الفاتحة
سادتي وإخواني،
السلام عليكم ورحمة الله،
قالوا إن شابًا قام بالتعليمٍ فترةٍ طويلة، معلم ومربٍ قد مات فجأة، والمؤسسات الثقافية وأهالي هذه البلدة نعوه واحتفلوا بمرور أسبوع على وفاته.
في هذه الأيام التي تموت جماعات، وفي هذه الأيام التي تنتظر الموت جماعات، وفي هذه الأيام التي تُعد حياة الأحياء موتًا جماعات وجماعات، هل يحق لنا وهل نجد فرصةً للتحدث عن موت شخص واحد؟
الموت طالما أصبح في الظروف الحاضرة أمرًا محتومًا في الأمة، كيف نحتفل بوفاة رجل مهما كان عزيزًا؟ وهل الأفضل أن نقيم ذكرى وأن نحتفل احتفالًا كبيرًا بحياتنا كلنا دفعة واحدة التي هي أسوأ من الموت بألف مرة، ونقيم حفلة فرح لمن مات وذهب ولا يعيش المأساة؟ ولكن الناس في قضية الموت وفي قضية الحياة ليسوا متساوون، هناك من يموت ويقلل موته حياة الأمة، وهناك من يموت، حتى في أيام حياته ما كان لحياته أثر على حياة الأمة إذا لم يكن لوجوده تأثير عكسي وتجميد لحياة شعبه.
نحتفل بذكرى فقْد معلم، ونحتفل بهذه الذكرى في هذه القاعة المباركة التي بنيت باسم الحسين الشهيد (عليه السلام). أحببت أن أعيش في هذه الذكرى، وفي هذه اللحظات لعلنا نجد في خضم هذا الظلام الدامس نقطة نور، في هذه الذكرى وفي هذا المكان بصورة خاصة.
الموت والحياة يقترنان في هذا المكان، لأن هذا المكان مكان بُنيَ باسم الحسين (عليه السلام)، نعرف من الحسين الكثير، ولكن أبرز ما عند الحسين وأظهر وجه وصفة للحسين الشهادة، إنه سيد الشهداء. فإذًا، النادي الحسيني في الحقيقة نادي الشهيد، تكريم للشهادة، تمثال للشهادة، نحن نعيش في هذه الساعة في رحاب الشهيد، والشهادة تجمع بين الموت والحياة كما لا يجمعهما شيء. الشهادة في منطق القرآن الكريم اقتران عميق بين الموت والحياة: ﴿ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا﴾ [آل عمران، 169]، ليس القرآن كتاب شعر بل هو كتاب دين وكتاب تربية لا مبالغة فيه، ليس القرآن كتاب فلسفة بل كتاب تربية ودين، يعطي المفاهيم التي تدعو الناس إلى التحرك وإلى التأسي وإلى السير.
فإذًا، حينما يقول القرآن الكريم: ﴿ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء﴾ [آل عمران، 169] إنما يعني ما يقول، وتفسيره دقيق ولا أتصور أن هناك أولى من الله خالق الموت والحياة لتحديد الموت والحياة، فهو يفسر يقول هذا الذي ترونه ميتًا هذا الذي قُتِل ولا يتنفس، هذا الذي تحسبونه ميتًا، ليس هو بميت ﴿بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم﴾ ]آل عمران، 169-170].
هذا تفسير الله عن الموت والحياة، لماذا؟ هل هناك قاعدة ممكن أن نستخرجها من هذه الآية المباركة لأجل الاقتداء والسيرة، هل هذا السلوك يختص بالشهيد أو بإمكاننا أن نعمم هذا السلوك في قاعدة عامة ومبدأ شامل؟ لماذا الموت لا يطرأ على الشهيد ولماذا يحسب الله الشهيد حيًّا؟
أتصور دراسة القرآن الكريم ومطالعة تفسير القرآن الكريم يلقي أضواء واضحة على هذا المبدأ العام. القرآن الكريم يؤكد في أكثر من آية أن مقياس الحياة السعي والعطاء: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى﴾ [النجم، 39]. لا يملك الإنسان شيئًا إلا بمقدار سعيه وسعيه خالد يراه ويفدى به. لا مجد للإنسان ولا ملك حقيقي للإنسان إلا بالعطاء. هذه المعادلة ثابتة. وعلى هذا الأساس إذا كان الإنسان يتنفس، قلبه ينبض، معدته تتحرك ولكنه لا يسعى لا يعطي، بمقياس القرآن ليس له شيء، في منطق القرآن هو ميت. أما إذا كان الإنسان لا يتنفس ولا يأكل، يدفن تحت التراب ولكنه يسعى ويعطي، في منطق القرآن له شيء وله الحياة، أليس كذلك؟
الفلاح الذي يزرع شجرة ثم يموت، هذه الشجرة تثمر، يأتي رجل متعب يستظل في ظلال هذه الشجرة ويأكل من ثمارها، من الذي يظلله ويطعمه ويريحه؟ ذلك الإنسان الذي مات منذ عشر سنوات أو أكثر. فإذًا، هو في منطق العمر ميت، لا يتنفس ولا يأكل ولا يتحرك، ولكنه على الرغم من كل هذا يسعى ويعمل ويعطي.
ذلك المؤلف الكاتب العالم الخيِّر الناصح الذي يؤلف كتابًا ويكتب بحثًا ويحل مشكلة، ومات منذ عشرات السنين أو مئاتها، ثم يأتي إنسان أو طالب فيدرس فيتعلم ويتوجه ويسترشد ويستنير ويَسعد ويُسعد أولاده وأحفاده... هذا الإنسان بعد مئات السنوات من موته يعطي، لأن الذي يقرأ الكتاب ويتعلم... من الذي يعلمه؟ الذي مات، يده من وراء القبر، فكره، من وراء مئات السنوات من الدهر، يمتد لكي يسمو بهذا الطالب ولكي يعلمه الخير والهداية. في مقياس القرآن الكريم هذا الرجل الذي مات من عشرات السنين أو مئاتها الآن يسعى ويعطي، فإذًا، هو له شيء هو له حياة.
الإنسان المصلح في قريته حينما يحل مشكلة بين الناس، حينما يحل مشكلة بين الرجل وزوجته بين الإنسان وجاره بين أبناء القرية ثم ينتهي ويموت، المصالحة القائمة بين هؤلاء: بين هذا الرجل وبين زوجته، بين هؤلاء الناس هذه المصالحة تتفاعل وتؤدي إلى خدمات، يعيشون وينتجون ويعمرون ويخدمون والمصلح قد مات، إنه لا يتنفس ولكنه يسعى ويعطي، فإذًا هو حي. الذي يبني الحسينية، يبني المسجد، يبني المدرسة، يزرع، يؤسس مشروعًا، يؤسس صدقة جارية، مهما مر عليه الزمن حي يعطي ويسعى.
والمعلم! ماذا يعمل المعلم؟ المعلم يصرف من جهده، يصرف من قلبه، يصرف من طاقاته، يصرف من تفكيره... هذه المواد تتحول إلى ثقافة، إلى علم، إلى فكرة، إلى وعي في نفوس طلابه. يموت المعلم، والطلاب باقون في مستويات مختلفة من الوعي والثقافة والتربية، ويتقدمون على القاعدة التي وضعها المعلم، ويسعدون ويخدمون أوطانهم وقيمهم ويخدمون الحق. أي موت طرأ على هذا المعلم؟ أليس هو بعد موته يسعى؟ أليست شعلته النيرة تنير الدرب عن طريق طلابه وأبنائه ومن رباهم في حياته؟ فإذًا، المعلم باقٍ، المعلم حي لأنه يعطي ولأنه يسعى، ولأنه يقدم أيضًا حتى بعد موته بأي حادث كان يقدم ويعطي.
فإذًا، هذا اللون من الحياة هو اللون الحقيقي لحياة الإنسان، لأنه هو اللون الذي يختارُه خالق الموت والحياة للإنسان. وقمة هذا الخط وسيد هذه القافلة هو الشهيد، لأنه يقدم كل ما يملك دفعة واحدة: يموت، يقدم ماله وجاهه وجسمه ونفَسَه وتفكيره وتجاربه، يقدم كل هذا في سبيل صيانة أمته، الحفاظ على دينه، حرية مواطنيه، كرامة وطنه، الاحتفاظ بالقيم، المحافظة على الحق. يموت الشهيد، ولكنه لا يموت لأنه بوجوده بدمه قد صان ما هو أشرف وأخلد وأبقى. فطالما أن هناك أمة، وطالما أن هناك قيم ووطن وحرية وخير، وطالما أن هناك صلاة تُقام، وعلم يُدرس، ومدرسة تُبنى، وحق يمارس، وباطل يُحارَب، الشهيد يسعى ويعطي.
فإذًا، في الحقيقة وفي منطق الدين كل من يعطي حتى بعد موته حي، وكل من لا يعطي حتى في حياته هو ميت. هذان هما الحياة والموت، وليس هذا اجتهاد مني، قرأت لكم النص الديني وتحديد الله لمفهوم الموت والحياة.
هنا أقف لحظة، في ضوء هذا الجو وهذا المناخ الذي نعيشه الآن، نعيش في رحاب الحسين سيد الشهداء، ونعيش في ذكرى معلم مربٍ وهو من موكب الشهداء، طالما أننا نعيش هذا المناخ نتوقف لحظة وننظر إلى مأساتنا العامة، وضعنا الحاضر لعلنا نستفيد [...] (1). كل واحد منا يعتبر أن حياته في نَفَسِه في أكله في معدته [...] (2)، وموته بأن لا يأكل ولا يفطر ولا يتحرك قلبه، هكذا نحن نفهم الموت والحياة.
القرآن الكريم يناشد يصر يؤكد يدعو أمته ويدعو العالم لأن يصححوا مفهومهم عن الموت والحياة، يا جماعة لا تفكروا أن الشهيد ميت لا! حي عند ربه يرزق فرح بما أتاه الله ويستبشر بالذي لم يلحق به، هكذا نفهم الحياة بمقياس العطاء.
فإذًا، الحياة التي أسلكها إذا كانت هي حياة النَفَس -أرجو الانتباه، المجلس بطبيعة الحال يدخل فيه أحد ويخرج منه أحد وأصحاب العزاء يقومون باللياقات، لكن أرجو أن تكون قلوبكم معي- الإنسان حينما يشعر أن حياته بنَفَسه، بحركة قلبه، بتحرك معدته يصبح صغيرًا أصغر من الحياة، لأن هذه الظاهرة الميكانيكية هذا بيد عدوك، بيد الطغاة، هذا ليس بيدك أنت لا تقدر أن تملك حياتك بهذا المفهوم. لكن إذا كانت الحياة هي العطاء أنت تقدر أن تحافظ على حياتك، ولا واحد ولا أميركا تتمكن أن تنزع منك حياتك الحقيقية. إذا افتهمتُ الحياة أنا بالمفهوم الحقيقي، من يقدر أن يأخذ مني الحياة ماذا يعمل معي؟ من صغري، أول حياتي، لا يتمكن أحد أن يسلب مني عطائي مهما عملوا، مهما خاصموا، مهما شوَّشوا.
أنا أريد أن أعطي وهذه حياتي، يموِّتني أهلًا وسهلًا! القرآن يقول أنت ليس ميتًا، فرحٌ بما أتاه الله ويستبشر بالذين من قبلهم، أما عندما أفهم الحياة بالنَفَس، أنا أعرف أنه أنت تقدر أن تخنقني أخاف منك، ماذا أعمل، لأنه أنا كل وجودي حياتي، وأريد أن أحافظ على حياتي بالخير، بالحسن، بالرديء بالخضوع، أريد أن أحافظ على حياتي.
علاقاتي أنا يجب أن تتصحح مع حياتي. أنا مالك حياتي والحياة ليست مالكتي أبدًا، حياتي لي حتى أستعملها في سبيل الخير في سبيل العطاء، لأن العطاء هو الحياة الحقيقية. نستلهم من مناخ الشهيد وفي موكب الشهداء، نستلهم تصحيحًا لمفهوم الحياة والموت، نستطيع أن نموت فورًا ولا يقدر أحد أن يحيينا، تريد أن تعرف كيف ممكن أن أموت؟ إذا امتنعتُ عن العطاء، إذا كنت أنانيًّا، إذا أحببت كل الناس من أجلي ولمصلحتي حينئذٍ أنا ميت حالًا فورًا، لا لزوم يأتيني الأجل أو تأتيني الصدف أو الاختناق، أبدًا الآن أنا ميت. الإنسان الأناني الذي يريد كل شيء له، ولا يرضى الخير، ولا يحب العطاء ويريد كل العالم له، هذا ميت حالًا... ميت لا لزوم أن ينتظر مجيء موت آخر.
على هذا الأساس نحن ما مشكلتنا؟ ما هي مشكلة أمتنا؟
الأنانية، نريد أن نحافظ على هذا النَفَس، على هذه المثليات، على هذه الأرض، على هذا اللبس، على هذا التحرك غير الشريف الذي نعيشه، هذه هي الأنانية.
في مدرسة الشهيد نتعلم مفهومًا آخر عن الحياة، ونعيش لأجل العطاء ولا يتمكن أحد أن يأخذ منا حياتنا.
أسأل الله أن يلهمنا الخير والإحساس الشريف وأن نتمكن من أن نجسد هذه التعاليم العالية في حياتنا وفي سلوكنا، وأن نكون صادقين فيما نقول، وأن يلهم أعزاءنا بفقيدهم العزيز وأن يوفق المؤسسات الثقافية والمقاصد الإسلامية في هذه المنطقة العزيزة التي نعتز بمستوى ثقافتها ووعيها، وأن تتمكن من التعويض على هذه الخسارة للأمة.
وفي ختام حديثي، وبكل أسف أستأذن وأرجو أن تسامحوا قلة حضوري لأني على واجب وقول وموعد آخر سبق موعدي مع هذا البلد الطيب، وإلا لكنت ألغيت الموعد الآخر وأعيش بينكم في هذا المناخ الصالح.
فإلى روحه وروح أمواتنا ثواب الفاتحة.
والسلام عليكم.
___________________________
(1) التسجيل ناقص
(2) التسجيل غير واضح.
