من الذي جعل لبنان الحوار، لبنان الخصام؟

الرئيسية صوتيات التفاصيل
calendar icon 28 حزيران 1975 الكاتب:موسى الصدر

في بيت الله وبعد الصلاة، بعد الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، بعد الصلاة التي تذيب وتطهر الإنسان عن الذنوب عند التقرب إلى الله، عند الجلوس بين يدي الله، عند الجلوس إلى جوار إخوان لنا في الله، في هذه اللحظات قلوبنا وعقولنا أكثر انتباهًا وصفاءً لقبول كلمة الحق ولاستماع الحقيقة، الحقيقة التي لا حياة من دونها ولا وطن من دونها ولا بيت ولا عائلة من دونها.
الحقيقة والصدق أساسا العلاقات، وإذا فُقِد الصدق تشوهت العلاقات الكونية جميعًا، وإذا الحقيقة ذهبت كيف يمكن للإنسان أن يكون مع زوجته سعيدًا؟ إذا لم يكن الصدق كيف يمكن أن يسعد الإنسان مع الذي يشتري منه؟ مع الذي يبيع له؟ مع الطبيب الذي يتعالج عنده؟ مع المهندس الذي يستشيره في بناء بيته؟ مع المحاسب؟ مع الخادم؟ مع الجار؟
الصدق سبيل صيانة العلاقات الكونية، والكذب تشويه لجميع العلاقات. عندما لا أعرف الصديق، الجار، المعلم، الطبيب... عندما لا أعرفهم كيف أتعامل معهم؟ كيف يمكنني أن أعرفهم إذا لم يكونوا صادقين فيما يقولون؟ فالصدق تعبير عن الكفاءات وعن الحاجات، وأنت إذا عرفت بحق كفاءاتي وحاجاتي تعطيني ما أريد وتأخذ مني ما تريد، لكن إذا كنتُ كاذبًا -لا سمح الله- أغطي وأشوه كفاءاتي وطاقاتي. فأنت تريد أن تأخذ مني شيئًا ليس عندي، وقد ادعيتُ أني أملكه؛ وأنت تريد أن تعطيني شيئًا لا أفقده وقد اعتقدت أنني أفقده.
لذلك، الكذب تشويه لجميع العلاقات، الكذب تحويل لجميع الشؤون الصادقة الحقة في الوجود ولذلك الكذب مفتاح جميع الذنوب، فالحديث الشريف يقول: إن المعاصي وُضِعت في بيتٍ مفتاحه الكذب، العلاقات البشرية تقوم على أساس الصدق. أما إذا كان الإنسان غير واضح، غير صريح، غير صادق فيما يريد وفيما يريدون، هنا يختل النظام وتتصدع الأمور والمؤسسات والأشياء والعلاقات وكل شيء.
الصدق مقياس كمال الإنسان، والكذب نابع عن ضعف الإنسان وعجزه. لماذا يكذب الإنسان؟ لأنه يخاف أو لأنه يطمع. لماذا يكذب الإنسان؟ لأنه يخاف من قول الحقيقة أو لأنه يستفيد وينتفع من قولٍ غير الحقيقة. إذًا، الكذب ضعف الإنسان، الكذب عجز الإنسان، الكذب نابع عن حاجة الإنسان وتدهور الإنسان، الكذب في أي شيءٍ كان... جِدُه وهزله.
نحن في علاقاتنا الاجتماعية نستعمل كثيرًا من الكلمات التي في الحقيقة تعبير عما ليس في قلوبنا، مشتاقين لك، متى كنت مشتاقًا؟ والآخر يقول (بالأكثر)، مع أن كِلا الشخصين لا يشتاق أحدهما إلى الآخر. في شؤوننا العامة وفي علاقاتنا، هذا داؤنا. وإذا قلنا بحق وبصدق حاجاتنا ما غطينا، هناك أناس يفتكرون إذا قالوا حاجاتهم يصغرون أمام أعين الآخرين فيشوهون الحقيقة، فيقولون ما لا يحتاجون إليه، أو بالعكس يُبرزون الاستغناء وهم في أشد الحاجة إليه. هنا الخطورة، الصدق والصراحة في الأمور علاج لكل العلاقات البشرية. لا أريد أن أتحدث في هذا اللقاء عن موعظة، لأن وضعي الصحي لا يساعد على استمرار الكلام وبانتظاري كبار وأعزاء كرام، أتشوق إلى اللقاء بهم في هذه الظروف العصيبة التي تمر علينا وتمر على وطننا. ولكن أحببت أن أذكر هذه الكلمة النصيحة أمامكم في هذا اللقاء، حتى أؤكد بأننا إذا أردنا أن نعيد بناء وطننا الذي تهدم مع الأسف، أو تهدمت مناقبيته مع الأسف...
الوطن ما هو؟ أرض؟ الوطن جبال؟ الوطن أفراد؟ لا. الوطن: العلاقات التي تجعل من مليوني شخص أمةً واحدة، وشخصًا واحدًا. هذه العلاقات إذا نريد أن نصححها، وأن نبني وطنًا من خلالها يجب أن نكون صادقين فيما نقول. يجب أن نعبِّر عن حاجاتنا من دون خشية، يجب أن نعبِّر عن حاجاتنا من دون خجل، يجب أن نعبِّر عن حاجاتنا من دون مزايدات، يجب أن نصارح بماذا نريد وماذا لا نريد؛ ومن خلال المصارحة الصادقة الحقة البعيدة عن الكذب والنفاق والمجاملات بإمكاننا أن نعيد بناء الوطن من جديد. نحن في هذه الأيام، أيها الإخوة، كما تعلمون ابتليَ وطننا بمصيبةٍ كبرى وصل إليها لظروفٍ ولأسبابٍ عديدة ليس مجال عدها. ولكن وطننا أصبح مسرحًا للعنف، الحق فيه لا يؤخذ إلا بالقوة، المعاملة في الدوائر لا تمشي إلا بالقوة، النفوذ والمحبة والوجاهة والتسلط والتأثير... كل شيء بالقوة... اللغة التي يُخاطَب المواطن بها في هذا اليوم لغة الرصاص، وصلنا إلى متدهوَرٍ لم يصل إليه قبلنا وطن، الحق للرصاص، الصغير بالرصاص صار كبيرًا، والكبير من دون رصاص لا يُسأل عنه... هذا الجو الخطر هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه خلال هذه الأيام. كيف يمكن لإنسان أن يطلق قذائف مدمرة في الليل على رؤوس المدنيين؟ كيف يمكن حرق البيوت؟ متى صرنا أعداء؟ متى أعلنا الحرب بعضنا على بعض؟ الأعداء لا يعاملون بعضهم بعضًا في هذا الجو الذي أصبح الحق للقوة، والكلمة للرصاص، والفصاحة للقذائف والتأثير واللعبة السياسية بالدفش والعنف. في هذا الجو ما الذي يجب فعله؟ هل كان بإمكاننا أن نخلق قوة أكثر؟ يمكن. ولكن كنا نزيد مشكلة على مشكلة. كنا نسهم في تمزق الوطن. كنا نساعد في تفكك أوصال الوطن لأن المواطن لا يتآخى مع المواطن الآخر بالقوة. إذًا، كان لا بد من أن نطوي صفحة العنف بصفحةٍ أخرى هي صفحة الحق، صفحة الصيام، صفحة الصلاة، صفحة العبادة، صفحة الاعتصام. ولذلك طلبتُ من الإخوان إذا نريد أن ننجح في عملنا، علينا أن نبتعد عن العنف، لا نريد عنفًا، نريد أن نتغلب على الغلبة لا على الطرف الآخر. نريد أن نقوى على القوة، نريد أن نسيطر على العنف نفسه، نريد أن نرفض العنف، نقول بلدنا يأبى أن يكون الحق فيه للقوة، نريد أن نرفض ذلك. فإذا استعملنا الوسائل السلمية، أنا معتصم يعني لا آكل، أشرب ماء خوفًا من تدهور وضعي الصحي ومحاولة الانتحار. لا آكل، إخواني هذه الطريقة التي تجنِّد الطاقة، الضمير... الفكرة هي الطريقة التي ممكن أن نضع حدًّا لهذه المآسي؛ أن نقول للذين يستعملون العنف، كفى؛ للذين يستعملون الرصاص نقول لهم هناك فرق بين الإنسان والذئب، هناك فرق بين المواطن والخصم، هناك فرق بين اللبناني وبين الفلسطيني من جهة، وبين الإسرائيلي من جهةٍ أخرى، كفى، هذه الكلمة نريد أن نقولها في اللقاء الذي بدأنا به، وإن شاء الله لن يُختم وينتهي إلا بفرض اللاعنف والرفق على الناس. هذا أسلوبي هذا خطي الذي يفكر أنه قادم والسيد موسى غدًا سيشهر السيف فليشرفْ في مكانٍ آخر. سوف لا أشهر سيفًا، سيفنا كلمتنا، قوتنا حُسن نيتنا، صرامتنا لسان حقنا، في هذه المرحلة على الأقل. كل ما أتمناه من الإخوان الموجودين والإخوان الذين سيأتون إذا أتوا قوتنا صارت أكثر، وإذا ما أتوا فيكفينا أنفسنا، نحن في حالة الاعتصام حتى نفرض على الوطن الاعتصام عن الذنوب، الاعتصام عن القوة، الاعتصام عن السلاح المُشهر في وجه الصديق والمواطن، الأسلحة للعدو... ليست لنا، هذا الأسلوب أسلوبنا.
ماذا نريد؟ نريد أن نفرض هذا الشيء على الجميع، وهذا فرض ليس فرضنا هذا فرض الله، فرض المسجد، فرض الدين، فرض المسيح، فرض محمد، فرض فاطمة الزهراء التي نحتفل بذكراها في العشرين من جمادى الثانية هذا اليوم.
إخواني، مطالبنا كما أعلنتُ واضحة. نريد إيقاف النزيف والدمار الجاري في ضواحي بيروت وبصورة خاصة في الشياح، نريد الاستعجال في تشكيل الوزارة، نريد الاستعجال في تلبية مطالب المحرومين والتنمية، تلك المشكلة التي كانت الأساس والأرضية لكل ما حدث. نريد التحقيق فيما جرى. من الذي أوصل لبنان إلى هذا الدرك؟ من الذي جعل لبنان الحوار، لبنان الخصام؟ من الذي جعل لبنان المحبة لبنان البغضاء؟ نريد أن نعرفه، نريد أن نكشفه أمام العالم، وبالإضافة إلى ذلك نريد المصالحة، أي مصالحة؟ مصالحة الشعب مع المسؤولين، مصالحة المواطنين بعضهم مع بعض بصدق، بصراحة، بالشكل الذي يمكن أن يُبنى الوطن، نستعرض حاجاتنا ونلبي هذه الحاجات ولا خلاف في المبادئ. أختصر كلمتي هذه لأن أمامي بيان آخر مساء هذا اليوم، رجائي اغتنام هذه الفرصة التي قد تكون الفرصة النادرة في تاريخ لبنان. نحن نخشى أن ينفجر وطننا، نحن نخشى أن مؤامرةً دوليةً تهدف إلى ضرب لبنان، نحن متخوفين من ذلك، لذلك لن نترك هذا المسجد وهذا الاعتصام إلا بوضع حدٍّ لكل ما يجري أو بوضع حدٍّ لحياتنا. هذا هو المصير إما الموت، وإما الحياة الكريمة الحقة الصادقة. أمس كنا نقدر أن نفرض هذه الحياة بالسلاح، لكن بعد أن توفر السلاح بأيدي أناسٍ بعضهم وحوش كاسرة، لا شرف للإنسان بحمل السلاح. نحن أمامنا هذا الطريق ورجاؤنا الإسهام في نجاح هذه الخطة بالسلام، باللطف، بالبعد عن السلاح، بالاعتصام، وبالصبر والصمود حتى نتمكن من إنقاذ وطننا، من إنقاذ جنوبنا، من إنقاذ المواطنين العاملين الشرفاء الذين يأتون من الجنوب إلى الشياح تحت ضربات العدو، ثم يضطرون للعودة من الشياح إلى الحدود تحت ضربات من؟ الصديق؟ المواطن؟ حاشا! تحت ضربات الأمن؟ حاشا! هذا الذي لا نريده أن يكون.
لا، نريده بقوة الكلمة، بقوة الاعتصام، بقوة التضحية، بقوة السلام بقوة اللاعنف، ومن الله سبحانه نستمد العون والتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله.
وصلاة العصر نؤجلها إلى وقتها إذا سمحتم طالما نحن موجودون في المسجد نصلي صلاة العصر بعد ساعة.
والسلام عليكم.
__________________________
* خطبة للإمام الصدر في اليوم الثاني لاعتصامه في مسجد الصفاء في الكلية العاملية بتاريخ 28 حزيران 1975، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.

محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات
عدد مرات التشغيل : 168