أمير الكنيسة الأسير

calendar icon 06 اذار 1976 الكاتب:موسى الصدر

سنة 1976 أقامت اللجنة الدائمة للعائلات الروحية في لبنان مهرجانًا حاشدًا في قاعة الأونيسكو رفضًا لاعتقال المطران إيلاريون كبوجي والذي يجسّد الروح النضالية والتفاني والإخلاص للقضية الفلسطينية حيث توالت كلمات أشادت بمواقفه. في هذه الأيام، وتضامنًا مع فلسطين ونصرة لقضيتها، نستذكر كلمة الإمام الصدر واصفًا المطران كبوجي بأنه سلاح جديد آتٍ من فلسطين بثوب السلام والرسالات.

* كلمة الإمام الصدر في مهرجان تضامني مع المطران إيلاريون كبوجي في الأونيسكو، نُشر في جريدتي الحياة والأنوار بتاريخ 7/3/1976.
الأخ القائد العام للثورة الفلسطينية، شعلة الثورة وضمير الشعب الفلسطيني،
ممثل رئيس مجلس الوزراء،
أيها المحتفلون،
وإذا بصوت كالرعد يشقّ سماء لبنان المظلمة بسحب مكثفة من الدخان والجريمة، يلمع كالفجر، يتسع باستمرار، يأخذ في إزالة الليل المدلهم الدامي فينفذ في المسامع والقلوب، قائلًا كفى أين أنتم يا إخوتي في لبنان. وماذا تعملون، ومع من تتقاتلون، ولماذا؟
إن عدوّكم هنا في القدس يحرق المعابد، ويهتك المقدسات، ويشوّه معالم مدينة السلام ويزوّر التاريخ. إن عدوّكم يا إخوتي في لبنان هنا يرقص على نغمات أخبار المعارك فرحًا، ويعدّ القتلى واحدًا تلو الآخر. أولئك الذين يتساقطون هنا وهناك، يعدّ قتلهم انتصارًا، ويتابع العدوّ عربدته وطغيانه، ويحبس ويحاكم ويدمّر، ثم يذرف دموع التماسيح على المسيحيين في لبنان، يحاول استفزاز العالم مستنجدًا وهو يقلع رموز المسيحية ويخنق صوتها ويكذب نبيّها ورسالتها.
ماذا تفعلون في لبنان، يا إخوتي، ارموا سلاحكم لبعضكم، وقدِّموا سلاحكم لبعضكم، وتعالوا إلى القدس حيث محمد والمسيح يُسجنان، والكنيسة والمسجد يُهدمان، والمسلم والمسيحي يُضطهدان، والمسيحية والإسلام يُحرقان ﴿فبأي آلاء ربكما تكذبان﴾ [الرحمن، 13].
ويتابع أمير الكنيسة الأسير يقول لماذا، إخوتي، تتقاتلون وعلى ماذا؟ هل ترون ما أرى أن يد العدوّ تمتد من هنا، وتخرج من أكمامهم تقتل وتشوّه وتقنص وتخطف، أنا أراها من هنا، من وراء القضبان، إنني أراه وأرى آلامه وقسوته وإصابته الموجعة لوحدة لبنان ومرافق لبنان. فهل أنتم ترون ما أرى يا إخوتي في لبنان، إنني هنا أتوجع وأكاد أموت، وأنتم تعلنون بأنكم أبعدتم خطرًا، آه ربي، من أنتم، ومن هم؟
لا، إنكم ضربتم أنفسكم، وتراجعتم أميالًا، وخسرتم... أما الضارب المنتصر المحقق للانتصارات فهو خصمكم وحده، إسرائيل فقط، إنني أراها، وأرى شماتتها وفرحها، وانتصاراتها.
صوت كالرعد يرتفع ويقول كفى ثم يتوجع، ويتململ. يتعب من الصرخات، فيهوي، ويصوم ويعتصم ويسقط، وعلى شفتيه صرخات ومناشدات، ذلك هو المطران إيلاريون كبوجي الذي نكرّمه اليوم لا باحتفالنا فحسب، ولا بتكلمنا، ولا بتجمعنا بل بوقف النزيف والطاقة المهدورة.
هل آن الأوان لمحاسبة ما صنعت يدانا؟ هل أدركنا كيف وضعنا العدو موضع المدافع عن النفس. نعترف أن الخصم كان أشطر منا وخطته كانت أنجح؛ لقد ضربنا بسلاح جديد وعلى أيدٍ جديدة وفي جبهة جديدة.
هل آن الأوان لتقييم ما عملنا، ومحاسبة ما فعلنا. لا سبيل لنا أمام العدوّ إلا الدفاع. اختلق لبعضنا الخطر فتهيأ وتسلح، واختلق على البعض الآخر أيضًا، وفي لحظة من التاريخ امتلأ لبنان بالأسلحة. فلنعترف بسلاح جديد، غير "الميراج" التي ضُربنا بها في 67.
ها قد أتانا سلاح جديد آتٍ من فلسطين، من القدس ومن بلد السلام، وفيها ثوب السلام والرسالات، هذا ما يرمز إليه المطران كبوجي حين ينتقل من عزلته الدينية إلى الساحة، أمير يحمل هموم المشردين والفقراء، يحمل السلام، يعزف ويغامر لخدمة المعذبين والمحرومين. إنه سلام آتٍ من صفوف العدوّ، إنه ذو الفقار علي في سيف محمد في كف المسيح آتٍ إلينا ذو حدين: حدّ ترسمه الثورة بما لها من أبعاد عربية وعالمية، وحدّ يرسمه العقل اللبناني بما له من أبعاد جغرافية وتاريخية؛ أو قل يد تمتد من الناصرة، ويد تنطلق من غار حراء تحتضن لبنان وتوحدان الوطن الجريح.
يا أيها اليسوع، كما ألهمت أميرك الأسير في سجن أعدائك، ألهمنا كي ندرك أبعاد الحقيقة ونستوعب أساليب العدوّ. ونتمكن من الرؤية في هذا المناخ المغبّر المليء بالفوضى والمزايدات.
أيها الفادي،
إن بلدنا لبنان يشرّفه أن باركته وأنت عائد إلى فلسطين، فكان طريقًا إلى فلسطين وهدفًا إلى فلسطين.
أيها الفادي،
إن كل من يسكن لبنان يؤمن بك. ساعدْنا على إحباط المؤامرات التي وُضعت بكل دقة. ساعدْنا لتكون عقولنا أكبر من عقول العدوّ، وقلوبنا أرحم من العدوّ.
سيدي المسيح، كلمة الله وروح منه، علِّمنا الكلمة التي أنساناها الرصاص، وابعثْ فينا روح الإنسانية لكي نرتفع ونبني الوطن، نطوّر حاضره ونبني مستقبله، فنجعل من وطننا قلعة منيعة تتحطم عليها مؤامرات العدوّ علينا وعلى الثورة الفلسطينية.

source