الجريمة مستمرة في الخطف والاحتجاز
مرافعة المحامي الأستاذ سليمان تقي الدين (في الوقائع) ممثلًا جهة الادعاء الشخصي في جلسة المجلس العدلي بتاريخ 14/10/2011 لمحاكمة معمر القذافي وأعوانه في جريمة خطف وحجز حرية الإمام الصدر وأخويه.
حضرة الرئيس
حضرات المستشارين
حضرة النائب العام
تكاد هذه الجريمة تشبه الأسطورة، لذا ليس هناك أفضل من الشعر لتجسيدها، فتأذن الرئاسة بهذه المقطوعة الشعرية بالمحكية.
وينو الإمام
وينو الإمام؟!
اللي إجا من بعيد..
يمكن ألف عام
حامل كتاب جديد
بيفسّر الاحلام
بلّل بقانا شفتِّو
بجرن المسيح
وبحجَرْ تيرون
نشَّف جبهتو
وحطّ كفّو مرج
في سهل الخيام
صلّى وسَجَدْ
نزلت عن كتافو العباية...
لمّها...
وقع الكتاب
وصار يحكي للتراب
حكاية ابو ذرّ الغفاري والصحاب
وكان البحر بصور عم يصغي
تعكور مزاجو وغار
وصار يبعث موج عن الارض اليباب
خضر التراب
خلف البحر...
كان حاكم مملكه...
محسود من مجد الامير البرمكي
الإسمو إمام
خطفوا ع صحرا
بعيد عن همّ الجنوب
تتظل أفكار الجنوب ملّبكي
وبعدو الإمام واقف على حدود الزمان
ناطر زمان
اهتزت عروش
وقام شعب المملكة
والطاغية مسجون
مش سجّان
حضرة الرئيس... حضرات المستشارين..
أسند الي الزملاء الكرام بالاتفاق مع جهة الادعاء الشخصي تناول الوقائع التي نسجت خيوط هذه الجريمة المستمرة بالمعنى القانوني.
جريمة خطف واحتجاز حرية وإخفاء قسري للمجني عليهم:
- سماحة الإمام السيد موسى الصدر
- فضيلة الشيخ محمد يعقوب
- الأستاذ السيد عباس بدر الدين
وسأبيّن أن هذه الجريمة المتعمدة ارتكزت إلى دافع جرمي وإلى نية جرمية تجسدت في حلقات مترابطة محكمة..
جريمة ضد الإنسانية وفقًا لمقدمة إعلان حقوق الإنسان والمادة 16 من هذا الإعلان، لا يتقادم عليها الزمن ولا تطويها عوائد النسيان.
منذ ثلاثة عقود ونيّف أقدم متحكّم طاغية عن إبعاد ثلاثة افذاذ من أهل الفكر والرأي والحكمة والوطنية والنضال عن ساحات جهادهم بهدف مشين ودنيء هو خلق فراغ في موقع شديد الحساسية والخطورة في زمن لبناني صعب لكي ينال من أمن الدولة الداخلي.
جريمة لم يبرأ لبنان من آلامها ومن استمرار مفاعيلها في ذاكرة ووجدان معظم اللبنانيين والذين كان الإمام بالنسبة لهم محجة وقيادة ومرجعًا وشخصية وطنية فريدة في عملها واخلاقها.
ثلاثةٌ كانوا كهرم ماسي كيفما قلّبت وجهه شع.
ثلاثة كأنهم نبلةٌ.. وقوس.. ووتر.
حرثوا وبذروا وسقوا فأينعت الأرض تضيحة وفداء وكرامة
وعزَّة وفخرًا.
خرجوا في طلب السلم الأهلي والأمن والدفاع عن الجنوب
فإذا بهم أسرى سجناء في قبضة سلطة جبانة غادرة، لم ترعَ حرمة مقام ولا كرامة إنسان ولا شهامة ضيافة.
نحن من جيل يسعدنا أننا عرفنا الإمام وعاصرناه...
خضَّ فكرهُ الفكر وأدهش علمُه المنابر
حمل على كتفيه مئذنة وصليبًا وبشّر بروحهما السمحاء ومقاصدهما النبيلة
شرّع صدره للأخطار ووقف يحجب الفتنة قائلًا: مَن يطلق رصاصة على أخيه في الوطن يطلقها على جبتي وعمامتي.
جاء ليحرر في الإنسان والأرض ليحرر المحرومين من أرضهم وفي أرضهم فكان له الحاكم المستبد الفاسد العابث بالمرصاد.
أما الشيخ محمد يعقوب صفي الإمام ورفيق نضاله يقبض على ناصية المحراث ويحفر بزند قوية في أرض بائرة عطشى. وقد أؤتمن على المهمة الأصعب وهي قيادة المقاومة فكان يؤسس ويبني بحكمة الشيخ الصلب الوقور.
ولم يكن الأستاذ الصحافي السيد عباس بدر الدين إلا القلم الذي خط عناوين مشرقة للنهوض ببني قومه وكان من أركان تلك الحركة المجاهدة. كانوا ثلاثة: فكر وسيف وقلم.
لم تنشأ بين الإمام الصدر والسلطات الليبية علاقة ودّية أبدًا. وشتّان بين همِّ الإمام الشريف والمخلص لقضية شعبه ووطنه وهمِّ الحاكم العابث بأمن الناس وحرياتها وحقوقها وكرامتها.
لم يسبق للإمام أن زار ليبيا كما الزائرين الممالئين لأهواء حاكم قال التاريخ أخيرًا بعد طول عناء كلمته فيه.
زار الإمام مرَّة واحدة ليبيا عام 1975 لحضور مؤتمر إسلامي ولم تسهم تلك الزيارة في تأسيس علاقة سوية ولا توثيق مودة. كانت بداية نفور بين صاحب القضية والحاكم صاحب السلطة.
عصفت بلبنان رياح الفتنة وشقّت حرب اللبنانيين طريقها إلى تهديد الكيان والوجود والأرض والانسان. كان لبنانُ بين نارين. عدوٌ صهيوني طامعٌ ومعتدٍ وجماعات تصارعت حتى ضاعت جهودها في مواجهة الخطر الخارجي المحدق. وكان احتلال إسرائيل لجزء مهم من الجنوب في آذار 1978. وصدر القرار الدولي 425 الذي تنكرّت له إسرائيل، حتى أكرهتها المقاومة من مدرسة الإمام على تطبيقه عنوةً. وقف الإمام يطفئ بعباءَتِه نار الفتنة ويضع عمامته شاهدًا لصياغة موقف وطني موحد، يدرأ عن لبنان والجنوب الخطر ويحمي قضية شعب فلسطين.
صلى وصام..
اعتصم وانتفض..
احتج وغضب وثار. دخل الكنيسة والجامع...
ناشد وسعى للخروج من النفق المظلم.
وكان لدى الحاكم العربي إيّاه الأعوانُ والأتباع الذين ضلّوا الطريق وأخطاؤا في فهم تبعات تلك المواجهة.
كان الحاكم يغدق المال لجماعات لا تتحمل مسؤولية وطنية عن أمن لبنان وأمن الجنوب. ولطالما أساؤوا فهم مقاصد الإمام ولطالما انتقدوه. لكنه صاحبُ قضية.
دعم العقيد القذافي جماعات كانت محل شكوى من معظم الأطراف اللبنانيين وقد توثق ذلك في محاضر قمة عرمون وقد أشار العديد من المسؤولين بوضوح لمسؤولية العقيد القذافي عن تمويل ودعم جماعات وقفت ضد الحلول والتسويات والمصالحات والمبادرات اللبنانية والعربية.
تحرك الإمام على خطوط النار بين حروب المصالح فلم يترك وسيلة أو مجالًا إلا وسعى لكي يحمي الجنوب ويحرر الجنوب..
زار عواصم التأثير والقرار العربية لتوفير دعم لحماية الجنوب وتنفيذ القرار 425. وكانت زيارته إلى الجزائر وإلى الرئيس هواري بومدين الذي نصحه بالحوار مع العقيد القذافي لأنه صاحبُ نفوذ على الساحتين اللبنانية والفلسطينية.
جاء المسؤول الليبي عبد السلام جلود إلى لبنان خلال الأحداث ومكث مدة طويلة يتواصل مع كل الفرقاء إلاّ الإمام الصدر.
وقف المسؤولون الليبيون علناً ضد الخروج من الحرب والمبادرة السورية. من هنا بدأت عناصر الجريمة ضد الإمام وضد السلم الأهلي والوفاق الوطني وضد أمن الدولة اللبنانية بالمعنى القانوني للكلمة.
حاكم عربي يدس أنفه ويمد يده السوداء ليغذي فتنة وليزيح من طريقه من يعتقد أنه الدفاع الأول ضدها.
وجه العقيد القذافي دعوة رسمية إلى الإمام...
التقى الإمام القائم بالأعمال الليبي في بيروت.
تم التحضير لزيارة الإمام إلى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي ولا شيء سوى ذلك.
حصل تفاوض على موعد الزيارة وكان في 25 آب 1978 كما أراد الإمام بحسب ظروفه وحاجته إلى الإنضمام إلى زوجته التي تعالج في فرنسا.
أتت الدعوة رسمية وعلى نفقة ليبيا.
تم حجز التذاكر واستضافة الوفد بحسب الإجراءات الرسمية الليبية في فندق الشاطئ.
أعطى العقيد القذافي موعدًا للقاء الوفد ثم أجلّه..
انتظر الإمام وأخواه في حال من القلق والتبّرم والشكوى خمسة أيام خلافًا لكل لياقة واحترام وتقاليد ومراسم وقيم الضيافة والعلاقات الرسمية.
التقى الإمام شخصيات ووفودًا لبنانية.
لم تُبلّغ سفارة لبنان بوجوده.
لم تنشر وسائل الإعلام لزيارة الضيف الكبير الكريم.
أجرى مقابلة تلفزيونية ولم تبث. وانتظر
أبرق إلى باريس مؤكدًا حضوره في الأول من أيلول لنجله وزوجته.
وفي 31 آب نقلته والوفد سيارات المراسم للقاء العقيد وكانت جريمة خطفه واحتجازه وإخفاء مكانه.
هذه هي الوقائع التي أثبتها حضرة قاضي التحقيق العدلي وأيدها ادعاء النيابة العامة التمييزية.
وتبيّن... بالأدلة الثابتة
أن الإمام والوفد ما عادوا إلى الفندق ذاك اليوم.
أن حجزًا باسم الإمام والوفد تم على طائرة إيطالية وانتحل مجهولون هويتهم في تلك الرحلة.
لم يتعرف من على الطائرة هوية الإمام واخويه.
حصل حجز في فندق إيطالي لثلاثة أشخاص انتحلوا شخصيات الوفد ووصلوا الفندق بعد 11 ساعة من وصول الطائرة الإيطالية إلى المطار تاركين خلفهم الحقائب المبعثرة المختلطة والجوازات المزورة.
وتبيّن أن أحدًا لم يتعرف إلى الإمام وأخويه خلال كل هذه العملية وأن جوازات السفر الخاصة بهم قد جرى تزويرها كما هو ثابت بالتقرير الفني.
تعامل المسؤولون في ليبيا بخفه مع هذا الحادث الجلل.
أنكروا وتنكرّوا ولفقوا روايات وعطّلوا أي تحقيق ثم كذبوا ثم أقروا أن الإمام وأخواه قد اختفوا في ليبيا. اعترف القذافي في خطاب له في 31/8/2002 بأن الإمام اختفى في ليبيا ووثقت ذلك منظمة العفو الدولية.
وأقر مؤخرًا عبد الرحمن محمد غويلة (ملازم أول في إدارة الهجرة والجوازات) أنه صدق على جوازات مزوّرة بخصوص الإمام وأخويه وأن إفادته كاذبة.
من هذه الوقائع الثابتة بما لا يقبل الشك يتبين:
- إن الدافع الجرمي لدى العقيد القذافي كان موجودًا بكرهه له ولدوره الوطني.
- إن النية الجرمية قد تجلّت ساطعة في التعامل مع زيارة الإمام والوفد بالتعتيم على الزيارة والمماطلة في تعيين موعد الاستقبال وبتزوير جوازات السفر وإبدال وجهة السفر وانتحال شخصيات وترتيب الإجراءات الوهمية لسفر الوفد بطائرة إيطالية لفندق إيطالي. فهل كان يمكن لغير العقيد القذافي أن يدير مسلسل هذه الجريمة وأن يأمر بها ضد ضيفه الشخصي وعلى أرض بلاده وتحت سلطته!!
يعزز ذلك...
- وثائق الحرب اللبنانية ودور العقيد فيها ومنها محاضر قمة عرمون.
- المعلومات التي أشار إليها أكثر من مسؤول عربي رفيع.
- اعتراف القذافي... وبطلان الرواية المختلفة عن مغادرة الإمام والوفد ليبيا.
- إقرار أكثر من مسؤول ليبي سابقًا بواقعة الإخفاء.
وقيام العقيد دون أي طرف سواه بكل هذا المسلسل لإخفاء الإمام خلال زيارة أعد لها رسميًا بطلب من العقيد وتحت توجيهاته وإمرته وهو الآمر الناهي الذي لا تتحرك نملة في ليبيا دون علمه وقراره.
كل ذلك يثبت الدافع الجرمي والنية الجرمية ويجعل هذه الجريمة "مستمرة" في الخطف والاحتجاز والإخفاء ما لا يتقادم عليه الزمن أو يلفه النسيان وما يترتب عليه من عقوبات.