التكاثر

الرئيسية صوتيات التفاصيل
الكاتب:موسى الصدر
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لتروُنّ الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ [التكاثر]
صدق الله العظيم

سورة التكاثر سورة مكية، يعني نزلت في أيام إقامة الرسول (ص) في مكة، في هذه السورة أيضًا شكل الألفاظ وطريقة التعبير والمقابلة، تستعمل هذه الأمور كسلاح، كما قلنا أن النبي (ص) في مكة، ما كان عنده سلاح إلا سلاح اللفظ: جرس اللفظ، فن اللفظ، جمال اللفظ وتقريع اللفظ. وبالنسبة إلى المؤمنين ومن كان قلبه مستعدًا لقبول الإيمان، كان الناس الطبيعيون، وليس الأعداء طبعًا، كان لهم لفظ ومعنى وسيرة وكل شيء. لكن بالنسبة إلى المنحرفين والمتعنتين في الضلالة، كان لهم هذه الألفاظ التي كان يستعملها، يقرع بها ويرسم لهم صورًا ولوحات لفظية قريبة لقلوبهم تهزهم كما ذكرنا، عدة سور من هذا النوع في الآيات التي مرَّت ﴿ويلٌ لكل همزةٍ لمزةٍ﴾ [الهمزة، 1]، والصورة التي مرت في سورة ﴿تبت يدا أبي لهبٍ وتب﴾ [المسد، 1] وهكذا الصورة التي رُسِمَتْ في سورة الفيل ﴿ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل﴾ [الفيل، 1] وأمثال ذلك.
ومن جملة هذه الصور التي يرسمها القرآن ويستعملها كسوط يضرب به القلوب المتحجرة النائمة الخالدة في غلوائها وطغيانها، هذه السورة؛ أحد المفسرين الكبار يقول: وأنا أقرأ هذه السورة أتصور أنه صوت وحديث سماوي يطلع بين السماء والأرض، ويخاطب هذا الإنسان الغريق في دنياه، الملتهي بالمادة، باللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر. إنتبه إلى هذا الإنسان الغريق في دنياه الملتهي بنفسه وبهواه، المغفلون في حياتهم، الغافلون عما وراء هذه الدنيا.
حسب تعبير أحد الأدباء يصف البشر ويقول: إن البشر مثل قطيع غنم، والموت مثل ذئب يأخذ واحدًا من هذا القطيع فيفترسه أمام أعينهم، ولكن الغريب أن بقية القطيع يرتعون بارتياح وسهولة متناهية، أبدًا مشغولون بالرعي وغير منتبهين بما يراد لهم، وبما يدبر لهم في المستقبل. يقول هذا المفكر أنه أنا أنتبه وقت أسمع هذه الآيات، أنه هذا الإنسان الغريق في دنياه الملتهي بالتكاثر والتفاخر مُلْتَهٍ بأمره، يقصر نظره إلى ما بين موته وولادته فيفكر في حاله في يومه، دون غده دون مستقبله، ثم أنتبه بأن هديرًا سماويًا يرن في النفوس على لسان "محمد" (ص) فيقول ﴿ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾. وبالفعل اللفظ في غاية الجمال والالتزام مع المعنى الذي صيغت الألفاظ لأجله.
أما التفسير فقوله: ﴿ألهاكم التكاثر﴾ ألهاكم واضح يعني أشغلكم. التكاثر، التكاثر استعمل وفُسِّر بمعنيين كلاهما، كلا المعنيين، وارد في الروايات التي توضح هذا التفسير.
المعنى الأول: التكاثر يعني أن الإنسان يرغب بالكثرة، ويكثر بالشكل الدائم والمتزايد ما عنده من الأموال، فالتكاثر بالمال يعني السعي المستمر في زيادة المال، التكاثر في الأولاد، التكاثر في الجاه، التكاثر في جميع وسائل العيش، التكاثر بهذا المعنى، بمعنى التكثير التدريجي، لماذا يسمى تكاثرًا مع أن التكاثر من باب التفاعل، يجب أن يكون هناك نوع من الجانبين في باب التفاعل. من باب التفاعل التضارب يعني هذا يضرب ذاك، وذاك يضرب هذا. فالتكاثر لماذا يستعمل في باب التفاعل؟ مثل باب التفاعل والمفاعلة التي تستعمل في اللغة العربية بنوع من العناية. من باب المثل، المطالعة، مطالعة ما معناها؟ مع أن باب المفاعلة أنه يكون الفعل من الجانبين، المطالعة أنا أطالع، الكتاب لا يطالع، ولكن يقال مطالعة باعتبار أنه أنا حينما أقبل على الكتاب أنا أقابله والكتاب يقابلني، أنا أعطيه من نفسي، والكتاب يعطيني من نفسه ويعطيني ما فيه من مواد، وهذا يستعمل في اللغة العربية.
فالتكاثر يعني أنا أُكَثّر المال والمال يكثِّرني رغبة أو مجدًا أو عزًا عند الناس فكأن هناك تفاعل وتكاثر من الجانبين، ولكن التكاثر يستعمل في التكثير فقط كما استعمل في هذه الآية المباركة: ﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم﴾ [الحديد، 20]، التفاخر يعني المفاخرة ثم ﴿وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا ثم يكون حطامًا وفي الآخرة عذابٌ شديدٌ﴾ [الحديد، 20].
فإذًا، التكاثر يعني التكثير المستمر المتدرج، فيقول القرآن الكريم ﴿ألهاكم التكاثر﴾ يعني أنتم التهيتم بالإكثار ليلكم ونهاركم وجميع ساعات يومكم فالإكثار والإكثار والإكثار. الطمع الذي لا نهاية له والنفس التي لا تقتنع بما تكسب من المال أو الجاه أو الولد أو التمتع، أنتم تلتهون بهذه الأمور كما أن الغنم يلتهي بالمرتع وبالأعشاب التي حوله، على طول الغنم يقدم على العلف وعلى العشب حسب توصيف الإمام في خطبته المعروفة بعد أن يقول: "أأقنع من نفسي أن يُقال... أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر" (1)، في نفس الخطبة يقول: فوالله "ما خُلِقتُ... كالبهيمة المربوطة همها علفها... وشغلها تقممها" (2) . ثم يشير إلى هذه النقطة أن الحيوانات التي تلتهي بالأعشاب التي هي حولها وتنسى ما يراد بها. ﴿ألهاكم التكاثر﴾ يعني محاولة الإكثار من المال والجاه والزينة يلهيكم حتى زرتم المقابر، يعني أنتم لا تتركون لأنفسكم مجالًا للتفكير في المستقبل في المصير جميع ساعاتكم من يوم ولادتكم حتى يوم موتكم يعني زيارة المقابر حتى دخولكم في القبر ملتهين بالتكاثر. فإذًا، ﴿ألهاكم التكاثر﴾ عن التفكير في مصيركم، وفي مستقبلكم، وفي حقيقة أمركم، وما تركتم فرصة ولا ساعة في جميع عمركم الذي يبدأ من يوم الولادة، وينتهي يوم زيارة المقابر. هذا معنًى واضح: ﴿ألهاكم التكاثر  حتى زرتم المقابر﴾.
المعنى الثاني الذي يطابق مع تفسيرٍ آخر أن التكاثر هو التخاصم في الكثرة، المنافسة في الكثرة. يعني شخصان أحدهما يبدأ الكثرة والمجد على الآخر، والثاني يفتخر بالزيادة على الأول من الجانبين. بهذا المعنى أيضًا المعنى سليم، يعني الإنسان يعيش في دنياه بالمنافسة في الكثرة، والمسابقة على الكثرة، على طول إلى أن يموت.
ويقال في وقت نزول هذه الآيات أن قبيلتين من قبائل قريش هما "بنو عبد مناف بن قصي" و"بنو سهم بن عمر" كان هؤلاء يتباحثون في الإكثار والمجد والعدد. فكل قبيلة كانت تدعي الكثرة لنفسها، فهناك حصل بحث عميق طويل، فإحدى القبيلتين قالت أو قال ممثلها بأننا في الأيام السابقة قُتِل منا عدد كثير في المنازعات والمخاصمات ولو ما كان هناك قتلى كنا نحن أكثر عددًا وقوة منكم، ولهذا ذهبوا وعينوا ممثلين حتى يذهبوا إلى المقبرة، إلى الجبانة، ويُعدوا عدد الموتى، إن هذا قبر فلان بن فلان من بني "سهم بن عمر"، وهذا قبر فلان بن فلان من بني "عبد مناف بن قصي"، وعدّوا أمواتهم، وزادوا الأموات على الأحياء حتى يروا أي قبيلة أكثر، حتى إحدى القبيلتين طلع لها ثلاث بيوت أكثر من القبيلة الثانية.
هذا المعنى أنه هناك التكاثر والتنافس في العدد ولو بضم عدد الأموات، وهذه باصطلاح الأصوليين الغاية الداخلة في المغياة، يعني ﴿ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر﴾ يعني حتى وصل التكاثر بينكم إلى أن تزوروا المقابر، لا يعني أنتم متُّم يعني أن تزوروا المقابر حتى تروا أي واحد منكم أكثر. في المعنى الأول الغاية خارجة عن المغياة، يعني ﴿ألهاكم التكاثر﴾ إلى أن تموتوا، بعد الموت ما في تكاثر، أليس كذلك؟ لكن في المعنى الثاني ﴿ألهاكم التكاثر﴾ والتنافس حتى مع زيارة المقابر واتخاذ زيارة المقابر مفهومية للتلاهي، مع أن الإنسان في المقبرة يجب أن يعتبر وينتبه إلى الموت، أنتم تستعملون من المقبرة أيضًا وسيلة للتكاثر والإلتهاء.
الآية وردت في هذا الأمر، ولكن كما تعلمون القرآن الكريم معناه لا ينحصر بشأن النزول ووقت النزول، بل معناه أوسع، والحقيقة أن هذا المثل المرافق لدينا بين بني "عبد مناف بن قصي" وبني "سهم بن عمر" منافسة بسيطة وغير عميقة. والحقيقة أن هذا المثل مثال ظاهر وبسيط للمشكلة، المشكلة أعمق من هذا، هذا المثل شائع حتى في أيامنا هذه، هناك ناس يتنافسون ويفتخرون ويتكاثرون بالمقابر، فلان يقول أنا ابن فلان بن فلان، ماذا يعني أنت ابن فلان بن فلان؟ يعني أنت تفتخر بفلان بن فلان الذي مات، بأي شيء تفتخر؟ هو مات، تأمل نفس المعنى، لكن بوقت نزول الآية كانت المنافسة بسيطة وبدائية. الآن تحولت وتطورت إلى معانٍ أعمق، الناس يفتخرون بالعائلات وبالأجداد وبالماضين من أُسَرِهِم هؤلاء ﴿ألـهاكم التكاثر  حتى زرتم المقابر﴾. ليس بالضرورة زيارة المقابر بالذهاب إلى المقبرة لزيارة المقابر وللتحدث عن الأموات. وهذا المعنى الثاني أيضًا معنى من التفسير.
المعنى الأول: ألهاكم الإكثار المستمر الزائد عن التفكير بالمصير إلى أن تموتوا.
والمعنى الثاني: ألهتكم المسابقات والمنافسات والتفاخر حتى تتفاخروا بالأموات سواء أكان على طريقة بني "عبد مناف بن قصي" ومنافسيهم بأنهم زاروا المقابر حتى يحصوا عدد أمواتهم، أو على طريقتنا المعاصرة أنه نفتخر بالأموات. وهذا المعنى الثاني وارد في كلمة من الإمام في "النهج" جميلة جدًا ككل كلمات الإمام، ولكن أحب أن أقرأ لكم هذه الفقرة، يقول الإمام بعد قراءة هذه الآيات: "يا له مرامًا ما أبعده وزورًا ما أغفله- يعني زائرًا-، وخطرًا ما أفظعه، لقد استخلوا منهم أي مدكر" (3) يعني اعتبروه خاليًا من أي تذكر وعبرة، المقبرة، "وتناوشوهم من مكان بعيد" (4) – ثم يذكر هذه القطعة: "أفبمصارع آبائهم يفخرون؟" (5) مصرع يعني مقتل، يعني قبر، يعني مدفن، "أفبمصارع آبائهم يفخرون؟" تأمل الإمام يعمم الفكرة، ليس فقط أعدادهم حتى يدعي أنا خمسون كان عدد قبيلتي أو ستون حتى أنا إذا افتخرت بأبي وأبي ميت الآن، الآن أنا ما دخلي من أبي إلا قبره، إذا قلت أنا ابن فلان، وأنا ابن جلا وطلاع الثنايا ما معناه؟ معناه أنه أنا أفتخر بهذا الفخر "أفبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟" - عديد الهلكى يعني يعدون الهالك مثل يتكاثرون ويقولون، "أفبمصارع آبائهم يفخرون"، الفخر بالمصرع بالموت، "أم بعديد الهلكى يتكاثرون"،(6) يعني يكثرون عدد أنفسهم بتعداد الأموات "أم بعديد الهلكى يتكاثرون، يرتجعون منهم أجسادًا خوت" (7) - تفتخرون بالأموات وتسترجعون وتكتسبون من الأموات، ماذا يعطيكم الأموات؟ أجسادًا خوت، أجسادًا خاوية، يعني خالية هالكة. "وحركات سكنت ولأن يكونوا عبرًا أحق من أن يكونوا مفتخرًا، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة" (8)، جناب يعني العتبة، يقول: إذا بواسطة الأموات نزلوا من كبريائهم إلى مقام الذلة، مقام الاعتبار فسره بأن هذا الموت ليس مصير آبائهم وأجدادهم بل هو مصيرهم أنفسهم، يعني من هذا الكبرياء والعتو إذا نزلوا إلى أعقاب الذلة يعني إذا خضعوا إذا ذلوا أكثر تعقلًا وأحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة بأنهم يفتخرون بالأموات فيصلون إلى مقام العز.
"لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة وضربوا منهم في غمرة جهالة ولو استنطقوا عنهم - ولو فعلوا وسألوا وأنطقوهم يعني وأعطوهم النطق- ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية" (9) يعني لو تُرِكَ المجال لتلك الديار والربوع الخالية، لو استنطقوها، لو أعطوها الحق حتى تنطق "لقالت ذهبوا في الأرض ضلالًا وذهبتُم في أعقابهم جهالًا" (10). ثم يقول الإمام "تطأون في هامهم" (11)... بمن تفتخر وأنت تطأ في هامه؟ يعني قمة الرأس، على اعتبار أنه عندما نمشي في الجبانات رؤوس الأموات تحت أرجلنا وتحت أقدامنا "تطأون في هامهم وتستنبتون في أجسادهم" (12). يعني تزرعون النبات والأشجار في الأجساد باعتبار أن هذه المقابر التي زرعت، زرعت النباتات على الأجساد "وتستنبتون في أجسادهم" ثم يعبر تعبيرًا لاذعًا، الإمام بكل أدب ويقول: "وترتعون فيما لفظوا" (13) اللفظ الرمي من الفم، شخص يأكل ويلفظ البقية، هذا اللفظ، كل إنسان يستقرف ويستقذر ما يلفظه الآخر من فمه. يقول الإمام "ترتعون فيما لفظوا" هم رموا البقية الباقية من الجسد، وأنتم استنبتموهم ثم ترتعون فيه "وتسكنون فيما خربوا" (14) .
فإذًا، هذه الكلمة من الإمام كذلك تؤيد التفسير الثاني، أن ﴿ألهاكم التكاثر  حتى زرتم المقابر﴾ الغاية داخلة في المغياة. يعني تقصد الآية الكريمة أن المنافسة والمسابقة ومحاولة السبق والتفوق من كل فئة على الفئة الأخرى بلغت حدًا يكون هناك التفاخر بمصارع الهلكى وبعبيد المقابر. ﴿ألهاكم التكاثر﴾ حتى إلى درجة زيارة المقابر والافتخار بالمقابر.
وعلى كل حال، كلا الموضوعين وكلا التفسيرين معنى حقيقي واحد، هذا المعنى هو أن الله سبحانه وتعالى ينذر عباده يقول: أنتم التهيتم، تصبحون وتمسون، وجميع وقتكم وأفكاركم وطاقاتكم وطموحكم، جميع هذه مصروفة في التكاثر. محاولة الإكثار تريد أن تكسب مالًا أو جاهًا، تكسب زينةً ونعمةً وقوةً وأولادًا، حتى يجوز أن نقول التكاثر بالعلم أيضًا، لأن العلم الذي لا يكون لله مادة وظلمة.
المقصود أنكم أيها البشر يجب أن تخصصوا لأنفسكم وقتًا للتفكير في المصير، من أين؟ وإلى أين؟ ماذا يراد بك؟ ماذا سيحدث معك في المستقبل؟ لكن قلت وتراقب نفسك حتى تُحصِّل على خمسة أو عشرة أو خمسين، تُحصّل هذا المجد أو ذاك المجد، تحصل هذه الكلمة أو تلك الكلمة وانتهى. يعني هذه هي الدنيا، ﴿ألهاكم التكاثر  حتى زرتم المقابر﴾. كلا، ردع طبعًا. ﴿كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون﴾. العملية إذا أنتم ما انتبهتم سوف تنتبهون لأن أمامكم ما ينبهكم، هذا القسم الأول، ثم يقول ﴿كلا﴾ كلا ثلاث مرات تتكرر مثلما قلت عن المفسر العظيم أنه هذه اللوحة وهذا التعبير الرائع الموجع للناس، هذا الصوت المدوي ﴿ألهاكم التكاثر  حتى زرتم المقابر﴾ كلا ثم كلا وكلا. ثلاث مرات ﴿كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون * كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم﴾. إذا أنتم تعلمون في هذه الدنيا علم اليقين، العلم يعني معرفة الشيء، يعني اكتشاف الشيء عند الناس. اليقين يعني قاطعية العلم، عدم دخول الشك في العلم، التأكد من الشيء.
علم اليقين، يعني أعلم شيئًا من دون الرؤية، ولكني كأني أراه. مثلًا الآن أنا أعلم بأن في النصف الآخر من الأرض نهارًا. أنا أعلم بأن هناك جماعة في الحرب في بعض المناطق الأرضية. أنا أعلم أن هناك قوافل من الحجاج ذهبت، وقوافل سوف تذهب مع أني لا أراهم. هذا علم اليقين، يعني واحد يعلم ولا يشك ولا يشتبه في معلوماته. يقول القرآن: ﴿لو تعلمون علم اليقين﴾ يعني إذا كان عندكم العلم الحقيقي، العلم الواقعي، العلم الذي لا يشوبه شك ﴿لترونَّ الجحيم﴾ هنا في هذه الدنيا لو كان عندكم علم كنتم ترون الجحيم، والنتائج التي تصلون إليها بعد الوفاة.
إنذار، يريد أن يقول أنه أنتم ملتهون، ولكن لو كان عندكم علم، لو كان عندكم وعي كنتم تنظرون بعين البصيرة إلى ما بعد هذه الحياة من النار.
﴿ثم لترونها عين اليقين﴾، الآن كنتم ترون الجحيم بعلم اليقين، يعني بنظر البصيرة، ثم لكنتم ترونها بعلم البصر عين اليقين، يعني اليقين الحاصل من العين من الرؤية. فإذًا، لو كان عندكم معرفة صحيحة لكنتم تعلمون ما هو مصيركم بعد هذه الدنيا قبل أن ترونها بعينكم وببصركم يوم القيامة.
اختصاص الإنذار مقابل هذا الالتهاء لأن الإنسان الذي هو في غفلة هزته وتحريكه وإثارته بالإنذار أكثر من الرحمة. لا شك أن الله سبحانه وتعالى كما أنه يعذِّب بالنار ينعم بالجنة أيضًا، وكما أنه عادل وجبار، رؤوف رحيم، ولكن ماذا يعمل "محمد" (ص) والجماعة ملتهية بالتكاثر؟ يلزمهم شيء من التخوف والهزة والانفعال حتى لا تكون القضية فلتانة بهذا الشكل، ولهذا يذكر النبي (ص) يعني يذكر القرآن الكريم قضية الجحيم فقط.
فإذًا، أيها الناس الملتهين بالتكاثر، أنتم لو كان عندكم بعض وعي كنتم تعلمون ماذا وراء هذه الدنيا، ثم بعد الموت كنتم ترون ما وراء هذه الدنيا.
﴿ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾ يوم القيامة كنتم مسؤولين عن النعم التي أنعم الله بها عليكم. هذه الجملة مورد بحث المفسرين بشكل واسع. ووارد في الروايات، أنه ما المراد بالنعيم؟
النعيم من النعمة طبعًا، كثير من الروايات تشرح أن النعيم يعني الصحة والأمان، بعض الروايات يقول النعيم يعني الماء البارد والعسل المصفى، بعض الروايات يذكر غير هذه المعاني. لا شك أن نعم الله كثيرة. لماذا وردت هذه الجملة بعد هذه الآيات الكريمة: ﴿ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾. طيب، الله سبحانه وتعالى يريد أن ينذرهم ويقول أيها الناس الملتهين بالتكاثر أمامكم النار. لماذا ﴿ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾؟
أولًا، زيادة الإنذار والتأكيد والتقريع والهز للملتهين بدنياهم. ثم هناك نقطة، هذه النقطة نقطة لطيفة لأن القرآن يقصد يقول: ﴿ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾، يقصد أن التكاثر بالمال، بالجاه، بزينة الحياة، باللعب، وبكل هذه المسائل، التكاثر فيها والالتهاء بها مصيره الجنة، ولكنها نِعَم من الله في نفس الوقت. يعني هذه الأشياء التي كانت تلهيكم في هذه الدنيا هذه نِعَم من الله؛ المال نعمة، والجاه نعمة، والزينة نعمة، والعلم نعمة، والأكل والشرب، كل شيء نعمة. لكن نحن لا نريد أن تلتهوا بالتكاثر، يعني نحن نريد أن تضعوا الأمور في مواضعها، ولا تخرجونها عن نصابها وحدودها، تمتع بدنياك ﴿قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ [الأعراف، 32].
هذه الأمور كلها نِعَم من الله سبحانه وتعالى، ولكن ليس المطلوب من هذه النِعَم أنك تتكاثر وتلتهي وتحاول أن تغفل عن كل شيء ما عدا الأكل والشرب. بل وقت الذي تأكل أو تشرب أو تلتذ بالمال، تنتبه بأن هذه نعمة من الله فيجب عليك شكر النعمة ويجب عليك أداء الأمانة لأنه نعمة من الله، الله أعطاك وأنت أمين على هذا المال، وأنت يجب أن تصرفه في مصارفه ويجب أن تشكر الله سبحانه وتعالى عليه.
فإذًا، بالرغم من أن التكاثر الملهي مصيره إلى الجنة مع ذلك الوقوف أمام النعم والتمتع بنِعَم الله، نعمة من الله وليس مصيره إلى النار. فمن يستعمل هذه النعم من دون أن يشكر صاحب النعمة ومن دون أن يؤدي الأمانة، مسؤول عند الله وهذه زيادة عذاب على عذابه يوم القيامة.
نرجع إلى كلمة من الإمام (س)، الكلمة التي طالما يُسْتَشْهَدُ بها في الحقيقة من جوامع الكلم بالنسبة للنعمة وبالنسبة للتكاثر فيها يقول الإمام: "ليس الزهد أن لا تملك شيئًا، بل الزهد أن لا يملكك شيء". أنت إملك ما تريد، وهذا لا يتنافى مع الزهد، لكن المهم أن تكون أنت المالك لا أن تكون أنت المملوك. يعني أنا يمكن أن يكون لي أموال كثيرة، يكون لي أموالي وأتصرف في أموالي، وأستفيد من مالي في ترفيهي وترفيه أولادي وكسب الجنة لنفسي والمساعدة للناس، يعني أنا أستعمل المال كوسيلة لي، وأحيانًا أموالي تملكني هذا متى يصير؟
كثير من الناس هم في الحقيقة سكرتارية عند أموالهم، عنده أموال وعنده بساتين وعنده مصالح كثيرة، همه أن يسجل هذه الأشياء يحسبها ويطلع وينزل ليحصي كم دخل وكم خرج لكنه هو محاسب عند أمواله، يعني مملوك، ولهذا لا يقدر أن يتصرف في مالكه الذي هو أمواله. هناك أناس مصيرهم، عشرتهم، خطهم، تفكيرهم يتقرر حسب المال، أنظر كم هي قريبة للذهن هذه الفكرة، أنا لا أملك شيئًا من المال أو من الجاه أو أي شيء أعيش مع الناس العاديين، بعدما أملك تختلف عشرتي. فإذًا، مالي يقرر أصحابي لا أنا. أنا وقت الذي أملك ألبس شيئًا، ووقت أتمول ألبس شيئًا آخر، لا شك أن الله يحب أن يرى آثار نعمته على عبده، ولكن مع ذلك الإنسان حينما ملك مالًا أو ملك جاهًا أو ملك كرسيًا أو ملك قوة أو ملك أولادًا أو ملك علمًا، إذا هذه المملوكات أثّرت فيه وغيّرت اتجاهه وغيّرته، في الحقيقة هو مملوك لهذه الأشياء.
فالنعمة هبة من الله لك، ولست أنت لنعمتك -هذه بالمناسبة نقلت هذه الجملة-. ﴿ثم لتسألنَّ يومئذٍ عن النعيم﴾ يعني يوم القيامة، ليس الجحيم، فيه مطالبة وحساب وهنالك حساب عسير وهذ يلمّح أن التكاثر بالنعم ليس معناه أن النعم عيب أو محرم، لا بالعكس، النعمة من الله محللة ومفيدة وللذين آمنوا خالصة كما يقول القرآن الكريم.
أما في تفاسيرنا مثل "نور الثقلين" و"تفسير البرهان" و"تفسير الصافي" وغير ذلك فهناك روايات متواترة تقول يُسأل الإمام "الصادق" (ع) "أبا حنيفة" إمام الحنفيين يسأله فيقول: بماذا تفسر النعيم بقوله تعالى: ﴿ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم﴾؟
فيقول هو بأننا نفسره بالماء البارد والعسل المصفى والقمح الصافي، أو مثلما قلت لكم في روايات كثيرة، بالصحة والأمن. يقول الإمام له بأنني أعتقد أن الله أكرم من ذلك، فأنت لو أنعمت على عبيدك ببعض هذه الأشياء أو إذا ضيفت جماعة كانوا ضيوفك بعض الأشياء هل تحاسبهم عليها بعد ذلك؟ طبعًا لا. فيقول: كيف تقول إن الله سبحانه وتعالى يحاسب عباده على الأكل والشرب والملابس. فيقول: وماذا يقصد؟ فيقول: إن النعيم ولايتنا، إن النعيم هو طريق الحق، ومذهب الحق، ونور الولاية. هذا بحث مستقل أتركه للأسبوع القادم لأنه أحب أن أوضح هذه النقطة.
هناك كثير من الروايات، هنا وفي غير هذا المكان تشير إلى هذه المعاني، قد يبدو على بعض الشباب أن هذه مبالغات، هناك روايات كثيرة حول الإيمان بالولاية، وأنه أعم من البشر وأنه يشمل النباتات والحيوانات والشمس والقمر؛ هناك أحاديث كثيرة تقول: و"ما نُوْدِيَ بشيء مثلما نُوْدِيَ بالولاية"، أحب أن أشرح هذه النقطة وأهمية الولاية في حياة الإنسان حتى نعرف أنه كيف هذه النعمة هي أهم النعم؟ وكيف أن هذه النعمة يمكن أن يكون الإنسان مسؤولًا عنها؟ وكيف أن الشمس والقمر والنباتات آمنت بها؟ وكيف أن "ما نُوْدِيَ بشيء مثلما نُوْدِيَ بالولاية؟" نتركها للأسبوع القادم إن شاء الله.
وبعبارة موجزة، ألهاكم أيها البشر التكاثر والإكثار المستمر أو التنافس بالكثرة حتى إنكم زرتم المقابر لأجل إثبات كثرتكم أو حتى متُّم وانتهيتم والتهيتم في جميع أموركم. ﴿كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون﴾، ثم يقول: ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين﴾ يعني لو كان عندكم الوعي الصحيح كنتم ترونَّ الجحيم قبل أن ترونه بعينكم، ﴿ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألنَّ يومئذٍ عن النعيم﴾.
غفر الله لنا ولكم والسلام عليكم.

______________

1- نهج البلاغة، ص418.
2- ن.م.
3- ن.م، ص238.
4- ن.م.
5- ن.م.
6- ن.م.
7- ن.م.
8- ن.م.
9- ن.م.
10- ن.م.
11- ن.م.
12- ن.م.
13- ن.م.
14- ن.م.
15-تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر

source
عدد مرات التشغيل : 5