* كلمة الإمام الصدر بتاريخ 15 أيلول 1968، بمناسبة تكريم المغتربين تقديرًا لخدماتهم ومساعداتهم في تحقيق بناء المدرسة المهنية والميتم لمؤسسة البر والإحسان في البرج الشمالي-صور، بما قدموه من تبرعات أثناء جولة الإمام الصدر لهذه الغاية على المغتربين في بلاد أفريقيا الغربية.
إن من أسس التعاليم الإسلامية الناظمة لحياة الإنسان، ما نراه في الآيات المباركات في سورة النجم، من القرآن الكريم: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى * وأن إلى ربك المنتهى﴾ [النجم، 39]، صدق الله العظيم.
آياته سبحانه تؤكد أن حياة الإنسان، هي في مستوى سعيه وعطائه كمًا وكيفًا، فمناطها ليس إذًا تنفُس وأكل وتحرك، حتى ولا إدراك. وانقطاع هذا كله، ليس معناه الموت.
ظاهرة الموت، إذًا، انقطاع سعي وعمل، لا انقطاع تنفُس وأمل. وظاهرة الحياة تبدو إذًا في العطاء، فهو ما دام باقيًا، فالإنسان به حيّ. وهو إن لم يكن، فالإنسان كأنه ما كان.
وسبحانه، وهو يعادل العمل بالحياة، كتب له ضمان البقاء، هنا وهناك: عندما أكد عدم ضياعه، ونصَّ على جزائه الأوفى الذي ينتظر العاملين عند العود إلى رب العالمين ذلك الجزاء الذي يفوق جزاء الدنيا، كما يفوق فضل الله وكرمه، فضل عباده وكرمهم.
معادلة الحياة بالعطاء، لم ترسمها يده الرحيمة بسورة النجم وحسب، وإنما نقرأ المعادلة في كثير من الآيات والتعاليم الدينية. وقويم العقل يؤكدها، لا مراء.
من هنا، سبب تلاقينا في يومنا الأغرّ هذا، يومنا الذي نرجو أن يصير عيدًا في يوم، عليه في هذا الاجتماع تتفقون.
ونلتقي اليوم بمناسبة مولد الزهراء، مولد العمل والعطاء، مولد من كان شعارها مستمدًا من رسول الله: "يا فاطمة، اعملي لنفسك، فأني لا أغني عنك من الله شيئًا"، ووعت فاطمة أين هو طريق الفضل، إنه انتساب إلى عمل وسعي، وليس انتسابًا إلى خاتم النبيين.
ونلتقي أيضًا في هذه المؤسسة، وهل هي إلا خلاصة عطاء مشترك، تجاوب فيه شعبنا الكريم، مقيمه ومغتربه، مع حكومته الجليلة، فشهق البنيان بدوره عاليًا، ليعطي ما لا يسعه قول: ساعة درس، أو تثقف طالب، أو تعلم عامل، أو تحسين وضع عائلي.
إن لبنة ضياء تأخذ مكانها في جدار هذا المنار، هي، لليد التي وضعتها بقاء واستمرار. وللرأس الذي تفيأ ظلها أمن وهدى، واستقرار.
وظروف لقائنا العصيبة، تؤكد بدورها تفرغ حياتنا من محتواها، وغموض مستقبلنا من أساسه، وتعلق مصير أولادنا بالقلق، إن لم يتحرك كلٌّ منّا في حقله، وفي إطار كفاءاته إلى العمل الإيجابي الواعي، وإلى العطاء المثمر البنّاء.
نلتقي بكم اليوم لنتذوق ثمرة الجهد المشترك، وهي ثمرة شجرة استُنبِتت في فترة قصيرة وبحجم محدود، لكنها تؤكد على القيام بالأعمال الكبيرة عندما تريدون، وأنها بالتعاون المخلص ستصبح دوحة كالمعجزة، بإذن الله.
ولقد أردنا لهذه الغرسة أن تكون في هذه التربة العزيزة وبجوار الأرض المقدسة، إعلانًا منّا، بأن هذا الجهد الرمزي المتواضع، ما كان هنا، إلا لنؤكد بأننا جميعًا على استعداد دائم لبذل جميع إمكاناتنا، حتى الأرواح والأولاد، دون تردد ساعة ما نُستدعى، أو ساعة تستدعي الحاجة.
الحقّ أن تذوّقكم -مسؤولين وشعبًا- ثمرة عطائكم، ومشاهدتكم طاقاتكم تتجسد، هما خير شكر لكم، وأفضل تقدير لإنسانية عملكم ونبل مسعاكم. لكن أحبّ هنا أن أسجّل شكرًا خاصًا، ودعاءً خالصًا مخلصًا لإخواني في ديار الاغتراب، الذين كانت حفلتنا هذه تكريمًا لهم. ذلك لأني في رحلتي الأخيرة إلى أفريقيا الغربية شاهدت بعيني معاني هجرتهم. إن هؤلاء الأبطال يضعون حياتهم على أكفّهم، ضاربين في الأرض، مخاطرين، زاهدين بكل متع الحياة، وبجميع نِعَم الوطن، كاسبين الدرهم المغسول بليل السهر، وقطرة الدم؛ ثم يأتي بذلهم السخيّ وكأنهم يأخذون الذي يعطون، يدهم تتحرك بالعطاء، وعواطفهم تتأجج بالحسّ، وصدورهم تنفتح للضيافة... أرى كل هذا فأشعر وأتمنى لو عشتُ بينهم ما كتب الله لي من بقيّة.
وإن كان من قول لي هنا، تجاه ذلك السخاء، فلا أملك إلّا الإشادة بهم في يوم الزهراء، أم الأئمة المضحّين الشهداء، وينابيع الفداء...
وإلّا أن أطالبهم، وأُصِرّ بالمشاركة في الإشراف على المؤسسة حالًا ومستقبلًا، تخطيطًا وإدارةً ومحاسبة...
وإلّا أن أقول لهم أخيرًا بأن هذا المكان وما ينبثق عنه، هو كله لهم، بيتهم، مكتبهم، تُدرَس فيه قضاياهم، وتُستنبَط الحلول لمشاكلهم هنا وهناك، وفيه يلتقون بكرام المسؤولين، وبالإخوان المقيمين.
أما المؤسسة فسوف تفتح أبوابها في السنة الدراسية 1969-1970 بإذن الله، بعد أن تصبح إدارتها الخبيرة، ومحتوياتها من معدّات وآليات حديثة بمستوى بنيانها الشاهق، وطموحكم إلى الأحسن.
وبالمناسبة، أذكر لكم أنّا تلقّينا وعدًا كريمًا، بتجسيد أمانينا كلها عن المؤسسة، من الحكومة الفرنسية المحترمة.
وواجب الوفاء يقتضي الإشادة برعاية فخامة الرئيس الحلو المعظّم.
وبالمبادرة النادرة الأولى، التي بذلها بكل إخلاص فخامة الرئيس شهاب.
وبمساهمات وزارة التربية الجليلة، ومصلحة الإنعاش الاجتماعي.
أمّا سيدنا الإمام شرف الدين قُدّس سرّه، المصمم الأول في هذا الخطّ النيّر، وسماحة المرجع الأعلى السيد الحكيم دام ظله، وأعضاء جمعية البِرّ والإحسان، وأعضاء لجنة إدارة المؤسسة، أمّا هؤلاء جمعيًا، فإن المؤسسة ليست إلّا ثمرة جهودهم، وتحقيق آمالهم.
أستودعكم الله بعد الترحيب.
أيديكم خلاصة الموازنة في هذه الأوراق.
وفيما حولكم مؤسستكم تشمخ...
