القى الأب البروفسور جورج حبيقة، النائب العام في الرهبانية اللبنانية المارونية كلمة في الندوة الفكرية التي نظمها مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات في مقرّه حول كتاب الدكتورة السيدة رباب الصدر "الفلسفة الإصلاحية في رؤية الإمام موسى الصدر" بتاريخ 27 تشرين اول 2022. شارك في الندوة الدكتور محمد حسين بزي الكاتب والمدير العام لدار الأمير والأستاذ فؤاد الزين وحضر العديد من الفاعليات الثقافية والفكرية والدينية والسياسية.
وقد حوت كلمة حبيقة شرحاً عن الكتاب وسهولة استعماله والبحث فيه وعده كتاباُ موسوعياً ومرجعاً مهماً في فلسفة الإمام الصدر، وهنا النص الكامل للكلمة:
أيها السادة الحاضرون،
استهلالا، اود أن أوجه إلى الدكتورة السيدة رباب الصدر كلمة شكر وامتنان على دعوتها الكريمة لكي أعالج في رحاب هذا المركز المكرس للأبحاث والدراسات الرصينة والقيمة، فكر عاشق للكلمة ومطارد حاذق للأفكار السامية والمنورة ومحفزٍ لبق وماهر على التلاقي والتحاكي والسير معاً في تفتيش عنيد وصادق عن حقائق هاربة، عنيتُ به الإمام المغيب موسى الصدر.
لقد فرحت جداً باستلامي كتاب الدكتورة السيدة رباب عن شقيقها المغيب، تحت عنوان: "الفلسفة الإصلاحية في رؤية الإمام موسى الصدر وأعماله". بدون أي مغالاة، إنه مجموعة مؤلفات في كتاب واحد وجامع في 357 صفحة، وفي ثمانية فصول وسبعة وعشرين مبحثاً، تقدم المؤلفة بلغة فلسفية أخاذة وأسلوب أدبي جذاب وتحليل منطقي متماسك، جميع الطروحات والأفكار التي تذهّنها الإمام موسى الصدر بإبداع وعمق وحرأة، ومحصها بصرامة، وحررّها بفن كتابي مرهف، وألقها بكاريزما إستثنائية على مسامع اللبنانيين في قاعات المحاضرات والساحات العامة والمساجد والكنائس. فالباحث في فكر الإمام المغيب يجد ضالته في هذا الكتاب النفيس، حيث يستطيع أن يذهب فوراً ومباشرة إلى الموضوع الذي ينوي معالجته، كأنه يطالع في موسوعة أو معجم. وهكذا، بفضل هذا الكتاب المرجعي، استطعت أنا، بيسر كبير وبلا عناء، أن أبحث في مفاهيم التنوع والتعايش والحوار لدى الإمام المغيب. وإليكم محصلة بحثي.
إذا ما ألقينا نظرة سريعة على المحطات الأساسية في حياة الإمام موسى الصدر، لرأينا أنها مطبوعة بالترحال وتنوع الأطر الاجتماعية والثقافية. من ولادته في منطقة جهار مردان في مدينة قم في إيران وتحصيله الدرجات الأولى من الدروس الدينية حيث برز نبوغه الفكري بشكل مدهش وتجسد في إعطائه الدروس وهو بعد على مقاعد الدراسة، إلى اهتمامه بالعلوم الحديثة والعالم المعاصر، في مجتمع تلفحه موجة الليبرالية والحداثة، مركزا اهتمامه على تعلم اللغتين الفرنسية والإنكليزية. ومن ثم انتقاله إلى النجف ليكمل تعمقه في الدراسات الدينية في مدارس فقهية مختلفة. وبعد ذلك، يحط رحاله في ربوع صور في لبنان. منذ حداثته، كان في مطاردة جريئة ومقدامة للمعارف والثقافات على مشاربها وتنوعها. وهذا الأمر تجلى في إدراكه العميق لمبدأ التنوع كأساس للوجود الذي خلقته الإرادة الإلهية، وكانت نبراسا لفلسفة التنوع لديه الآيتان التاليتان في القرآن الكريم: الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات التي تشدد على التنوع العرقي والقومي وتتوجه إلى ضمائر البشر مذكرة إياهم بالمقصد الإلهي الذي كان وراء هذه التعددية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". والآية الثانية والعشرون من سورة الروم التي تظهر عظمة الخالق في التنوع اللغوي والإثني: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالـمين".
في هذا السياق التحليلي، تبين الدكتورة رباب الصدر أن شقيقها ينطلق من مبدأ "أن التنوع بين الأفراد والجماعات هو أمر طبيعي متناسق مع النظام الكوني الذي رتب الله وجوده وحركته على النظام التعددي. وفي ذلك جدلية إيجابية في تكامل الوظائف الوجودية، وفي إغناء المضامين الوجودية من خلال التفاعل الحي والتواصل الموزون". فالتنوع بالنسبة للإمام موسى الصدر إنما هو أساس الوجود، وليس أمرا طارئا، ظهر في آونة معينة ونتيجة لتطور الكون والمجتمعات. منذ الانطلاقة الأولى، جميع الكائنات الحية والجامدة خرجت إلى الوجود على قاعدة التنوع. وهي تتشارك في وحدة الوجود عبر فرادتها وتميزها.
تجسيدا لهذه الفكرة، ارتأيت إجراء مقارنة سريعة بين الكائن الإنساني من جهة وجزيء الماء (la molécule d'eau) من جهة أخرى. من البديهي القول إنه لا يمكن العثور على أي شيء في حالته الصرف والخالصة وغير الممزوجة في عالمنا المحسوس هذا، وينسحب ذلك على الكائن الإنساني. فالبشرية، بجوهرها ووجودها، تتحقق في ثقافة موجودة قبلا تماما كجزيء الماء المكون أساسا من ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأوكسجين. لا يمكن العثور على هذين العنصرين الكيميائيين الأساسيين في تكوين الماء بشكل معزول وصاف إلا في المختبر. وإذا ما تجرأنا على تذوق الماء الصرف في المختبر، لتقيأناه من فمنا لغرابة مذاقه وللتهيج الذي يحدثه في الأمعاء. فالماء لا يصبح فعلا صالحا للشرب إلا بفضل المكونات الكيميائية التي يحملها معه من الأرض التي ينبع منها، نذكر منها على سبيل المثال الحديد والكالسيوم والمغنزيوم والكلوريدات والبوتاسيوم والبيكربونات وإلخ... يتعدد تكوين الماء الكميائي بتعدد ينابيعه". هكذا، فالتنوع الحيوي هو نمط الوجود الوحيد في الطبيعة. ينطبق الأمر عينه على الإنسان. هل بالإمكان أن نعثر على إنسان صرف، من دون أي ثقافة أو لغة أو انتماء ديني، أو مجتمعي؟ كما تجعل المكونات الكيميائية الماء صالحا للشرب، كذلك الثقافة الخاصة، معطوفة على المعتقدات الدينية والتقاليد والمخزون الفكري ومنظومة القيم، تجعل الانسان "صالحا" للتلاقي وللعيش معا. نسأل هنا كيف قارب الإمام موسى الصدر التعددية الدينية والثقافية في لبنان. كيف قرأها وماذا قال فيها. في هذا الصدد، يشدد الإمام المغيب على الأمر التالي: "إن عناية الله جعلت تعددية المجتمع اللبناني تعددية متكاملة لا متناقضة، والعائلات الروحية، المكونة للمجتمع، تؤمن بالله... اللبنانيون جميعا يؤمنون بالقيم الإنسانية المطلقة التي تنبع من الإيمان بالله، وخصوصا بالمحبة، بالوحدة، وبالعطاء المطلق. ولذلك، فإن المجتمع اللبناني على الرغم من تعدديته هو أكثر المجتمعات قدرة على بناء حضارة واحدة متكاملة ... إن الطوائف في لبنان هي نوافذ حضارية وثقافية، ولأنها متكاملة فإن تعدديتها تشكل تماسكا وتلاحما، كما الشأن في تعدد أعضاء جسد الإنسان". إن الأمر المذهل في نظرة الإمام الصدر هو تجاوزه للمصطلحات التي صقلتها الأصولية الإسلامية المتشددة، والتي كانت تعتقل المسلم المغاير وغير المسلم في خانة الكافر والضال والزنديق وتحلل شرعا سلبه وغزوه وقتله. رفض الإمام الصدر هذه التصنيفات المذلة للآخر المختلف والمحقرة لكرامته الإنسانية. وراح يفتش عن العناوين الكبرى التي تجمع تحت جناحيها شعوبا متنوعة. في هذه الورشة الدينية والفكرية التي أطلقها الإمام، كان يكفي أن تؤمن أن وراء هذا الكون المذهل إلها خالقا، خيرا وصالحا، منطلقا ومصبا للوجود بأكمله، لكي تكون شريكا كامل العضوية في مشروع بناء المجتمع على التعددية المتكاملة، من دون الدخول في التفاصيل العقائدية التفصيلية حيث تتمايز المعتقدات وتتعارض. وكان الإمام الصدر راسخ اليقين أن الإيمان بالله يعطي فرح الوجود ويؤطر ساحة التلاقي بين البشر ويحفزهم على المحبة والعطاء، والتضامن والتكافل. وخارج الإيمان بالله، انتصار حتمي للامعنى والعبثية واليأس والكراهية.
إن فلسفة التنوع لدى الإمام الصدر تقوم على اعتبار الآخر المختلف شريكا كامل العضوية في الحياة الروحية والمدنية والوطنية والثقافية. فالتمييز لا يعني البتة التفريق والإقصاء. يقارب الإمام الكائن البشري كخليقة الله في حد ذاتها، قبل اصطباغها بالدين والثقافة. يستحوذ الانسان الشمولي على مندرجات فكر الإمام ومنطلقاته التحليلية. في عظة الصيام الشهيرة التي ألقاها في كنيسة الكبوشيين في 18 آذار 1975، يقول ما حرفيته: "ها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوتك. دعوتنا لأن نسير جنبا إلى جنب في خدمة خلقك ... اجتمعنا من أجل الانسان الذي كانت من أجله الأديان ... ولأن البدء الذي هو الله واحد، والإنسان واحد ... وحين نسينا هذا الهدف نسينا الله ... وعبدنا آلهة من دون الله ... وتركنا الإنسان يتمزق ...". أولا المشهدية تشكل بحد ذاتها ثورة على محنطات ماض أليم. في صحن الكنيسة، ينتصب شيخ معمم ليلقي عظة الصوم على المسيحيين. مشهد سريالي، ولكن مع الإمام الثائر والمنور جميع السرياليات تدخل حيز الواقع، وتصبح حقيقة راهنة. والانتفاضة التي يقودها بحرفية روحية سامية تتجسد بشكل أخص في التوجه إلى الله جل جلاله: "ها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوتك". بهذا القول ينتفض الإمام موسى الصدر على جميع الأصوليات الجارفة عبر التاريخ التي كانت تقول بهدم أي كنيسة شيدت بعد الدعوة الإسلامية.
ها هو الإمام الثائر يبتهل إلى الله ليس من محراب مسجد، ولكن من وراء مذبح كنيسة وأمام المصلوب. أي مصلى وأي مكان يبتهل منه الانسان إلى الباري هو بيت لله، يؤكد الإمام الصدر بجرأة قل نظيرها. بالنسبة إلى إمام التمرد على الموروثات الدينية المنحرفة، الانسان، أي إنسان، هو القيمة العظمى في عالم المحسوس.
على هذه الأسس شيد الإمام الصدر فلسفته في التعددية. ومن هذا المنطلق تذهن مفهوم التعايش والوحدة الوطنية والحوار. في محاورة صحفية في جريدة الديار بتاريخ 29 آب 1967، يقول الإمام: "إن الوحدة الوطنية نعيشها اليوم في أعمالنا، وفي اجتماعاتنا، وفي لقاءاتنا، وفي مجال الوظيفة الرسمية وغير الرسمية.
ولكن هذه الوحدة يجب ألا تعني، كما يعتقد البعض، ذوبان الجناح المسلم في الجناح المسيحي، أو ذوبان الجناح المسيحي في الجناح المسلم، ولكن أن يظل المسيحي على مسيحيته مئة بالمئة، ويمد يدا مخلصة إلى أخيه المسلم، وأن يظل المسلم مسلما مئة بالمئة، ويمد يدا مخلصة إلى أخيه المسيحي... إن هذا التعايش (المسيحي الإسلامي)، يتابع الإمام موسى الصدر، ليس بجديد، وإنما هو حقيقة راسخة على مر العصور.
إن الإمام علي بن أبي طالب حين أصيب بالضربة الأخيرة، كان الطبيب الذي استدعي لمعالجته مسيحيا، وكان الإمام وولدا الإمام الحسن والحسين يثقون ثقة مطلقة من هذا الطبيب. فهل هناك من هو أشد غيرة على إسلاميته ودينه من الإمام علي، ومن ولديه الحسن والحسين حتى لا يؤمن بضرورة تعايش المسيحي والمسلم؟".
إن المبدأ الفلسفي القائل "على الإنسان أن يكون ذاته لكي يكون مع الآخرين"، نراه في تجليات متنوعة في فكر الإمام الصدر. إنه القاعدة الأساسية لجميع الاستراتيجيات الهادفة إلى إنقاذ التنوع الثقافي وبالتالي إلى تعزيز مواطنة تحمل في طياتها المكونات الزمانية والمكانية النشطة والخلاقة. لا نغالي البتة إن ذهبنا إلى القول إن التنوع إنما هو النسيج الأساس للوجود والسبيل الأوحد نحو الحياة والسلام.
فإلغاء التمايز والفروقات هو من أعمال العنف ويتعارض والمبادئ الناظمة للحياة في المجتمع. إذا ما نظرنا إلى الأجسام الحية، كما فعل الإمام الصدر، نجد أنه ما من خلية تشبه الأخرى وما من عضو يشبه الآخر، لكن جميعها تتماسك في تكامل وظيفي. لكن في المقابل، إذا ما نظرنا إلى جثة، ما يمكن أن يكون الفرق حينئذ بين مكوناتها كافة؟ بين الفم والأذن والعين؟ بين القلب والرئتين والكبد؟ لا فرق بينها، فالموت يمحو الفوارق ويصهرها في هدأة اللاوجود. وهنا، قد يكون من المفيد العودة إلى التاريخ اليوناني القديم حيث طور الشعب الإغريقي نظامين متناقضين تماما لإدارة مدنهم. كانت مدينة إسبرطة تسعى على الدوام إلى تماسك شعبها واندماجه في مجموعة واحدة، نابذة بذلك مبدأ التنوع وموطدة بقسوة قاعدة وحدة الشكل، مما كان يدفعها إلى طرد أي غريب لئلا يبقى في المدينة غير سكان إسبرطة الأصيلين. كما أقامت المدينة نظاما عسكريا أولغارشيا يهابه الجميع. في المقابل، كانت أثينا تقدم صورة مغايرة، إذ كانت تنعم بنظام ديمقراطي، يحضن بقناعة مكونات التنوع والتعددية ويخصبها، بفضل عبقرية بريكليس. وكانت أبوابها مفتوحة لجميع عشاق المعرفة والساعين إلى المطلق، في حين كانت مدارسها متنوعة وحرة. انتهت الحرب البيلوبونيزية بانتصار إسبرطة العسكري وهزيمة أثينا. لكن من يتذكر اليوم أمجاد إسبرطة العسكرية وعنصريتها العمياء وكبرياءها الفارغ الهادف إلى الحفاظ على نقاوة جنسها ودمائها ووحدانية ديانتها؟
لقد أودع إرث إسبرطة العقيم منسيات التاريخ، في حين أن هزيمة أثينا العسكرية لم تحل دون استمراريتها كقطب أساسي على صعيد الثقافة والفلسفة وعلم اللاهوت والعلوم والآداب والمسرح والسياسة. إن مساهمة أثينا الثمينة في إغناء التراثات البشرية جعلت منها، هي المسحوقة عسكريا، المنتصرة ثقافيا وإنسانيا. لا نغالي البتة إن قلنا هنا إن بيروت هي التي ورثت أثينا ورعت ببراعة التعددية الإثنية واللغوية والدينية، بالرغم من هزائمها العسكرية المتتالية، وتربعت على المنصة العالمية للتنوع وتناغم التناقضات.
إن الانصهار الذي تتناوله وتشدد عليه، بكل أسف، نصوص اتفاقية الطائف ويطفو كزبد مرضي على سطح الخطب السياسية، في تناقض صريح ومباشر مع فلسفة الإمام الصدر التي ترفض رفضا قاطعا الذوبان في الآخر المختلف، إنما هو مصطلح يستعمل، أصلا وحصرا، للمعادن التي تدخل متنوعة إلى الأتون لتخرج منه شكلا واحدا ولونا واحدا وتركيبا كيميائيا واحدا. فلبنان لم يعش قط هذه الحالة الانصهارية المذوبة لحق الآخر في الاختلاف. تقوم رسالة لبنان الاجتماعية والسياسية على أنه ليس مطلقا مشروع انصهار، بل دائما، كما رأينا أعلاه في تحليلات الإمام الصدر، مشروع مألفة إنسانية ووطنية بين عائلات روحية ومجموعات إثنية وثقافية وحضارية، على شاكلة وحدة الجسد القائمة على التكامل الوظائفي بين خلايا وأعضاء لا يجمعها إلا الاختلاف في التآلف.
وكما كانت الفلسفات اليونانية تنطلق من هيكلية الجسد البشري لتضع تصورا لأكمل تصميم إداري للمدينة الفاضلة والمثالية، كذلك علينا أن ننظر إلى سر الحياة الذي يأخذ من جسدنا مدى مميزا لتمظهره. هل أمعنا النظر في وظيفة كل عضو وكل خلية، وكيف يتم التكامل والتناسق في التمايز؟ إذا انصهر جسدنا وأصبح عضوا واحدا، هل يبقى حيا؟ ألا تهجره الحياة وتدعه أشلاء هامدة ترتع فيها سكينة الموت؟ هل نريد للبناننا خطر الحياة في الوحدة، أم طمأنينة الموت في الانصهار؟ الحياة لا تسكن إلا في التنوع، والموت لا يقيم إلا في الأحادية، وخارج التنوع موكب جنازة الحياة.
إذا ما اطلعنا على المنشورات العلمية الحالية في مجال علم الوراثة، بغية الدفاع القوي عن نظريات الإمام موسى الصدر، يعترينا الاضطراب والذهول أمام أسرار طبيعتنا البشرية. في هذا الإطار، يعمد ألبير جاكار (Albert Jacquard) (2013)، وهو باحث بارز وكاتب مقالات وأخصائي في علم وراثة السكان، في كتابه "ما هي الوراثة؟ مدخل إلى علم الأحياء" (Qu'est-ce que l'hérédité ? Introduction à la biologie) إلى تفسير كيفية انطلاق آليات نقل الموروثات الجينية. ويشير إلى أن الأهل يحاولون بشكل لاإرادي أن ينقلوا إلى أولادهم خصائصهم الوراثية وذاكرتهم العائلية بالكامل. لكن علم الوراثة، كما يقول جاكار، "يعلمنا أن هذا ليس سوى وهم واعتقاد خاطئ. فنحن ننقل لمن ننجبهم نصف الخصائص الإحيائية التي حصلنا عليها عند الحبل بنا، من دون أن تزيد المغامرة التي عشناها على هذه الخصائص شيئا أو تنتقص منها أي شيء. يبقى الطموح العاقل الوحيد أن نساهم في تكوين كائن جديد، مدهش بقدر ما هو غير متوقع" (Qu'est-ce que l'hérédité ? pp. 31-32)".
سعى لبنان دوما إلى احترام كامل لحقوق الانسان، وبخاصة إلى صون حق الاختلاف وتحصين مبدأ الفرادة في ميادين الحياة كافة، بإعطائه كل مضطهد وكل هارب وكل امرئ خائف على ذاته في هذا الشرق المعلق على خشبة الأحادية، بعضا لا يستهان به من حقه الإنساني في وجود حر ومتفاعل ومتناغم وفريد ومتنوع. فكان ما نسميه الميثاق الوطني اللبناني الذي أعاد الحياة بعد أربعة عشر قرنا إلى "ميثاق المدينة" أو "صحيفة المدينة" أو "دستور المدينة" أو "كتاب المدينة"، الذي يحمل توقيع نبي المسلمين.
عندما تيقن نبي المسلمين أن قبيلة قريش في مكة تحضر مخططا لاغتياله، هجر سنة 622م، الموافقة للسنة الأولى هجريا، مع الصحابة، حملة رسالة الإسلام الأولين، والأنصار، إلى مدينة يثرب. كانت هذه المدينة مزدهرة جدا تجاريا على خط التواصل بين دمشق ومكة. كانت تسكنها جماعة يهودية كبيرة، مع الصابئة والوثنيين. مع دخول الجماعة الإسلامية الأولى إلى مدينة يثرب، كان لزاما على النسيج الاجتماعي والديني المتنوع أن ينظم روابط العيش معا. فكانت "صحيفة المدينة" (أو ميثاق المدينة أو دستور المدينة أو كتاب المدينة) الموقعة من قبل نبي المسلمين وأعيان المدينة. ينطلق نص "الصحيفة" بالتشديد على وحدة الأمة في تنوعها الديني والاجتماعي. ويعطي الحرية الكاملة لممارسة المعتقدات الدينية. ويرسي إدارة جماعية وتوافقية لشؤون المدينة. ويعتبر هذا الميثاق أن كل هجوم على أحد مكونات المدينة إنما هو اعتداء على الجميع. غير أن هذا الاتفاق ما لبث أن سقط بعد فترة من الزمن، ودخل عندئذ الإسلام في ذهنية مغايرة، بفرضه الشريعة الإسلامية على غير المسلمين.
يعتقد العديد من الباحثين أن هذا التبدل المفاجئ والسريع في سلوكيات الإسلام الناشئ بعد انهيار "صحيفة المدينة" كانت له تداعيات سلبية خطيرة على مستقبل الإسلام وإمكانية انسجامه مع الحركية التحديثية المستدامة في العالم. بحسب مقارباتهم، إن سقوط هذا الميثاق كان بمثابة ضربة قاسية لدين يلقي بمرساته في تراث يهودي ومسيحي متنوع وغني. مع توقيع نبي المسلمين على هذا الدستور المدني الأول في التاريخ لإدارة فطنة وذكية وحاذقة لتنوع ديني متشعب ومعقد، ظهر الإسلام الناشئ في بنيوية ذاتية منفتحة ومتفاعلة ومتآلفة مع الآخر المختلف، تماما كما عاش الإمام موسى الصدر في إسلامه المنفتح والمتفاعل والمحب والحاضن بصدق لحرية الآخر وكرامته".
بيد أن هذه الانطلاقة الواعدة ما لبثت أن تعثرت وتهالكت بفرض الشريعة الإسلامية على الجميع من دون أي تمييز. وهكذا كان لزاما على هذا الشرق التاعس أن ينتظر أربعة عشر قرنا في الألم والوجع والمخاض العسير حتى أعيد ضخ الحياة في شرايين ميثاق المدينة وروحيته وفلسفته مع الميثاق الوطني اللبناني والصيغة اللبنانية القائمة على مبدأ تقاسم السلطة والتناوب السلمي على الحكم والديمقراطية التوافقية.
إن العديد من الباحثين والمستشرقين الأوروبيين توقفوا مليا عند الأهمية القصوى التي يكتسيها "دستور المدينة". على سبيل المثال لا الحصر، نذكر الدراسة القيمة للدكتورة Phyllis Ghim-Lian Chew في جامعة سنغبورا التي تقيم مقارنة بين معاهدات وستفاليا المبرمة عام 1648 والتي تنشئ الدولة الأمة من جهة، و"ميثاق المدينة" الذي يعطي حقوقا متساوية لكل مواطن في مجتمع تعددي، وخصوصا حق المناقشة والتصويت والتقرير في شؤون المدينة، من جهة ثانية. غير أن هذا الاتفاق المتهالك، الذي يعتبره الباحثون، أمثال المستشرق الإنكليزي هنري بايمن Henry Bayman، أول نص مكتوب في القانون المدني في العالم، بقي جزئيا حيا في بعض مواقف لاحقة، كما يظهر لنا ذلك في تأنيب عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص وولده في حادث ضرب ابن عمرو بن العاص للفتى النصراني المصري: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
إن عيش الإمام الصدر الكامل والصارم لمندرجات "صحيفة المدينة" يتجلى بشكل لا لبس فيه في مفهومه للعيش المشترك القائم على قبول الآخر المختلف كشريك كامل العضوية في مشروع بناء الإنسان والمجتمع وعلى المحافظة المتشددة على قيمة التعددية والحؤول دون الانزلاق إلى خطر تذويب الهويات المغايرة وتخصيب التنوع بالعيش المشترك والحوار المستدام. فالحوار يشمل جميع قطاعات الحياة وجميع الثقافات والحضارات والأديان. لا شيء محظورا في فلسفة الإمام الصدر، إلا ما هو مناف للقيم الإنسانية السامية ولخير الإنسان الأعظم. إنه يدعو إلى إخراج الإسلام من التقوقع الخانق والمجفف للنظرات الإبداعية التي تنهل المعارف من ينابيع متنوعة لتطوير المجتمع وأنسنته. في محاضرة تحت عنوان "الحضارة الغربية والعلم الحديث"، يقول الإمام: "الحضارة يجب أن ندرسها كمجموعة لا تتجزأ. شجرة الحضارة لها فواكه وثمار شهية مثل العلم، مثل التكنيك، مثل التنظيم. ولكن لها أيضا أشواك مدمية مهلكة ... يجب ان ندرس الحضارة بخيرها وشرها. لماذا ندرس هذه الحضارة بخيرها وشرها؟ لأننا اليوم في دور التجربة. نحن ندرس ونجرب لكي نتبنى. لأننا نحن اليوم نريد أن نبدأ من الصفر. لأننا لا نملك شيئا. فأمامنا تجارب يجب أن ندرسها ونتبنى الأكثر نجاحا من هذه التجارب. فلندرس الحضارة الغربية ...".
بحسب نظرة الإمام موسى الصدر، الإنسان كائن علائقي، وعلائقيته تقوم على التلاقي ومد الجسور ونسج شبكة وجودية شاملة. وهذه العلائقية تتجسد ببلاغة فائقة في مبدأ الحوار. أي بتعبير آخر، لا يمكن أن يستقيم الوجود البشري إلا عبر الكلمة التي إن هي إلا الطاقة العظمى لدى الإنسان. فالكلمة هي التي تميزه بشكل قاطع عن بقية الكائنات الحية. والكلمة ليست حصرا نطقا. الكلمة هي هي في النطق كما في الصمت. ومن مقومات الحوار الإصغاء. كيف يمكن أن نتحاور إذا لم نتقن فن الصمت والإصغاء؟ وهنا تحضرني المعادلة الكيانية المبدعة التي أوجدها الفيلسوف الألماني أويغن روزنشتوك "أنا أصغي (لما الواحد بيصغي للآخر ما بيضل متل ما هو)، فإذن أنا أتحول"، والتي جاءت مغايرة للمعادلة الوجودية التي ابتكرها الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت (je pense donc je suis) "أنا أفكر، فإذن أنا موجود". إن آفة المشرقيين الكبرى إنما هي عدم الإصغاء. وهذا يؤشر بشكل واضح إلى أن الآخر المختلف الذي نحاوره ليس بوسعه، كما نظن ويخيل إلينا، أن يقول لنا أمرا مهما يستحق الإصغاء. وبالتالي نقبل بالحوار على مضض ونسعى من ثم إلى إقناع الآخر بطروحاتنا، من دون أن نصمت لكي نعرف تفكير الآخر ونقيم مضمونه بموضوعية وجدية. ومصداقا على ذلك، لنأخذ المحاورات التلفزيونية والإذاعية. إن أقسى تجربة يعيشها مدير المحاورة هي كيف السبيل إلى منع المتحاورين من التكلم معا والصراخ معا، وفي بعض الأحيان إلى الحؤول دون اللجوء إلى العنف الجسدي. هذا هو شرقنا التاعس. كل منا ينظر إلى نفسه كأنه الحارس الأحد للحقائق الكبرى. والآخر في التيه والضلال. كان الإمام الصدر عميق الوعي لهذه الآفة المشرقية التي تتغذى من مناهل الفردانية وتمقت ما هو جماعي. كان الإمام المتمرد يدعونا إلى مائدة الكلمة، أي إلى الحوار الحقيقي. وكلمة الحوار في اللغات الأجنبية تشتق من المفردة اليونانية dia logos، من هو dia logos أي "من خلال الكلمة". وبعبارة أخرى، ينبغي عل من يتمتع بعطية الكلمة ان يعالج جميع امور حياته حصريًا "عبر الكلمة"، وكل تخل عن الكلمة، وكل لجوء إلى العنف إنما هو بالتالي هزيمة نطراء للإنسانية التي ننتمي إليها. والحوار الحقيقي يعني أن أنتظر بشغف وشوق وفرح واحترام ما يقوله الآخر، لكي أغتني بفكره واختباره ورؤاه، اللهم إذا كان صادقا ومنورا وملهما. فالآخر المختلف هو رفيق الدرب في التفتيش الدائم والعنيد عن حقائق هذا الوجود وأسراره.
في المحصلة، إن ما زرعه الإمام موسى الصدر في عقول اللبنانيين وأذهانهم وضمائرهم لن يقوى الزمن على النيل منه وإضعافه ومحوه. أخفاه الخائفون على مناعة جهلهم والمرتعدون من انتفاضته الإنسانية والروحية والمجتمعية والمتوجسون من طروحاته المقدامة والجريئة. كيف لهم أن يهنأوا في كنف أصولياتهم المتوارثة من دون إعمال العقل والتفكير والنقد، عندما شق صوت الإمام الثائر حجاب التقوقع الديني والتراخ الروحي والظلم الاجتماعي والخمول الفكري، ودفع بذوي الإرادات الخيرة إلى مسيرة التجدد المستدام في التنوع والانفتاح والتحاكي والتحاب؟ كيف لهم أن يأمنوا تداعيات حركته على العقائد المتصلبة والجافة والبعيدة كل البعد عن جوهر الله الذي هو رحمن رحيم؟ كيف لهم أن ينبذوا العنف المقدس الذي يتنافى كليا مع رحمة الله ومحبته وغفرانه وشفقته وينضموا إلى مسيرة الإمام الصدر، رسول الإنسانية المتصالحة مع ذاتها في الغيرية وتآلف الاختلاف؟ إن الزلزال الذي أحدثه الإمام موسى الصدر في العالم العربي والإسلامي بفلسفته في التنوع وحوار الثقافات والأديان، وتلاقي الإيمان والعلم، وفي رصف مداميك العيش معا على مبدأ الحق الطبيعي في الاختلاف والحرية، لن يوقف تردداته تغيب أو إخفاء. الحقيقة التي استمات الإمام موسى الصدر في نشرها والدفاع عنها هي وحدها المنتصرة. وغيبته حضور قوي ومستمر ومتعاظم.
وشكرًا لإصغائكم.
