفسنا، من أبنائنا، من أمجادنا، من جذورنا. ماذا نعمل؟ نظرة دقيقة إلى أنفسنا منذ توقف المأساة الدامية تعود إلينا بالجواب. إننا والمواطنين جميعًا نعد الساعات ثم الأيام ثم الأسابيع بانتظار تشكيل الوزارة.
هنا نقف لحظات ونتأمل. هل تنتهي مسؤوليتنا الوطنية عند انتظار تشكيل الوزارة؟ هل الوزارة تحل المشكلة وتنقذ الوطن؟
نحن لا نريد التقليل من أهمية الوزارة التي هي أهم الوزارات اللبنانية منذ الاستقلال، ولا التقليل من كفاءات رئيسها الصديق.
لكن، أريد أن أقول: إن لبنان الوطن، عمرانه، تاريخه، أمجاده، تجارته، زراعته، هجرته، جامعاته، مستشفياته، مدارسه... كل هذا من صنع المواطن اللبناني أولًا.
إن الحكومات المتتالية، والقادة السياسيين مع كل تقدير واحترام لها ولهم، أسهموا في بناء لبنان بنسبة تتضاءل أمام إسهامات المواطنين مرات ومرات.
لا أقصد أيها الأعزاء، وضع منطقتكم التي لا وجود للحكومات تقريبًا فيها، بل أؤكد أن عمران المناطق العامرة أيضًا في أكثرها من جهد المواطن.
إن لبنان هو الوحيد -لعله- في العالم تفوق فيه خدمات المواطنين، جهد المؤسسات الرسمية، حتى في المجالات الدولية. ولذلك فإن لبنان يمكن اعتباره مع أبنائه المغتربين دولة كبرى وهو من دونهم بلد عادي من حيث الحجم والنشاط والنفوذ الدولي.
إننا أيها الإخوة الحاضرون، ويا أيها اللبنانيون جميعًا، علينا إلى جانب سعينا المتواصل لتسهيل مهمة دولة الرئيس المكلف، ذلك لكي تعود البلاد إلى أجوائها السياسية الطبيعية وعدم التهاء الضباط الكرام عن مهمتهم المقدسة وهي الدفاع عن أرض الوطن وكرامة المواطن في كل مكان وفي الجنوب بصورة خاصة، عدم التهائهم بالشؤون السياسية والإدارية ومسائل التنمية. ففي ذلك إذا استمر، لا سمح الله، أخطار كبيرة عددتها يوم اللقاء في دار الفتوى الإسلامية وسمعناها مفصلًا من جميع الشخصيات اللبنانية.
إن واجبنا إلى جانب ذلك، أن نتحمل مسؤولياتنا بصورة مباشرة فندخل في الساحة في هذه الظروف الاستثنائية.
هل يجوز أن نتفرج، متفائلين أو متشائمين، على المحنة المصيرية وهي تهدد وطننا، تلعب وتوجهها أيادي سوء نعرفها أو نجهلها، تقرب منا لكي تقزمنا إذا أرادت أو إذا أرادوا؟
لا، أبـدًا.
بعد الآن، سوف لن نسكت عندما نرى قناصًا أو مدفعًا بالقرب منا، يشعل الفتنة ويفجر الأزمة، يحاكم الوطن بكل ما فيه فيحكم وينفِّذ الحكم.
سنصر على فتح المحلات، على التجول في الشوارع، على التنقل بين الأحياء، ولا نحاول الاحتفاظ بحياتنا كما حصل سابقًا، فنترك الشوارع مقفرة والمحلات مسدودة والرعب مسيطرًا على البلاد.
إن ممارسة الحياة العادية في هذه الظروف واجب وطني، بل دفاع عن الوطن وجهاد لخدمة المواطن.
سنكثف اللقاءات العامة التي بدأ بها بعض المواطنين مشكورين، نكثفها لكي تشمل رجال الدين، المثقفين، العمال، الطلاب، النساء، العائلات، المؤسسات الثقافية والاجتماعية، البلديات، رجال الأعمال، المناطق المتخلفة، ممثلي الأحياء حتى نخرس أصوات المدافع بنغمات المحبة والتعاون والترحيب.
سوف نقوم بتظاهرات من المناطق النائية حيث الحرمان من كل شيء إلا من الوطنية والتآخي، تظاهرات سلمية من المناطق اللبنانية إلى العاصمة، ومن الأحياء الشرقية في العاصمة إلى الأحياء الغربية وبالعكس.
سوف يحضر رجال الدين، الطلاب، المثقفون، العمال وغيرهم في طليعة هذه المواكب التي تعيد جريان الحياة إلى شرايين الوطن.
سوف تنطلق تظاهرات الأطفال، الأمهات، الفتيات، الكشافة، فتجوب شوارع المدن والعاصمة وتنشر الرحمة والمودة في ربوع الوطن.
سوف نتذكر ونعلن أن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
سوف نعيد الأزمة السياسية والخلافات السياسية الى أحجامها الطبيعية، ولا نسمح لها بأن تكبر فتندرج بحل جميع مرافق الحياة وتخلق الانفصام في جسم الوطن.
سوف تتحرك الأقلام اللبنانية كلها لمنع طغيان الخلافات السياسية على كل شيء.
سوف نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونعلن الحقائق إذا اقتضى الأمر ونكشف الأيادي الآثمة إذا استمرت في غيها.
سوف نوقع وثائق نؤكد فيها الأسس الثابتة التي آمنا بها لكي نعلن عن وحدة الأكثرية الساحقة في البلاد واتفاقها.
سوف نقول في هذه الوثائق: إن لبنان وطن الجميع ولا نرضى بالاعتداء عليه ولا بهدمه ولا بجموده، نصونه ونصون استقلاله ووحدته وسيادته وحريته بدمائنا وبأرواحنا ولا نقبل بتصنيف المواطنين.
ونقول: إن الثورة الفلسطينية هي الطريق إلى الأرض المقدسة، وهي الشعلة المقدسة التي أوقدها الله تعالى لحماية خلقه ولكرامة هذه الأمة وللقضاء على أعدائه وأعداء الإنسان.
وإنها أمانة الله في عنقنا، نحميها ونصونها وننميها ونصرف في سبيلها الغالي من الأرواح والرخيص من جهودنا المتواضعة.
سوف نقول: إن الوطن لا يمكن بقاؤه مع حرمان القسم الأكبر من أبنائه، وإن حركة المحرومين يجب أن تلبى فيعود الحق إلى نصابه، والعمران إلى المناطق النائية وإلى ضواحي بيروت، ويُنصف المواطنون كافة دونما تمييز لكي يسهموا عن قناعة في حفظ البلاد وفي إبعاد الأخطار عنها من أية جهة جاءت...
وسوف نقول: إن المخيمات الفلسطينية شأنها شأن الأحياء المحرومة يجب تصحيح أوضاعها الحياتية وتزويدها بكل ضرورات المعيشة.
وإن العمال الفلسطينيين يجب أن يتمتعوا بكل حقوق العمال خصوصًا أنهم يدفعون الآن إسهاماتهم في صندوق الضمان وغيره.
وإن المهنيين، كالأطباء والمهندسين والمحامين، يجب أن ينالوا الحقوق الكاملة ما دام مبدأ المعاملة بالمثل لا يمكن تطبيقه عليهم.
وبكلمة نقول: إن وحدة الشعب اللبناني بمناطقه وطوائفه المتعددة يجب أن تترجم بالعدالة الاجتماعية وبتكافؤ الفرص بين الجميع.
وإن الشعب الفلسطيني مع الشعب اللبناني في معركة واحدة أمام عدو واحد وأمام مسؤولية تاريخية واحدة، هي مسؤولية بناء الحضارة الإنسانية المؤمنة العادلة، لذلك فإن هذه الوحدة يجب تطبيقها في الحد الأدنى من متطلبات الحياة.
ونقول، أخيرًا، إن الجنوب المهدد، اليوم، أمانة الله والوطن وأمانة الأمة والتاريخ في أعناقنا جميعًا، لبنانيين جميعًا وفلسطينيين جميعًا. فالبنادق والمسلحون والجهود والأفكار والمنطلقات والمتاريس والقيادات العسكرية والسياسية، يجب أن تتجه جميعها في خدمته وفي وجه العدو.
أناشدكم بالله يا أيها الخبراء بالحرب، لو استُعملت الأسلحة والقذائف التي كانت العاصمة مسرحًا لها، لو استُعملت في سبيل الدفاع عن الجنوب، هل كان في وسع العدو الاستمرار في الاعتداءات؟ وهل كنا نختلف ونلتهي بعضنا ببعض بعيدًا عن الأعداء؟
بل هل كنا موضع شماتة في العالم ومسرح تفرج وأنس واطمئنان للعدو الغاصب؟
___________________________
* خطبة للإمام الصدر ألقاها في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بتاريخ 15 حزيران 1975، أثناء عقد مصالحة بين عشيرتي زغيب والحاج حسن، الصحف اللبنانية 16 حزيران 1975.
