هناك أناس يتحسسون أصواتهم….
عندما يغيب العظماء الأحبة، نلجأ إلى استحضارهم أو تخيّلهم ومناجاتهم. وعندما يطول الغياب تتمازج محتويات الذاكرة مع تهيؤات الخيال ورغبات النفس. أمّا في حالة الإمام السيّد موسى الصدر فإن الأمر مختلف. ولعلّ وجه الاختلاف هو سيرة الإمام المتخمة بالعام على حساب الخاص. هو ابن وشقيق وأخ وأب وعم، ولكل من المتصلين به بالقرابة تجربتهم الخاصة وذكرياتهم وحسرتهم. إلا أن انشغاله بالشأن العام، بقضايا المعذبين، طغى على ما عداه. ولهذا تشكّلت ذاكرة جمعيّة غلب فيها الموضوعي على الذاتي.
شكّل الحرمان قضية محورية في اهتمامات الإمام الصدر، وكانت مكافحته بمثابة حجر الأساس في مشروعه الإنمائي والسياسي. وبالنسبة إليه، الحرمان المادي هو أحد أضلع الإقصاء فقط. لهذا دعا إلى البحث عن مفردات مشتركة لتكوين لغة التخاطب. فبالمشاركة وحدها يشعر الإنسان بالكرامة وتعمّ الثقة المتبادلة ويستتب السلام الكوني. وأثناء البحث عن المفردات المشتركة، قد نتعلّم معاً لغة العاطفة التي طالما اتسمت بالرحمة والحب والأمل منذ أن كان الإنسان وطالما هو كائن.
وكأخت لازمت شقيقها وهي بعدُ في مقتبل العمر، تعلّمتُ منه الكثير، وشعرتُ أن غيابه رمى على كاهلي أمانة ما، أجدُني مطالبة بأن أرفع إليه تقارير رسمية ودورية أحيطه عبرها علمًا بما آلت إليه أحوال الناس والمجتمع والأمّة. وفي هذه السنة السابعة والثلاثين لا أستطيع أن أكتم إحساسي بالاختناق في غير مكان. هناك:
• تمادي العنف في المنطقة، وتلاشي حقوق الناس في الحياة والكرامة والحرية تحت وطأة استرهانهم إلى ضرورات الأمن والسلامة، أو ربما مجرّد البقاء؛
• تنامي القلق على أوضاع الأطراف الضعيفة، كالنساء والأطفال والمعوزين والأقليات الدينية والعرقية؛
• تشلّع المجتمعات والشعوب في لعبة المصالح الدولية التي تتجاذب هذا الطرف أو ذاك، وانفراط النسيج الاجتماعي في معظم البلدان العربية.
ليست الأوضاع على ما يرام أيها الأخ المغيّب. ولو استبقيتك هنيهةً في البلد الذي أحببت، في لبنان، فالأمن والكهرباء والنفايات وتداول السلطة والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي... كلّها أمور أسوأ مما تركتنا عليه قبل سبعة وثلاثين عامًا.
لم تنطفيء جذوة الأمل رغم كلّ ما ذكرت. في هذا الشارع أو ذاك، هناك أناس يتحسسون أصواتهم، يختبرون جدوى صوتهم الموحد الصادح بالحرية والكرامة. في العديد من الزوايا المنسية وعلى أطراف المدينة، هناك من يعمل بصمت ليعلّم طفلا، أو يداوي عجوزا، أو يزرع شتلة. هناك أناس يحسنون الإصغاء ويتقنون وصل من انقطع إيمانًا منهم بأن للآخر - كائناً من كان- حصته في الحقيقة. وما الحقيقة المطلقة إلاّ الحصيلة الكلية لشركاء الحضارة البشرية، أي البشر أجمعين.
رباب الصدر
30 آب 2015