النقيب رمزي جريج- العدالة لن تغيب

الرئيسية إصدارات القضية العدالة لن تغيب

العدالة لن تغيب

مرافعة النقيب الأستاذ رمزي جريج في الشق الوطني (II) ممثلًا جهة الادعاء الشخصي في جلسة المجلس العدلي بتاريخ 14/10/2011 لمحاكمة معمر القذافي وأعوانه في جريمة خطف وحجز حرية الإمام الصدر وأخويه.

حضرةُ الرئيس
السادة أعضاء المجلس العدلي الموقر،

كلفتني عائلة الإمام موسى الصدر بشخص نجله السيد صدر الدين أن أُمثلَها، إلى جانب سعادة النقيب بسام الدايه وسائر الزملاء الأكارم، في قضية خطف الإمام موسى الصدر؛ فََشَعِرْتُ، بمجرد تكليفي بهذه المهمة، أَنني لا أمثِّلُ هذه العائلة الكريمة فحسب، وإنما أمثل كامل الشعب اللبناني بجميع شرائحِ مجتمعه من شباب وكهول وأطفال، وبجميع فئاته من مسيحيين ومسلمين؛ كما أمثل الوطن بأسره بجميع مناطقه من جَنوبه إلى شَماله، من جبله إلى بِقاعه، وجميعِ مدنه وقراه من صيدا وصور إلى جونيه وجبيل، من بيروت وطرابلس إلى أصغرِ قريةٍ من قراه المحرومة، التي التزم الإمام المغيّب قضاياها خلال مسيرته الرائدة.

ذلك أن الإمام موسى الصدر ليس لعائلته القريبة أو لطائفته الكريمة فحسب، وإنما هو ثروةٌ حقيقية للبنانَ بأسره وللعالمِ العربي والإسلامي على حدٍّ سَواء، لا بل إنه قيمةٌ انسانية كبيرة.

ويكفي للدلالة على ذلك أن نستذكرَ بعضَ مواقفهِ وأقواله، فندركَ مدى الخسارةِ التي لحقت بنا، كلبنانيين وعرب، بسبب تغييب الإمام موسى الصدر عن الساحة اللبنانية لأكثر من ثلاثة عقود، شهِدت خلالها تلك الساحةُ أَزَماتٍ كبرى وأحداثًَا دامية، ربما ما كانت لتحصلَ او تستمرَ لو أن سماحة الإمام كان حاضرًا وقادرًا على معالجتها.

إن مواقف الإمام موسى الصدر، في الشأن السياسي، تقوم على أربعةِ مبادئَ أساسية:

المبدأ الأول: هو أن لبنان ضرورةٌ حضارية. لم يدافع سماحة الإمام عنِ النظام اللبناني، بل دان بشِدة التمييزَ الطائفي والتمزقَ الوطني، ودافَع عن صيغة العَيش المشترك. يعتبر الإمام أن التعايش ليس ملكًا للبنانيين أو حقًا لهم فحسب، ولكنه أمانةٌ في يدهم. يقول الإمام موسى الصدر في هذا المجال "إننا نتمسك بوحدة لبنان ونحافظ عليها وعلى استقلال لبنان وعلى انسجام لبنان معَ المنطِقة وعلى صيانة هذا الكيان الذي هو أمانة للحضارة العالمية".

وأن هذه النظرة للكيان اللبناني تلتقي مع مفهوم الوطن– الرسالة، الذي أطلقه البابا يوحنا بولس الثاني في العام 1995.

ومن هذا المنطلق بالذات نادى الإمام موسى الصدر بنهائية الكيان اللبناني، التي كرسّتها مقدمة الدستور اللبناني في العام 1990.

المبدأ الثاني: هو أن الحُرية هي عِلّةُ ومبرّرُ وجود لبنان، وأن هذه الحرية لا تحدّها إلا الحُريةُ نفسُها. لذلك يعتبر الإمام موسى الصدر أن الديمقراطية هي النظام المناسب للبنان. وهو يقول في هذا المجال اِنه يدافع عن التعايش في ظل الديمقراطية، وأنه يمكن بقاءُ مجموعاتٍ حضارية تتعايش في وطن واحد على أساس الحرية.

المبدأ الثالث: هو أن العُنفَ لا يَحُلّ أي مشكلة في لبنان. لقد أطلق الإمام موسى الصدر ثورة اللاعنفِ ضدَ سلبياتِ النظام اللبناني، الذي فرض الظلمَ الاجتماعي؛ ولجأ الإمام إلى الاعتصامِ والإضرابِ عن الطعام احتجاجًا على المذابحِ التي تُرتكبُ بحَق الأبرياء وعلى الرَصاص الذي يَحْصُد الذينَ هم بلا ذنب.
هنا يلتقي الإمام موسى الصدر في ثورته ضد العنف، مع المهاتما غاندي، الذي لجأ هو أيضًا إلى الصوم ضد ظلم الإنتداب البريطاني.

المبدأ الرابع: هو احترام حقوق المواطنين، أي العدالة التامة، العدالة السياسية والاجتماعية والإقتصادية.

إن تطبيق هذا المبدأ، على الصعيد السياسي، حمل الإمام موسى الصدر على نبذ النظام الطائفي الذي يفرق بين المواطنين.

وإنه لمن غير المعهود أن يتخذ رجل دين، بمستوى الإمام موسى الصدر، مثل هذا الموقف المتقدم، فيؤكد به أن الدين، بطبيعته السمحاء، يتجاوز الطائفية الضيقة؛ وهو يلتقي في هذا الموقف مع جبران عندما يقول:
"ويلٌ لأمة تكثر فيها المذاهبُ والطوائف، وتخلو من الدين"

أما تطبيق هذا المبدأ على الصعيد الاجتماعي والإقتصادي، فقد تجسد بحركة المحرومين التي أطلقها الإمام موسى الصدر ضد التمييز بين المواطنين توخيًا للعدالة الاجتماعية.

تلك هي المبادئ الأربعة الأساسية التي يستند إليها فكر الإمام موسى الصدر السياسي؛ وكان سماحته يجسدها في قوله وفعله، ويعتبر أن اعتمادها وتطبيقها من شأنهما المحافظة على استقلال لبنان ووحدة شعبه وسيادته الوطنية.

من هنا أن الجريمة النكراء التي تناولت الإمام موسى الصدر ورفيقي جهاده، فضيلة الشيخ محمد يعقوب والصحافي الأستاذ عباس بدر الدين، اللذين كانا من أقرب المقربين إليه فكرًا ونضالًا،

وبسبب ما يجسده الإمام موسى الصدر من مبادئ وما يمثله من قيمة وطنية،

إن جريمة الخطف هذه،
لم تكن اعتداء على أشخاص فحسب، وإنما شكلت مؤامرةً دنيئة، نفذت بأبشع الوسائل الإجرامية عن طريق الغدر والاستدراج والخيانة، بحق وطن بأسره وشعب بكامل شرائحه، من أجل تهديم ركائز استقلاله ووحدته، وضرب صيغة العيش المشترك فيه.

وللدلالة على ذلك نحيل مجلسَكم الموقر إلى ما ورد في التحقيق ولا سيما في قرار المحقق العدلي من عرض، مدعوم بالأدلة القاطعة، لأبعاد المؤامرة التي استهدفت، من وراء خطف سماحة الإمام ورفيقي نضاله ومن ثم إخفاء معالم هذه الجريمة، تقسيمَ لبنان وضربَ صيغةِ العيشِ المشترك بين أبنائه، وكذلك فكرةَ نهائية الوطن اللبناني، وكل المبادئ التي آمن بها الإمام موسى الصدر وعمل من أجلها.

فَبِقَدْرِ ما يمثل الإمام موسى الصدر من قيمٍ حضاريةٍ ووطنية، بقدْرِ ما تكون الجريمةُ المرتكبة بحقه اعتداءً صارخًا على تلك القيم، وبالتالي جريمة نكراء ضد وطن وشعب، لا يجوز أن يُفْلِتَ مرتكبوها من العقاب الصارم، الذي يستحقون.

ولا يخفف من فظاعة هذه الجريمة ووجوبِ معاقبةِ مرتكبيها، كونُ هؤلاء قد ارتكبوا على مدى أكثر من أربعين سنة جرائمَ أخرى فظيعة.

فكلُ جريمة نكراء ارتكبها معمر القذافي وشركاؤه بحق الأبرياء من مواطنيه وسواهم يجب أن يلقى عنها العقابَ الصارم.

ومن البديهي أن الجريمة التي ارتكبها معمر القذافي وشركاؤه بحق الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وبحق لبنان وشعبه، يجب بالدرجة الأولى أن يلقى العقابَ عنها من قبل قضائنا الوطني، الذي يَنْطُق باسم الشعب اللبناني ويدينُ الذين أجرموا بحق المواطنين والوطن.

إن إحالة معمر القذافي إلى المحكمة الجِنائية الدولية، لكي يحاكم عن الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها طيلة توليه السلطة، لا تعفي القضاء الوطني اللبناني، صاحب الاختصاص والممثل بمجلسكم الموقر، من واجب الحكم في القضية الحاضرة المحالة إليه أصولًا، وإنزالِ العقاب الصارم بحق معمر القذافي وشركائه في جريمة خطف الإمام موسى الصدر ورفيقيه.

إن من شأن هذه الادانة:
ليس فقط تحقيقَ العدالة، التي تنتظرها عائلة الإمام موسى الصدر وعائلتا رفيقيه والشعب اللبناني بأسرهِ مُنذُ سنين طويلة،

لا بل أيضًا منعَ تكرار مثلِ هذه الجريمة الفظيعة في المستقبل، والحُؤولَ دون قيامِ معمر قذافي آخر، في الآتيات من الأيام.

حضرةَ الرئيس،
السادةُ أعضاءُ المجلس العدلي،

بينَ يديّ كتيبٌ نشره مركزُ الإمام موسى الصدر للأبحاث والدارسات بعُنوان "الحقيقة لن تغيب".
في هذا الكتيّب موجز لقضية إخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه يبيّن بوضوح أسباب وظروف زيارة الإمام إلى ليبيا ومجملَ الإجراءاتِ القضائية التي تمت بهذا الخصوص.

هذا الكتيّبُ يحتاجُ إلى ملحقٍ لا يستطيعُ سوى مجلسكم الموقر كتابته بعنوان "العدالة لن تغيب".

لن أتناول في مرافعتي عرض وقائع القضية والأحكامَ القانونية التي يجب إدانة معمر القذافي وشركائه بالاستناد إليها، وإنما أترك لزميلي العميد فايز الحاج شاهين والأستاذ سليمان تقي الدين هذه المهمة.

جلّ ما أودّ قولَه في خاتمةِ مرافعتي هو تذكيرُ مجلسكم الموقر بكلمة المحامي جورج كليمنصو دفاعًا عن الكاتب الفرنسي إميل زولا، إذ خاطب قضاةَ المحكمة قائلًا:

"نحن اليوم نمثل أمامكم... أما أنتم فإنكم تمثلون أمام التاريخ".

إننا لواثقون أن التاريخ الذي تَمْثُلون أمامه، أيها السادة القضاة، سيذكر القرار الذي سوف يصدره مجلسكم الموقر في هذه القضية، والذي نطلب أن يقضي بإدانة معمر القذافي وشركائه بالجرائم المحالين بها أمامكم، وذلك وفقًا للادعاء الشخصي وبالاستناد إلى القرار الاتهامي الصادر عن المحقق العدلي الأستاذ سميح الحاج.

بذلك تتحقق العدالةُ التي نتوق إليها جميعًا، وينتصر لبنان، الذي تحكمون باسم شعبه، على المؤامرة التي استهدفت قيمه الأساسية ومرتكزات وجوده.

وشكرًا.