يوم الشهيد

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 23 أيار 1976 الكاتب:موسى الصدر

بتاريخ 23 أيار 1976 أطلق الإمام الصدر صرخته الشهيرة: "إن شرف القدس يأبى أن تتحرر إلّا على يد المؤمنين وإلّا على يد المجاهدين"، وذلك خلال مهرجان "يوم الشهيد" الذي أقامتة حركة المحرومين في قصر الأونيسكو تكريمًا لشهدائها. نستعيد في هذه الأيام الدامية وبمناسبة ارتقاء كوكبة من الشهداء خطاب الإمام الذي يؤكد فيه على أن التخلي عن محاربة إسرائيل فيه تحطم لبنان وتمزقه. النصّ كاملًا:

* خطاب الإمام الصدر في مهرجان يوم الشهيد (شهيد أمل) بتاريخ 23 أيار 1976 في الأونيسكو، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
دولة الرئيس
الأخ المجاهد الثائر أبو عمار،

أيها السادة العلماء،
أيها المقاتلون الأبطال،
أيها الإخوة والأخوات،
السلام عليكم ورحمة الله
أيتها الأرواح الطاهرة،
نقف أمامكم خاشعين نستمع إليكم وأنتم تستبشرون بالذين لم يلحقوا بكم، مقدرين فضلكم الدائم أولًا وأخيرًا.
فلقد فجرتم بعطائكم السخي أولًا طاقات الأمة المجمدة والمهدورة، وأشعلتم بالنفوس جذوة الإيمان والالتزام، وأنرتم بدمائكم شموع الهداية إلى المستقبل العزيز. وها أنتم اليوم يوم أردنا تكريمكم تقدمون أيضًا لنا بسخاء عطاءً جديدًا. تطلون علينا من أفقنا الحزين الدامي مستبشرين تمسحون عن العيون الدموع، وعن الجباه المتاعب وعن القلوب اليأس. جزاكم الله عنا خيرًا وألحقكم بركب الشهداء الأولين الصادقين الذين وضعوا أساس المجد العادل لأمتنا.
وإننا نعاهدكم في يومكم هذا أن نستمر في الدرب الذي سلكتم، وبالجهد الذي تعلمناه منكم وبالصدق الذي يحدثنا به عملكم. إننا نعاهدكم اليوم أن نلتزم التزامًا كاملًا بأن لا نسكت ولا نسكن عن النضال طالما نجد في الوطن محرومًا أو منطقة محرومة، وأن نتتبع في نضالنا مسلككم الصادق، وألا نضع في الحساب مصالحنا الذاتية، وألا نؤخذ في الله بلومة لائم ولا بإغراء مرحّب وألا نستوحش في طريق الهدى لقلة أهله.
أيها الأعزاء،
ها قد بدأت الحرب تضع أوزارها، ويحدثون عن المصالحة الوطنية، وعن الجلوس حول الطاولة المستديرة وعن اجتماعات للقيادات الشابة التي أفرزتها الأحداث، وعن مصافحة المقاتلين وعن...
إن دماءكم الغالية التي لا تقدَّر في الدنيا وما فيها، ترسم لنا اليوم الموقف الحق الذي التزمنا بقوله من دون الاهتمام بالمعاناة القاسية التي تحملناها خلال الأشهر الأربعة عشر. فلا دم لنا أغلى من دمائكم، ولا معاناة أقسى من معاناة أمهاتكم وآبائكم وأطفالكم.
إن المصالحة الوطنية هذه محاولة شريفة وضرورية لمنع الاقتتال الأهلي، ولإيقاف النزيف الذي بدأ ينذر بالعاصفة الكبرى. إن حربنا الأهلية يجب أن تنتهي لأنها لا ولن تخدم أحدًا إلا العدو. إن استمرارها يهدد الوطن ووحدته، بل يشكل الخطر على المقاومة بأخطار لا يمكن تحديد أبعادها. لذلك، فالمطلوب أن تنتهي هذه المعركة وانتهاؤها يتطلب اجتماع المقاتلين وأطراف الصراع، ويتطلب أيضًا الاتفاق على أسس جديدة ترسم صورة لبنان الغد. لبنان العدالة والتحدي، لبنان الواحد المتطور، لبنان العربي الرسالي، لبنان الإنسان والحضارة، لبنان الحرية والقيم، وأن تجري هذه المحاولة على يد الرئيس المنتخب الذي بدأت بوادر عهده في أيامه الأولى تخصب الأماني وتُنعش الآمال في النفوس الحزينة. إننا نرحب ونبارك هذه المساعي وقد بذلنا وسنبذل كل جهدٍ لإنجاحها، وما الحديث في هذا اللقاء الكريم إلا جهدًا متواضعًا منا بهذا الاتجاه مباركًا ومستلهمًا من أرواح شهدائنا الأبرار.
أيها الإخوة،
إن المطالب الإصلاحية من سياسية واجتماعية وإنمائية، تلك المطالب التي طرحت من قبل مختلف الأطراف، هل كانت وراء الحرب الأهلية؟ إن حرمان الأكثرية الساحقة في لبنان كان ولا شك أرضًا خصبة للمعركة ووقودًا لها وسببًا لاستمرارها. هذا صحيح، ولكن في تصورنا لم يكن الحرمان هذا سببًا للحرب ولا المطالب تلك هدفًا منها، وإلا فلماذا كانت كل فئة تتهم الأخرى بالبدء بها، وكانت تتبرأ من مسؤوليتها وكانت تتحدث عن المؤامرة.
هل المحرومون في الوطن بادروا بالحرب الاجتماعية الطبقية؟ هل هم بأيديهم زادوا في حرمانهم؟ أو قاموا بتفويت ما كان لهم من الفرص المتواضعة للحياة؟ وهل الشرفاء الذين عانوا الظلم دهرًا يمارسون هذا النوع من الحرب الظالمة؟ وهل النوعية الغالبة في صفوف المقاتلين، وهم المثقفون، كان طموحهم يصل إلى تحقيق لقمة العيش فقط؟
كلا، نقولها بصدق وباطمئنان.
إن الحرب في البداية قامت من أجل الاحتفاظ بالوجود السياسي، وكانت في عمقها تعبيرًا عن القناعات شبه العنصرية. وقد وضعت الحرب الأكثرية المحرومة أمام الاختيار الصعب، إما القبول بالامتيازات السياسية وما وراءها من استمرار الحرمان الاجتماعي والسياسي، ومن عزل لبنان عن العرب ومن إبعاده عن مسؤولياته القومية وبخاصة أمام إسرائيل، وبالتالي المشاركة في تحجيم المقاومة الفلسطينية وتدجينها؛ وإما التقسيم وما وراء التقسيم من خلق دويلات طائفية ومن احتلال الجنوب والقضاء على الثورة.
وكان موقف الأكثرية رفض الخيارين والقبول بالحرب القاسية دون استعداد مسبق وتقديم التضحيات الكبرى، وبالنتيجة تفشيل المخطط الرهيب. وقد تحمَّل المحرومون أوزار المعركة بشرف وشجاع، ودافعوا عن مناطقهم المحرومة وعن المقاومة الفلسطينية، وقدموا الضحايا وجبلوا تراب الوطن بدمائهم، وأثبتوا أنهم المواطنون حقًا، وأنهم يستحقون هذا الوطن أكثر من الذين يريدون الوطن لامتيازاتهم أو لمصالحهم الذاتية، ومن الذين دفعوا بهم إلى الطوفان، ومن الذين يتحدثون ولا يقاتلون، ومن الذين يتهربون من تحمل المسؤوليات ساعة محنة الوطن.
فالحرب إذًا، لم تبدأ لتحقيق الأهداف الاجتماعية وسوف لا تنتهي بتحقيقها وإن كان تحقيق تلك الأهداف يعالج أرضية الأزمة ويُخرج عن الساحة أولئك الذين دخلوا المعركة لقاء أجرة أو لأجل استلام قطعة من السلاح، وقد امتلأت سجلات بعض التنظيمات السياسية خلال سنة خمسة وستين بأسمائهم مع شديد الأسف.
إن الحرب اللبنانية في الحقيقة كانت استمرارًا لمحاولات تقزيم المواطن اللبناني، وانتزاع بعده القومي عنه، وفصله عن واقعه التاريخي الحضاري. وكان الرد القاسي من الطليعة المؤمنة التي كانت متعطشة إلى تحقيق طموحه الوطني وأداء دوره القومي وتحمّل رسالته الحضارية، وسيستمر في الدفاع المستميت هذا، طالما تستمر المحاولات تلك، ولا يقف عند تحقيق مطالب أو برامج إصلاحية سياسية أو اجتماعية.لقد كان الإنسان في هذه البقعة من الأرض عبر تاريخه يحمل رسالة، يجوب الآفاق ويساهم في رفع مستوى الإنسان في كل مكان. وبوجه خاص كان إنساننا اللبناني مشاركًا بقوة في تحمل مسؤولياته القومية من المحيط إلى الخليج. كان إنساننا كبيرًا رغم صغر أرضه، وعملاقًا يوجّه طموحه إلى أمته وإلى العالم، وبذلك كان يُساهم في إسعاد العالم ويسعد نفسه. وجاء رجال صغار حكموا فترة من الزمن، وحاولوا أن يجعلوا الوطن الكبير على شاكلتهم، وأن يحددوا المواطن العملاق بمستوى تقزمهم، فامتنعوا عن الاهتمامات العربية بحجة عدم التمحور، وعن المشاركة في محاربة الكيان الصهيوني المغتصب، بل وعن المشاركة في الدفاع أمام اعتداءاته المتكررة، امتنعوا عن ذلك بدعوى اتفاقية الهدنة. كما أهملوا النصف الآخر والأكبر من لبنان في مهاجره وتخلوا عن جميع مسؤولياتهم الوطنية والقومية والإنسانية.
وهكذا حاولوا أن يسجنوا العملاق وأن يضعوه في القمقم، فأبلوه بمشاكله المحلية وبمنافساته القاسية، فأجروا الزوبعة في فنجان. لقد أسسوا على طريقتهم جيشًا، ثم منعوه عن الحرب، وبعد فترة قالوا له لا تدافع عن أرض الوطن. فكان يعتبر الاعتداء موجهًا إلى غير صدر المواطن، إلى بني قومه، إلى الثورة الفلسطينية. حتى إذا انكشفت الحقيقة، وتبين أن العدو يتذرع بذلك ويعتدي على الأراضي الجنوبية في لبنان، وعلى المواطن اللبناني بالذات محاولًا تهجير المواطن تمهيدًا للاحتلال. فمنعوا الجيش عن الدفاع، وعندما سئل عن مهمته، قالوا له جمِّلْ الثكنات، نظِّمْ السجلات فخِّمْ المكاتب. وبعد ماذا؟ فرِّقْ المظاهرات، واقتلْ معروف سعد، وأشهِد واشهدْ على تسلل العدو إلى قلب عاصمتك، واسكت حتى ولو قُتِل أبو يوسف وغيره من المناضلين أمام سمعك وبصرك.
وهكذا أسسوا المؤسسات، دون أساس، والدولة من دون أن تشترك في دورها العالمي، واشتركوا في جامعة الدول العربية، واشترطوا في قراراتها الإجماع فشلُّوه عن العمل، وتخلفوا عن كل مهمة عربية، وبنوا وزارة التربية لكي تجمد التربية الوطنية وتنشط التشرذم التربوي. ومنعوا الخارجية من الاهتمام بشؤون اللبنانيين المنتشرين في العالم إلا في إطار التقزم الطائفي، واحتكروا المراكز للأنسباء لكي تتهرب الأدمغة والكفاءات، وشلّوا المشاريع الحياتية العمرانية التي كانت الأيادي اللبنانية تنفذ أضعافها خارج وطنه. وهكذا أرادوا أن يحولوا الطموح الذي كان نعمة للعالم إلى نقمة للوطن، كما حاولوا أن يحولوا الدم الذي يتحول إلى الخلود في الحدود لكي يُراق إجرامًا في الأزقة؛ والسلاح الذي كان حياةً وأمنًا للوطن جعلوه دمارًا وموتًا للمواطنين؛ والذكاء الذي كان نصرًا ومجدًا وإنقاذًا أصبح خزيًا وتمزقًا ومؤامرة. وكان انهيار الدولة وسقوط الجيش، وأُلقي بأسنا بيننا، وتدهور الوطن دون أن تُحدِث مأساتنا ألمًا وقلقًا في ضمير أحد: ﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم﴾ [الأنعام، 65] وقد فُسّر بالحاكم الطاغي الجائر، ﴿أو من تحت أرجلكم﴾ [الأنعام، 65] وقد فسّر بحكم الغوغاء ﴿أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض﴾ [الأنعام، 65].
إن المحنة في لبنان، أيها الإخوة، لا تعالج إلا إذا أعطينا للمواطن مجال طموحه، وللوطن بعده القومي، وللإنسان دوره الرسالي. إن لبنان دولة مواجهة فلا يمكن إلا أن يكون منيعًا يدافع عن شعبه وأرضه بعد أن عرف الجميع مطامع العدو في الجنوب، ولا يمكن لمجتمعه إلا أن يكون مجتمع جِدٍّ وحرب لا مجتمع رخاء واستهلاك وترف. إن لبنان دولة تحدٍ لأنه أمام إسرائيل، ولموقعه الجغرافي
فلا بد أن نعيد إلى اللبناني أفقه الواسع لكي ينتج ويساهم في صناعة تاريخه. إن المؤسسات اللبنانية لا بد وأن تتحرك وتتحمل مسؤولياتها القومية والعالمية وهذا يتطلب اعتماد الكفاءات بمعزل عن الانتماءات الطائفية والسياسية.

إن لبنان بواقعه البشري مدعو لأداء دور حضاري في العالم من خلال مستوى التعايش ومن خلال دوره في الحوار العربي الأوروبي، وهذا الدور لا يمكن تأديته إلا بوجود العدل وتكافؤ الفرص بين أبناء الشعب والرؤية الواسعة لدى الحكم. على المسؤولين أن يعرفوا واقع هذا الشعب والأرض والتاريخ، ويضعوا النظام الجديد على أساسها، وإلا فالكوارث تتجدد والمستقبل يظلم.إن لبنان بلد المؤمنين وقد كانت الدماء المؤمنة التي أريقت على الساحة اللبنانية وعلى أرض الوطن كفيلةً بالتصدي لأكبر مؤامرة عرفتها هذه المنطقة. تلك المؤامرة التي كانت ذات أبعاد محلية وعالمية، وقد تمكنت الدماء الطاهرة والأرواح التي عند ربها تُرزق، وقد تمكنت الدماء الطاهرة هذه بأبعادها الخالدة وبارتباطها بقلب العالم وبعقله، وبارتباطها بالرحمن الرحيم العزيز الحكيم، إن هذه الدماء المتواضعة بقوة الله وبقوة الإيمان بالله تمكنت وستتمكن من التصدي للمؤامرة. إن هذه الدماء المؤمنة هي التي تحفظ الثورة الفلسطينية وتصونها وتنميها وتحتضنها وتحملها على أكتافها وتعود معها إلى القدس بلد الإيمان وبلد الأديان.
إن الضحايا في لبنان، والدماء المراقة على أرض لبنان، هي دماء المؤمنين ودماء المجاهدين، وقد تمكنت من التصدي للعدوان، ومنع تصفية المقاومة، ومنع التقسيم وخلق دويلات وإسرائيلات جديدة. وستبقى هذه الدماء هي الضمانة الأولى والأخيرة للمقاومة الفلسطينية الحق التي هي تعبير عن إرادة الله التي تجسدت في الآية الكريمة: ﴿ضربت عليهم الذلة والمسكنة﴾ [البقرة، 61]. نحن ما شاهدنا الذل والاستكانة للصهيونية إلا على يد رجال أولي بأس شديد، هؤلاء هم الذين نفّذوا إرادة الله، فلا يمكن صيانتهم بواسطة أعداء الله أو المتنكرين لله أو المنكرين لله.
إن صيانتك يا أبا عمار، ويا أيها الثوار، ويا أيها الأبطال إنما هي بدماء قلوبنا المؤمنة، وبصيانة أيادينا المؤمنة، وبحفظ ألسنتنا المؤمنة وبصيانة طموحاتنا المؤمنة في التاريخ. نحن الذين سنحفظ المقاومة الفلسطينية، نحن الذين سنحفظ بجهدنا المتواضع ولكنه المبارك بالاتصال بالخلود وبالله جلَّ جلاله وبالسماء التي تتجاوز سعتها الأرض والسماء. نحن بقوة إيماننا، بقوة دمائنا، بقوة أفكارنا نحن نصون الثورة الفلسطينية دون سوانا والآخرون يضعون جهدهم في تصرفكم وقوتهم في قيادتكم.
فليقدموا لكم وللحق والخير ما يكوِّن لهم شرفًا ومجدًا. إنهم كانوا قبل ذلك
إنهم كانوا إنهم كانوا قبل ذلك يتشرذمون ويحاولون أن يشرذموا حتى برزت الثورة، وارتُسِمت على أفق الدهر من دماء المجاهدين في فلسطين وفي غير فلسطين أسطر خالدة تشرّف كل من ينظر إليها، وكل من يتطلع فيها، وكل من يساهم في كتابتها، فإذا بهم هبوا لاحتضان الثورة حتى يكتسبوا منها البراءة وحتى ينتقلوا إلى العالم الحرّ وإلى ضمير العالم الحرّ. إنهم أولئك الذين التزموا بالمقاومة الفلسطينية، لا التزام إيمان، ولا التزام جهاد، ولا التزام رسالة.
نرحب بجهدهم ونصافح يدهم ونتمنى خيرهم ونحتضنهم كأبناء هذه الأمة، ولكن السند الحقيقي للثورة الفلسطينية هو لفّتي ومحرابي ومنبري. ولكن السند الحقيقي للمقاومة الفلسطينية تلك الأرواح الطاهرة التي ماتت ولم يعرفها أحد، قُتلت وراء المتاريس وما سمحوا حتى للصحف أن يعلنوا عن أسمائهم. وكان لهم العزاء شهادتك أنت يا أبا عمار وشهادة المقاومة ومشاركة مجاهد ضامن جنبًا إلى جنب، وصفًا إلى صف وكتفًا إلى كتف. إنهم ناضلوا بصمت وجهاد وإخلاص حتى بدأت الأوساط تشكّ في تضحياتهم وتتنكر لعطاءاتهم.
لا يهمنا ذلك، ولكننا نريد أن نقول إنك لو وقفت في الساحة يومًا ما، وتكاثرت عليك الأعداء وتآمر عليك الشرق والغرب فستجدنا وراءك وإلى يمينك وإلى يمينك وإلى يمينك وإلى شمالك، نحملك ونضعك في قلوبنا ونحمي أقدامك الجريحة وأياديك المرهقة وجباهك المتعبة، نحن سنقف إلى جانبك لا بحولنا وقوتنا بل بحول الله وقوته. سنقف ننصرك بالقلب وبالعقل وفي يدنا سيف محمد، وسيف علي، وفي يدنا درة المسيح وإلى جانبنا دماء كربلاء.
نحن حَمَلة المقاومة ومانعو التقسيم في هذه اللحظة. من هو إلى جانب ثوارنا في عيون السيمان حيث حاول الانفصاليون أن يكرسوا تقسيمهم، وأن يضعوا مدافعهم لإذلال منطقة الأبطال، منطقة الأسود، منطقة بعلبك-الهرمل. وسنكون كما ترى الشعار على رؤوس الأشهاد جنبًا إلى جنب في راية مسلحة معقودة بقوة الإيمان وبقوة التقوى وبشرف المناقبية. سنبقى ندافع عن قرانا وسنتقدم للطعن في ظهر العدو الصهيوني في ساعة أردت أنت وأرادت المقاومة الفلسطينية.
وقوة الإيمان هذه لا يمكن أن تسكت أمام المحاولات الانحرافية الإلحادية التي تجري على الساحة اللبنانية. لا نريد أن نقسِّم الصف الوطني، وليس اليوم وقت هذا الانقسام ونحن نتقبل كل جهد في خدمة المقاومة، وكل سعي إلى جانب الحق والعدل، ولكنهم يجب أن يعلموا أن في المفترق عندما أرادوا أن ينادوا بالإدارة المحلية فلا فرق بينهم وبين الذين نادوا بحكومة الظل في المنطقة الأخرى. ونحن دعاة إلغاء الطائفية السياسية، ونشكو منها، ونتألم منها ونحاربها بكل قوة عندما يحاولون أن ينادوا بالعلمنة الكاملة أي إبعاد ملكوت الدين عن الحياة الخاصة وعن الأحوال الشخصية وعن العلاقات الصميمة الروحية التي تجري بين الإنسان وبين أبنائه وأولاده. فهناك نقول لهم لا؛ فلا فرق بينكم وبين الملحدين، ولا فرق بينكم وبين الإسرائيليين، ولا فرق بينكم وبين الانفصاليين. نحن دعاة حق وإيمان، حتى على صعيد فصل الدين عن الدولة، نحن نقول بفصل الطائفية عن الدولة ولا نقول بفصل القيم والمناقب المشتركة بين الإسلام والمسيحية عن الدولة.
لا نقبل أن تؤسَّس المؤسسات الرسمية والأنظمة والقوانين إلا على أسس المناقب والخير والحق والإيمان بالله. نحن لهم بالمرصاد مهما حاولوا أن يكتسبوا الإعلام أو أن يضعوا الغبار في عيون الناس أو أن يثيروا الضباب في الشارع، فنحن الذين نحمل في تراثنا: لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله هذا كلام عليٍّ (عليه السلام) عندما يقول...
نحن نحمل في تراثنا موقف المسيح الذي وقف وحده مع عدد لا يتجاوز أصابع اليد، وقف في وجه الامبراطورية البيزنطية حتى تعرض للموت والصلب والتشريد وبقي أصحابه مئات السنوات مشردين حتى عادوا إلى تجمعهم في نيقا...
نحن حَمَلة رسالة الحسين الذي وقف هو وسبعون شخصًا فقط، ونحن عددنا أكثر من سبعين، وقف الحسين وهزَّ عروش بني أمية، عروش بني أمية لا لأنهم بني أمية، بل لأنهم طغاة ولأنهم ظالمون. إذًا، لا نبالي بما يقال في الصحف أو ما يقال في الأندية أو ما يكتب هنا وهناك، نحن معكم حتى الموت بقوة الله، ونحن مع الله حتى الموت بقوتكم يا أيها الثوار الفلسطينيون. فلتأخذ...
فلتأخذْ علمًا بذلك يا أخي يا أيها الثائر الأول يا أبا عمار، خذْ علمًا بذلك أن شرف القدس يأبى أن تتحرر إلا على يد المؤمنين وإلا على يد المجاهدين. ونسأل الله أن نكون نحن إلى جانبك يوم ما تدخل كما عاهدتك بعد الصلاة أن نصلي مع جماهير المسلمين في المسجد الأقصى.
أيها الإخوة الأعزاء،
كان لبنان كبيرًا، وكان اللبناني كبيرًا يساهم في حلّ مشاكل العرب ويهتم بهموم العالم. فمن يعرف لبنان المهاجر يعرف بطولة هذا الشعب عندما ينطلق من قمقمه الذي فُرض عليه في هذا الوطن... إنه يتمكن من تحمل دوره. فإذا لم يكن لبنان المستقبل، لبنان القومي، لبنان المواجهة، لبنان المدافع، لبنان المعني بالقضية الفلسطينية، لبنان الحامي للقضايا العربية، إذا لم يكن هكذا لبنان على الصعيد العسكري، وذلك لبنان على الصعيد الحضاري العالمي، فلا يمكن بالعدالة أن نؤمِّن سلامة هذا الوطن.
عندما نعيد هؤلاء العمالقة إلى ساحتهم الصغيرة فسوف تتحول منافساتهم إلى حروب. فعلينا أن نعطي للبناني بعده القومي وبعده العالمي لكي يتمكن من إصلاح شؤون العالم أو المساهمة فيها حتى لا نبالغ ومن إصلاح شؤون نفسه.
وأخيرًا، وفي الليلة التي عشناها وكلها كان ظلامًا وذلًّا يمكننا أن نستخلص درسًا وإشراقة متواضعة مفيدة، علينا أن نقول للفلسطينيين، وعلينا أن نقول للعرب أجمعين وعلينا أن نقول لأنفسنا أيضًا، عندما نتخلى عن واجبنا في محاربة إسرائيل، وفي قضية التحرير، فسوف نعود إلى المشكلة التي واجهناها في لبنان... فسوف نتحطم ونتمزق ويُلقى بأسنا بيننا.
فعلينا أن نكون حركة دائمة لا مؤسسة دائمة، علينا في كل يوم أن نقدم مجاهدًا وشهيدًا وقضية وسؤالًا ونضالًا وعملًا نضاليًا جديدًا في سبيل القضية الكبرى. علينا ألّا ننصرف عن النضال وإلا فسنتحطم وسنتمزق، ولكن لا تبقى القضية معلقة مجمدة لأنها قضية التاريخ فسوف يهيئ الله أناسًا أُخر غيرنا.
ولكننا ونحن نتمسك ونمثل هذه الأرواح الطاهرة من الشهداء ونمثل هذا الالتزام، ونمثل هذه الأهداف سنبقى حاملي راية العودة والتحرير والتحرر، سنبقى حاملي لواء العودة إلى القدس، سنبقى حاملي لواء الدفاع عن المحروم عن كل محروم حتى يكون لنا شرف أن نكون ثار الله وابن ثاره وأن نعود بإرادة الله، فلنحقق الآية الكريمة: ﴿ضربت عليهم الذلة والمسكنة﴾ [البقرة، 61].
والسلام عليكم ورحمة الله.

source
عدد مرات التشغيل : 287