بسم الله الرحمن الرحيم
أما حديثي في هذه الليلة هو تفسير سورة الكافرون:
﴿قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولي دين﴾ [الكافرون]
صدق الله العظيم
يقول المفسرون إأن مورد نزول الآية الكريمة أو السورة المباركة كان في حلقة من محاولات المشركين في مكة لأجل القضاء على الدعوة الإسلامية. فكما سمعتم في بعض الليالي السابقة أن المشركين في مكة ما تركوا طريقًا إلا وسلكوها من أجل منع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن مجال دعوته.
التهديد، والترغيب، والضغط والتوسل إلى أنسابه، والتوسل إلى بني هاشم، وتآمر قبائل قريش من جميع جوانب الأمور، والتشويش الدعائي وقولهم إأنه ساحر مجنون، وقولهم واتهاماتهم كثيرة. من هذه المحاولات كانت المقاطعة، ومن هذه المحاولات كانت مؤامرة ليلة المبيت، ومن هذه المؤامرات والمحاولات، كان الكثير، التي يعبّر عنها النبي (صلّى الله عليه وآله (ص) بقولهوسلّم) بقوله "ما أُوذِيَ نبي بمثل ما أُوْذيت"[1]. من جملة هذه المحاولات محاولات الصلح، فاجتمع جماعة من كبار المشركين في بعض الأوقات مع الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (ص) فقالوا له: يا "محمد" ، نحن نؤمن باللّهله. هذا صحيح، العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون باللّهله، لا تتعجبوا من هذا الشيء، نحن نجد في القرآن الكريم أنهم كانوا يقولون أنإن الأصنام شفعاؤهم إلى الله.
القرآن الكريم يقول إنك حينما تسألهم من خلق السماوات والأرض ومن أنزل المطر ومن فلق الحَبّ... في آيات وردت في عدة أماكن من القرآن: ﴿ليقولن الله﴾ [العنكبوت، 61]. كانوا يؤمنون باللهباللّه وكانوا يفتخرون بأنهم على دين "إبراهيم"، الحنفاء، وكانوا يعتبرون أنفسهم أشرف من المسيحيين واليهود المؤمنين بالكتاب بعد "إبراهيم".
كانوا يؤمنون باللهباللّه، ولكن شوهوا فكرة الله في أنفسهم فكانوا يعتقدون أن الله له شركاء وله بنات، الملائكة، وله أكفاء ووزراء، وله قرابة مع بعض الناس، وله صلة مع بعض، وله عواطف خاصة ومحسوبية مع بعض؛ هذه المزاعم التي ردتها سورة التوحيد: ﴿قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص، 1] كما تحدثنا. وكان من شعاراتهم في وقت الحج قبل بعثة الرسول الأكرم كانوا يقولون: "لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك"[2].
هذه الردة كانت من أيام الجاهلية: أنت لا شريك لك إلا شريك واحد، ما "تزعل" يا ربنا هو أيضًا لك، تملكه وما ملك، عقيدة غالبة غير معروف أساسها كيف أن الله واحد وله شريك؟ وهكذا... فإذًا، كانوا يعتقدون بأن الأصنام يمثلون الشفعاء، يمثلون الشركاء، وأن الله له بنات كما يقول القرآن الكريم، الملائكة، وأن الله... وأن الله...
هؤلاء قالوا: يا محمد، نحن وإياك نؤمن باللهباللّه، ولكن يظهر أن الفكرة تختلف عندنا وعندك، فأنت تقول: الله وحده لا شريك له، ونحن نقول: له بعض الشركاء فدعنا نتصالح.
اقترحوا على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طريقين إلى المصالحة: الطريق الأول أن هؤلاء كُلٌّ على إلهه ولكن النبي يعبد إلههم وآلهتهم سنة واحدة، ثم هم يعبدون إله النبي سنة واحدة ثم يرجع النبي يعبد إلههم سنة واحدة، ثم هم يعودون يعبدون إله النبي سنة واحدة، وبعد ذلك يفرجها الله، وبذلك يقضون على هذا الخلاف المستحكم بينهم.
والحلّ الثاني أنه نتفق على الصلح، فنحن وإياك كلٌّ يحترم إله الآخر، وكلٌّ منا يعبد مجموعة الآلهة، فنحن نعبد الله وأنت تعبد الله وهبل واللات والعزى وأمثال ذلك.
طريقان من المصالحة اقترحهما المشركون على الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزلت السورة المباركة أولًا بتعبير عنيف لا مساومة، ولا حل، ولا تفويض، ولا مفاوضة ولا اعتراف. ليس مثل هذه الأيام أبدًا - ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ أول الخطاب ليس يا أهل قريش، ليس يا أولاد عمي ولا يا جماعة، ﴿يَا أيها الْكافِرونَ * لا أَعْبد مَا تَعْبدونَ * وَلا أنتم عَابِدونَ مَا أَعْبد * وَلا أَنَا عَابِد مَّا عَبَدتّم * وَلا أنتم عَابِدونَ مَا أَعْبد * لَكمْ دِينكمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
تأكيد للحال والمستقبل لأن الفرق بين ﴿لا أعبد ما تعبدون﴾ وبين قوله ﴿ولا أنا عابد ما عبدتم﴾، إن الجملة الثانية جملة اسمية تفيد الدوام والثبات والاستمرار والمستقبل، والجملة الأولى فعلية تعمق وتؤكد وتبيّن وضع الحال. فإذًا، السورة رفض لهذه المصالحة المقترحة من اللجنة العالمية الموجودة في وقتها. هذا شأن نزول سورة الكافرون، وأما النتيجة التربوية أن السلام وأن التعايش السلمي وأن المصالحة وأي مفاوضة يجب أن يكون لها قواعد وأسس.
فالإسلام إذا ساوم على عملية الله ما بقي له شيء، لأن هذه هي القاعدة الحجر الأساس. ففي قضية الله لا مساومة، ولا يمكن أن يتنازل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أساس وجود الدعوة. فإذًا، في هذا الحقل لا يمكن أن يناقش النبي. إنما إذا الجماعة كان لها دينها وللنبي دينه حينئذٍ يمكن في الحياة العادية، في الحياة الاجتماعية، في بعض الحالات يكون تعاقدًا وتعايشًا، أما إنكار الأساس أو التنازل عن الأساس فهذا غير وارد.
﴿قلْ يَا أيها الْكافِرونَ * لا أَعْبد مَا تَعْبدونَ * وَلا أنتم عَابِدونَ مَا أَعْبد * وَلا أَنَا عَابِد مَّا عَبَدتّم * وَلا أنتم عَابِدونَ مَا أَعْبد * لَكمْ دِينكمْ وَلِيَ دِينِ﴾. ففي الروايات فضل هذه السورة أنها ربع القرآن، وأن الذي يقرأها في السفر يشعر باعتزاز وزهو وقوة وأن الذي يقرأها في الحضر يشعر بالنجاح والصلابة؛ ولا شك أن القراءة المقصودة في هذه الروايات، القراءة باللسان وبالقلب وبالعقل، لا القراءة اللفظية التي هي حكاية ونقل فقط.
نزيد، هذه السورة، أذكر ما وقع بالنسبة إلى هذه السورة، بالذات والتي أدت إلى نزول آية حرمة الخمر في وقت الصلاة، ففي السنة الثالثة من الهجرة كان بعض الناس من صحابة الرسول يصلون خلف إمام من أئمتهم لعله "عبد الرحمن بن عوف"، فكان الإمام سكرانًا وبدأ يقرأ سورة ﴿قل يا أيها الكافرون﴾، فقرأها بإسقاط حرف السلب بالجملة، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد. وهذه القضية أولًا في أساسها منكر لأنه كفر. وثانيًا احترام المسلمين للقرآن كان إلى درجة عميقة ومتناهية، وذكرت لكم في بعض الأيام الماضية مثلًا عن التاريخ أن في أيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يومًا من الأيام كان على المنبر فقرأ هذه الآية المباركة ﴿السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ [التوبة، 100] فقرأها نسيانًا بإسقاط حرف الواو فقرأ الآية: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان. فقام رجل من أوساط الناس وقال صحح خطأك، ﴿والذين اتبعوهم بإحسان﴾. فقط لأجل كلمة واحدة، كلمة فقط فالخليفة صحح. ثم ما اقتنع الرجل لأنه كان غير مرتاح من هذا الخطأ بالنسبة للقرآن، ولو حرف واحد فأخرج خنجره وقال له: أقم وإلا لأقمناك بهذا المعوّج. لا نخضع للغلط أبدًا بالنسبة للقرآن... حفظوا القرآن. وكانوا متحمسين لعدم التصرف بالقرآن، وعدم زيادة القرآن وعدم نقص القرآن... ما أشبههم بنا في هذه الأيام.
القرآن كان محترمًا جدًا عندهم ولا يزال "إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن"[3]، لا يزال نحن إذا عشنا القرآن نجحنا وسمونا. قرأ الإمام سورة الكافرون بإسقاط حرف النفي فأحدث في الواقع ضجة كبيرة في أوساط المسلمين فنزلت أو استعد القوم لنزول الآية الكريمة ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ [النساء، 43]. وهكذا حُرّم في المرحلة الثالثة السكر وشرب الخمر في أوقات الصلاة، لأن حرمة الخمر كما قلنا جاءت على أربع مراحل حتى يتمكن النبي من قلع هذه العادة من نفوس الناس. والمرحلة الرابعة ﴿إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه﴾ [المائدة، 90]. اجتنب دليل الحرمة يعني واجب الابتعاد وعند الفقهاء وعند العرف العربي كلمة "اجتنب" أسرع في الحرمة من كلمة حُرِّم. فالقرآن الكريم يستعمل ألفاظًا متعددة في بيان الحرمة مثلًا قد يعبر عن الحرمة بكلمة ويل: ﴿ويل للمطففين﴾ [المطففين، 1] يعني حرام، ما قال التطفيف حرام يقول ﴿ويل للمطففين﴾ [المطففين، 1]، هذا أسرع في الحرمة من كلمة حرام. وقد يقول عذاب أليم، ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم﴾ [التوبة، 34]، ﴿إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم﴾ [النور، 19]. هذا أيضًا معناه الحرمة وأنها كبيرة.
ومن طرق بيان التحريم اللوم ﴿ألم يأْن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله﴾ [الحديد، 16]، وأمثال ذلك. ومن طرق التحريم كلمة إجتنباجتنب. فإذًا، لا مجال لأحد بأن يقول بعدم وجود كلمة حرمة بالنسبة للخمر كما نسمع بين حين وآخر. ثم إذا يريد القائل وله علاقة خاصة بكلمة الحرمة حتى إذا يقف أمام الخمر وأمام شرب الإنسان للخمر كلمة الحرمة نأتي له بكلمة الحرمة من ضم آيتين [...]
____________________________
[1] - ن.م، ج39، ص56.
[2] - الكافي، ج4، ص 542.
[3] - الكافي، ج2، ص599.
