مفهوم الدعاء

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر

* تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
في سلسلة الأحاديث عن سيدة النساء، فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)، قلنا إن فاطمة الزهراء حسب النقل المعروف، كانت كثيرة الدعاء؛ فكانت تحيي بعض الليالي إلى الفجر، وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات وللجيران والأقرباء، وأصحاب المشاكل وللعصاة النادمين من الأمة، وما كانت تدعو لنفسها. وأيضًا قرأنا أنها كانت تغتنم يوم الجمعة، الساعة الأخيرة من النهار، وتتقيد بعدم فوات هذه الساعة التي كانت تدعو الله وتطلب منه سبحانه وتعالى حتى الغروب في هذه الساعة.
في هذه المناسبة، تذكرتُ في هذا اليوم المبارك، يوم الجمعة، والذي هو قبل وفاة الزهراء (سلام الله عليها) بيوم، لأن الرواية المشهورة في وفاة الزهراء (سلام الله عليها)، أنها توفيت في الخامس عشر من شهر جمادى الأولى، تذكرتُ أن أتحدث في هذا اليوم وبمناسبة هذه السيدة الطاهرة، في مبدأ عام مبدأ الدعاء، سيّما وأنه من فضل الله أن يشكل الشبان والشابات أكثر جماعتنا، [وهم] الذين يريدون أن يبدأوا حياتهم وهم في سبيل المستقبل. أما الآباء، فلا شكّ أنهم سيستفيدون من النصائح للبقية الباقية من العمر. أما الشباب فهم أحوج إلى معرفة هذه الحقائق الدينية، خاصة الحقائق التي ضاعت وتشوهت، وأصبحت غير واضحة بين الأمة أو بين الكثيرين من المسلمين.
ماذا نفهم من الدعاء أيّها الإخوان؟
المفهوم الشائع عندنا عن الدعاء، أن أحدنا لو كان مريضًا أو كان عنده مريض، لو كان محتاجًا أو كان على صلة بالمحتاج، أو كان عنده مشكلة أو اطلع على مشكلة في بعض الناس الذين يهمه أمرهم... في المصائب والصعوبات نحن ندعو الله تعالى، ونطلب منه شفاء المريض أو حل المشكلة أو علاج المهمة. هذا المفهوم من الدعاء هو المفهوم الشائع.
يعني نحن نعتقد حسب هذا المفهوم أو بعضنا يعتقد -أنا أرجو الانتباه لهذا الحديث لأنه حديث مهم وأساسي في حياتنا- نحن نعتقد حسب هذا المفهوم أو قسم منا يتصور أن الدعاء يقوم مقام الأسباب العادية. يعني كيف نحن نعالج المريض؟ بطريقين: الطريق الأول، طريق مراجعة الطبيب؛ والطريق الثاني، الطريقة التي نسميها بالدعاء.
فبعضنا يتصور أن الدعاء إلى الله يغنيه عن مراجعة الطبيب، ونسمي ربنا في دعائنا "يا شافي". ونفكر أن الله يقوم مقام الحكيم في علاج المريض. أليست هذه هي الفكرة الشايعة؟ أو شخص فقير، كيف يمكنه أن يعالج فقره، ويتغلب على نكد العيش؟
له طريقان: الطريق الأول، أن يعمل، ويتعب، ويسعى، ويدبر، ويفكر حتى يتغلب على الفقر؛ والطريق الثاني، طريق الدعاء من دون أن نعمل، نقول: اللهم يا كافي، يا غني، ونطلب من الله أن يغنينا وأن يكفينا شر الحاجة إلى اللئام. طريقان لعلاج مشكلة الفقر.
عندنا مشكلة، معضلة، مصيبة، قد نتوسل بالدعاء، وقد نتوسل بالأسباب العادية. هذه الفكرة الشايعة، أن الدعاء وسيلة لعلاج المشاكل، ولتسبيب الأسباب، وأن الدعاء يغني عن السعي والعمل. هذه الفكرة، فكرة شايعة ولكن هل هي صحيحة أو لا؟
اليوم نريد أن نتحدث في هذه الفكرة. هل هذه الفكرة الشايعة كاملة صحيحة أو لأ، فكرة ناقصة؟ أرجو الانتباه لكلامي، لأنه موضوع خطير ذو ارتباط مباشر بحياتنا. أنقل لك بعض المسائل من نبينا الكريم، ومن بعض أوليائه، أئمتنا المعصومين، الذين في سيرتهم وسيرة النبي لنا أسوة حسنة. أليس كذلك؟ نحن نستوضح معضلات الأمور من سيرة الأئمة، من سيرة النبي. ندرس هل كان النبي يعتمد على الدعاء ولا يسعى؟ ما هي سيرتهم؟ إليكم بعض الأمثلة:
رأى أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) امرأة جالسة قرب بعير لها مجروح -بعير مجروح مطروح على الأرض- صاحبة البعير امرأة عجوز تبكي وتتوسل إلى الله بأن يشفي بعيرها، وتبالغ هذه المرأة في الدعاء. حينما يرى إمامنا هذه العجوز يقول لها: يا أمة الله، لو ضممت شيئًا من القطران إلى دعائك؛ يعني الإمام يقول لها: لا تكتفي بالدعاء والتوسل إلى الله، بل خذي شيئًا من القطران -الذي كانوا يعالجون به الحيوان كما تعرفون سابقًا الدواء الوحيد سابقًا كان القطران. استعملوا القطران أيضًا لهذا المرض لعله مرض الجرب أو الجرح، لا نعرف لأن الحديث لا يقول تفاصيل عن المرض-. ضعي القطران على البعير، ومن ثم ادْعِي الله تعالى. ماذا نفهم من هذه الكلمة؟ نفهم أن الإمام يردع ويمنع من الاكتفاء بالدعاء. يقول لها: ادعي الله! ولكن ضعي شيئًا من القطران أيضًا مع الدعاء. هذا واحد.
ثم عَمَلُ النبي الكريم في حياته، متى كان يدعو؟ ومتى كان يتوسل إلى الله؟ حينما كان يقوم بجميع الأسباب والوسائل العادية. في الحرب مثلاً، كان يرتب الجيش، ينظم أجنحة الجيش، يتخذ المواقع الاستراتيجية، يهيئ الأمة والجيش نفسيًا للحرب، يرفع من معنوياتهم، يستعمل أسلوبه كقائد عسكري مئة في المئة؛ بعدما كان يكمل كلّ عمل وينهي كلّ سبب، كان يرفع يديه إلى السماء ويطلب من الله النصرة. أما في أول الأمر، قبل أن يجند وينظم ويرتب، يرفع يديه! أبدًا، لم يعمل هذا. وفي كلّ معركة حصل نقص في المواقف والأوامر الصادرة عن النبي، انكسر المسلمون. في واقعة أحد، لماذا فشل المسلمون وانكسروا؟ لأن الجماعة التي فوّض إليها رسول الله حماية الوادي -المنطقة كانت منطقة خطرة-، فتركهم هناك وقال لهم: حافظوا على هذه المنطقة حتى لو ربحنا الحرب ولاحقنا العدو إلى مكة، لا تغيّروا مكانكم، ولو هربنا ووصلنا الى المدينة، لا تبرحوا مكانكم. صدر هكذا أمره، وانتصر المسلمون وبدأوا يسيطرون على الغنائم، فإذا بالطمع أنسى هذه الجماعة فتركت الوادي واشتغلت بجمع الغنائم. فجاءت كتيبة من جيش الكفار يرأسها خالد بن الوليد، -وفي ذلك الوقت كان كافرًا- فطوّق الجيش الإسلامي، وانكسر الجيش وجُرِحَ النبي وقُتل عشرات من المسلمين وهُزِمُوا. لو كان الدعاء وحده يكفي في النصرة، لماذا النبي يتخذ هذه الاحتياطات والوسائل والأسباب من كلّ جانب؟
في واقعة الأحزاب، حينما سمع النبي الكريم أن جيش المشركين عدده كبير، وعرف أن قريشًا تحالفت مع الفئات والقبائل المجاورة، وسوف يشنون حربًا عظيمة على المسلمين -الواقعة المعروفة بواقعة الأحزاب، أو واقعة الخندق- حفر الخندق وجلس يدافع داخل الخندق. لو كان الدعاء يكفي للتغلب على الخصم، ولعلاج مشكلة الكفر والطغيان، فلماذا حفر الخندق؟ هل تجد أحدًا أقرب إلى الله من محمد؟ هل ترى دعاءً أكثر استجابة من دعاء محمد؟ هل ترى قلبًا أكثر تطابقًا مع الله من قلب محمد؟ فإذًا، لماذا يتخذ التدابير ويعمل المواقع العسكرية؟ ويحفر الخندق؟ ويتهيأ ويستعمل الوسائل الحربية العسكرية؟ لماذا استعملها كلّها؟
رجل عسكري كبير، من العراق، اسمه محمود شيث خطاب ألّف كتابًا، أُوصي بقراءته شبابنا، اسمه "النبي القائد"، يشرح في هذا الكتاب الأساليب التي كان يستعملها رسول الله، كقائد حرب، وسائل حديثة دقيقة ناجحة، حسب الوسائل الموجودة بين يديه. أما في حياته الخاصة [وأصحابه]، فما رُؤيَ منهم مريض إلّا وراجع الطبيب أو استعمل الحمية، وكانوا في حياتهم دائمًا يستعملون الوسائل التي لا تحوجهم إلى الطبيب ولا تجعلهم مرضى. جاء طبيب إلى المدينة، فشكى إلى رسول الله من قلة المرض وقلة المرضى. فقال له رسول الله: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، ونقوم قبل أن نشبع. يعني أن الإنسان الشبعان لا يأكل عندنا، والإنسان الجوعان لا يأكل حتى يمتلىء، يترك مكانًا فارغًا للمعدة. وفي هذا سر صحة أمتنا.
كانوا يستعملون الوسائل الصحيحة لأجل عدم المرض. وهكذا سيرة أهل البيت، إذا فتشت في جميع السير، لا تجد مكانًا يترك نبينا أو إمامنا، يترك العمل والسعي والجد والجهد، ويكتفي بالدعاء. أما كان عند رسول الله ﴿خزائن السماوات والأرض﴾ [المنافقون، 7]؟ أما كان يتمكن عليّ بن أبي طالب، وهو سيد الخلق بعد رسول الله، ما كان يتمكن أن يكتفي بالدعاء حتى يغتني، وحتى لا يبقى أولاده جائعين؟ كيف نحن نسمع أنه ثلاثة أيام، أولاد أمير المؤمنين لم يأكلوا؟ وكانوا جائعين؟ كيف نسمع أن عليًا كان يشتغل أحيانًا بالمزارعة وأحيانًا بالضمان، وأحيانًا بالأجرة، وأحيانًا بحفر الآبار، وزرع الأشجار، وسقي البساتين. ألم تسمع بهذه المسائل؟ ألم يكن عليًّا قادرًا أن يقول يا الله أعطني، والله يعطيه؟ ماذا يريد أكثر من هذا؟
فإذًا، العملية ليست عملية الاكتفاء بالدعاء، الدعاء وحده لا يكفي، يجب أن نضم الى الدعاء شيئًا من القطران. يجب أن ندعو الله، ولكن قبل أن نتوجه إلى الله، نعمل ونسعى. المريض قبل أن يمرض، يجب أن يتخذ احتياطات، يأكل قليلاً، يجتنب الأوساخ، لا يستعمل الأكل الوسخ؛ وإذا مرض يرجع إلى الحكيم ويدعو الله سبحانه وتعالى فهو مسبّب الأسباب.
أما القرآن الكريم، حينما نقرأ فنسمع هذه الآيات: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي﴾ [البقرة، 186]. وآية اخرى: ﴿أدعوني أستجب لكم﴾ [غافر، 60]. وآية ثالثة: ﴿قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم﴾ [الفرقان، 77].
ما معنى هذه الآيات؟ يجب أن نفهم معنى الدعاء. الدعاء ما هو؟ الدعاء مشتق من كلمة دعا، يدعو، دعاه يعني طلبه. أليس كذلك؟ هذا دعا، دعاه يعني قال له ووجه كلامه له، الدعاء... التوجه.
يجب أن نعرف أن مطلق الدعاء عبادة من دون النتائج والوسائل والأسباب والآثار. لماذا الدعاء عبادة؟ لأن الدعاء، توجه إلى الله، إقبال نحو الله. والإنسان كلّما أقبل إلى الله، صعد درجة، استنار بنور الحق. المريض حينما يقول: يا الله... الغريق الضائع، المحتاج حينما يقول: يا الله، دعاء وسمو. كلّما توجهت إلى الله، ذكرت الله، ماذا يعني الذكر؟ الذكر يعني الانتباه إلى الله. عندما تتوجه الى الله، ذكرت الله، ورفعت إلى الله، درجتك ارتفعت إلى الله.
فإذًا، مع كلّ دعاء سمو وكلّ دعاء معراج، وكلّ دعاء صلاة، وكلّ دعاء مقبول، لأنك بكلّ كلمة وبكلّ توجه تقترب إلى الله درجة، هذا شيء ثابت: ﴿ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم﴾ [الفرقان، 77].
المثل المعروف، الكهرباء. هذه اللمبات، قيمتها ومقامها وأثرها أن تكون مرتبطة بالمولد - أليس كذلك؟ لو كانت اللمبة مقطوعة عن المركز - هي أساسًا زجاج؟ زجاج فقط ولماذا تضوي؟ لأن هناك شريط كما ترون، شريط ناعم يمرُّ من داخل هذا الكلوب، هذه اللمبة. عندما تمر الكهرباء، الشريط الناعم نتيجة لضغط الكهرباء يحمر ويضوي. لو كان الشريط مقطوعًا، أو كان هذا الشريط تحوّل إلى مادة أخرى تركّب أوكسيد حسب تعبيرهم وصار لا تمرُّ عليه الكهرباء، يعني انقطعت عن المركز، ما قيمة اللمبة؟ لا شيء قزاز، تكسرها أليس كذلك؟ ترميها خارجًا. فإذًا، قيمة هذا اللمبة بالاتصال بالفبركة، فإذا انقطع، لا يوجد شيء... قزاز. الإنسان قيمته أن يكون متوجهًا إلى الله.
[...]  

source
عدد مرات التشغيل : 14