ملائكة الرحمة

calendar icon 27 تموز 1977 الكاتب:موسى الصدر

بمناسبة تخريج 97 ممرضًا وممرضة وتسليمهم شهادات التخرج من معهد التمريض أقيم في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في الحازمية بتاريخ ٢٦ تموز ١٩٧٧  احتفال حاشد رعاه الإمام الصدر الذي هنَّأ فيه الخريجين وأهاليهم وأساتذتهم على تخرُّج دفعة من ملائكة الرحمة لخوض معركة ضد العنف والقتل، وليكون هؤلاء الممرضين والممرضات بارقة الأمل في الليل المظلم. كلمة الإمام كاملةً:

* خطبة للإمام الصدر بتاريخ 26 تموز 1977 في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بمناسبة تخريج 97 ممرضًا وممرضة من مدرسة التمريض، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات.
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع أن الكلمة الحقّة الصادقة هي هذا المشهد المتمثل أمامنا، عزم وإرادة وتضحية واستعداد لخدمة المعذبين، هذه هي الكلمة الحقّة وحقّ الكلمة. سيما إذا راقبنا أن هذا المشهد [...] الشباب لخوض معركة الرحمة. والرحمة أيضًا كما تعلمون معركة، سيما في أعقاب محنةٍ دامية جرحت كلّ القلوب وكلّ البيوت وكلّ الإحساس.
في أعقاب هذه الليلة، الرحمة معركة وتضحية، لأن الإنسان خلال المحنة وبعد المحنة كان يشعر وكأن السباع الضارية تتسرّب إلى جسمه. الجوّ والحديث والعناق والصبر والبكاء والشكاوى والعِشرة وعنين الليل والنهار، كلّ هذه العواطف كانت تحرّضنا على خوض المعركة القذرة التي خضناها في هذه الفترة الماضية [...]. كلّ شيء كان يدعو الإنسان إلى القتل وإلى البعد عن الرحمة. فإذا بقينا في حالة الرحمة، وإذا بقينا متمسكين بإنسانيتنا، بأخلاقنا وقيمنا، إذا بقينا متمسكين بمسؤولياتنا الإنسانية، فهذا البقاء بحدّ ذاته معركة قاسية. الأخ الدكتور فؤاد يقول إنني [...] بهذه المسؤولية، ولكن عليه أن يقول من قبل أن فضل الأساتذة -وهو على رأسهم- وقبله الشباب والشابات، أولئك الذين لم تتمكن المحنة القاسية من أن تحول دون دراستهم ودوامهم، أولئك الذين لم تتمكن آثار المحنة أن تحوّلهم إلى سباع ضارية. نحن نعرف شباب وبنات في هذا العمر أقلّ وأكثر كانوا يقودون معارك (شابكة دابكة) لا تعرف الرحمة، ولكنهم امتنعوا واستمروا في طريق الرحمة، تحدّوا الظروف وسيتحدّون ظروفًا.
صادفتم ظروفًا قاسية أرادت أن تسلب وتنزع عنكم الرحمة، وسيتحدون ظروفًا قاسية لأن مهنتهم وعملهم ومواصلتهم وتخفيفهم العذاب عن الناس، عن الجرحى، عن المعاقين... هذه الاستقامة، هذه الخدمة... تحدّيهم للمستقبل، فهم بين تحدٍ للماضي وتحدٍ للمستقبل يمثُلون أمامنا كباقات من الورود.
وليس من الصدف أنهم جالسين باتجاه الجنوب، لأن عينهم شاخصة نحو الجنوب، وقلبهم متجه نحو الجنوب، لأنهم يدركون مسؤولياتهم أمام المواطن -أيّ مواطن كان- لكي يبلسموا الجراح؛ الجراح المؤلمة، الجراح التي يصاب بها الإنسان، بيد أخيه الإنسان وبيد أخيه المواطن. لذلك، هذه الكلمة الصادقة وهذا الوجود في هذه اللحظة نعتبرهما رمزًا، ونعتبرهما أملًا ورجاء، ونعتبرهما تعزية وتخفيفًا للآلام.
أنتم تعرفون مدى أهمية الممرض والممرضة لوطننا ولمنطقتنا ولعالمنا، فالعالم اليوم كلّه سيما بلادنا ولبناننا بالذات يشكو عجزًا كبيرًا في حقل التمريض. ويشرّفنا بعد أشهر من المحنة نتذكر أن نقدم بدلًا من المقاتلين، مخففين عن أعباء القتال. نحن نعتزّ ونتشرّف بهذه الخدمة وبهذا المشهد، لا شكّ أنكم تعلمون حاجة وطننا إلى هذا الفن: فن التمريض. ولذلك، تقدرِّون... ولذلك [تقاومون]... ولذلك بقيتم وتمسكتم ودفعتم بشبابكم وبناتكم إلى المدرسة تحت وطأة الأخطار، لكي يتخرّجوا في هذا اليوم ويستعدوا لتحمل المسؤوليات. أنتم تخاطرون بذلك ولذلك حاولتُم في هذه الأمسية أن [...] تبصروا الأمل.
أما البنات، أما الشباب،
فبإمكاني أن أوصيهم بنصيحة واحدة: لا شكّ أن المدرسة التي وفّرت لهم هذه الخدمة، والأساتذة الذين قدموا أقصى جهودهم [...] فعلِّموهم، أمام هذه الخدمة وهذا العطاء لا شكّ أنهم يشعرون بالواجب، ولكني أحبّ أن أذكركم بخدمة أخرى إلى جانب هذه الخدمة: هذه الخدمة التي أراها متجسدة في شكلهم وملبسهم وسلوكهم، إنكم يا إخواني، وإنكن يا بناتي في الواقع تمكنتم من الوصول إلى هذه المرحلة من الدراسة [...] بإذن الله، وعليكم مسحة خاصة تختلف عن التمريض والممرضات والممرضين في المؤسسات الأخرى. إنكم بقوة الرحمة، بقوة الله، بقوة الدين، بقوة الفكر السماوي توفّرت لكم ظروف الدراسة. إذًا، إلى جانب كونكم في المستقبل مسؤولين أن تحفظوا المرضى وعن رفع الآلام عن قلوب الناس، أيضًا إنكم بإمكانكم في هذه الحالات بنصيحة أو بكلمة، بهمسة، بفكر تتمكنون من أن تزرعوا الأمل، أن تزرعوا القيم، أن تزرعوا الصحة النفسية كما الصحة الجسدية في النفوس، بإمكانكم أن تهدئوا أعصاب المرضى. مع العلم أننا ونتمنى كثرة في [...] التعليم والتربية الدينية الأبوية لكم، ولكن هذه المسألة بادية وظاهرة على نفوسكم اليوم، فلا تنسوا أن واجبكم إلى جانب عافية الجسد حفظ عافية القلب عافية القلب، حفظ القيم والأخلاق، وأنتم في سلوككم تمثلون ذلك. 
التاريخ في الفترة الأخيرة [...] على أمثلة جعلت العالم يعبِّر عنكم بملاك الرحمة، لأنكم في خدماتكم تقومون بخدمة مطلقة دون قيد ولا شرط. والمطلق، وأيّ قيمة مطلقة، الإيمان بها إيمان بالله، فالله هو وحده المطلق، والقيم المطلقة هي التي تنبع من الإيمان بالله المطلق.
إخواني وأخواتي،
في هذه اللحظة، في هذه الساعة، نحن نعلق الآمال الكبيرة عليكم. يقول لي الأخ الدكتور فؤاد إن قليلًا من المؤسسات تخرِّج دفعة واحدة سبعة وتسعين شابًا وشابة في التمريض، هذا يشرّفنا. يحقّ لنا أن نعلق الأمل الكبير على عددكم، ولكني أقول له ولكم ولنفسي ولكم أيضًا إن الأمل أيضًا نعلّقه على نوعيتكم لا على عددكم فقط؛ إنكم بالفعل ملائكة الرحمة وملائكة القيم ناصحات مشرقات ناصحات الجروح من الجسد ومن النفس ومن الحق ومن القلب في نفس الوقت. 
في هذا الليل المظلم شعاعكم، وشرارة بياض ملابسكم، وفريد علومكم وشعلة إيمانكم ربما تضيء ليلنا المظلم، ربما يكون اليوم عرفنا أو لم نعرف، اعترفنا أم لم نعترف ربما يكون اليوم، وهذه توصية، بداية مسيرة جديدة، مسيرة الرحمة من الثقة التي نزعها الله أو نحن نزعناها لأنها قُدِّمت في فترة قاسية من حياة هذا الوطن. 
فعلى قافلة الله وفي هذا الخطّ ستكونون مدعوون لبركات الله، على مشيئة الله باتجاه الجرحى، باتجاه المرضى، باتجاه الآلام، باتجاه الشعلة المؤمنة الحارسة [...]
والله وأهلكم وأساتذتكم وقلوبنا تراقبكم لا مراقبة كأب كما يقول الدكتور [...]، مراقبة الأب والأستاذ بل لكي نسجل خدماتكم في هذا في سجل خدماتنا المتواضعة في هذا الوطن وعلى بركات الله.
والسلام عليكم.

source