*خطبة للإمام الصدر بمناسبة أربعون علي شريعتي في الكلية العاملية في بيروت- قاعة الرشيد بتاريخ 14 آب 1977، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وخاتم رسله محمد وعلى أنبياء الله المرسلين. وسلام الله على آل بيته وصحبه الطاهرين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخواني العلماء،
أخي إحسان،
السيدة الجليلة حرم فقيدنا الكبير،
أيّها الإخوة والأخوات،
السلام عليكم ورحمة الله.
لماذا نحتفل؟ لماذا نجتمع، فنقيم احتفالًا يضمّ رجالًا ونساءً، مناضلين ومناضلات، يضمّ رجال دين، يضمّ رجال فكر، وها أنا أرى أمامي عميد كلية الحقوق الدكتور محمد فرحات، والأخ الدكتور منير شفيق، وقادة الفكر الملتزم.
لماذا نجتمع فنحتفل؟ ما لنا وللدكتور شريعتي؟ وما له ولنا؟
في الواقع، إن إنساننا الطامح، عندما ينظر في الأفق، فيرى أن وضعه وحياته ومجتمعه لا يرضي طموحه، يتطلع إلى الأفق ويعزم على التغيير. هذا الإنسان الذي يقول عنه الحديث الشريف: أكثر الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل، تعبيرًا عن معاناة الذين يريدون أن يغيروا مجتمعهم، ولا يكفيهم ما هم فيه من الوضع المهترئ. فيعانون من المستفيدين من المجتمع أكثر وأكثر بنسبة طموحهم، وببعد تطلعهم البعيد.
نحن هنا ننظر إلى الأفق لكي نرى وضعنا اليوم في لبنان، وفي المنطقة، وفي العالم، فلا نجد في هذا اليوم، كما لا نجد يوم أمس، ما يرضينا، ما يرضي طموحنا، ما يقنعنا. هنا يختلف الناس [إلى] فئات:
فئة تستسلم للوضع الحاضر، تذوب فيه، تسايره، تجامله، تفلسفه، تتعاون معه. هؤلاء الضعاف لسنا منهم، ولا يشرّفنا أن نلتقي معهم.
فئة أخرى، تفوق الفئة الأولى، لا تقبل بما يجري في المجتمع. ولكنها تهرب من المواجهة، تهاجر، تسافر، تختار مجتمعًا آخر، تختار أميركا، أوروبا، آسيا، هنا وهناك. تفتش هذه الفئة عن الملجأ، عن المهجر. هؤلاء أقوى من الفئة الأولى ولكننا لا نقبل سيرتهم، ولا نكتفي بموقفهم.
أما الفئة الثالثة هم أقوى من الفئة الأولى المستسلمة –أيها الإخوة والأخوات- لا نقبل ولم نكن لنقبل أن نكون من الفئة التي تستسلم للوضع الحاضر، ولا من الفئة التي تهرب فلا تواجه. والدليل على ذلك ما أنتم فيه، فوجدتم أنفسكم في مأساة فَقْد قائد فكري كبير، غريب الحزن والألم، فإذا بكم يتحول لقاؤكم إلى مهرجان فرح وسرور. عندما يحضر قائد الثورة ورمز الشعلة المتقدة الأخ أبو عمار.
وهكذا ترفضون أن يتغلب الموت عليكم، ويخيم الحزن في قلوبكم، ترفضون الاستسلام، وتفتشون في سبيل تحويل هذا الحزن إلى البشائر، والخسارة إلى الأرباح، والوجوم إلى التصفيق.
إذًا، لسنا من الفئة المستسلمة للوضع الحاضر، ولا من الفئة التي تغيب فلا تواجه الوضع الحاضر.
وهناك فئة ثالثة، ترى أجواء بلدها، ومنطقتها، وبيتها لا ترضيها، فتفتش عن التغيير. هناك فئة من الراغبين في ىالتغيير، من الساعين إلى التغيير، من الذين لا يستسلمون إلى الوضع الحاضر، فئة منهم تواجه فتغير. ولكنها تستعمل سلاح الغير. تختار الأحزاب، بعض الأحزاب التي لا علاقة لنا بأرضنا، لا علاقة لها بأرضنا. هذه الفئة التي نفضّلها على الفئة الأولى والثانية. فالذي يسعى في سبيل التغيير، ولكن يختار خطًا غير متفقٍ عليه، يكون كما يقول الإمام (عليه السلام): ليس الذي طلب الحق فأخطأ، مثل الذي طلب الباطل فأصاب.
نحن لسنا معهم، وإن كنا نحترم شأنهم، ونعتبرهم شبابًا طامحين، أرادوا التغيير فأخطأوا في الوسيلة.
نحن هنا، وجدنا أن أفقنا لا يرضينا، مجتمعنا الداخلي، عالمنا العربي، موقعنا من العالم الثالث لا يرضي طموحنا، لا ينسجم مع إيماننا، لا يتفق مع أبدى وأول مظاهر إيماننا، الإيمان بالله اللامتناهي. فطموحنا لامتناهٍ، وإيماننا بالحق والعدل. إذًا، مهما عظمت المصاعب في الداخل والخارج، لا يمكننا أن نقبل.
نحن نشاهد عالمنا العربي، ويعزُّ علي أن أقول، أن عالمنا العربي، وما نشاهد في الأجواء، أمر لا يشرفنا. فنحن نشعر بالذلّ والهوان عندما تتحكم فئةٌ إرهابيةٌ في حياتنا، وفي حياة منطقتنا. عندما يريد أن يتحكم إرهابي فيحول إرهابه إلى قضية، ويحول القضية المقدسة إلى الإرهاب، فيجد في العالم مسامع تسمع، وقلوب تقتنع، نحن نشعر بالألم.
نحن عندما نحاسب ونحتسب، ونفكر في عالمنا العربي، فنرى أن وزير خارجية أميريكا يأتي فيذهب، فيقابل ويلاقي، ويفشل. ثم يحاول ويطلب المزيد من التنازلات، أي تنازلات ممكن أن يقدمها العالم العربي اليوم أكثر مما حصل؟ ومع ذلك كله، ومع إبراز النية الحسنة أمام العالم، ومع إبراز الموقع الإيجابي اقتصاديًا، وبتروليًا وسياسيًا، وحربيًا، مع ذلك نشعر بأن العدوّ المتبختر المتكبر يستعلي علينا، ويستعلي على قادتنا، وزعمائنا، ورجالنا، وممثلينا.
نشعر بالألم، فنرفض هذا الواقع بكل قوة. ولا يمكن أن نقبل بهذا الواقع، حالًا ومستقبلًا، تمكنا من التغيير فورًا أو لم نتمكن، المهم أن نضع الخطوة الأولى في سبيل الألف ميل، وفي طريق الألف ميل للتغيير. إذًا، الجوّ العربي لا يرضينا، ولا ينسجم مع طموحاتنا وتضحياتنا وتاريخنا، فنريد التغيير.
جوّنا الداخلي، مرَّ علينا هذه الفترة الطويلة، بعد التذابح والتقاتل، بعد الحرب القذرة التي لا انتصار فيها، بعد المعركة التي فُرِضَت علينا دون سبب، ودون نتيجة، ودون نجاح، ولا تزال نجد فئات هنا وهناك، تحاول الاستسلام أو تحاول الاستمرار في التشنج، وكأن التجربة المريرة المزعجة لا تكفيهم. جونا الداخلي نشعر بأنه لا يرضينا، ولا يقنعنا ولا يشرفنا القبول به.
جوّنا العالمي، في نفس المستوى، في كل منطقة، في بيوتنا، في مناطقنا، في حركاتنا، في نشاطاتنا، في تجمعاتنا، نجد النقص هنا وهناك. فهل نستسلم؟ كلا. هل نهاجر؟ كلا. هل نختار إيديولوجية الآخرين؟ هل نعترف بإفلاسنا؟ كلا.
لذلك نفتش في الأفق، لكي نجد ثورة أصيلة، ثورة من طبيعة أرضنا وسمائنا، ثورة فكرية ترتبط بقلوبنا، وتراثنا وإيماننا. فإذا اخترنا واحترمنا علي شريعتي، فلأنه يفلسف ويبرر ويشرح، ويلقي أضواء على السلاح الفكري الذي أخذت هذه الأمة في تاريخها المجيد بقوة وبحزم، وتمكنت أن تغير جاهليتها بالنور، وكفرها بالإيمان، وتشتتها بالتوحيد، وذلّها بالقوة، وشقاءها بالرحمة وتخلفها بالسعي لتقدم الآخرين.
هذه التجربة الناجحة، التي تبرز من خلال كلمات علي شريعتي ورفاقه، ثروة فكرية كبرى نحترمها. كما نحترم فتح وثورة فتح. لماذا؟ لا لمجرد أنها ثورة حق. ولا لمجرد أنها تسعى في سبيل تحرير الأرض المقدسة فحسب، بل أكثر من ذلك، نحن نحترم فتح لأنها ثورة أصيلة، ليست مستوردة ولا مقتبسة ولا محاكاة. ثورة من صميم هذه الأرض، ومن وحي هذا السماء، من هذه المنطقة المباركة. ثورة هي في الصراط المستقيم، ﴿غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ ]الفاتحة، 7[. هذا ما نقرُّ ونعتزّ، ولذلك بها نتمسك، ولذلك نقف ونحترم ونعتزّ.
وهذه المناسبة الكريمة، التي يُكرِّمُ فيها علي شريعتي، ومن خلال علي شريعتي يُكرِّمُ الفكر الأصيل المؤمن، الفكر الذي يتمكن من استقطاب العالم، كل العالم، ومن تحريك الطاقات المجمدة، الموجودة في المعابد والمحلات والبيوت. تلك الطاقات الهائلة، المكدسة، المهملة، التي لا يمكن أن تعمل فعلها في تغيير مجتمعنا، عندما تتحول إلى حركة مؤمنة مناضلة لتغيير المجتمع.
نحن نعتزّ ونعترف. وها نحن نجتمع لنكرّم هذا الفكر الأصيل. لنكرّم الفئة الرابعة غير المستسلمة، ولا المهاجرة، ولا المقتبسة، بل أصحاب الثورة الأصيلة، التي يريدون أن يغيروا مجتمعهم.
أخذنا، أخذنا من علي شريعتي في حياته، وها نحن نأخذ من علي شريعتي في وفاته. وفاته هي التي تجمعنا. الثورات المؤمنة، المناضلة، الأصيلة، من فلسطين إلى لبنان، إلى أقطار آسيا وإفريقيا إلى إريتريا، إلى زنجبار، إلى زيمبابوي، إلى فليبين، إلى إيران... إلى كل مكان، هذه الثورات الأصيلة التي تشكل الفئة الرابعة، أو فلنسمِّه العالم الرابع. كانوا يسمونا العالم الثالث، ونحن بموقعنا الطبيعي من العالم الثالث، لأننا لا نخضع للجبارين، ولا نقرّ تقسيم العالم إلى القوتين العظميين، فكنّا في تصنيف جغرافي مع العالم الثالث. فلنقلْ العالم الثالث فئتان: فئة تعترف بالإفلاس فتقتبس فكرةً وإيديولوجية من هنا وهناك، وفئةٌ ترفض أن تعترف بالإفلاس وتعتمد الفكر الأصيل، والإيديولوجية الأصيلة، من أرضها وسمائها وتتقدم فيها.
إذًا، أخذنا من الدكتور شريعتي، في وفاته، لقاء هذه الحركات المناضلة المؤمنة، فشعرنا بقوتنا في عصر الغربة. وشعرنا بقوتنا في وقت الضعف. وها نحن نلتفُّ حول بعض، كرموز تمثل عالمًا واسعًا، مرتبطًا بالجغرافيا، وبالتاريخ الناجح. بل مرتبطًا بالسماء والأرض، بقلب ملتقٍ مع الإيمان بالله، الذي هو ينبوع الفكر، وينبوع النضال. نشعر بقوة بعد جرح، وبعد محنة، وبعد ضعف. نشعر بقوة وأصالة عندما نلتقي في هذا اللقاء المبارك. إذًا، له، لـشريعتي، فضله في حياته وله فضله في وفاته أيضًا.
أيها الإخوة الأعزاء،
نحن في مجتمعنا، ونستعرض الوضع العام، نجد أن المؤمنين بالله، نجد أن الأطفال المناضلين، يجب أن يلتقوا، ويتعاونوا، ويخلصوا، ويعملوا، ويختاروا، وإلا فإنهم محارَبون في عقر دارهم. ها نحن نشاهد في لبنان، بعد المحنة الكبرى، التي عانيناها خلال السنتين الماضيين، والتي وقفنا فيها موقف الدفاع عن الوطن، عن وحدة الوطن، عن عروبة الوطن، عن قضية الوطن، قضية فلسطين.
في هذا الوطن عندما وقفنا هذا الموقف، دون أن نريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، مددنا يدنا للتعاون، ولا نزال نمد اليد للتعاون. ومع ذلك، نشاهد أن العالم يستضعفنا، وينقل خلافاته إلينا، ويحاول أن يشتت شملنا، ويفرّق جمعنا، ويضعّف قوتنا، ويدق الإسفين بين صفوفنا.
أيها الإخوة الأعزاء،
أكثر ما يمكن أن يُضعِّف الإنسان والمؤسسة والحركة، الشعور بالتشتت، والتفرق. وحدة صفنا، تكوين جبهتنا، لقاؤنا، أتصور لا بديل عنه في موقعنا. ألا يكفينا ما وصلنا إليه هذه الفترة؟ أما سمعتم أيها الإخوة الأكارم، أن رئيس وزراء إسرائيل يقول، إن السلاح الإسرائيلي هو الذي حمى المسيحيين في جنوب لبنان، ومنع من إبادتهم.
هل نقبل نحن، في لبنان مسلمين ومسيحيين، بهذا الطرح؟ هل هذا صحيح؟ نحن خلال ألف سنة، أو أكثر، نتعايش، نتآخى، نتعاون، نتداول، نبات، نأكل في بيوت بعض، في قرى بعض نعمل مشتركين متعاونين. أين كانت إسرائيل قبل قرنٍ أو أكثر؟ نحن كنا إخوة. سلاح إسرائيل هو الذي فرقنا، وليس هو الذي دافع عنا، أو دافع عن المسيحيين. بالعكس كانوا يراقبون الأحداث حتى إذا هدأت، يبعثون عصابات وأسلحة وقصفًا لإعادة التفجير في بلادنا.
إذا كانت ذاكرة بعض الناس ضعيفة، فهناك من يذكر. اسألوا صاحب الغبطة، البطريرك خريش، الرجل الطاهر الصادق الأمين، عندما كان قسًا في يافا وعكا وحيفا، سيطرت إسرائيل وتأسست دولة العصابات هناك، في البداية، فرَّقت بين المسلمين والمسيحيين، وقالوا للمسيحيين لا علاقة لنا بكم ولا ضير من قبلنا عليكم، نحن نخاصم المسلمين حتى طردوا المسلمين. وبعد ذلك جاؤوا إلى المسيحيين، ففرّقوا بين الموارنة والكاثوليك والروم، ثم فرّقوا بين فئاتهم ثمّ صُفوا جميعًا وأُخرجوا جميعًا؛ هذا الذي سمعته مرة ومرتين وثلاث من البطرك.
على من يضحك عدوّنا ورئيس وزراء إسرائيل؟ من الذي خلق المشكلة الطائفية في لبنان؟ نحن كنّا نتعايش. نحن كنّا منذ ثلاث سنوات، بالضبط في وقت يشبه هذا الوقت، كنت أنا أُلقي عظة الصيام في كنيسة الكبوشيين. وكاد أن يُلقي خطبة الجمعة رجل دين مسيحي في بعض المؤسسات. من الذي وصل في تعايشه وتعاونه إلى ما وصل إليه اللبنانيون ولا يزال؟ من الذي خلق الطائفية غير العدوّ الإسرائيلي؟ هل نحن نقبل؟ هل نلبي؟ هل نسكت؟
كلا! علينا أن نردَّ على هذه المزاعم، فنضع أيدينا بعضنا في بعض، لبنانيين، وفلسطينيين، وسوريين، والعرب. نتفق لمواجهة هذه المرحلة الخطرة، التي تعادل في سمومها تاريخ اليهود المظلم، وتفوق في خطورتها جهنم التي تعيش في قلب بيغن ورفاق بيغن في إسرائيل. إلى أين وصلنا؟ هل لا تزال فئات منّا، لأسباب خاصة ولمصالح سياسية، تحاول أن تعتدي وأن تعضّ على الأصابع، وأن تأخذ من هنا وهناك؟ كلا! لقد آن الأوان لأن نتفق، ولأن نلتقي، ولأن نؤجل خلافاتنا، ولأن نعالجها بالحوار المطلوب حتى نتجاوز ونتخطى هذه المرحلة الخطرة.
ماذا يريد بعض أشقائنا منّا؟ عندما لا تكفيهم مشاكلهم فينقلون هذه المشاكل إلى جنوبنا، إلى مناطق أخرى، فيتصرفون، ويخلقون الصعوبات ومشاكل للمقاومة الفلسطينية وللبنان. وقد وصلنا [إلى] أكثر من كلّ ذلك... إلى أن بعض الدول الشرقية أيضًا استضعفتنا وبدأت تلعب في أمعائنا. ففي كلّ يوم نسمع إمامًا ومؤسسة، وفي كلّ يوم نرى أن هناك رغبة في التعاون والمساعدة، وفي كلّ يوم نسمع أنهم يريدون خيرًا للشيعة، لو أرادوا خيرًا للشيعة، لما قتلوا الدكتور شريعتي، لو أرادوا خيرًا للشيعة لما اعتقلوا طالقاني، لو أرادوا خيرًا للشيعة، لما اعتقلوا كبار قادة الفكر في إيران. إن المخابرات الإيرانية التي تضطهد الشيعة، وتمزق الشيعة وتفرق صفوفها وتخلق منهم مسجونين ها [هي] تمدّ يدها الخطرة هنا لكي تمزق جسد الشيعة وتخلق منّا ما لا نقبله.
نحن لا نقبل بهذا الشيء. نحن نسكت ونقبل بما يمزقنا ويفرق أحشاءنا؟ كلا! لا نقبل بذلك. صحيح أننا تعرضنا للصعوبات، وللاعتداءات وللمشاكل، ولكننا أيضًا لا يزال نملك دمًا يدافع، وهمة ترفض، وقولًا يقول لا. كيف كان تاريخنا؟ كيف كان قادتنا؟ كيف كان رجالنا؟ أولئك الذين كانوا وحدهم في التاريخ؟ وكانوا يقولوا لامبراطوريات العالم لا!
نحن لا نقبل هذا الشيء. نحن نشاهد كلّ يوم، وأنتم تشاهدون. القضية لا تحتاج إلى السكوت وإلى البحث. تشاهدون فئات هنا وفئات هناك. مشايخ هنا، وإمامًا هناك، جبهة هنا، وتنظيمات هناك، تتموّل وتتشجع، وتضع كل ثقلها وهمّتها، لتمزيق صفّ الشيعة. ماذا يريدون منّا؟ نحن هنا اخترنا طريقنا: طريق النضال. طريق عليّ والحسين... طريق الحقّ... طريق الاستقرار... طريق رفض الطغيان... طريق قول لا للاستعمار وللاستثمار وللاستحمار.
لا نقبل بأن يكون لبناننا الكبير، بلد الحريات، بلد الوعي والنضال، بلد النموذج الرسالي في العالم، بلد الوحدة الوطنية، بلد الصراع في سبيل الأفضل، بلد الهجرة المناضلة، بلد المنطلق لأقدس ثورة... لثورة فلسطين... لا يمكن أن نقبل أن رجالًا صغارًا، لا يملكون إلا ثمن البترول، ولا يملكون إلا اللؤم والدسّ والفتنة، يدخلون في بيوتنا، وفي صفوف طائفتنا لكي يمزقونا، ويخلقوا منّا محاور وفئات هنا وهناك. شعبنا مطلع على ذلك. وطائفتنا مطلعة على ذلك. طائفتنا شاهدت أيامًا كانوا يتهمون عليًا بالغلبة، ويومًا كانوا يتهمون عليًا بالمرح، يومًا كانوا يتهمون الحسين بالخروج على إمام زمانه، يومًا كانوا يضللون هنا وهناك.
لو لم يكن لنا أيّ ميزة -ميزة النضال تقترب إلى ميزة الإدراك- ألسنا قوم الاجتهاد نحن؟ يعني إدراك الوضع الحاضر، واكتشاف الوضع الحاضر والعمل هذا الأساس. لا! لا يمكن أن يؤثر فينا سهمهم، وأن تمرّ فينا مؤامرتهم. نحن لهم بالمرصاد، فليذهب، العملاء والمأجورين، ولو لبسوا لفّات. فليذهب، فليذهب العملاء والمأجورين ولو سمّوا أنفسهم إمامًا. فليذهب الصغار والأقزام إلى جهنم: جهنم المال، جهنم الفساد، جهنم الميوعة.
فليعلمْ الناس هنا أصحاب عليّ والحسين، أنهم لو كانوا يهتمون بالشيعة والتشيع، لو كانوا يهتمون برجال الدين والعلماء، لو كانوا يهتمون بالعلم والفقه والفضيلة، لما كانوا أدخلوا مئات الألوف في سجونهم. نحن نرفض هذا. وهذا رفض جديد أمامنا.
إخواني الأعزاء،
نكرّم بأشرف صورة فقيدنا الكبير الدكتور شريعتي. ولا شك أننا في هذا المكان، عندما نلتقي بالشعلة المتّقدة، كما قلنا، نشعر أن في هذا عزاء لأهله، وعزاء للشبيبة المؤمنة المسلمة التي شعرت بالحرقة الكبرى في وفاة فقيدنا الراحل. كما أن ذلك عطاء آخر منه في يومنا العصيب. فلنلتقِ، أيّها الذين يرفضون الوضع الحاضر ولا يهاجرون، والذين لا يقتبسون سلاحًا من الآخرين.
نلتفّ، ونلتقِ، ونغيّر حاضرنا اللبناني والعربي والعالمي، بالحكمة والوعي، وعدم السماح للأيادي الخبيثة أن تلعب في أمعائنا؛ ولنضع كلبنانيين أيدينا بعضنا في بعض. ولنضع كإخوة مناضلين، أصحاب قضية واحدة، فلسطينيين ولبنانيين، أيدينا بعضنا في بعض. ولنضع العرب، يدنا في أيدي بعض، حتى نضع حدًا للكبرياء الذي نعانيه والذي نحسّ به، والذي نقرف منه، ونشعر بأنه لا يتناسب مع كرامتنا، وكرامة تاريخنا.
فيدًا بيد، ووجهًا إلى جانب وجه، وعقلًا إلى جانب عقل، وقلبًا إلى جانب قلب، متّصلًا بواسطة الإيمان إلى ينبوع العقل والفكر والعلم، إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الله.
والسلام عليكم.
